تطوَّرت أشكال المساكن والمواد المستخدمة في البناء عبر آلاف السنين وفي جميع القارات، لتتأقلم في نهاية المطاف مع ثقافة ومناخ ومصادر كلِّ منطقةٍ بما فيها من مواد أولية، مقدَّمةً حلولًا معماريةً عمليةً وفعَّالة.
جاء اختراع قطع الطوب الطيني المجفَّف واستخدامه في بناء المنازل في أماكن مختلفة على كوكبنا تلبيةً لحاجة الإنسان في إيجاد مسكنٍ متينٍ ومريحٍ وسهل البناء. وقد يكون الطين أول مادةٍ طوَّرها الإنسان ليستخدمها في البناء، إذ وجدت بيوتٌ مبنيةٌ من الطين في تركمانستان يعود تاريخها إلى 8000-6000 ق.م، وبلاد ما بين النهرين 4000-5000 ق.م، ويجدر بالذكر أيضًا أنَّ بعض أجزاء سور الصين العظيم مبنيةٌ بالطين، وقد استخدمه الفينيقيون في حوض المتوسط بما في ذلك مدينة قرطاج في عام 814 ق.م تقريبًا
للعمارة الطينية العديد من الفوائد، إذ تقلِّل الاعتماد على الخشب ببناء الجدران الطينية إلى النصف تقريبًا، وفي حال استخدام العمارة الطينية لإنشاء الأسقف ذات القبوات الأسطوانية أو القباب يقل استخدام الخشب إلى الحد الأدنى أيضًا. وتتواجد هذه المادة في كلِّ مكانٍ من البيئة المحلية تقريبًا ولا حاجة لنقلها من مكانٍ إلى آخر، وتُنتَج هذه المادة محليًّا أيضًا لأنها لا تتطلَّب عمليات معالجة.
ويُعَدُّ الطوب خيارًا مثاليًّا في الأماكن الحارة والجافة وخاصةً في الصيف؛ بسبب كتلة الحرارة العالية التي يؤمنها والتي تساهم في عزل المبنى وحمايته من الظروف البيئية الخارجية، إذ يخزِّن الحرارة نهارًا ليطلقها إلى الخارج مرةً أخرى في الليل
توجد في سورية العديد من الأمثلة عن العمارة الطينية؛ مثل قرى أم عامود الكبيرة والصغيرة، وجب ماضي ورسم البوخر وتيارة وربيعة والشيخ هلال والتي سنحاول إلقاء الضوء عليها تباعًا.
قرية الشيخ هلال:
تقع قرية "الشيخ هلال" التابعة لمدينة حماة عند تلاقي الأراضي الخصبة مع الصحراء الشرقية، لتجمع ثقافة الصحراء ونمط العيش الزراعي معًا، وكان حجم القرية ثابتًا حتى توسَّعت مؤخَّرًا نتيجة اقتراب شبكة الطرق والمواصلات منها، ولا يوجد في القرية أي أنهار قريبة لكنَّها زُوِّدت بشبكةٍ لريِّ المحاصيل.
يُعَدُّ عدد سكان القرية كبيرًا على الرغم من أنَّ الكثير من سكَّانها يسافرون بانتظام إلى المدن القريبة للعمل، ويتقلَّب تعدادها السكاني حسب الفصول كونها تعتمدُ على الزراعة مصدرًا رئيسيًّا للدَّخل.
يبدأ محور الدخول إلى القرية من الطريق الرئيسي الواقع إلى الجنوب منها، ويتفرَّعُ إلى ثلاثة طرقٍ فرعيةٍ يشكِّل أحدها طريقًا مركزيًّا يعبر القرية من الجنوب إلى الشمال، ويحدِّدها على الطرفين قطاعات رباعية الأضلاع. تتوضَّع الأحياء الجديدة كما جرت العادة على المحيط الخارجي للمناطق القديمة، لكن من الصعب في حالتنا هذه أن نمِّيز بينها وبين مركز القرية القديم الذي يتكوَّن عادةً من وحدات بناءٍ متكتِّلة؛ إذ تتوزع وحدات البناء في قرية "الشيخ هلال" على قطاعاتٍ يحوي كلٌّ منها من ست إلى عشر وحداتٍ مفصَّلةٍ ومنغلقةٍ على ذاتها غالبًا، ويمكن ملاحظتها على امتداد القرية، إضافةً إلى وجود بعض الوحدات المهجورة بقبابٍ طينيةٍ مدمَّرة، ونلاحظ وجودًا بارزًا للغطاء النباتي وكثرةً في الأشجار داخل الوحدات وفي محيط القرية.
الطرق:
تتمتَّع القرية بشبكة طرقٍ كبيرةٍ موجَّهةٍ باتجاه (شمال - جنوب) و(شرق - غرب) إضافةً إلى ثلاثة طرقٍ ثانويةٍ تصل القرية مع محيطها، يؤدي الطريق الأول إلى مركز القرية ويقسمها، بينما يتجه الطريقان الثاني والثالث من الشرق والغرب ليتفرَّعا بعد ذلك نحو الشمال. تتمتَّع الطرق ببنيةٍ جيَّدة، ولا يوجد طرقٌ مخصَّصةٌ للمشاة حتَّى في أكثر المناطق ازدحامًا بالسُّكان، لكن توجد بعض الطرق ومسارات المشاة العفوية في القطَّاعات الرباعية الشكل.
الشكل المعماري:
تسيطر القبَّة البسيطة على شكل البناء في القرية متميزةً بقاعدتها المنخفضة جدًّا، إذ تبدأ القبة بقاعدةٍ مربَّعةٍ منخفضةٍ وقريبةٍ من مستوى الأرض لتنتقل بسلاسةٍ إلى الشكل الدائري، وتتمتَّع هذه القباب ببنيةٍ إنشائيةٍ جيِّدة، إضافةً إلى احتوائها على درجاتٍ حجريةٍ من الخارج تتيح إمكانية الوصول بهدف إجراء الترميم والصِيانة.
تعدُّ القباب حلًّا فريدًا لمواجهة المناخ الصحراوي فهي أقل امتصاصًا للحرارة مقارنةً مع الأسطح المستوية، ويساعد شكلها الدائري أيضًا على التخلص من الحرارة -التي خُزِّنت في النهار- ليلًا، إضافةً إلى عدم انتظام توزع الإشعاع الشمسي على كامل سطحها ليبقى جزءٌ من القبَّة مظللًا دائمًا، ممَّا يساهم في تخفيض درجة حرارة الفراغ تحت القبة. وتضفي القبة أيضًا مزيدًا من الفراغ الداخلي ممَّا يدفع الهواء الساخن ليتجمَّع في الأعلى ويبقى الهواء المعتدل الحرارة في القسم السفلي من الفراغ.
ممَّا يجدر ملاحظته في قرية "الشيخ هلال" الوجود الكبير لحالة القطع أو البتر في قببها الطينية، ممَّا قد يدلُّ على قلَّة أعمال الصيانة، ويمكن رده إلى نزعة البعض لإضافة وغرز الأسقف المستوية أو تسهيل عملية بناء القبة. ويمكننا تبيان إعادة استخدام بعض القطع الطينية القديمة في بناء عددٍ من المباني التي أُخذَت غالبًا من الرُّكام الموجود في القرية.
منذ عام 2000 حُظِرت الزراعة حول القرية تدبيرًا ضدَّ التصحر الذي غزا المنطقة، ممَّا استلزم إيجاد مصدر دخلٍ بديل لسكان القرية، وجاء الحلُّ عن طريق عمارة قببها الطينية المميزة؛ إذ رمِّمَت 12 وحدة بناء إضافةً إلى ستَّة حمَّامات لتغدو القرية جاهزةً لاستقبال السياح، فجدران المنازل السميكة ونوافذها الصغيرة ضمنت توفير فراغٍ باردٍ صيفًا ودافئ شتاءً، ونفِّذ المشروع بأيدٍ عاملةٍ ومواد بناء محليَّةٍ (طين وقش وخشب).
استقبال السياح في البيوت المرممة
القبة من الداخل
المصادر :
(Assessing of Critical Parametrs on Earth Architecture and Earth Buildings as a Vernacular and Sustainable Architecture in Various Countries، 2013)
Earthen Domes et Habitats. Villages of northern Syria. An architectural tradition shared by East and West
الباحثون السوريون
جاء اختراع قطع الطوب الطيني المجفَّف واستخدامه في بناء المنازل في أماكن مختلفة على كوكبنا تلبيةً لحاجة الإنسان في إيجاد مسكنٍ متينٍ ومريحٍ وسهل البناء. وقد يكون الطين أول مادةٍ طوَّرها الإنسان ليستخدمها في البناء، إذ وجدت بيوتٌ مبنيةٌ من الطين في تركمانستان يعود تاريخها إلى 8000-6000 ق.م، وبلاد ما بين النهرين 4000-5000 ق.م، ويجدر بالذكر أيضًا أنَّ بعض أجزاء سور الصين العظيم مبنيةٌ بالطين، وقد استخدمه الفينيقيون في حوض المتوسط بما في ذلك مدينة قرطاج في عام 814 ق.م تقريبًا
للعمارة الطينية العديد من الفوائد، إذ تقلِّل الاعتماد على الخشب ببناء الجدران الطينية إلى النصف تقريبًا، وفي حال استخدام العمارة الطينية لإنشاء الأسقف ذات القبوات الأسطوانية أو القباب يقل استخدام الخشب إلى الحد الأدنى أيضًا. وتتواجد هذه المادة في كلِّ مكانٍ من البيئة المحلية تقريبًا ولا حاجة لنقلها من مكانٍ إلى آخر، وتُنتَج هذه المادة محليًّا أيضًا لأنها لا تتطلَّب عمليات معالجة.
ويُعَدُّ الطوب خيارًا مثاليًّا في الأماكن الحارة والجافة وخاصةً في الصيف؛ بسبب كتلة الحرارة العالية التي يؤمنها والتي تساهم في عزل المبنى وحمايته من الظروف البيئية الخارجية، إذ يخزِّن الحرارة نهارًا ليطلقها إلى الخارج مرةً أخرى في الليل
توجد في سورية العديد من الأمثلة عن العمارة الطينية؛ مثل قرى أم عامود الكبيرة والصغيرة، وجب ماضي ورسم البوخر وتيارة وربيعة والشيخ هلال والتي سنحاول إلقاء الضوء عليها تباعًا.
قرية الشيخ هلال:
تقع قرية "الشيخ هلال" التابعة لمدينة حماة عند تلاقي الأراضي الخصبة مع الصحراء الشرقية، لتجمع ثقافة الصحراء ونمط العيش الزراعي معًا، وكان حجم القرية ثابتًا حتى توسَّعت مؤخَّرًا نتيجة اقتراب شبكة الطرق والمواصلات منها، ولا يوجد في القرية أي أنهار قريبة لكنَّها زُوِّدت بشبكةٍ لريِّ المحاصيل.
يُعَدُّ عدد سكان القرية كبيرًا على الرغم من أنَّ الكثير من سكَّانها يسافرون بانتظام إلى المدن القريبة للعمل، ويتقلَّب تعدادها السكاني حسب الفصول كونها تعتمدُ على الزراعة مصدرًا رئيسيًّا للدَّخل.
يبدأ محور الدخول إلى القرية من الطريق الرئيسي الواقع إلى الجنوب منها، ويتفرَّعُ إلى ثلاثة طرقٍ فرعيةٍ يشكِّل أحدها طريقًا مركزيًّا يعبر القرية من الجنوب إلى الشمال، ويحدِّدها على الطرفين قطاعات رباعية الأضلاع. تتوضَّع الأحياء الجديدة كما جرت العادة على المحيط الخارجي للمناطق القديمة، لكن من الصعب في حالتنا هذه أن نمِّيز بينها وبين مركز القرية القديم الذي يتكوَّن عادةً من وحدات بناءٍ متكتِّلة؛ إذ تتوزع وحدات البناء في قرية "الشيخ هلال" على قطاعاتٍ يحوي كلٌّ منها من ست إلى عشر وحداتٍ مفصَّلةٍ ومنغلقةٍ على ذاتها غالبًا، ويمكن ملاحظتها على امتداد القرية، إضافةً إلى وجود بعض الوحدات المهجورة بقبابٍ طينيةٍ مدمَّرة، ونلاحظ وجودًا بارزًا للغطاء النباتي وكثرةً في الأشجار داخل الوحدات وفي محيط القرية.
الطرق:
تتمتَّع القرية بشبكة طرقٍ كبيرةٍ موجَّهةٍ باتجاه (شمال - جنوب) و(شرق - غرب) إضافةً إلى ثلاثة طرقٍ ثانويةٍ تصل القرية مع محيطها، يؤدي الطريق الأول إلى مركز القرية ويقسمها، بينما يتجه الطريقان الثاني والثالث من الشرق والغرب ليتفرَّعا بعد ذلك نحو الشمال. تتمتَّع الطرق ببنيةٍ جيَّدة، ولا يوجد طرقٌ مخصَّصةٌ للمشاة حتَّى في أكثر المناطق ازدحامًا بالسُّكان، لكن توجد بعض الطرق ومسارات المشاة العفوية في القطَّاعات الرباعية الشكل.
الشكل المعماري:
تسيطر القبَّة البسيطة على شكل البناء في القرية متميزةً بقاعدتها المنخفضة جدًّا، إذ تبدأ القبة بقاعدةٍ مربَّعةٍ منخفضةٍ وقريبةٍ من مستوى الأرض لتنتقل بسلاسةٍ إلى الشكل الدائري، وتتمتَّع هذه القباب ببنيةٍ إنشائيةٍ جيِّدة، إضافةً إلى احتوائها على درجاتٍ حجريةٍ من الخارج تتيح إمكانية الوصول بهدف إجراء الترميم والصِيانة.
تعدُّ القباب حلًّا فريدًا لمواجهة المناخ الصحراوي فهي أقل امتصاصًا للحرارة مقارنةً مع الأسطح المستوية، ويساعد شكلها الدائري أيضًا على التخلص من الحرارة -التي خُزِّنت في النهار- ليلًا، إضافةً إلى عدم انتظام توزع الإشعاع الشمسي على كامل سطحها ليبقى جزءٌ من القبَّة مظللًا دائمًا، ممَّا يساهم في تخفيض درجة حرارة الفراغ تحت القبة. وتضفي القبة أيضًا مزيدًا من الفراغ الداخلي ممَّا يدفع الهواء الساخن ليتجمَّع في الأعلى ويبقى الهواء المعتدل الحرارة في القسم السفلي من الفراغ.
ممَّا يجدر ملاحظته في قرية "الشيخ هلال" الوجود الكبير لحالة القطع أو البتر في قببها الطينية، ممَّا قد يدلُّ على قلَّة أعمال الصيانة، ويمكن رده إلى نزعة البعض لإضافة وغرز الأسقف المستوية أو تسهيل عملية بناء القبة. ويمكننا تبيان إعادة استخدام بعض القطع الطينية القديمة في بناء عددٍ من المباني التي أُخذَت غالبًا من الرُّكام الموجود في القرية.
منذ عام 2000 حُظِرت الزراعة حول القرية تدبيرًا ضدَّ التصحر الذي غزا المنطقة، ممَّا استلزم إيجاد مصدر دخلٍ بديل لسكان القرية، وجاء الحلُّ عن طريق عمارة قببها الطينية المميزة؛ إذ رمِّمَت 12 وحدة بناء إضافةً إلى ستَّة حمَّامات لتغدو القرية جاهزةً لاستقبال السياح، فجدران المنازل السميكة ونوافذها الصغيرة ضمنت توفير فراغٍ باردٍ صيفًا ودافئ شتاءً، ونفِّذ المشروع بأيدٍ عاملةٍ ومواد بناء محليَّةٍ (طين وقش وخشب).
استقبال السياح في البيوت المرممة
القبة من الداخل
المصادر :
(Assessing of Critical Parametrs on Earth Architecture and Earth Buildings as a Vernacular and Sustainable Architecture in Various Countries، 2013)
Earthen Domes et Habitats. Villages of northern Syria. An architectural tradition shared by East and West
الباحثون السوريون