عمارة النور: القوس العربي لا ينام أبدًا
باسم سليمان 3 يناير 2023
عمارة
ديانا دارك
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان الحريق المؤسِف الذي أتى على كنيسة نوتردام في باريس في الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2019، بمثابة الدافع المضمر لإعادة بناء الكنيسة وفق روحيتها على الأقل بالكلمات، على يدي الباحثة ديانا دارك في كتابها "السرقة من المسلمين -السَّاراسِن- كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا"، الصادر عن الدار العربية للعلوم/ ناشرون 2022 (ترجمة د. عامر شيخوني)، بعد أن حذّرت الكاتبة من أنّ الاستعجال في بناء هذا الصرح سيفقده أصالته، وذلك بسبب غياب المعرفة بالجينات المعمارية التي سمت به. لقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عمّا يجول في ذهن الفرنسيين عن نوتردام بأن قال: بأنّها تمثل القومية الفرنسية خير تمثيل. وتعتبر كنيسة نوتردام النموذج الكامل للعمارة القوطية التي انتشرت من فرنسا إلى بقية أصقاع أوروبا. وبناء على ذلك غرّدت دارك بأنّ الكنيسة ذات البناء القوطي تعود إلى العمارة الإسلامية، التي بدأت بقبة الصخرة ومن بعدها الجامع الأموي، مرورًا بآيا صوفيا ومسجد قرطبة والكثير من الأبنية الإسلامية، وخاصة قصور الصحراء التي بناها الخلفاء الأمويون في بلاد الشام، وذلك انطلاقًا من كنائس المدن المنسية في شمال غرب سورية في إدلب وجنوب حلب، ككنيسة قلب لوزة والقديس سمعان العامودي في الزمن البيزنطي. وعندما انتشرت تغريدة ديانا دارك تلقت الكثير من الاهتمام والاستهجان، وكأنّها أشعلت حريقًا آخر في رماد الكنيسة، فكان هذا الكتاب كشفًا للجذور العميقة في التاريخ التي انتصبت فوقها شجرة نوتردام.
لم ترغب دارك في أن تسبح وحيدة في هذه اللّجة التاريخية، ولذلك فإنها استحضرت كريستوفر رن، من القرن السابع عشر، أشهر معماريّ إنكلترا، فهو الباني لمسرح شيلدون بسقفه ذي الإنشاءات والتدعيمات المخفية عن الأعين، والتي قد استلهمها من جوامع إسطنبول، والأحرى من المهندس العثماني سنان، وهو أيضًا الباني لكنيسة سانت بول بقبتها الرائعة التي نراها كثيرًا في خلفية شاشة مذيعي الـــ BBC، والتي استوحى قبتها من كنيسة الفاتيكان والبانثيون الإغريقي وبداية من كنيسة آيا صوفيا، حيث كانت كنيسة سمعان العامودي وقلب لوزة في الشمال السوري الرحم التي ولدت منها كنيسة آيا صوفيا. لقد أعلن رن ضجره من العمارة القوطية فقد كان يعتبر العمارة الرومانسكية – الإغريقية والرومانية- مثالًا للتوازن والتماثل، في حين أنّ العمارة القوطية وبالرغم من جمالها الكبير، كانت تفتقر إلى الصلابة التي رآها رن عيبًا في العمارة القوطية الأوروبية، لجهل في الرياضيات لدى المعماريين القوطيين، والتي لم تفت المعماريين المسلمين في جامع قرطبة أبدًا. لقد كان رن مطلعًا بشكل عميق على الثقافة المعمارية، لذلك كان صريحًا بأنّ العمارة القوطية مصدرها من الساراسن/ المسلمين. وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع رن أن يتخلّص من الحلول العملية والنظرية لعمارة المسلمين في مسرح شيلدون وكنيسة سانت بول، فقد مضوا بعيدًا في تطوير أسس فن الهندسة والعمارة. لقد حسم رن منذ القرن السابع عشر، حيث إرث الأندلسيين لم يزل طازجًا في الذاكرة، بأنّ أصول العمارة القوطية الأوروبية تدين بشكل واضح إلى العمارة العربية والمسلمة. ويشرح رن الفرق بين العمارة الرومانسكية والقوطية، بأنّ الأولى أفقية في حين أن الثانية عامودية، فما إن يضع المعماريون القوطيون القواعد حتى يشرعوا في البناء أعلى فأعلى. وقد منحهم القوس المدبّب وأنماطه الأخرى القدرة على ذلك، لأنّه لا يحتاج إلى حجارة ارتكاز قوية كالقوس الروماني المدوّر. وفي الوقت نفسه يستطيع القوس المدبّب أن يحمل أقواسًا أخرى فوقه على ذات حجر الارتكاز، مما سمح بتلك الإنشاءات العالية التي نراها في الأبنية القوطية؛ وكما تقول العرب: القوس لا ينام أبدًا.
من المسجد الأموي إلى كنيسة نوتردام
بعد هذه الشهادة من كريستوفر رن التي تتوسّط الزمن بين آخر أيام عبد الله الصغير في الأندلس وحريق نوتردام في أيامنا، انطلقت دارك في تبيان المصادر المعمارية للأبنية القوطية في أوروبا. تعود دارك في الزمن إلى بدايات تاريخ المسيحية في بلاد الشام حيث تجد في كنيسة قلب لوزة ذات البرجين وبينهما القوس الذي يعلو الباب، الإرهاص الأول لكنيسة نوتردام ببرجيها ونافذتها الوردية. وبعد ذلك تعرج على قبة الصخرة حيث تظهر الانطلاقات السريعة والتغييرات الحاسمة فيما ورثه المسلمون من العمارة البيزنطية، فقد ظهر القوس المدبّب المطواع والقادر على تحمل أثقال كبيرة، وقوس حدوة الحصان والأوجي والقوس ذو الفصوص الثلاثة الذي أصبح ميزة للعمارة القوطية بسبب المبدأ الديني المسيحي، مضافًا إلى ذلك الفسيفساء التي كست المظهر الخارجي للقبة. وعندما دخل الصليبيون القدس اعتبروا القبة هيكل سليمان والمسجد الأقصى قصره، لذلك اتخذوهما معيارًا إلى جانب التطورات الحاسمة في الإنشاءات المعمارية التي طورها المسلمون، حتى أنّهم استنسخوا الخط الكوفي منها كزينة لأبنيتهم القوطية.
تقتفي دارك أثر البدايات المعمارية التي قام المسلمون بها، سواء أكان مصدرها من البيزنطيين أو الفرس أو من التزيينات التي لحظوها في آثار بلاد الرافدين، والتي قاموا بتطويرها بشكل جذري، وتم تطبيقها في المسجد الأموي ومآذنه، وخاصة فتحات الرمي في قلعة دمشق والتي استنسخها الصليبيون في قلعة الحصن. كانت قصور الأمويين في البادية، وخصوصًا قصر خربة المفجَر قرب أريحا، تحتوي على كل ما يلفت النظر في العمارة القوطية، كما تبيّن من الحفريات التي قام بها الآثاري روبرت هاملتون القيم على متحف أوكسفورد إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين، بأنّ قصر خربة المفجر يمثّل ألف باء العمارة التي انتشرت على أيدي الأمويين، وصولًا إلى الأندلس مع عبد الرحمن الداخل ومسجد قرطبة الذي كان يعتبر الكتاب الهندسي للعمارة القوطية من أعمدة وقبب وأقواس وزخارف وفسيفساء.
تعتبر النافذة الوردية في واجهات الكنائس القوطية ميزة مستمرة فيها، وقد وجدت في كنيسة نوتردام. هذه النافذة الوردية بزخارفها تظهر بشكل جلي في قصر خربة المفجر الذي بناه هشام بن عبد الملك. لقد طوّر الأمويون عمارة الأقواس بشكل علمي قبل أن ينقلوا هذه الذخيرة المعمارية معهم إلى الأندلس. فمن خلال الأقواس بنوا قببًا عالية، وتحكموا بالحمولات الثقيلة واستطالوا بقببهم ومآذنهم نحو السماء أكثر فأكثر.
تمتاز قبة الصخرة بالنوافذ الفسيفسائية المصنوعة من الزجاج، حيث تؤمّن إضاءة داخلية خلابة. هذه النوافذ الكبيرة وما تحمله من معان مضمرة عن النور الإلهي وجدت طريقها إلى الكنائس. وعندما قام الأب سوجير بتوسعة كنيسة القديس كلوني، أمر بهدم الأبراج في الجهة الغربية واستبدالها بجدران أرق تتوسطها نافذة وردية مؤطّرة بشكل مربع، وكثيرًا ما كان العرب يستخدمون التأطير بالأشكال الهندسية في تزييناتهم. لقد اكتمل بناء كنيسة سان دوني عام 1140 وسرعان ما انتشر تقليد النافذة الوردية في بقية الكنائس. وبعد ذلك أراد سوجير أن يعيد بناء القسم الشرقي من الكنيسة وخاصة مكان الجوقة، لذلك استلهم السقف ذا الأضلاع المعروف في مسجد قرطبة والنوافذ الفسيفسائية الزجاجية لإضاءة أكبر. لقد كان سوجير متأثرًا بكتابات السوري دينيس عن النور الإلهي، وما كان له أن يجعل المعنى اللاهوتي حسيّا إلّا من خلال استخدام القوس المدبب والسقف ذي الأضلاع اللذين يسمحان بأكبر توسعة للنوافذ الفسيفسائية. وهكذا أصبحت سانت كلوني أول عمارة قوطية في أوروبا، وتم استنساخ هندستها في بقية الكنائس والأبنية. إنّ صناعة الزجاج التي اشتهر بها الفينيقيون ومن بعدهم العرب والتي زينت كنائس وأبنية البندقية وغيرها من الأبنية القوطية، وجدت قطعها صامدة في رماد كنيسة نوتردام.
"لا يكون أيّ رجُل جزيرة"
هذه العبارة تعود للكاهن الشاعر جون دون الذي كان فيما مضى عميدًا لكنيسة سانت بول وتكاد تكون الغاية من كتابة هذا الكتاب. لقد انطلقت دارك بشكل استفزازي من خلال عنوان كتابها متهمة الغرب بسرقة (الساراسن) وهذه الكلمة تعني: السرّاق، وقد كانت لفظ ازدرائي من قبل الأوروبيين بحق العرب والمسلمين. وهي بهذا العنوان تثير معاني مضمرة؛ فيا أيّها الأوروبيون الذين تتهمون المسلمين بأنّهم لصوص، بماذا تختلفون عنهم، وأنتم تنكرون أصول عمارتكم التي تفخرون بها أيما فخر، والتي تعود جملة وتفصيلًا إلى هؤلاء الساراسن/ السرّاق. إنّ ما قصدته دارك بأنّ الحضارات تستلهم من بعضها البعض، ولا أحد يستطيع أن ينكر فضل حضارة على أخرى، لكن ذلك لم يكن ليتوضح إلّا بعرضها للعمارة في بلاد الشام، والتي كانت الأرض التي أحكم عليها المسلمون قبضتهم من بعد البيزنطيين، فالعمارة الإسلامية لم تبتدع منشآتها من العدم، فالأقواس الرومانية الدائرية والثلم التزيينية في أعلى الأسوار والزخارف الورقية والفسيفساء والقبب والجملونات والنوافذ كانت متواجدة، ومنها انطلق الأمويون عبر جمع ومزج هذه الإنشاءات الهندسية ليبنوا من خلالها، وعبر تطويرها مجدهم المعماري. لقد بدأ التأثير المعماري العربي على أوروبا قبل الحروب الصليبية من خلال الأندلس وصقلية، لكن من خلال الحروب الصليبية تركّز تأثير العمارة العربية على العمارة في أوروبا، فظهرت في أسلوب عمارتهم بشكل واضح وجليّ، والذي دعي بالقوطي تمييزًا له عن العمارة السابقة عليه الرومانية واليونانية.
لا يمكن الإحاطة بكل ما أوردته دارك في سعيها لإثبات النسب الحقيقي للعمارة القوطية إلى رحم العمارة العربية، فلم يكن العرب ناقلي معرفة فقط، بل كانوا صانعيها ومطوّريها. وكما ارتبطت فلسفة دينيس السوري عن النور بالعمارة القوطية في الغرب، نستطيع أن نفهم لماذا عنونت المستشرقة زيغريد هونكه كتابها: "شمس العرب تسطع على الغرب".
باسم سليمان 3 يناير 2023
عمارة
ديانا دارك
شارك هذا المقال
حجم الخط
كان الحريق المؤسِف الذي أتى على كنيسة نوتردام في باريس في الخامس عشر من نيسان/ أبريل 2019، بمثابة الدافع المضمر لإعادة بناء الكنيسة وفق روحيتها على الأقل بالكلمات، على يدي الباحثة ديانا دارك في كتابها "السرقة من المسلمين -السَّاراسِن- كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا"، الصادر عن الدار العربية للعلوم/ ناشرون 2022 (ترجمة د. عامر شيخوني)، بعد أن حذّرت الكاتبة من أنّ الاستعجال في بناء هذا الصرح سيفقده أصالته، وذلك بسبب غياب المعرفة بالجينات المعمارية التي سمت به. لقد عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عمّا يجول في ذهن الفرنسيين عن نوتردام بأن قال: بأنّها تمثل القومية الفرنسية خير تمثيل. وتعتبر كنيسة نوتردام النموذج الكامل للعمارة القوطية التي انتشرت من فرنسا إلى بقية أصقاع أوروبا. وبناء على ذلك غرّدت دارك بأنّ الكنيسة ذات البناء القوطي تعود إلى العمارة الإسلامية، التي بدأت بقبة الصخرة ومن بعدها الجامع الأموي، مرورًا بآيا صوفيا ومسجد قرطبة والكثير من الأبنية الإسلامية، وخاصة قصور الصحراء التي بناها الخلفاء الأمويون في بلاد الشام، وذلك انطلاقًا من كنائس المدن المنسية في شمال غرب سورية في إدلب وجنوب حلب، ككنيسة قلب لوزة والقديس سمعان العامودي في الزمن البيزنطي. وعندما انتشرت تغريدة ديانا دارك تلقت الكثير من الاهتمام والاستهجان، وكأنّها أشعلت حريقًا آخر في رماد الكنيسة، فكان هذا الكتاب كشفًا للجذور العميقة في التاريخ التي انتصبت فوقها شجرة نوتردام.
لم ترغب دارك في أن تسبح وحيدة في هذه اللّجة التاريخية، ولذلك فإنها استحضرت كريستوفر رن، من القرن السابع عشر، أشهر معماريّ إنكلترا، فهو الباني لمسرح شيلدون بسقفه ذي الإنشاءات والتدعيمات المخفية عن الأعين، والتي قد استلهمها من جوامع إسطنبول، والأحرى من المهندس العثماني سنان، وهو أيضًا الباني لكنيسة سانت بول بقبتها الرائعة التي نراها كثيرًا في خلفية شاشة مذيعي الـــ BBC، والتي استوحى قبتها من كنيسة الفاتيكان والبانثيون الإغريقي وبداية من كنيسة آيا صوفيا، حيث كانت كنيسة سمعان العامودي وقلب لوزة في الشمال السوري الرحم التي ولدت منها كنيسة آيا صوفيا. لقد أعلن رن ضجره من العمارة القوطية فقد كان يعتبر العمارة الرومانسكية – الإغريقية والرومانية- مثالًا للتوازن والتماثل، في حين أنّ العمارة القوطية وبالرغم من جمالها الكبير، كانت تفتقر إلى الصلابة التي رآها رن عيبًا في العمارة القوطية الأوروبية، لجهل في الرياضيات لدى المعماريين القوطيين، والتي لم تفت المعماريين المسلمين في جامع قرطبة أبدًا. لقد كان رن مطلعًا بشكل عميق على الثقافة المعمارية، لذلك كان صريحًا بأنّ العمارة القوطية مصدرها من الساراسن/ المسلمين. وعلى الرغم من ذلك، لم يستطع رن أن يتخلّص من الحلول العملية والنظرية لعمارة المسلمين في مسرح شيلدون وكنيسة سانت بول، فقد مضوا بعيدًا في تطوير أسس فن الهندسة والعمارة. لقد حسم رن منذ القرن السابع عشر، حيث إرث الأندلسيين لم يزل طازجًا في الذاكرة، بأنّ أصول العمارة القوطية الأوروبية تدين بشكل واضح إلى العمارة العربية والمسلمة. ويشرح رن الفرق بين العمارة الرومانسكية والقوطية، بأنّ الأولى أفقية في حين أن الثانية عامودية، فما إن يضع المعماريون القوطيون القواعد حتى يشرعوا في البناء أعلى فأعلى. وقد منحهم القوس المدبّب وأنماطه الأخرى القدرة على ذلك، لأنّه لا يحتاج إلى حجارة ارتكاز قوية كالقوس الروماني المدوّر. وفي الوقت نفسه يستطيع القوس المدبّب أن يحمل أقواسًا أخرى فوقه على ذات حجر الارتكاز، مما سمح بتلك الإنشاءات العالية التي نراها في الأبنية القوطية؛ وكما تقول العرب: القوس لا ينام أبدًا.
تعود دارك بالزمن إلى بدايات تاريخ المسيحية ببلاد الشام حيث تجد في كنيسة قلب لوزة ذات البرجين وبينهما القوس الذي يعلو الباب، الإرهاص الأول لكنيسة نوتردام ببرجيها ونافذتها |
بعد هذه الشهادة من كريستوفر رن التي تتوسّط الزمن بين آخر أيام عبد الله الصغير في الأندلس وحريق نوتردام في أيامنا، انطلقت دارك في تبيان المصادر المعمارية للأبنية القوطية في أوروبا. تعود دارك في الزمن إلى بدايات تاريخ المسيحية في بلاد الشام حيث تجد في كنيسة قلب لوزة ذات البرجين وبينهما القوس الذي يعلو الباب، الإرهاص الأول لكنيسة نوتردام ببرجيها ونافذتها الوردية. وبعد ذلك تعرج على قبة الصخرة حيث تظهر الانطلاقات السريعة والتغييرات الحاسمة فيما ورثه المسلمون من العمارة البيزنطية، فقد ظهر القوس المدبّب المطواع والقادر على تحمل أثقال كبيرة، وقوس حدوة الحصان والأوجي والقوس ذو الفصوص الثلاثة الذي أصبح ميزة للعمارة القوطية بسبب المبدأ الديني المسيحي، مضافًا إلى ذلك الفسيفساء التي كست المظهر الخارجي للقبة. وعندما دخل الصليبيون القدس اعتبروا القبة هيكل سليمان والمسجد الأقصى قصره، لذلك اتخذوهما معيارًا إلى جانب التطورات الحاسمة في الإنشاءات المعمارية التي طورها المسلمون، حتى أنّهم استنسخوا الخط الكوفي منها كزينة لأبنيتهم القوطية.
تقتفي دارك أثر البدايات المعمارية التي قام المسلمون بها، سواء أكان مصدرها من البيزنطيين أو الفرس أو من التزيينات التي لحظوها في آثار بلاد الرافدين، والتي قاموا بتطويرها بشكل جذري، وتم تطبيقها في المسجد الأموي ومآذنه، وخاصة فتحات الرمي في قلعة دمشق والتي استنسخها الصليبيون في قلعة الحصن. كانت قصور الأمويين في البادية، وخصوصًا قصر خربة المفجَر قرب أريحا، تحتوي على كل ما يلفت النظر في العمارة القوطية، كما تبيّن من الحفريات التي قام بها الآثاري روبرت هاملتون القيم على متحف أوكسفورد إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين، بأنّ قصر خربة المفجر يمثّل ألف باء العمارة التي انتشرت على أيدي الأمويين، وصولًا إلى الأندلس مع عبد الرحمن الداخل ومسجد قرطبة الذي كان يعتبر الكتاب الهندسي للعمارة القوطية من أعمدة وقبب وأقواس وزخارف وفسيفساء.
تعتبر النافذة الوردية في واجهات الكنائس القوطية ميزة مستمرة فيها، وقد وجدت في كنيسة نوتردام. هذه النافذة الوردية بزخارفها تظهر بشكل جلي في قصر خربة المفجر الذي بناه هشام بن عبد الملك. لقد طوّر الأمويون عمارة الأقواس بشكل علمي قبل أن ينقلوا هذه الذخيرة المعمارية معهم إلى الأندلس. فمن خلال الأقواس بنوا قببًا عالية، وتحكموا بالحمولات الثقيلة واستطالوا بقببهم ومآذنهم نحو السماء أكثر فأكثر.
"عندما دخل الصليبيون القدس اعتبروا القبة هيكل سليمان والمسجد الأقصى قصره، لذلك اتخذوهما معيارًا إلى جانب التطورات الحاسمة في الإنشاءات المعمارية التي طورها المسلمون، حتى أنّهم استنسخوا الخط الكوفي منها كزينة لأبنيتهم القوطية" |
"لا يكون أيّ رجُل جزيرة"
هذه العبارة تعود للكاهن الشاعر جون دون الذي كان فيما مضى عميدًا لكنيسة سانت بول وتكاد تكون الغاية من كتابة هذا الكتاب. لقد انطلقت دارك بشكل استفزازي من خلال عنوان كتابها متهمة الغرب بسرقة (الساراسن) وهذه الكلمة تعني: السرّاق، وقد كانت لفظ ازدرائي من قبل الأوروبيين بحق العرب والمسلمين. وهي بهذا العنوان تثير معاني مضمرة؛ فيا أيّها الأوروبيون الذين تتهمون المسلمين بأنّهم لصوص، بماذا تختلفون عنهم، وأنتم تنكرون أصول عمارتكم التي تفخرون بها أيما فخر، والتي تعود جملة وتفصيلًا إلى هؤلاء الساراسن/ السرّاق. إنّ ما قصدته دارك بأنّ الحضارات تستلهم من بعضها البعض، ولا أحد يستطيع أن ينكر فضل حضارة على أخرى، لكن ذلك لم يكن ليتوضح إلّا بعرضها للعمارة في بلاد الشام، والتي كانت الأرض التي أحكم عليها المسلمون قبضتهم من بعد البيزنطيين، فالعمارة الإسلامية لم تبتدع منشآتها من العدم، فالأقواس الرومانية الدائرية والثلم التزيينية في أعلى الأسوار والزخارف الورقية والفسيفساء والقبب والجملونات والنوافذ كانت متواجدة، ومنها انطلق الأمويون عبر جمع ومزج هذه الإنشاءات الهندسية ليبنوا من خلالها، وعبر تطويرها مجدهم المعماري. لقد بدأ التأثير المعماري العربي على أوروبا قبل الحروب الصليبية من خلال الأندلس وصقلية، لكن من خلال الحروب الصليبية تركّز تأثير العمارة العربية على العمارة في أوروبا، فظهرت في أسلوب عمارتهم بشكل واضح وجليّ، والذي دعي بالقوطي تمييزًا له عن العمارة السابقة عليه الرومانية واليونانية.
لا يمكن الإحاطة بكل ما أوردته دارك في سعيها لإثبات النسب الحقيقي للعمارة القوطية إلى رحم العمارة العربية، فلم يكن العرب ناقلي معرفة فقط، بل كانوا صانعيها ومطوّريها. وكما ارتبطت فلسفة دينيس السوري عن النور بالعمارة القوطية في الغرب، نستطيع أن نفهم لماذا عنونت المستشرقة زيغريد هونكه كتابها: "شمس العرب تسطع على الغرب".