العمارة الكنعانية.. زخرفة الحياة بمفردات الخصب وألوان الأُرجوان
محمد جميل خضر 12 نوفمبر 2022
عمارة
عمارة بابل تأثرت بالعمارة الكنعانية
شارك هذا المقال
حجم الخط
عشق الكنعانيُّ الأرضَ، فَبَذَر سهلَها، وشقَّ وعرَها، وأنشأ في كل وادٍ حديقة، وفي كل زاويةٍ جِنينة. حتى البحر، وكلُّ ماءٍ ويَم، مَخَرَ عبابه، عمّره بالقوارب تركب الأمواج، تجوب دروب الأزرق بحثًا عن أسباب الحياة وأشرعة الرفاه.
عميقًا، تجذّر الكنعانيّ في الأرض، أرض أجداده الأوائل، ولعينيها شيّد، ينشد حمايتها، القلاع، وزيّن نواحيها بالبيوت المزهرة بالثمار والنبات، حمل الحجر من عروقه حوله، رفع الطوبة فوق الطوبة، ثبّت أركان وجوده بالمدن المستقرّة المشيّدة عمارتها من مفردات اكتشف دورها في البناء قبل غيره من أبناء الحضارات التي جاورته وتعلمت منه، أو لحقت به وأخذت منه.
جمّل ملوك كنعان القصور، وتنافسوا في جعل كل قصر تحفةً بديعة. وها هو المؤرخ الإيطالي ساباتينو موسكاتي (1922 ـ 1997) يقول "إن فلسطين هي الأسبق من بقاع العالم قاطبة في معرفة العمارة، حيث تعد مدينة أريحا أقدم مدينة عرفها التاريخ".
التاريخ والجغرافيا
صحيحٌ أنَّ التقسيمات الإدارية لبلاد كنعان اختلفت فيها التسميات للمناطق الجغرافية، إلاّ أن (بلاد كنعان الحقيقية) ظلَّت حتى العهد البيزنطي/ الروماني تعني جغرافيًا: ساحل المتوسط الشرقي، من (رأس شمرا)، حتى غزّة، ومن ساحل البحر المتوسط، حتى بادية الشام شرقًا، وتشمل: فلسطين الداخلية، وشرق الأردن، حتى خليج العقبة، بل وصلت شمالًا، بحسب عالم الآثار الفرنسي كلود شيفر (1898 ـ 1982) حتى أضَنَة.
ورغم إطلاق اسم كنعان في البداية على (فلسطين وفينيقيا)، ورُغم نظام (دُويلات المدن) في البلاد الكنعانية، إلاّ أنَّ نظام (الاتحاد والأحلاف) الكنعانية كان يسود أحيانًا علاقات دول المدن في بعض الفترات المصيرية، خصوصًا في وجه الأخطار القادمة من الإمبراطورية الآشورية في العراق، ومملكة الفراعنة في مصر. حتى قرطاج التونسية هي، بشكلٍ أو بآخر، تنويعةٌ كنعانية فينيقية ممتدة نحو شمال أفريقيا. بالتالي، فمن الخطأ التفرقة بين الفلسطينيين والكنعانيين، لأنّ الفلسطينيين هم قبائل كنعانية، ومن الخطأ حصرهم في الساحل الجنوبي لفلسطين في المدن الفلسطينية الخمس، لأنَّ الآثار أثبتت وجودهم في شرق فلسطين وجنوبها، وشمالها، أي في المناطق نفسها التي أطلق عليها الباحثون صفة (الكنعانية)، وسبب هذا الخلط هو أن الفلسطينيين والكنعانيين، هم من أصل واحد، وهم سكان فلسطين منذ العصور الحجرية، وحضارة أريحا، أقدم مدينة في العالم، شاهدة على ذلك.
كذلك الأمر، بالنسبة للأموريين، فهم كنعانيو فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن. تدلُّ على ذلك اللغة، والدين، والآثار. فالأسماء: (أموري، يبوسي، فينيقي، فلسطي، أدومي، عمّوني، مؤابي، أوغاريتي، جبيلي) ما هي إلا مُسمَّيات لاسم واحد هو كنعاني. كذلك الأمر بالنسبة للعرب، فهم (بدو) الكنعانيين، في بادية الشام، وشبه جزيرة سيناء، وشبه جزيرة العرب.
أيضًا، وأيضًا، الهكسوس كنعانيون، وهم حكموا مصر طيلة أكثر من قرنين. والأموريون كنعانيون، وهؤلاء حكموا بابل، طيلة فترة حكم أسرة حمّورابي، الكنعاني الأموري، صاحب الشريعة ذائعة الصيت (شريعة حمّورابي) المتضمنة 282 مادة وقانونًا حول الدين والجيش والقضاء والزراعة والصناعة والتجارة والحقول والبساتين والبيوت والعمّال والآمال.
الاتحادات والتحالفات الكنعانية قاومت الحملات الأشورية والمصرية، العسكرية في: قَرْقرة، وقادشن (أكثر من مدينة كنعانية حملت هذا الاسم، أو ما يقترب منه، فمثلًا، أحد أسماء مدينة البتراء الأردنية هو قادش، وربما هي نفسها قادِش برنيع، وربما هذه الثالثة هي مدينة ثالثة)، ومجّدو، وكامد اللوز، وأمورو، وأسدود، وصور، وغزة، وغيرها.
حتى أن الحدود بين مصر وفلسطين لم توثَّق إلاّ في العصر الحديث (اتفاقية الحدود عام 1906).
بعض الجغرافيين والمؤرخين يؤكدون وصول الحضارة الكنعانية إلى سميساط، وأعلى منها نحو تركيا والأناضول والشَّمال. وبعضهم الآخر يثبت أن لواء الإسكندرون جميعه خضع زمنًا من تاريخه للكنعانيين وتفرعاتهم العديدة الكثيرة المتنوّعة، وخصبة التجليات. من دون أن ينسى هؤلاء إيراد كل مدن لبنان (من طرابلس وعكّار وحتى سهل البقاع، نحو صور وصيدا وبعلبك، مرورًا ببيروت وزحلة وغيرها)، وجميع روافد سورية (من أقصى الشمال وحتى أقصى الجنوب)، وما بينهما من أنهر وجبال، وما حولهما من بحر متوسط أبيض كبير، جميعها في الأساس كنعانية، وإن اختلفت أسماؤها، وتباينت مسمياتها.
من نافل القول، بالتالي، إن الفلسطينيين والفينيقيين هم شعب واحد كنعاني، والدليل، هو اللغة المشتركة، وصناعة السفن المشتركة، والتجارة المشتركة، والعادات والتقاليد المشتركة. وقد أُطلق اسم (سورية) على بلاد الشام منذ القرن السابع ق. م، وأشار له المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس ق. م. ولم يكن الأنباط، الذين تكلّموا (الكنعانية الآرامية)، سوى الأدوميين الكنعانيين في القرن الثامن ق. م، حيث مهَّد الأنباط لظهور اللغة العربية، التي هي ابنة الآرامية (السريانية). وقد كان مصطلح (العرب)، قبل الميلاد، يعني (البداوة)، ثمَّ أصبح يعني، منذ ظهور الإسلام، الحضارة العربية.
إلى ذلك، وجد علماء الآثار آثارًا كنعانية فلسطيَّة في مصر، وفي بابل كذلك، ما يجعلنا نستنتج، من دون تردد، أنَّ (الكَنْعنة الثقافية)، على رأي الشاعر والأكاديميّ الفلسطينيّ/ الأردنيّ الراحل عز الدين مناصرة (1946 ـ 2021)، هي الاسم الحقيقي القديم لسورية الطبيعية لاحقًا، وهي تعادل (العروبة الثقافية)، بعد الإسلام.
في أريحا، توجد معابد يعود تاريخها إلى زهاء سبعة آلاف عام قبل الميلاد، هي، بالطبع، معابد كنعانية، وهو ما ينطبق كذلك على مدينة مجدّو التي ترجع بعض معابدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد.
الكنعانيون (السكّان الأصليون لفلسطين وما حولها) هم أحفاد الحضارتيْن الكبَّاريَّة والنطوفية، والخلف البُناة لِحضارة أريحا التي بدأت أولى إرهاصاتها قبل أكثر من أحد عشر ألف عام.
ولأن التكرار يكرّس المعلومة و(يعلّم الشطّار)، فمرّة ثانية، وثالثة، نؤكد أن الأموريين، والهكسوس، والفينيقيين، والعرب، والسوريين، بل، وحتى، البابليّين، ينتمون جميعًا إلى حضارة واحدة جامعة مانعة، هي: الحضارة الكنعانية.
والحال كذلك، فإن كنعان، وأمورو، وجهان (جنوبي وشمالي) لأصل واحد هو الوجود الكنعاني القديم والراسخ في فلسطين وما حولها.
وأمّا ما يتعلّق بتاريخ الهجرات، وأن الكنعانيين جاءوا من جزيرة العرب، ومن اليمن، فعلماء الآثار والحفريات والمؤرخون المثابرون أثبتوا العكس، وخلَصوا إلى أن الكنعانيين هاجروا فترة من الزمان إلى جزيرة العرب، ولم يأتوا من هناك، وقد تحققت هذه الهجرات المؤقتة، والمتعلقة بعدد من أبناء كنعان، في فترة الجفاف في الثلث الأخير من الألف الثالثة ق. م، وحتى حوالي العام (1950 ق. م)، عندما هاجر بعض الكنعانيين من بلاد الشام إلى شبه الجزيرة العربية واليمن، حيث تحوّلوا من مزارعين إلى رعاة، من دون أن يتخلّوا، تمامًا، عن ثقافتهم الزراعية، بل نقلوا معهم، كذلك، وإضافة لأدواتهم الزراعية، لغتهم الكنعانية، حيث ولدت منها اللغتان: الآرامية (السريانية)، والعربية القديمة.
ما تقدم هو تاريخ الكنعانيين، مع إحاطة بالرقعة الجغرافية الممتدة التي شغلوها بالعمارة والحياة والنبض الحضاريّ الطالع من مواويل الحصاد، وأغنيات السهل والحقل والجبل والتلال.
العمارة الوظيفية
تنوّعت عمارة الكنعانيين، وتحركت، على وجه العموم، في بعديْن اثنين: وظيفي وجمالي. على صعيد العمارة الوظيفية، فقد اشتهر الكنعانيون بما ابتكروه من وسائل الدفاع عن مدنهم الكثيرة، مترامية الأطراف (بعض المؤرخين، ومنهم اليافي محمد أديب العامري في كتابه "عروبة فلسطين في التاريخ"، ص:249، يقولون بوصول عدد المدن الكنعانية، على امتداد حضارتهم في الزمان والمكان، إلى 200 مدينة، وبحسب قوائم تحتمس الثالث، وصل عدد المدن الفلسطينية إلى 350 مدينة). ومن وسائل الدفاع هذه إنشاء القلاع، والحصون، والأنفاق، مثل نفق جازر، ونفق يبوس في القدس، من أجل الوصول إلى ينابيع المياه.
نظام التحصينات الكنعانيّ يدلّ، بحسب العلماء وأصحاب الاختصاص، على درايةٍ كنعانيةٍ عميقةٍ في علوم تخطيط المدن وفنونها، ويشير إلى مجتمعٍ منظَّم، ويشفُّ عن عمارة عسكرية متميزة.
ولعل دير دبوان، المدينة الكنعانية التي سكنها الكنعانيون بالقرب من رام الله، في الألف الرابعة قبل الميلاد، تشكّل نموذجًا فذًّا للعمارة الكنعانية؛ الوظيفية والجمالية، فالمدينة كانت محصّنة، لها أبواب وأبراج. ووجدت فيها، معابد جليلة، وقصور منيعة، وقبور صخرية، وبيوت بديعة.
البعد الوظيفيّ لم يقتصر على وظيفة التحصين المتحسّب للحروب وغزوات الأعادي، فقد رافقته عمارة وظيفية خاصة بالتجارة. وفي هذا السياق، أنشأ الكنعانيون مجموعة من المدن لخدمة الطرق التجارية التي كانت تمرّ من مدنهم في فلسطين وغيرها. أما الوظيفة الدينية فقد جعلتهم يتفنّنون في بناء المعابد المستوعبة طقوسهم، المتمثلة معتقداتهم. كما أن تربة فلسطين، وبلاد كنعان الزراعية الخصبة، استدعت عمارة وظيفية لها علاقة بالبقاء قرب هذه السهول الساحلية في معظم الأحيان، وغير الساحلية في بعض الأحيان.
وظيفيًا أيضًا، وأيضًا، فقد ظهرت في معظم المدن الفلسطينية/ الكنعانية، منذ نهاية الألف الثالثة ق. م، ومطالع الألف الثانية ق. م، مبان عامة، خصوصًا مع توسّع العلاقات التجارية بين المدن الفلسطينية في ما بينها، وبينها وبين العالم الخارجيّ. وقد تميّزت هذه المباني بالامتداد الأفقيّ، والممرات الواسعة، والتراتبية المجتمعية والاقتصادية والسياسية. في هذا السياق، شكّلت المعابد وجهًا خاصًا من وجوه المباني العامة.
مجدّو المجيدة
مچدّو الفلسطينية تمثل، بدورها، تجليًا ساطعًا للعمارة الوظيفية الكنعانية، فقد كانت محصّنةً بسور ذي بوابة مؤلّفة من ثلاثة أبواب، الواحد تلو الآخر، تحميها أربع غرف للحرس، غرفتان من كل جانب. وكان السور مائلًا من الخارج ومبنيًا بحجارة ضخمة. ووجد في داخله معبد وقصر. وكان الكنعانيون في مجدو يدفنون موتاهم في قبور منحوتة في الصخر، وكانت هذه تحتوي عادة على أكثر من مدفن. أما في عصر مجدّو الحجريّ فقد ظهرت المساكن المستطيلة المبنية من الحجارة، التي سقوفها من القصب والطين، ولها ساحات مسوّرة. كما عثر على معبد يتألف من ساحة تحيط بها المباني، ومدخليْن وبئر ومذبح.
في عصر مجدّو البرونزي القديم، أصبحت المساكن أكبر، وبنيت المعابد المؤلّفة من قاعة مستطيلة، ورُفِع السقف على دعائم خشبية ترتكز على قواعد حجرية. في ذلك الزمن المجدّوي، استُعمل الفخار على نطاقٍ واسع، وصُدّرت الجِرار إلى مصر، وصنعت الأدوات البرونزية، كما عُثِرَ على أدوات للزينة وقطعٍ ذهبيةٍ مصنعةٍ محليًا، وعلى أختامٍ اسطوانية، وظهرت في أواخر ذلك العصر زراعة الحبوب والزيتون واللوز.
في عصر البرونز الوسيط، أصبحت مچدّو مدينة محصّنة، بنيت أسوارها بالحجارة، ودعمت بالأبراج، كما حصّنت بواباتها الضخمة بالعضادات الحجرية، وبنيت فيها المساكن الكبيرة والقصور. وظهرت صناعة الحليّ والغزل وحياكة الملابس.
في العصر البرونزي الحديث، تطورت مچدو كثيرًا، وبنيت فيها المساكن المنظمة وقصور الأمراء، ومنها قصر الحاكم الذي اُكتشف بالقرب من بوابة المدينة، وتألف من قاعة كبيرة تحيط بها الغرف. صنع السكان فخارًا مزخرفًا برسومات طيور وأسماك وأشكال هندسية، كما عُثر على فخار مستورد من قبرص ومناطق بحر إيجة، وعُثر تحت أنقاض أحد القصور على كميات كبيرة من الحليّ الذهبيّ والخرزيّ والحجريّ اللازورديّ والزجاج الملوّن، وعلى مجموعة من العاجيات.
بقي أن نقول إن أطلال مدينة مچدّو المجيدة تقع فوق تل استراتيجي يرتفع نحو ستين مترًا عن السهول المحيطة به، إلى الجنوب الشرقي من حيفا على بعد حوالي 35 كيلومترًا. يُشرف هذا التل على سهل مرج ابن عامر حتى زرعين نحو الأردن، إلى أن يقوم جبل فقوعة حاجزًا للنظر. وهي تُرى مُستقيمة في سهل مرج ابن عامر في أعرض مواضعه في الأودية، التي تتصل بجبل الطور إلى بحيرة طبريا. وإلى شمالها جبال الجليل، وتُشرف على سهل عكا والبحر المتوسط من خلال ممرٍّ ضيّق.
شواهد زاخرة
تميّزت خربة الكرك، على الشاطئ الجنوبي الغربي لبحيرة طبرية، بنوعٍ خاصٍ من الفخَّار، رماديّ اللون، ومصقول. وعثر فيها على أدوات صوّانية، وعلى بيوتٍ مبنيّةٍ من البازلت.
أمّا في موقع تل الشيخ العريني، مقابل عراق المنشية (مدينة جَتْ الفلسطينية)، فقد تمّ التعرف على بقايا مبانٍ يرجع تاريخها إلى نهاية العصر الحجري النحاسي، والبرونزي القديم، والحديديّ، والهلّينيّ، والبيزنطيّ، والإسلاميّ، حيث وُجد مبنى ضخمٌ، وأدوات فخارية، ومعاصر زيتون.
"تل الفارعة الشمالي" بين نابلس وطوباس، الذي اتفق الباحثون على أنه موقع (ترصة) الكنعاني، انتقل من مجرد مكان عادي للسكن في مرحلة العصر الحجري النحاسيّ، إلى مدينةٍ مُحصَّنةٍ في العصر البرونزيّ القديم. أما في موقع "باب الذراع"، الذي يقع إلى الشرق من منطقة البحر الميت، فقد كَشفت الحفريات في هذا الموقع عن مدينة أثرية تعد من أهم المواقع الأثرية في شرق الأردن. وذكر المنقّبون أن أولى بوادر الاستقرار في هذا الموقع كانت في حوالي 3100 ق. م. وفيه أنواع من القبور، والجدران، والأبراج، والمعابد، والموقع يعطي فكرة واضحة عن المعابد والبيوت والقبور الكنعانية الأولى.
في العصر البرونزي الوسيط، بدأت المدن الكنعانية، مع بداية الألف الثانية ق. م، تنشط وتنتشر من جديد. وظهرت معها أنماط جديدة من العمارة والمدافن، والخزف، والأسلحة.
في منطقة النقب الفلسطينية، التي تقع على بعد 30 كيلومترًا شمال شرقي بئر السبع، عُثر في العصر البرونزي المبكّر على نظام لتزويد المدينة بالمياه (عمران وظيفي)، وعلى نظام للتحصينات مبنيِّ بشكل جيد.
لقد وضع الكنعانيون الصهاريج فوق سطوح بيوتهم، وحفروا الأنفاق، وابتكروا نظام ريٍّ غير مسبوق (البتراء نموذجًا)، أخذ منهم الرومان بعض أسراره. كما عرف الكنعانيون بعض تجليات المربع الذهبيّ في العمارة، خصوصًا عمارة المعابد. وحتى بيوتهم العادية، فقد كان فيها آبار للمياه، وعنابر القمح، ونوافذها تطل على باحتها.
دويلات المدن
عمارة القلاع الوظيفية أسّست لِما بات يطلق عليه "دويلات المدن" الفلسطينية، أو الكنعانية التي يتبعها عدد من القرى الزراعية، وهي الدويلات التي برز منها، على وجه الخصوص: عسقلان، حاصور (تل القدح)، شكيم (تل بلاطة، أو نابلس)، والقدس. وبلغ عددها، إضافة لِما تقدم ذكره، عشرات المدن التي شكّلت في ما بينها تحالفات منيعة، وأسهم تبادل الخبرات بتطوير عمارة هذه المدن، وتحسين وسائل تحصينها، وانتشار الشوارع فيها، والخدمات، والاستشارات. وتتميز هذه المرحلة باستعمال عجلة الفخّار، واهتداء سكان فلسطين إلى خلط النحاس مع القصدير، وإنتاج أدوات برونزية. كما اكتُشفت مدافن قُببية تعود لهذه المرحلة، ومدافن الغرفة المستطيلة، والمدافن العمودية المقطوعة من الصخر.
نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وبدايات الألف الثالثة (ودائمًا قبل الميلاد)، شهدت المدن الكنعانية تغيرًا حاسمًا في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية. كما شهدت تلك الفترة ظهور أعداد كبيرة من المدافن المقطوعة في الصخر، تنسب إلى حضارة "الغسول" في بئر السبع (وجدت بقايا مدافن صخرية في: تل العجول قرب غزّة، وتل الدوير، وعين سامية، وظهر مرزبانة، والجيب، وخربة كوفين، وتل المتسلّم، وأريحا. كذلك في مواقع غور الأردن: تل أكتنو، تل أم حماد الشرقي، سيل الحمّة، وحتى تل القدح إلى الشمال من بحيرة طبريا. كذلك في: باب الذراع في منطقة اللسان، شرق البحر الميت، ومدينة عمّان وحولها، وموقع الحصن، قرب إربد). كما ظهر نوعان من الفخّار، أحدهما في شمال فلسطين، ومنطقة مرج ابن عامر، من النوع الرمادي المصقول، والآخر في جنوب فلسطين من النوع الأحمر المصقول أيضًا.
سمات وافرات
رغم أن العمارة الكنعانية لم تهمل الفروق الطبقية، إلا أن ذلك لم يحل دون تفنُّن بعض أبناء الطبقة الوسطى من المزارعين الملّاك، والحرفيين المهرة، والتجار الوسطيين، في تجميل بيوتهم، وخص حوشها بنافورة ماء على سبيل المثال (حواضر دمشق ونابلس تثبت وجود جذور لنوعٍ من عمارة البيوت الكنعانية)، وهو ما أشار إليه موسكاتي: "تتكوّن البيوت الكنعانية، بشكل عام، من فِناءٍ وحجرتيْن تأخذ أشكالًا دائرية، أو مربعة، مزيّنةً ببلاطٍ أرضيٍّ أرجوانيِّ اللون. كما كانت هذه المباني تزيّن من الداخل ببعض أحواض المياه، التي لا تزال موجودة في الأبنية في بلاد الشام، وبخاصة في سورية".
كما تميزت العمارة الدينية الكنعانية بإقامة المعابد في العراء، تحيطها الأسوار، وتضم مذبحًا ومجموعة من الأحجار المقدسة.
وعلى وجه العموم، تميّزت العمارة الكنعانية بالمباني العالية، والزخارف المنشورة على جدران القصور والأسوار، مع استخدامهم للألوان الأرجوانية بشكلٍ واسعٍ في طلاء نقوشهم المعمارية.
وبالرجوع إلى المكتوب أعلاه أن مدينة قادش (البتراء حاليًّا) هي مدينة كنعانية، وأن الأنباط ما هم سوى فرع كنعاني، فإن خزنة البتراء، تصبح، وفق هذا المسار، عمارة كنعانية، وبعض حواضر بابل كذلك، وربما بعض ملامح عمارة الفراعنة.
ورغم أن العمارة القديمة، وكذلك الفنون، والنحت منها على وجه الخصوص، وكذلك الموسيقى، ولدت في حضن المعبد، إلا أن الكنعانيين؛ فنانين ونحّاتين وشعراء ومهندسي عمارة، حاولوا، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، تحقيق استقلالية تليق بما وصلت إليه حضارتهم، وتعبّر عن توقهم للحياة والفرح والرفاه، وتعكس ما بلغوه من مَنَعةٍ ورسوخ.
من الإسكندرون إلى غزَّة، انفتحت أرض كنعان على البحر، والبحر دفع بهم إلى التجارة، والتجارة، بحرًا، تحتاج إلى صناعة السفن، وصناعة السفن من خشب الأرز، فإذًا خشب الأرز، إضافةً إلى البحر، فتح الآفاق البحرية للفينيقيين الكنعانيين، وبالتالي جمعوا في فنّهم بين البعد الصناعيّ والبعد الجماليّ، هو فنٌّ يُسْتعَمَل في الحياة اليومية، لكنه مُمْتِعٌ ومُبْهِرٌ للنظر.
حديث الأرجوان
الأرجوان هو من صدَفة الموريكس، وتسمَّى بالعربية "المُرّيق"، وتُنسَب إلى ملكارت إله صور، اكتشفت هذه الصَدَفة على شاطئ صور. وفي الحقيقة، اليونانيون أطلقوا على الكنعانيين اسم الفينيقيين نسبةً إلى الأرجوان، لأن كلمة فينيقيا تعني البلاد الحمراء، أو الرجال الحمر، نسبةً إلى الأرجوان الذي كان الفينيقيون يتاجرون به. على كل حال، هم لم يتاجروا بالأرجوان فقط، بل تاجروا، إلى ذلك، بأقراط الزينة، والأقمشة، والأواني، والصحون، والخَزَف، وجمع فنّهم بين الفائدة والمتعة. أمّا عمارتهم، فقد شكّلت أفقًا مدهشًا من آفاق فرادتهم، وحضارتهم، وعلوّ كعب وجودهم، ذلك الوجود الذي أعمى بصيرة الأعداء، فتكالبوا على أرض كنعان، وظلّوا كلما مرّوا من أمام حاضرة كنعانية، يسيل لعاب كيدهم ومكرهم، فإذا بهم يحوّلون أرجوان كنعان إلى دم فداءٍ لم يتوقّف حتى يومنا هذا نهرُ عطائه، دفاعًا عن رقيّ حضارته، وخصب نضارته.
زخرف الكنعانيون على اختلاف جغرافيا وجودهم، وأسماء قبائلهم، الحياة ببديع العمارة، ومفردات الخصب، ونفائس الأرجوان، وتركوا لنا ما سوف نظلّ ننقّب عنه، ونتهجّى دلائله، ونحاول فك مراميه، ما بقي الزمان.
في التوثيق
في سياق توثيق ما تقدم، فإن الأمر يحتاج إلى مئات الصفحات، وآلاف الكلمات، ومما لا يحتمله موضوع في جريدة، أو ملحق ثقافي. ويكفي، في هذا السياق، الإشارة إلى أسماء بعض المؤرخين الذين أجمعوا على هذه الحقائق أعلاه. وفي إمكان راغبي التحقق، العودة لما دوّنه هؤلاء من كتب وأبحاث وإصدارات حول ما تقدّم: ميخائيل نسطور، والمفكّر الليبي علي فهمي خشيم (1936 ـ 2011)، والآثاريّ الأميركيّ ريتشارد فراي (1920)، والمؤرخ المصري محمد بيّومي مهران (1928 ـ 2008)، وديفيد غرافس، وغلن بورسك، وسوزان هارفي، والمؤرخ الإغريقي هيرودوت (484 ق. م ـ 425 ق. م)، والمؤرخ العراقي جواد علي (1907 ـ 1987)، والمستشرق البريطاني دي لاسي أوليري (1872 ـ 1957)، والباحث السوري محمد الخطيب، صاحب كتاب "الحضارة الفينيقية"، والباحث عبد الله الحلو، صاحب كتاب "تحقيقات تاريخية ولغوية"، والباحث والمترجم السوري عبد الإله الملاَّح (1940)، مترجم كتاب "تاريخ هيرودوت"، والباحث السوري مصطفى طلاس، والباحث جان مازيل، صاحب كتاب "تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية" الذي ترجمته إلى العربية ربا الخش، والباحث المصري محمد أبو المحاسن عصفور، مؤلف كتاب "المدن الفينيقية"، وغيره من الكتب الباحثة في الموضوع نفسه، والباحث السوري فيصل عبد الله، مؤلف كتاب "تاريخ بلاد الشام"، والباحث السويسري ديل ميديكو، مؤلف كتاب "الشريعة الكنعانية"، والمستشرق الألماني إسرائيل ولفنسون (1899 ـ 1980)، مؤلف كتاب "تاريخ اللغات السامية"، والمؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدبَّاغ (1897 ـ 1989)، والباحث الفلسطيني/ الأردني معاوية إبراهيم (1940)، والباحث عز الدين غريبة، صاحب الدراسة المعنونة بـ"الحضارة العبيدية في فلسطين"، والباحث السوري فراس السواح، والمؤرخ العراقي أحمد سوسة (1900 ـ 1982)، والمؤرخ والمفكر الفلسطيني/ الأردني محمد أديب العامري (1907 ـ 1978)، صاحب كتاب "عروبة فلسطين في التاريخ"، وقائمة تطول.. وتطول.. وتطول، أكتفي بمن ذكرتهم أعلاه. ولا أنسى، على وجه الخصوص، دراسة عز الدين مناصرة "الكنعانيون هم أصل بلاد الشام" المنشورة في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2018، في جريدة "رأي اليوم"، التي أرجو أن تجد، يومًا ما، من يحوّلها إلى كتاب، فهي دراسة تستحق الالتفات، وتوجيه أجيالنا نحو قراءتها، علمًا أنني استفدت منها كثيرًا في موضوعي حول عمارة الكنعانيين، خصوصًا حول تاريخهم، والجغرافيا التي تمدّدوا فيها.
محمد جميل خضر 12 نوفمبر 2022
عمارة
عمارة بابل تأثرت بالعمارة الكنعانية
شارك هذا المقال
حجم الخط
عشق الكنعانيُّ الأرضَ، فَبَذَر سهلَها، وشقَّ وعرَها، وأنشأ في كل وادٍ حديقة، وفي كل زاويةٍ جِنينة. حتى البحر، وكلُّ ماءٍ ويَم، مَخَرَ عبابه، عمّره بالقوارب تركب الأمواج، تجوب دروب الأزرق بحثًا عن أسباب الحياة وأشرعة الرفاه.
عميقًا، تجذّر الكنعانيّ في الأرض، أرض أجداده الأوائل، ولعينيها شيّد، ينشد حمايتها، القلاع، وزيّن نواحيها بالبيوت المزهرة بالثمار والنبات، حمل الحجر من عروقه حوله، رفع الطوبة فوق الطوبة، ثبّت أركان وجوده بالمدن المستقرّة المشيّدة عمارتها من مفردات اكتشف دورها في البناء قبل غيره من أبناء الحضارات التي جاورته وتعلمت منه، أو لحقت به وأخذت منه.
جمّل ملوك كنعان القصور، وتنافسوا في جعل كل قصر تحفةً بديعة. وها هو المؤرخ الإيطالي ساباتينو موسكاتي (1922 ـ 1997) يقول "إن فلسطين هي الأسبق من بقاع العالم قاطبة في معرفة العمارة، حيث تعد مدينة أريحا أقدم مدينة عرفها التاريخ".
التاريخ والجغرافيا
صحيحٌ أنَّ التقسيمات الإدارية لبلاد كنعان اختلفت فيها التسميات للمناطق الجغرافية، إلاّ أن (بلاد كنعان الحقيقية) ظلَّت حتى العهد البيزنطي/ الروماني تعني جغرافيًا: ساحل المتوسط الشرقي، من (رأس شمرا)، حتى غزّة، ومن ساحل البحر المتوسط، حتى بادية الشام شرقًا، وتشمل: فلسطين الداخلية، وشرق الأردن، حتى خليج العقبة، بل وصلت شمالًا، بحسب عالم الآثار الفرنسي كلود شيفر (1898 ـ 1982) حتى أضَنَة.
ورغم إطلاق اسم كنعان في البداية على (فلسطين وفينيقيا)، ورُغم نظام (دُويلات المدن) في البلاد الكنعانية، إلاّ أنَّ نظام (الاتحاد والأحلاف) الكنعانية كان يسود أحيانًا علاقات دول المدن في بعض الفترات المصيرية، خصوصًا في وجه الأخطار القادمة من الإمبراطورية الآشورية في العراق، ومملكة الفراعنة في مصر. حتى قرطاج التونسية هي، بشكلٍ أو بآخر، تنويعةٌ كنعانية فينيقية ممتدة نحو شمال أفريقيا. بالتالي، فمن الخطأ التفرقة بين الفلسطينيين والكنعانيين، لأنّ الفلسطينيين هم قبائل كنعانية، ومن الخطأ حصرهم في الساحل الجنوبي لفلسطين في المدن الفلسطينية الخمس، لأنَّ الآثار أثبتت وجودهم في شرق فلسطين وجنوبها، وشمالها، أي في المناطق نفسها التي أطلق عليها الباحثون صفة (الكنعانية)، وسبب هذا الخلط هو أن الفلسطينيين والكنعانيين، هم من أصل واحد، وهم سكان فلسطين منذ العصور الحجرية، وحضارة أريحا، أقدم مدينة في العالم، شاهدة على ذلك.
"التقسيمات الإدارية لبلاد كنعان اختلفت فيها التسميات للمناطق الجغرافية، إلاّ أن (بلاد كنعان الحقيقية) ظلَّت حتى العهد البيزنطي/ الروماني تعني جغرافيًا: ساحل المتوسط الشرقي، من (رأس شمرا)، حتى غزّة، ومن ساحل البحر المتوسط، حتى بادية الشام شرقًا" |
كذلك الأمر، بالنسبة للأموريين، فهم كنعانيو فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن. تدلُّ على ذلك اللغة، والدين، والآثار. فالأسماء: (أموري، يبوسي، فينيقي، فلسطي، أدومي، عمّوني، مؤابي، أوغاريتي، جبيلي) ما هي إلا مُسمَّيات لاسم واحد هو كنعاني. كذلك الأمر بالنسبة للعرب، فهم (بدو) الكنعانيين، في بادية الشام، وشبه جزيرة سيناء، وشبه جزيرة العرب.
أيضًا، وأيضًا، الهكسوس كنعانيون، وهم حكموا مصر طيلة أكثر من قرنين. والأموريون كنعانيون، وهؤلاء حكموا بابل، طيلة فترة حكم أسرة حمّورابي، الكنعاني الأموري، صاحب الشريعة ذائعة الصيت (شريعة حمّورابي) المتضمنة 282 مادة وقانونًا حول الدين والجيش والقضاء والزراعة والصناعة والتجارة والحقول والبساتين والبيوت والعمّال والآمال.
الاتحادات والتحالفات الكنعانية قاومت الحملات الأشورية والمصرية، العسكرية في: قَرْقرة، وقادشن (أكثر من مدينة كنعانية حملت هذا الاسم، أو ما يقترب منه، فمثلًا، أحد أسماء مدينة البتراء الأردنية هو قادش، وربما هي نفسها قادِش برنيع، وربما هذه الثالثة هي مدينة ثالثة)، ومجّدو، وكامد اللوز، وأمورو، وأسدود، وصور، وغزة، وغيرها.
حتى أن الحدود بين مصر وفلسطين لم توثَّق إلاّ في العصر الحديث (اتفاقية الحدود عام 1906).
بعض الجغرافيين والمؤرخين يؤكدون وصول الحضارة الكنعانية إلى سميساط، وأعلى منها نحو تركيا والأناضول والشَّمال. وبعضهم الآخر يثبت أن لواء الإسكندرون جميعه خضع زمنًا من تاريخه للكنعانيين وتفرعاتهم العديدة الكثيرة المتنوّعة، وخصبة التجليات. من دون أن ينسى هؤلاء إيراد كل مدن لبنان (من طرابلس وعكّار وحتى سهل البقاع، نحو صور وصيدا وبعلبك، مرورًا ببيروت وزحلة وغيرها)، وجميع روافد سورية (من أقصى الشمال وحتى أقصى الجنوب)، وما بينهما من أنهر وجبال، وما حولهما من بحر متوسط أبيض كبير، جميعها في الأساس كنعانية، وإن اختلفت أسماؤها، وتباينت مسمياتها.
من نافل القول، بالتالي، إن الفلسطينيين والفينيقيين هم شعب واحد كنعاني، والدليل، هو اللغة المشتركة، وصناعة السفن المشتركة، والتجارة المشتركة، والعادات والتقاليد المشتركة. وقد أُطلق اسم (سورية) على بلاد الشام منذ القرن السابع ق. م، وأشار له المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس ق. م. ولم يكن الأنباط، الذين تكلّموا (الكنعانية الآرامية)، سوى الأدوميين الكنعانيين في القرن الثامن ق. م، حيث مهَّد الأنباط لظهور اللغة العربية، التي هي ابنة الآرامية (السريانية). وقد كان مصطلح (العرب)، قبل الميلاد، يعني (البداوة)، ثمَّ أصبح يعني، منذ ظهور الإسلام، الحضارة العربية.
إلى ذلك، وجد علماء الآثار آثارًا كنعانية فلسطيَّة في مصر، وفي بابل كذلك، ما يجعلنا نستنتج، من دون تردد، أنَّ (الكَنْعنة الثقافية)، على رأي الشاعر والأكاديميّ الفلسطينيّ/ الأردنيّ الراحل عز الدين مناصرة (1946 ـ 2021)، هي الاسم الحقيقي القديم لسورية الطبيعية لاحقًا، وهي تعادل (العروبة الثقافية)، بعد الإسلام.
في أريحا، توجد معابد يعود تاريخها إلى زهاء سبعة آلاف عام قبل الميلاد، هي، بالطبع، معابد كنعانية، وهو ما ينطبق كذلك على مدينة مجدّو التي ترجع بعض معابدها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد.
الكنعانيون (السكّان الأصليون لفلسطين وما حولها) هم أحفاد الحضارتيْن الكبَّاريَّة والنطوفية، والخلف البُناة لِحضارة أريحا التي بدأت أولى إرهاصاتها قبل أكثر من أحد عشر ألف عام.
ولأن التكرار يكرّس المعلومة و(يعلّم الشطّار)، فمرّة ثانية، وثالثة، نؤكد أن الأموريين، والهكسوس، والفينيقيين، والعرب، والسوريين، بل، وحتى، البابليّين، ينتمون جميعًا إلى حضارة واحدة جامعة مانعة، هي: الحضارة الكنعانية.
والحال كذلك، فإن كنعان، وأمورو، وجهان (جنوبي وشمالي) لأصل واحد هو الوجود الكنعاني القديم والراسخ في فلسطين وما حولها.
"بالنسبة للأموريين، فهم كنعانيو فلسطين، وسورية، ولبنان، والأردن. تدلُّ على ذلك اللغة، والدين، والآثار" |
وأمّا ما يتعلّق بتاريخ الهجرات، وأن الكنعانيين جاءوا من جزيرة العرب، ومن اليمن، فعلماء الآثار والحفريات والمؤرخون المثابرون أثبتوا العكس، وخلَصوا إلى أن الكنعانيين هاجروا فترة من الزمان إلى جزيرة العرب، ولم يأتوا من هناك، وقد تحققت هذه الهجرات المؤقتة، والمتعلقة بعدد من أبناء كنعان، في فترة الجفاف في الثلث الأخير من الألف الثالثة ق. م، وحتى حوالي العام (1950 ق. م)، عندما هاجر بعض الكنعانيين من بلاد الشام إلى شبه الجزيرة العربية واليمن، حيث تحوّلوا من مزارعين إلى رعاة، من دون أن يتخلّوا، تمامًا، عن ثقافتهم الزراعية، بل نقلوا معهم، كذلك، وإضافة لأدواتهم الزراعية، لغتهم الكنعانية، حيث ولدت منها اللغتان: الآرامية (السريانية)، والعربية القديمة.
ما تقدم هو تاريخ الكنعانيين، مع إحاطة بالرقعة الجغرافية الممتدة التي شغلوها بالعمارة والحياة والنبض الحضاريّ الطالع من مواويل الحصاد، وأغنيات السهل والحقل والجبل والتلال.
العمارة الوظيفية
تنوّعت عمارة الكنعانيين، وتحركت، على وجه العموم، في بعديْن اثنين: وظيفي وجمالي. على صعيد العمارة الوظيفية، فقد اشتهر الكنعانيون بما ابتكروه من وسائل الدفاع عن مدنهم الكثيرة، مترامية الأطراف (بعض المؤرخين، ومنهم اليافي محمد أديب العامري في كتابه "عروبة فلسطين في التاريخ"، ص:249، يقولون بوصول عدد المدن الكنعانية، على امتداد حضارتهم في الزمان والمكان، إلى 200 مدينة، وبحسب قوائم تحتمس الثالث، وصل عدد المدن الفلسطينية إلى 350 مدينة). ومن وسائل الدفاع هذه إنشاء القلاع، والحصون، والأنفاق، مثل نفق جازر، ونفق يبوس في القدس، من أجل الوصول إلى ينابيع المياه.
نظام التحصينات الكنعانيّ يدلّ، بحسب العلماء وأصحاب الاختصاص، على درايةٍ كنعانيةٍ عميقةٍ في علوم تخطيط المدن وفنونها، ويشير إلى مجتمعٍ منظَّم، ويشفُّ عن عمارة عسكرية متميزة.
ولعل دير دبوان، المدينة الكنعانية التي سكنها الكنعانيون بالقرب من رام الله، في الألف الرابعة قبل الميلاد، تشكّل نموذجًا فذًّا للعمارة الكنعانية؛ الوظيفية والجمالية، فالمدينة كانت محصّنة، لها أبواب وأبراج. ووجدت فيها، معابد جليلة، وقصور منيعة، وقبور صخرية، وبيوت بديعة.
البعد الوظيفيّ لم يقتصر على وظيفة التحصين المتحسّب للحروب وغزوات الأعادي، فقد رافقته عمارة وظيفية خاصة بالتجارة. وفي هذا السياق، أنشأ الكنعانيون مجموعة من المدن لخدمة الطرق التجارية التي كانت تمرّ من مدنهم في فلسطين وغيرها. أما الوظيفة الدينية فقد جعلتهم يتفنّنون في بناء المعابد المستوعبة طقوسهم، المتمثلة معتقداتهم. كما أن تربة فلسطين، وبلاد كنعان الزراعية الخصبة، استدعت عمارة وظيفية لها علاقة بالبقاء قرب هذه السهول الساحلية في معظم الأحيان، وغير الساحلية في بعض الأحيان.
"من وسائل الدفاع عن المدن إنشاء القلاع، والحصون، والأنفاق، مثل نفق جازر، ونفق يبوس في القدس، من أجل الوصول إلى ينابيع المياه" |
وظيفيًا أيضًا، وأيضًا، فقد ظهرت في معظم المدن الفلسطينية/ الكنعانية، منذ نهاية الألف الثالثة ق. م، ومطالع الألف الثانية ق. م، مبان عامة، خصوصًا مع توسّع العلاقات التجارية بين المدن الفلسطينية في ما بينها، وبينها وبين العالم الخارجيّ. وقد تميّزت هذه المباني بالامتداد الأفقيّ، والممرات الواسعة، والتراتبية المجتمعية والاقتصادية والسياسية. في هذا السياق، شكّلت المعابد وجهًا خاصًا من وجوه المباني العامة.
مجدّو المجيدة
مچدّو الفلسطينية تمثل، بدورها، تجليًا ساطعًا للعمارة الوظيفية الكنعانية، فقد كانت محصّنةً بسور ذي بوابة مؤلّفة من ثلاثة أبواب، الواحد تلو الآخر، تحميها أربع غرف للحرس، غرفتان من كل جانب. وكان السور مائلًا من الخارج ومبنيًا بحجارة ضخمة. ووجد في داخله معبد وقصر. وكان الكنعانيون في مجدو يدفنون موتاهم في قبور منحوتة في الصخر، وكانت هذه تحتوي عادة على أكثر من مدفن. أما في عصر مجدّو الحجريّ فقد ظهرت المساكن المستطيلة المبنية من الحجارة، التي سقوفها من القصب والطين، ولها ساحات مسوّرة. كما عثر على معبد يتألف من ساحة تحيط بها المباني، ومدخليْن وبئر ومذبح.
في عصر مجدّو البرونزي القديم، أصبحت المساكن أكبر، وبنيت المعابد المؤلّفة من قاعة مستطيلة، ورُفِع السقف على دعائم خشبية ترتكز على قواعد حجرية. في ذلك الزمن المجدّوي، استُعمل الفخار على نطاقٍ واسع، وصُدّرت الجِرار إلى مصر، وصنعت الأدوات البرونزية، كما عُثِرَ على أدوات للزينة وقطعٍ ذهبيةٍ مصنعةٍ محليًا، وعلى أختامٍ اسطوانية، وظهرت في أواخر ذلك العصر زراعة الحبوب والزيتون واللوز.
"ظهرت في معظم المدن الفلسطينية/ الكنعانية، منذ نهاية الألف الثالثة ق. م، ومطالع الألف الثانية ق. م، مبان عامة، خصوصًا مع توسّع العلاقات التجارية بين المدن الفلسطينية في ما بينها، وبينها وبين العالم الخارجيّ" |
في عصر البرونز الوسيط، أصبحت مچدّو مدينة محصّنة، بنيت أسوارها بالحجارة، ودعمت بالأبراج، كما حصّنت بواباتها الضخمة بالعضادات الحجرية، وبنيت فيها المساكن الكبيرة والقصور. وظهرت صناعة الحليّ والغزل وحياكة الملابس.
في العصر البرونزي الحديث، تطورت مچدو كثيرًا، وبنيت فيها المساكن المنظمة وقصور الأمراء، ومنها قصر الحاكم الذي اُكتشف بالقرب من بوابة المدينة، وتألف من قاعة كبيرة تحيط بها الغرف. صنع السكان فخارًا مزخرفًا برسومات طيور وأسماك وأشكال هندسية، كما عُثر على فخار مستورد من قبرص ومناطق بحر إيجة، وعُثر تحت أنقاض أحد القصور على كميات كبيرة من الحليّ الذهبيّ والخرزيّ والحجريّ اللازورديّ والزجاج الملوّن، وعلى مجموعة من العاجيات.
بقي أن نقول إن أطلال مدينة مچدّو المجيدة تقع فوق تل استراتيجي يرتفع نحو ستين مترًا عن السهول المحيطة به، إلى الجنوب الشرقي من حيفا على بعد حوالي 35 كيلومترًا. يُشرف هذا التل على سهل مرج ابن عامر حتى زرعين نحو الأردن، إلى أن يقوم جبل فقوعة حاجزًا للنظر. وهي تُرى مُستقيمة في سهل مرج ابن عامر في أعرض مواضعه في الأودية، التي تتصل بجبل الطور إلى بحيرة طبريا. وإلى شمالها جبال الجليل، وتُشرف على سهل عكا والبحر المتوسط من خلال ممرٍّ ضيّق.
شواهد زاخرة
تميّزت خربة الكرك، على الشاطئ الجنوبي الغربي لبحيرة طبرية، بنوعٍ خاصٍ من الفخَّار، رماديّ اللون، ومصقول. وعثر فيها على أدوات صوّانية، وعلى بيوتٍ مبنيّةٍ من البازلت.
أمّا في موقع تل الشيخ العريني، مقابل عراق المنشية (مدينة جَتْ الفلسطينية)، فقد تمّ التعرف على بقايا مبانٍ يرجع تاريخها إلى نهاية العصر الحجري النحاسي، والبرونزي القديم، والحديديّ، والهلّينيّ، والبيزنطيّ، والإسلاميّ، حيث وُجد مبنى ضخمٌ، وأدوات فخارية، ومعاصر زيتون.
"تل الفارعة الشمالي" بين نابلس وطوباس، الذي اتفق الباحثون على أنه موقع (ترصة) الكنعاني، انتقل من مجرد مكان عادي للسكن في مرحلة العصر الحجري النحاسيّ، إلى مدينةٍ مُحصَّنةٍ في العصر البرونزيّ القديم. أما في موقع "باب الذراع"، الذي يقع إلى الشرق من منطقة البحر الميت، فقد كَشفت الحفريات في هذا الموقع عن مدينة أثرية تعد من أهم المواقع الأثرية في شرق الأردن. وذكر المنقّبون أن أولى بوادر الاستقرار في هذا الموقع كانت في حوالي 3100 ق. م. وفيه أنواع من القبور، والجدران، والأبراج، والمعابد، والموقع يعطي فكرة واضحة عن المعابد والبيوت والقبور الكنعانية الأولى.
في العصر البرونزي الوسيط، بدأت المدن الكنعانية، مع بداية الألف الثانية ق. م، تنشط وتنتشر من جديد. وظهرت معها أنماط جديدة من العمارة والمدافن، والخزف، والأسلحة.
في منطقة النقب الفلسطينية، التي تقع على بعد 30 كيلومترًا شمال شرقي بئر السبع، عُثر في العصر البرونزي المبكّر على نظام لتزويد المدينة بالمياه (عمران وظيفي)، وعلى نظام للتحصينات مبنيِّ بشكل جيد.
لقد وضع الكنعانيون الصهاريج فوق سطوح بيوتهم، وحفروا الأنفاق، وابتكروا نظام ريٍّ غير مسبوق (البتراء نموذجًا)، أخذ منهم الرومان بعض أسراره. كما عرف الكنعانيون بعض تجليات المربع الذهبيّ في العمارة، خصوصًا عمارة المعابد. وحتى بيوتهم العادية، فقد كان فيها آبار للمياه، وعنابر القمح، ونوافذها تطل على باحتها.
دويلات المدن
عمارة القلاع الوظيفية أسّست لِما بات يطلق عليه "دويلات المدن" الفلسطينية، أو الكنعانية التي يتبعها عدد من القرى الزراعية، وهي الدويلات التي برز منها، على وجه الخصوص: عسقلان، حاصور (تل القدح)، شكيم (تل بلاطة، أو نابلس)، والقدس. وبلغ عددها، إضافة لِما تقدم ذكره، عشرات المدن التي شكّلت في ما بينها تحالفات منيعة، وأسهم تبادل الخبرات بتطوير عمارة هذه المدن، وتحسين وسائل تحصينها، وانتشار الشوارع فيها، والخدمات، والاستشارات. وتتميز هذه المرحلة باستعمال عجلة الفخّار، واهتداء سكان فلسطين إلى خلط النحاس مع القصدير، وإنتاج أدوات برونزية. كما اكتُشفت مدافن قُببية تعود لهذه المرحلة، ومدافن الغرفة المستطيلة، والمدافن العمودية المقطوعة من الصخر.
"وضع الكنعانيون الصهاريج فوق سطوح بيوتهم، وحفروا الأنفاق، وابتكروا نظام ريٍّ غير مسبوق (البتراء نموذجًا)، أخذ منهم الرومان بعض أسراره" |
نهاية الألف الرابعة قبل الميلاد، وبدايات الألف الثالثة (ودائمًا قبل الميلاد)، شهدت المدن الكنعانية تغيرًا حاسمًا في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والمعمارية. كما شهدت تلك الفترة ظهور أعداد كبيرة من المدافن المقطوعة في الصخر، تنسب إلى حضارة "الغسول" في بئر السبع (وجدت بقايا مدافن صخرية في: تل العجول قرب غزّة، وتل الدوير، وعين سامية، وظهر مرزبانة، والجيب، وخربة كوفين، وتل المتسلّم، وأريحا. كذلك في مواقع غور الأردن: تل أكتنو، تل أم حماد الشرقي، سيل الحمّة، وحتى تل القدح إلى الشمال من بحيرة طبريا. كذلك في: باب الذراع في منطقة اللسان، شرق البحر الميت، ومدينة عمّان وحولها، وموقع الحصن، قرب إربد). كما ظهر نوعان من الفخّار، أحدهما في شمال فلسطين، ومنطقة مرج ابن عامر، من النوع الرمادي المصقول، والآخر في جنوب فلسطين من النوع الأحمر المصقول أيضًا.
سمات وافرات
رغم أن العمارة الكنعانية لم تهمل الفروق الطبقية، إلا أن ذلك لم يحل دون تفنُّن بعض أبناء الطبقة الوسطى من المزارعين الملّاك، والحرفيين المهرة، والتجار الوسطيين، في تجميل بيوتهم، وخص حوشها بنافورة ماء على سبيل المثال (حواضر دمشق ونابلس تثبت وجود جذور لنوعٍ من عمارة البيوت الكنعانية)، وهو ما أشار إليه موسكاتي: "تتكوّن البيوت الكنعانية، بشكل عام، من فِناءٍ وحجرتيْن تأخذ أشكالًا دائرية، أو مربعة، مزيّنةً ببلاطٍ أرضيٍّ أرجوانيِّ اللون. كما كانت هذه المباني تزيّن من الداخل ببعض أحواض المياه، التي لا تزال موجودة في الأبنية في بلاد الشام، وبخاصة في سورية".
كما تميزت العمارة الدينية الكنعانية بإقامة المعابد في العراء، تحيطها الأسوار، وتضم مذبحًا ومجموعة من الأحجار المقدسة.
وعلى وجه العموم، تميّزت العمارة الكنعانية بالمباني العالية، والزخارف المنشورة على جدران القصور والأسوار، مع استخدامهم للألوان الأرجوانية بشكلٍ واسعٍ في طلاء نقوشهم المعمارية.
وبالرجوع إلى المكتوب أعلاه أن مدينة قادش (البتراء حاليًّا) هي مدينة كنعانية، وأن الأنباط ما هم سوى فرع كنعاني، فإن خزنة البتراء، تصبح، وفق هذا المسار، عمارة كنعانية، وبعض حواضر بابل كذلك، وربما بعض ملامح عمارة الفراعنة.
ورغم أن العمارة القديمة، وكذلك الفنون، والنحت منها على وجه الخصوص، وكذلك الموسيقى، ولدت في حضن المعبد، إلا أن الكنعانيين؛ فنانين ونحّاتين وشعراء ومهندسي عمارة، حاولوا، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، تحقيق استقلالية تليق بما وصلت إليه حضارتهم، وتعبّر عن توقهم للحياة والفرح والرفاه، وتعكس ما بلغوه من مَنَعةٍ ورسوخ.
"العمارة الكنعانية لم تهمل الفروق الطبقية، إلا أن ذلك لم يحل دون تفنُّن بعض أبناء الطبقة الوسطى من المزارعين الملّاك، والحرفيين المهرة، والتجار الوسطيين، في تجميل بيوتهم، وخص حوشها بنافورة ماء على سبيل المثال" |
من الإسكندرون إلى غزَّة، انفتحت أرض كنعان على البحر، والبحر دفع بهم إلى التجارة، والتجارة، بحرًا، تحتاج إلى صناعة السفن، وصناعة السفن من خشب الأرز، فإذًا خشب الأرز، إضافةً إلى البحر، فتح الآفاق البحرية للفينيقيين الكنعانيين، وبالتالي جمعوا في فنّهم بين البعد الصناعيّ والبعد الجماليّ، هو فنٌّ يُسْتعَمَل في الحياة اليومية، لكنه مُمْتِعٌ ومُبْهِرٌ للنظر.
حديث الأرجوان
الأرجوان هو من صدَفة الموريكس، وتسمَّى بالعربية "المُرّيق"، وتُنسَب إلى ملكارت إله صور، اكتشفت هذه الصَدَفة على شاطئ صور. وفي الحقيقة، اليونانيون أطلقوا على الكنعانيين اسم الفينيقيين نسبةً إلى الأرجوان، لأن كلمة فينيقيا تعني البلاد الحمراء، أو الرجال الحمر، نسبةً إلى الأرجوان الذي كان الفينيقيون يتاجرون به. على كل حال، هم لم يتاجروا بالأرجوان فقط، بل تاجروا، إلى ذلك، بأقراط الزينة، والأقمشة، والأواني، والصحون، والخَزَف، وجمع فنّهم بين الفائدة والمتعة. أمّا عمارتهم، فقد شكّلت أفقًا مدهشًا من آفاق فرادتهم، وحضارتهم، وعلوّ كعب وجودهم، ذلك الوجود الذي أعمى بصيرة الأعداء، فتكالبوا على أرض كنعان، وظلّوا كلما مرّوا من أمام حاضرة كنعانية، يسيل لعاب كيدهم ومكرهم، فإذا بهم يحوّلون أرجوان كنعان إلى دم فداءٍ لم يتوقّف حتى يومنا هذا نهرُ عطائه، دفاعًا عن رقيّ حضارته، وخصب نضارته.
زخرف الكنعانيون على اختلاف جغرافيا وجودهم، وأسماء قبائلهم، الحياة ببديع العمارة، ومفردات الخصب، ونفائس الأرجوان، وتركوا لنا ما سوف نظلّ ننقّب عنه، ونتهجّى دلائله، ونحاول فك مراميه، ما بقي الزمان.
في التوثيق
في سياق توثيق ما تقدم، فإن الأمر يحتاج إلى مئات الصفحات، وآلاف الكلمات، ومما لا يحتمله موضوع في جريدة، أو ملحق ثقافي. ويكفي، في هذا السياق، الإشارة إلى أسماء بعض المؤرخين الذين أجمعوا على هذه الحقائق أعلاه. وفي إمكان راغبي التحقق، العودة لما دوّنه هؤلاء من كتب وأبحاث وإصدارات حول ما تقدّم: ميخائيل نسطور، والمفكّر الليبي علي فهمي خشيم (1936 ـ 2011)، والآثاريّ الأميركيّ ريتشارد فراي (1920)، والمؤرخ المصري محمد بيّومي مهران (1928 ـ 2008)، وديفيد غرافس، وغلن بورسك، وسوزان هارفي، والمؤرخ الإغريقي هيرودوت (484 ق. م ـ 425 ق. م)، والمؤرخ العراقي جواد علي (1907 ـ 1987)، والمستشرق البريطاني دي لاسي أوليري (1872 ـ 1957)، والباحث السوري محمد الخطيب، صاحب كتاب "الحضارة الفينيقية"، والباحث عبد الله الحلو، صاحب كتاب "تحقيقات تاريخية ولغوية"، والباحث والمترجم السوري عبد الإله الملاَّح (1940)، مترجم كتاب "تاريخ هيرودوت"، والباحث السوري مصطفى طلاس، والباحث جان مازيل، صاحب كتاب "تاريخ الحضارة الفينيقية الكنعانية" الذي ترجمته إلى العربية ربا الخش، والباحث المصري محمد أبو المحاسن عصفور، مؤلف كتاب "المدن الفينيقية"، وغيره من الكتب الباحثة في الموضوع نفسه، والباحث السوري فيصل عبد الله، مؤلف كتاب "تاريخ بلاد الشام"، والباحث السويسري ديل ميديكو، مؤلف كتاب "الشريعة الكنعانية"، والمستشرق الألماني إسرائيل ولفنسون (1899 ـ 1980)، مؤلف كتاب "تاريخ اللغات السامية"، والمؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدبَّاغ (1897 ـ 1989)، والباحث الفلسطيني/ الأردني معاوية إبراهيم (1940)، والباحث عز الدين غريبة، صاحب الدراسة المعنونة بـ"الحضارة العبيدية في فلسطين"، والباحث السوري فراس السواح، والمؤرخ العراقي أحمد سوسة (1900 ـ 1982)، والمؤرخ والمفكر الفلسطيني/ الأردني محمد أديب العامري (1907 ـ 1978)، صاحب كتاب "عروبة فلسطين في التاريخ"، وقائمة تطول.. وتطول.. وتطول، أكتفي بمن ذكرتهم أعلاه. ولا أنسى، على وجه الخصوص، دراسة عز الدين مناصرة "الكنعانيون هم أصل بلاد الشام" المنشورة في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 2018، في جريدة "رأي اليوم"، التي أرجو أن تجد، يومًا ما، من يحوّلها إلى كتاب، فهي دراسة تستحق الالتفات، وتوجيه أجيالنا نحو قراءتها، علمًا أنني استفدت منها كثيرًا في موضوعي حول عمارة الكنعانيين، خصوصًا حول تاريخهم، والجغرافيا التي تمدّدوا فيها.