عمارة الصخر.. جَلَدُ الإنسان في عين المكان
محمد جميل خضر 6 أغسطس 2022
عمارة
البتراء.. عمارة صخرية تجتذب السياح
شارك هذا المقال
حجم الخط
لن يتسنّى لنا أن نعرف وقد مضى على رحيله 63 عامًا إن كان لمَعَ في خاطر المعماريّ الأميركيّ، فرانك لويد رايت (1867 ـ 1959)، عندما أطلق مصطلحه الشائع الشهير "العمارة العضوية"، تلك الأنواع من العمارة المنحوتة في صلابة الصخر، أم لم يلمع؟
وبما أنّ ما تركه لنا السابقون في أربع جهات الأرض من عمارة صخرية سبق لويد بقرون ممتدة، فالأصل، بالتالي، أنها وردت في باله. بل إن هذا النوع من العمارة قد يكون ملهمه الأوّل وهو يقدح ذهنه ليخرج بتصميمٍ لائقٍ بِكنيسة التوحيديين WISCONSIN TOWN، فأوّل ما لمع في ذهنه عندما شرع في تصميم الكنيسة هو استخدام أحجار (الدّبش) الخشنة لتجسيد الرهبة والجمال المرغوبيْن في هذا النوع من العمارة. وهل (الدّبش)، في نهاية المطاف، سوى تموضعٍ من تموضعات الصخر في عروق الأرض؟
فلسفة لويد المعمارية لم تقتصر على تجليات العمارة العضوية، فهو، إلى ذلك، صاحب العبارة الشهيرة الثانية "من الطبيعة وإليها"، وأمّا مبدؤه الثالث فهو أن ينفّذ التصميم من الداخل إلى الخارج، وهو ما قام به كثير ممن نحتوا الصخر عمارةً من معابد وكهوف وخزائن وأهرامات. وجدوا شقًّا في الصخرة، ثم بدأوا حفر تصميمهم من داخلها إلى خارجها.
بعيدًا عن العمارة العضوية، فإن عمارة الصخر هي في أوّل القول جَلَدُ الإنسان في عين المكان. قدرته على تطويع مفردات الوجود حوله. حواره اللمّاح مع نتوءات التململ في فيافي الطبيعة حجرًا، أو شجرًا، أو وترًا يعزف قيثارة اللونِ والمَلاسةِ والصَّلادةِ والانسيابِ الرّحيب.
في الأفق التاريخيّ
كثيرًا ما يواجه الباحثون معضلة معلوماتية عندما يشرعون في وضع يدهم على أمر من الأمور التي تبدأ بـ "أقدم"، "أكبر"، "أعلى"، "أوسع"، "أكثر". وهو ما ينطبق هنا على رغبتنا في معرفة أقدم مدينة صخرية؟ وأين تقع؟ وإلى أي حضارة تنتسب؟
بعض الدراسات توجّه سهم ضوئها نحو جزيرتيّ مالطا وسردينيا، حيث ترجع المدن الصخرية فيهما إلى زهاء 3000 عام قبل الميلاد، ما يعني أن عمر مدنهما الصخرية اليوم، أو عمر ما بقي منها، هو أكثر من خمسة آلاف عام. ومن أجل التحديد، وتجنّب التعويم، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، فنحن هنا نتحدث عن معبد هال سالفيني الواقع تحت الأرض بالنسبة لمالطا، وعن مبنى أنجيلو روجو، الذي بُني بين 3000 و1500 قبل الميلاد بالنسبة لسردينيا. ولا أدري كيف مرّ على الباحثين هذا الجفاء الحاد للدقة في التاريخ المُشار إليه بالنسبة لمبنى سردينيا؟ فهل يعقل أن تكون المسافة (مسافة الزمن) بين تاريخيين محتمليْن لِمَعْلمٍ ما؛ معبد، أو قصر، أو أيٍّ كان، هي 1500 عام؟ حيث ترد الجملة على النحو الآتي: بُني ما بين 3000 و1500 قبل الميلاد!
ولو جمعنا الرقميْن وقسمناهما على اثنيْن، فلعلّ رقم 2225 قبل الميلاد، يصبح تاريخًا مقبولًا إلى حدٍّ ما، أو هو، على الأقل، أفضل من أن نظل معلّقين بين تاريخيْن بينهما كلُّ هذا الزّمن، وما رافقه من تبدّل حضارات، وموت ملايين، وولادة ملايين غيرهم.
عند الحديث عن المعالم الأشهر المعروفة لدينا حول ما يتعلق بعمارة الصخر وصروحه الساطعة، فإن أهرامات مصر، وعموم أهرامات العالم، ومدينة البتراء الأردنية الوردية، ومدينة ميرا التركية، وبعض المباني الصخرية الهندية، تأتي في المقدمة، ولا تبتعد أعمارها جميعها، تقريبًا، عن الفترة الزمنية المتعلّقة بصخريات مالطا وسردينيا.
مصريًا، فإن أقدم الأهرام هو هرم "زوسر" المدرّج، الذي يعود إلى عصر الأسرة الثالثة، وشيّد، على وجه التقريب، عام 2700 سنة قبل الميلاد، وأما أحدثها فهو هرم الملك "خند جر" من عصر الأسرة الثالثة عشر، وشيّد نحو 1764 سنة قبل الميلاد.
الأمر يختلف تمامًا عند الحديث عن مدينتيّ البتراء الأردنية، وميرا التركية، فالأولى يعود تاريخ تشييدها إلى سنة 106 قبل الميلاد، والثانية إلى سنة 168 قبل الميلاد، رغم أن بعض الآثاريين يرجحون وجود المدينة التركية المزدانة بصخر يلمع ويبهر العيون، قبل هذا التاريخ، ولكن بأقل ما يمكن من التوثيق والاستشهاد بلقىً، أو آثار، أو أي شيء يدل على هذه الفرضية ويؤكدها. ما تقدم، ينطبق، إلى ذلك، على مدائن صالح في العربية السعودية، التي يعود، بحسب الباحثين والآثاريين، أبرز أدوارها الحضارية إلى القرنيْن الأول قبل الميلاد، وحتى الأول الميلادي.
في الأفق الجمالي..
تطويع الصخر تحت عين الشمس، وفي أوج شبابها، في بلادٍ يتسرب إلينا منها أوهجها شعاعًا، وأقربها من أرضنا قيظًا، وأوضحها خيوط نور، هو الأثر الجماليّ الأكثر ملمحًا ودلالة عند الحديث عن الأفق الجماليّ المتعلّق بعمارة الصخر ومنحوتاته على اختلاف تجلياتها، وتنوّع أوابد بؤرها حولنا.
لون الصخر في حد ذاته ملمح جمال. هذا ما لا يختلف عليه اثنان عند الحديث عن لون صخر البتراء الورديّ، وهل من فراغٍ حظيت إحدى عجائب الدنيا الجديدة باسم "المدينة الوردية"؟ فلونها الورديّ هو أوّل ما يتباهى كالبلّور لزوارها، وكذا زوّار مدينة ميرا التركية. حتى الصخر الأسود (السويداء السورية على سبيل المثال) بلونه الطاغي المتباهي بطلّته، يعلن عن نفسه بقدرٍ كبيرٍ من الجمال والجلال.
انسيابية الصخر ملمح جمال، وملاسته، وهي (أي الملاسة) لا تأتي من فراغ، بل بمعالجات ومكابدات دؤوبة فوق الصخر بحالته الأولى. شموخه ملمح، فنحن نتحدث هنا عن عمارات صخر وشواهد منحوتة منه، مضى عليها في حالتها الأولى مئات السنين، وفي حالات بعينها آلاف السنين من دون أن تنحني لعوامل الطبيعة، وغضب الزلازل، وفوران الأرض من تحتها. وحين داهم زلزال الجليل مدينة البتراء سنة 363 ميلادية، فإن مبنى الدير ومبنى الخزنة ومجمل المباني الصخرية الأقوى في المدينة نجت من قوته المدمّرة، وها هي تنتصب حتى يومنا هذا، شاهدة على زهو زمنٍ كان.
في واحدةٍ من رسائله إلى الممثل البريطاني جون ديريك (1926 ـ 1988)، يقول المعماري البريطاني برنارد بيترسون إن طبيعة الصخور في بلاد الشرق تمكّن المعماري من إنشاء مبان تشبه الجواهر فى دقّتها وإحكامها. محتوى رسالة بيترسون يجد له في خامات الصخور التي أنشئت منها المباني السلجوقية، على سبيل المثال، البديعة في صلابتها واستجابتها للنحت والزخرفة في آن، مثالًا نابضًا بالدهشة. فالصخور وحدها، المناسبة المُواتية، قد تمكّن المعماري من إنشاء أعمال ذات متانة وجمال؛ فالجدران والبوّابات والأعمدة والعقود تقوم متينة محكمة، والمزخرِف ينقش فيها ما يشاء في إحكام ودقّة، وألوان هذه الأحجار طبيعية متنوّعة، تكفي وحدها لإخراج صور فنية جميلة ذات ألوان. وقد كان ذلك مُعينًا للبنّاء والمزخرِف على ابتكار صنعة خاصة وصل بها إلى ذروة حقيقية من ذرى الإبداع المعماري على مرِّ العصور.
يضاف إلى ما تقدم ما تمتاز به عمارة الزمن القديم على وجه العموم من تناظر واحتشاد بالنسب الذهبية، وجماليات أعمدة، ومنمنمات نقوش. كما يضاف إليها جماليات العمارة التي تأثرت بها عمارة الصخر، كجماليات العمارة المصرية، والأشورية، والهلنستية، والرومانية، وغيرها.
في الأفق الوظيفي
مما لا شك فيه أن القيمة الوظيفية تبقى في مقدمة القيم التي تعتمدها العمارة في أدبياتها، وفي حيثيات بعدها الفلسفيّ حين تشرع بإيضاح معالِم، أو وهي تقرأ منظورًا، أو مشروعًا، أو مفردة معمارية.
في حالة عمارة الصخر، فإن الأفق الوظيفي مما لا يحتاج إلى كثير شرح، ولا لمشاق تبيان. فالصخر كان حولهم، وقليلة كانت أيامهم وسائل تطويعه واشتقاق مفردات تكوين أخرى منه. فإذا بهم يجعلون منه (من الصخر نفسه) على اتساع الهيولا التي كان يستوي قائمًا بها، مادة شروعهم بإنجاز عمارةٍ ما. الأمان الذي يحققه الصخر، شكّل وظيفة أخرى من وظائف تحويله إلى مواد خام لإنشاء عمارة.
ولعلّ ما يتعلّق بزمن الفراعنة من عمارة صخر يكون قد ارتبط، بشكلٍ، أو بآخر، بما كان يريد ملوك الفراعنة أن يشيعوه عن أنفسهم من منعةٍ وخيلاء وفوقية عليا لا تتأتى لغيرهم من أبناء شعبهم، ومن ملوك الأمم الأخرى. وبالتالي فتلك وظيفة أخرى من وظائف عمارة الصخر.
الثبات، بساطة المفردات الداخلية من غرف وملحقات، التضامّ (أي اتكاء مفردة على المفردة التي تجاورها)، الحماية، لعلها، وغيرها، من مواصفات عمارة الصخر، وبالتالي من وظائفها.
إيقاع الصخر
مثل تدفق الشعر والموسيقى، ومثل كرج الحجل في تيّار الحياة، يسرى في الكيانات الصخرية إيقاعها الخاص بها.
في العمارة، يكشف الإيقاع عن نوازع مبدعيه. فاستخدام المنحنيات المراوغة برؤوس أعمدة الكرنك في قباب مساجد بلاد الشرق يدل على سحر البيئة، وعلى انجذاب الشرقيين الصوفي نحو أبواب السماء. وفي انضباط التربيع في رحاب ساحات المعابد دلالة على مدى انضباط الطابع الموسوعي للفكر الإغريقي، واستخدام الرومان لشكل القوس نصف الدائري علامة على مدى الاعتداد بالنفس. أما ارتفاع الانسياب الحلزوني في نوافذ بيوت بلاد المغرب، فيكشف عن مدى طموح المغربيين.
علاقات خفية، ولكن دلالاتها ليست كذلك، تنشأ بين مختلف الفنون، وعلاقة العمارة بالشعر والموسيقى في هذا السياق ليست نشازًا، وحديثًا بدأ كثير من أصحاب الاختصاص يدرسون هذه العلاقة، ويعاينون مخرجاتها وعموم تجلياتها. علاقة العمارة بالفلسفة لا تَشذُّ، بدورها، عن تلك القاعدة، وهي علاقات تعزّز، في مختلف الأحوال، مؤشرات الجمال في العمل المعماريّ المعايَن، وترتقي بوصفها معزوفةَ صخرٍ، شعاعَ بقاءٍ على وِسْعِ المدى ورمْلِ الفَلاة، صورًا متوارية داخل حروفِ قصيدةٍ من عروقِ حجرٍ وسهرٍ ومدافنِ دُرر.
محمد جميل خضر 6 أغسطس 2022
عمارة
البتراء.. عمارة صخرية تجتذب السياح
شارك هذا المقال
حجم الخط
لن يتسنّى لنا أن نعرف وقد مضى على رحيله 63 عامًا إن كان لمَعَ في خاطر المعماريّ الأميركيّ، فرانك لويد رايت (1867 ـ 1959)، عندما أطلق مصطلحه الشائع الشهير "العمارة العضوية"، تلك الأنواع من العمارة المنحوتة في صلابة الصخر، أم لم يلمع؟
وبما أنّ ما تركه لنا السابقون في أربع جهات الأرض من عمارة صخرية سبق لويد بقرون ممتدة، فالأصل، بالتالي، أنها وردت في باله. بل إن هذا النوع من العمارة قد يكون ملهمه الأوّل وهو يقدح ذهنه ليخرج بتصميمٍ لائقٍ بِكنيسة التوحيديين WISCONSIN TOWN، فأوّل ما لمع في ذهنه عندما شرع في تصميم الكنيسة هو استخدام أحجار (الدّبش) الخشنة لتجسيد الرهبة والجمال المرغوبيْن في هذا النوع من العمارة. وهل (الدّبش)، في نهاية المطاف، سوى تموضعٍ من تموضعات الصخر في عروق الأرض؟
فلسفة لويد المعمارية لم تقتصر على تجليات العمارة العضوية، فهو، إلى ذلك، صاحب العبارة الشهيرة الثانية "من الطبيعة وإليها"، وأمّا مبدؤه الثالث فهو أن ينفّذ التصميم من الداخل إلى الخارج، وهو ما قام به كثير ممن نحتوا الصخر عمارةً من معابد وكهوف وخزائن وأهرامات. وجدوا شقًّا في الصخرة، ثم بدأوا حفر تصميمهم من داخلها إلى خارجها.
بعيدًا عن العمارة العضوية، فإن عمارة الصخر هي في أوّل القول جَلَدُ الإنسان في عين المكان. قدرته على تطويع مفردات الوجود حوله. حواره اللمّاح مع نتوءات التململ في فيافي الطبيعة حجرًا، أو شجرًا، أو وترًا يعزف قيثارة اللونِ والمَلاسةِ والصَّلادةِ والانسيابِ الرّحيب.
في الأفق التاريخيّ
كثيرًا ما يواجه الباحثون معضلة معلوماتية عندما يشرعون في وضع يدهم على أمر من الأمور التي تبدأ بـ "أقدم"، "أكبر"، "أعلى"، "أوسع"، "أكثر". وهو ما ينطبق هنا على رغبتنا في معرفة أقدم مدينة صخرية؟ وأين تقع؟ وإلى أي حضارة تنتسب؟
"عمارة الصخر هي في أوّل القول جَلَدُ الإنسان في عين المكان. قدرته على تطويع مفردات الوجود حوله. حواره اللمّاح مع نتوءات التململ في فيافي الطبيعة حجرًا، أو شجرًا، أو وترًا" |
بعض الدراسات توجّه سهم ضوئها نحو جزيرتيّ مالطا وسردينيا، حيث ترجع المدن الصخرية فيهما إلى زهاء 3000 عام قبل الميلاد، ما يعني أن عمر مدنهما الصخرية اليوم، أو عمر ما بقي منها، هو أكثر من خمسة آلاف عام. ومن أجل التحديد، وتجنّب التعويم، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، فنحن هنا نتحدث عن معبد هال سالفيني الواقع تحت الأرض بالنسبة لمالطا، وعن مبنى أنجيلو روجو، الذي بُني بين 3000 و1500 قبل الميلاد بالنسبة لسردينيا. ولا أدري كيف مرّ على الباحثين هذا الجفاء الحاد للدقة في التاريخ المُشار إليه بالنسبة لمبنى سردينيا؟ فهل يعقل أن تكون المسافة (مسافة الزمن) بين تاريخيين محتمليْن لِمَعْلمٍ ما؛ معبد، أو قصر، أو أيٍّ كان، هي 1500 عام؟ حيث ترد الجملة على النحو الآتي: بُني ما بين 3000 و1500 قبل الميلاد!
ولو جمعنا الرقميْن وقسمناهما على اثنيْن، فلعلّ رقم 2225 قبل الميلاد، يصبح تاريخًا مقبولًا إلى حدٍّ ما، أو هو، على الأقل، أفضل من أن نظل معلّقين بين تاريخيْن بينهما كلُّ هذا الزّمن، وما رافقه من تبدّل حضارات، وموت ملايين، وولادة ملايين غيرهم.
عند الحديث عن المعالم الأشهر المعروفة لدينا حول ما يتعلق بعمارة الصخر وصروحه الساطعة، فإن أهرامات مصر، وعموم أهرامات العالم، ومدينة البتراء الأردنية الوردية، ومدينة ميرا التركية، وبعض المباني الصخرية الهندية، تأتي في المقدمة، ولا تبتعد أعمارها جميعها، تقريبًا، عن الفترة الزمنية المتعلّقة بصخريات مالطا وسردينيا.
مصريًا، فإن أقدم الأهرام هو هرم "زوسر" المدرّج، الذي يعود إلى عصر الأسرة الثالثة، وشيّد، على وجه التقريب، عام 2700 سنة قبل الميلاد، وأما أحدثها فهو هرم الملك "خند جر" من عصر الأسرة الثالثة عشر، وشيّد نحو 1764 سنة قبل الميلاد.
"بعض الدراسات توجّه سهم ضوئها نحو جزيرتيّ مالطا وسردينيا، حيث ترجع المدن الصخرية فيهما إلى زهاء 3000 عام قبل الميلاد" |
الأمر يختلف تمامًا عند الحديث عن مدينتيّ البتراء الأردنية، وميرا التركية، فالأولى يعود تاريخ تشييدها إلى سنة 106 قبل الميلاد، والثانية إلى سنة 168 قبل الميلاد، رغم أن بعض الآثاريين يرجحون وجود المدينة التركية المزدانة بصخر يلمع ويبهر العيون، قبل هذا التاريخ، ولكن بأقل ما يمكن من التوثيق والاستشهاد بلقىً، أو آثار، أو أي شيء يدل على هذه الفرضية ويؤكدها. ما تقدم، ينطبق، إلى ذلك، على مدائن صالح في العربية السعودية، التي يعود، بحسب الباحثين والآثاريين، أبرز أدوارها الحضارية إلى القرنيْن الأول قبل الميلاد، وحتى الأول الميلادي.
في الأفق الجمالي..
تطويع الصخر تحت عين الشمس، وفي أوج شبابها، في بلادٍ يتسرب إلينا منها أوهجها شعاعًا، وأقربها من أرضنا قيظًا، وأوضحها خيوط نور، هو الأثر الجماليّ الأكثر ملمحًا ودلالة عند الحديث عن الأفق الجماليّ المتعلّق بعمارة الصخر ومنحوتاته على اختلاف تجلياتها، وتنوّع أوابد بؤرها حولنا.
لون الصخر في حد ذاته ملمح جمال. هذا ما لا يختلف عليه اثنان عند الحديث عن لون صخر البتراء الورديّ، وهل من فراغٍ حظيت إحدى عجائب الدنيا الجديدة باسم "المدينة الوردية"؟ فلونها الورديّ هو أوّل ما يتباهى كالبلّور لزوارها، وكذا زوّار مدينة ميرا التركية. حتى الصخر الأسود (السويداء السورية على سبيل المثال) بلونه الطاغي المتباهي بطلّته، يعلن عن نفسه بقدرٍ كبيرٍ من الجمال والجلال.
"في واحدةٍ من رسائله إلى الممثل البريطاني جون ديريك (1926 ـ 1988)، يقول المعماري البريطاني برنارد بيترسون إن طبيعة الصخور في بلاد الشرق تمكّن المعماري من إنشاء مبان تشبه الجواهر فى دقّتها وإحكامها" |
انسيابية الصخر ملمح جمال، وملاسته، وهي (أي الملاسة) لا تأتي من فراغ، بل بمعالجات ومكابدات دؤوبة فوق الصخر بحالته الأولى. شموخه ملمح، فنحن نتحدث هنا عن عمارات صخر وشواهد منحوتة منه، مضى عليها في حالتها الأولى مئات السنين، وفي حالات بعينها آلاف السنين من دون أن تنحني لعوامل الطبيعة، وغضب الزلازل، وفوران الأرض من تحتها. وحين داهم زلزال الجليل مدينة البتراء سنة 363 ميلادية، فإن مبنى الدير ومبنى الخزنة ومجمل المباني الصخرية الأقوى في المدينة نجت من قوته المدمّرة، وها هي تنتصب حتى يومنا هذا، شاهدة على زهو زمنٍ كان.
في واحدةٍ من رسائله إلى الممثل البريطاني جون ديريك (1926 ـ 1988)، يقول المعماري البريطاني برنارد بيترسون إن طبيعة الصخور في بلاد الشرق تمكّن المعماري من إنشاء مبان تشبه الجواهر فى دقّتها وإحكامها. محتوى رسالة بيترسون يجد له في خامات الصخور التي أنشئت منها المباني السلجوقية، على سبيل المثال، البديعة في صلابتها واستجابتها للنحت والزخرفة في آن، مثالًا نابضًا بالدهشة. فالصخور وحدها، المناسبة المُواتية، قد تمكّن المعماري من إنشاء أعمال ذات متانة وجمال؛ فالجدران والبوّابات والأعمدة والعقود تقوم متينة محكمة، والمزخرِف ينقش فيها ما يشاء في إحكام ودقّة، وألوان هذه الأحجار طبيعية متنوّعة، تكفي وحدها لإخراج صور فنية جميلة ذات ألوان. وقد كان ذلك مُعينًا للبنّاء والمزخرِف على ابتكار صنعة خاصة وصل بها إلى ذروة حقيقية من ذرى الإبداع المعماري على مرِّ العصور.
يضاف إلى ما تقدم ما تمتاز به عمارة الزمن القديم على وجه العموم من تناظر واحتشاد بالنسب الذهبية، وجماليات أعمدة، ومنمنمات نقوش. كما يضاف إليها جماليات العمارة التي تأثرت بها عمارة الصخر، كجماليات العمارة المصرية، والأشورية، والهلنستية، والرومانية، وغيرها.
في الأفق الوظيفي
"لون الصخر في حد ذاته ملمح جمال. هذا ما لا يختلف عليه اثنان عند الحديث عن لون صخر البتراء الورديّ، وهل من فراغٍ حظيت إحدى عجائب الدنيا الجديدة باسم "المدينة الوردية"؟" |
مما لا شك فيه أن القيمة الوظيفية تبقى في مقدمة القيم التي تعتمدها العمارة في أدبياتها، وفي حيثيات بعدها الفلسفيّ حين تشرع بإيضاح معالِم، أو وهي تقرأ منظورًا، أو مشروعًا، أو مفردة معمارية.
في حالة عمارة الصخر، فإن الأفق الوظيفي مما لا يحتاج إلى كثير شرح، ولا لمشاق تبيان. فالصخر كان حولهم، وقليلة كانت أيامهم وسائل تطويعه واشتقاق مفردات تكوين أخرى منه. فإذا بهم يجعلون منه (من الصخر نفسه) على اتساع الهيولا التي كان يستوي قائمًا بها، مادة شروعهم بإنجاز عمارةٍ ما. الأمان الذي يحققه الصخر، شكّل وظيفة أخرى من وظائف تحويله إلى مواد خام لإنشاء عمارة.
ولعلّ ما يتعلّق بزمن الفراعنة من عمارة صخر يكون قد ارتبط، بشكلٍ، أو بآخر، بما كان يريد ملوك الفراعنة أن يشيعوه عن أنفسهم من منعةٍ وخيلاء وفوقية عليا لا تتأتى لغيرهم من أبناء شعبهم، ومن ملوك الأمم الأخرى. وبالتالي فتلك وظيفة أخرى من وظائف عمارة الصخر.
الثبات، بساطة المفردات الداخلية من غرف وملحقات، التضامّ (أي اتكاء مفردة على المفردة التي تجاورها)، الحماية، لعلها، وغيرها، من مواصفات عمارة الصخر، وبالتالي من وظائفها.
إيقاع الصخر
مثل تدفق الشعر والموسيقى، ومثل كرج الحجل في تيّار الحياة، يسرى في الكيانات الصخرية إيقاعها الخاص بها.
في العمارة، يكشف الإيقاع عن نوازع مبدعيه. فاستخدام المنحنيات المراوغة برؤوس أعمدة الكرنك في قباب مساجد بلاد الشرق يدل على سحر البيئة، وعلى انجذاب الشرقيين الصوفي نحو أبواب السماء. وفي انضباط التربيع في رحاب ساحات المعابد دلالة على مدى انضباط الطابع الموسوعي للفكر الإغريقي، واستخدام الرومان لشكل القوس نصف الدائري علامة على مدى الاعتداد بالنفس. أما ارتفاع الانسياب الحلزوني في نوافذ بيوت بلاد المغرب، فيكشف عن مدى طموح المغربيين.
علاقات خفية، ولكن دلالاتها ليست كذلك، تنشأ بين مختلف الفنون، وعلاقة العمارة بالشعر والموسيقى في هذا السياق ليست نشازًا، وحديثًا بدأ كثير من أصحاب الاختصاص يدرسون هذه العلاقة، ويعاينون مخرجاتها وعموم تجلياتها. علاقة العمارة بالفلسفة لا تَشذُّ، بدورها، عن تلك القاعدة، وهي علاقات تعزّز، في مختلف الأحوال، مؤشرات الجمال في العمل المعماريّ المعايَن، وترتقي بوصفها معزوفةَ صخرٍ، شعاعَ بقاءٍ على وِسْعِ المدى ورمْلِ الفَلاة، صورًا متوارية داخل حروفِ قصيدةٍ من عروقِ حجرٍ وسهرٍ ومدافنِ دُرر.