عمارة القوطيين وجدلُ التأثير والتأثّر
محمد جميل خضر 22 يناير 2022
عمارة
كنيسة نوتردام
شارك هذا المقال
حجم الخط
بين الدين والدنيا يتحرّك، تقريبًا، عموم تاريخ العمارة، بين الوظيفة والجمال، بين التأثير والتأثّر.
لعلّ في المنجز الذي حققته العمارة القوطية، مكتسحة، برؤاها، عموم أوروبا، تقريبًا، ما يعزّز الجدليّات أعلاه.
فرغم أن القوطيين، بوصفهم عِرقًا أوروبيًّا جرمانيًّا، بغض النظر عن الشرقيّ منهم والغربي، بدأوا يظهرون ويسطعون منذ القرن الخامس الميلادي، إلا أن لمساتهم في تاريخ العمارة الإنسانية لم تتحقق إلا بعد 600 عامٍ تقريبًا من أوّل موجةٍ عِرقية، بشّرت (أو أنذرت) بهم.
سمات مشتركات
في كثيرٍ من تفاصيل العمارة القوطية، سماتٌ مشتركات مع العمارة الإسلامية، فمن الذي بدأها؟
إن أكثر ما يرعبني، هنا، أولئك الذين يفرضون عليك إجابة واحدة محدّدة مهدِّدة إن أنت لم تقبل بمعطياتها وفرضياتها، وليّها عنق الزمان والمكان لتكون الإجابة الوحيدة المانعة الجامعة الساطعة.
الكاتبة الإنكليزية ديانا دارك (1956) Diana Darke، تريدنا عبر كتابها "السرقة من المسلمين: كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا" (2020) أن لا نصدّق غيرها. طبعًا الترجمة هنا غير دقيقة، فإن كان عدم اليقين يبدأ منذ اللحظة الأولى، منذ لحظة ترجمة عنوان كتاب، فإن السؤال المعضلة هنا، هو كيف ينشئ، بعضهم، وبعضهن، وبعضهم وبعضهن مشغولين، عادة، وربما غالبًا، بأحلام شعبوية، وإمكانية الفوز بتأثيرات عمومية، نظرية، أو معرفية، أو نتائج، أو حتى فرضيات، على كل هذا الدفق من الاحتمالات والـ(لا يقين) الذي يصل إلى عنوان الأشياء ومستهلاتها، يقينًا قائمًا على اللايقين؟
دارك تريد أن تقول، في تلخيصٍ مروّع، ما كنت أسمح لنفسي في ظروف مختلفة أن أُقدم عليه، لمجمل كتابها، إن العمارة القوطية على وجه الخصوص، وربما مجمل العمارة الأوروبية على وجه العموم، هي تأثيرات متلوّنة استفادت من وحي وتوهجات العمارة الإسلامية.
فكيف تأتّى لها ذلك؟
دارك أقامت معظم عمرها في سورية، وقلّبت، تقريبًا، معظم أحوال الكنائس الشرقية الموجودة في حلب، وفي غير حلب. والتقطت بالتالي، ملامح من العمارة القوطية، موجودة في كنائس حلبية، وربما دمشقية، وفي عموم مناطق سورية. فسمحت لنفسها أن تستنتج أن العمارة الكنسية الشرقية سبقت العمارة القوطية في كثير من تفاصيلها.
وظيفية الظرف المناخيّ
ماذا لو كانت مخروطيات القباب والمآذن لها علاقة بأحوال الطقس في روسيا الثلجية على سبيل المثال، وهندسها المعماريون، بالتالي، على هذا الشكل، لتقليل فرص تجميعها كتل الثلج التي سوف تتحوّل لاحقًا إلى ماء قد يغرق الكنيسة؟ ماذا لو كانت النوافذ الزجاجية المعشّقة بهجةً، نبتت، فجأةً، في قلب مهندس معماري، فأراد أن ترنّم الكنائس جماليات هذا الحلم الرفيع؟
تداعياتُ القُوط
أول ظهورٍ سياسيٍّ مجتمعيٍّ عرقيٍّ للقوط، تململ في مطالع القرن الخامس الميلادي (407 ـ 409)، في حين أن انبلاج الدين الجديد في بطحاء مكّة، تحقق في نهايات القرن السادس الميلادي (ولد رسول الهدى عام 571 ميلادية، وفَتَحَ مكّة عام 622 ميلادية، أي في القرن السابع). وبالتالي، الحقيقة التاريخية تخبرنا أن سعي العرق القوطيّ لفرض نفسه سبق ظهور الإسلام بقرنٍ ونصف القرن تقريبًا، هذا إن رغبنا تخفيف التوتر والقول إنه سبق الإسلام بقرنيْن كامليْن.
وللإنصاف، ولكي يكون الحياد عنوانًا، فإن بداية فرض القوطيين سمات خاصة بعمارتهم، تأخرت حتى نهايات القرن الثاني عشر، ومطالع القرن الثالث عشر، عندما كان الأندلسيون المسلمون قد أخذوا نصيبهم كاملا من أوروبا القديمة، وبدأوا يتحضرون لزوالِ مجدٍ عاصفٍ كبيرٍ وحاسمٍ في تاريخ الإنسانية القديم والجديد.
فما الذي كان يفعله القوطيون من بدايات القرن الخامس، وحتى نهايات القرن الثاني عشر؟ الغزو، ثم الغزو، ثم الغزو.
فكيف يمكننا أن نثق بسمات عمارة خاضت كل حروب هذا الغزو، لتفرض نفسها، أخيرًا، بوصفها كعرقٍ جرمانيٍّ قوطيٍّ، رقمًا صعبًا في المعادلات الأوروبية؟
واضح أن المشاغل الإنسانية التي حرّكت مجاميع العالم، غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا، هي نفسها: الموارد، السيادة، الاستئثار، تحديد العناوين، واستئْجار السّماء.
كاتدرائية ميسينا
أنا شخصيًا، خلال وقوفي أمام كاتدرائية ميسينا في جزيرة صقلية صيف عام 2005، وانتظاري، كما أخبروني، دَقّة منتصف النهار ينجزها في الكاتدرائية الكبرى هناك، ديك وساعة رمل، وتفاصيل هندسية تقليدية عديدة؛ لم أشعر أنني أمام مسجد من مساجد عمّان المدينة التي ولدتُ فيها. واستشعرتُ بكل حياد ونزاهة خصوصيات تلك الكاتدرائية الصامدة منذ مئات السنين في جزيرة (صقلية) فرض المسلمون على مدى مئتي عام قيمهم وسماتهم وأدبياتهم عليها.
مَنْ أثّر في ِمَنْ؟
يخبرنا كلود ليفي شتراوس، في كتابه "الأسطورة والمعنى"، أننا كلّنا نؤثّر بكلّنا. لا أسبقية لأحدٍ على أحد، ولا مجد يُنتظر هنا، طالما أن معظم الإنجازات الحضارية المدينية في خمسين قرنٍ ماضيةٍ قامت على أساس استقواء عرقٍ على عرق.
بيضُ إسبانيا (الأيبيرية) وإنكلترا وإيرلندا واسكتلندا، يستقوون على سكّان أميركا الأصليين، ويشوّهون وجودهم ومعناهم بتسميتهم (الهنود الحُمر). بيضُ أستراليا يحاولون أن يفهموا من هم على وجه الدقّة والمعنى. هم، على الأرجح، معاقبون، محكومون بمددٍ إنكليزيةٍ ملكيةٍ كبرى، تم نفيهم إلى هناك.
فرص التلاقي
الأقواس المدبّبة، القباب المضلّعة، العقد، النوافذ الزجاجية المعشّقة كبيرة الحجم، النوافذ الدائرية، كتف التدعيم، التماثيل الواقعية في الخارج، خصوصًا فوق البوابات، لتوضيح القصص الإنجيلية لرعايا الأبرشية الأمّيين (أيامَ نشوئها) في معظمهم. ما تقدّم أهم عناصر العمارة القوطية، فهل نسهب في تفاصيل تقاطعها مع ما سبقها من عمارات أخرى: إسلامية، وبيزنطية، وسومرية، وغيرها، أم نكتفي أن الوظائف واضحة، وسمات الجمال مشتركة؟
سمات كل عمارة إنسانية تبحث عن فرصِ تلاقيها مع عمارة إنسانية أخرى، في مكان آخر قد يكون بعيدًا، عن سمات في مكان بعيدٍ عن تدفقاتِ بدايتِه.
حين نلحظ في العمارة القوطية: أكتاف التدعيم التي قُوّيَت بقوس إضافي، ورواق داعم سمح بجدران أعلى، ونوافذ أكثر. وتحوُّلِ الأجزاء الستةِ إلى أربعةٍ، ما جعلها أكثر قوة وبساطة. ونلحظ ظهور عنصر عملي وزخرفي آخر عُرف باسم الغرغول، وهو عبارة عن صنبور المطر الزخرفيّ الذي كانت وظيفته نقل المياه من السقف بعيدًا عن المبنى. ونلحظ منبر الخطابة الذي أتاح مجالًا لأروقة وصحون أعلى، ولنوافذ أكبر حجمًا، فإن سؤالًا كبيرًا بحجم أهمية هذه المعضلة يطلع من بين ثنايا اختبار التفاصيل: من أثَّر في مَنْ؟
مفصليةُ دارك
على مرّ القرون، تفاخرت أوروبا بعمارتها القوطيّة، لكنّ باحثةً إنكليزية أرجعت كلّ العمارة القوطية إلى أصلٍ واحد: العمارة الإسلامية.
تستشهد ديانا دارك في كتابها بكلمات المهندس المعماري الإنكليزي كريستوفر رِن (1632 ـ 1723)، الذي كان مدركًا تمامًا الأصول الإسلاميّة في العمارة القوطية، ومنها، كما يرى، التقنيات الهيكلية التي كان يستخدمها الأوروبيّ الغربيّ في كاتدرائية القديس بولس.
رِن كَتَبَ، بحسب دارك، أنّ العمارة القوطية الحديثة في القرن الثامن عشر تتميز بخِفَّة عملها، والجرأة المفرطة في ارتفاعاتها، ورِقَّة ووفرة المبالغة الخيالية في زخارِفها. مثل هذه المنتجات جيدة التهوية لا يمكنها قبول أنها تنتمي إلى أصول العمارة القوطية. بدلًا من ذلك، خَلصَت دارك إلى أن النسبة لجميع معالم العمارة الجديدة يمكن أن تُنسب فقط إلى الموريسكيين (المسلمين المهجّرين من الأندلس)، أو العرب، أي باختصار العمارة الإسلامية.
والمفارقة تكمن في اسم كتاب دارك نفسه Stealing from the Saracens، فتاريخيًا كان Saracen مصطلحًا ازدرائيًا للمسلمين العرب، الذين حاربوا الصليبيين في الحروب الصليبية. وقد نشأ هذا المصطلح من الكلمة العربية "سرقة"، حيث كان يُنظر إلى المسلمين على أنهم لصوصٌ ونُهَّاب، في حالة تناسٍ كبرى، حول حقيقة أن الصليبيين نهبوا كل ما في طريقهم عبر أوروبا والقدس والقسطنطينية، ويبدو أنهم سرقوا أيضًا، عجائب العمارة الإسلامية أينما ذهبوا، وزيَّفوا أصول غنائمهم الثقافية تلك بعد ذلك في عماراتهم الغربية.
هذا ما تقوله دارك صاحبة كتابيّ: "بيتي في دمشق"، و"التاجر السوري"، وتطمئنّ إليه، وهي التي قضت معظم عمرها حبيسة الدفق الأموي الساكن مدنَ سورية في دمشق وحلب، وما حولهما. هذا يرجعنا إلى الخلاف التاريخيّ القائم حول "آيا صوفيا"، وهل هي التي أثّرت في العمارة العثمانية معبّرًا عنها، أساسًا، بما أنجزه هناك مِعمار سِنان (1489 ـ 1588)، أم العكس. الجواب الشافي الكافي يتجلّى في أن أي تأثير عِمارة بأخرى، وعلى أخرى، ونحو أخرى، لا يمكن أن يكون كاملًا منجزًا نهائيًّا، وإلا فكيف يمكن تفسير أن الكاتدرائيات القوطية كانت تفرد مساحة للجوقة وآلاتها وكراسي مستمعيها، فهل في الطقسية الدينية الإسلامية هكذا تفاصيل؟
إننا أبناء كرة أرضيةٍ لم تتشكّل نهائيًّا بعد، بيضاويةُ فرادتها، وامتيازها عن غيرها من كواكب المجرّات وتحركات المدارات، لم تتحقق حتى في مساحة حضورها المتواضع أمام سرمديّة ما حولها من غيرها وأبعد.. أبعد منها، ما يجعل لِمساعي الأقوام والأعراق والإثنيات والجهات خصوصية وفردانية أصيلة وغير مؤثّرة، أو متأثّرة، عندما نتحدث عن مباحث الذات والجهات والحضارات، كي تكون وتزدهر ويكون لها بصمتها الحارقة الخارقة في تجلّيات المشهد الأرضيّ الكونيّ السرمديّ البرزخيّ المعماريّ الطالع من أقدم لمسةٍ وجوديّةٍ خطّها بنو الإنسان فوق أرض الحياة.
محمد جميل خضر 22 يناير 2022
عمارة
كنيسة نوتردام
شارك هذا المقال
حجم الخط
بين الدين والدنيا يتحرّك، تقريبًا، عموم تاريخ العمارة، بين الوظيفة والجمال، بين التأثير والتأثّر.
لعلّ في المنجز الذي حققته العمارة القوطية، مكتسحة، برؤاها، عموم أوروبا، تقريبًا، ما يعزّز الجدليّات أعلاه.
فرغم أن القوطيين، بوصفهم عِرقًا أوروبيًّا جرمانيًّا، بغض النظر عن الشرقيّ منهم والغربي، بدأوا يظهرون ويسطعون منذ القرن الخامس الميلادي، إلا أن لمساتهم في تاريخ العمارة الإنسانية لم تتحقق إلا بعد 600 عامٍ تقريبًا من أوّل موجةٍ عِرقية، بشّرت (أو أنذرت) بهم.
سمات مشتركات
في كثيرٍ من تفاصيل العمارة القوطية، سماتٌ مشتركات مع العمارة الإسلامية، فمن الذي بدأها؟
إن أكثر ما يرعبني، هنا، أولئك الذين يفرضون عليك إجابة واحدة محدّدة مهدِّدة إن أنت لم تقبل بمعطياتها وفرضياتها، وليّها عنق الزمان والمكان لتكون الإجابة الوحيدة المانعة الجامعة الساطعة.
الكاتبة الإنكليزية ديانا دارك (1956) Diana Darke، تريدنا عبر كتابها "السرقة من المسلمين: كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا" (2020) أن لا نصدّق غيرها. طبعًا الترجمة هنا غير دقيقة، فإن كان عدم اليقين يبدأ منذ اللحظة الأولى، منذ لحظة ترجمة عنوان كتاب، فإن السؤال المعضلة هنا، هو كيف ينشئ، بعضهم، وبعضهن، وبعضهم وبعضهن مشغولين، عادة، وربما غالبًا، بأحلام شعبوية، وإمكانية الفوز بتأثيرات عمومية، نظرية، أو معرفية، أو نتائج، أو حتى فرضيات، على كل هذا الدفق من الاحتمالات والـ(لا يقين) الذي يصل إلى عنوان الأشياء ومستهلاتها، يقينًا قائمًا على اللايقين؟
"ديانا دارك أقامت معظم عمرها في سورية، وقلّبت، تقريبًا، معظم أحوال الكنائس الشرقية الموجودة في حلب، وفي غير حلب. والتقطت بالتالي، ملامح من العمارة القوطية، موجودة في كنائس حلبية، وربما دمشقية" |
دارك تريد أن تقول، في تلخيصٍ مروّع، ما كنت أسمح لنفسي في ظروف مختلفة أن أُقدم عليه، لمجمل كتابها، إن العمارة القوطية على وجه الخصوص، وربما مجمل العمارة الأوروبية على وجه العموم، هي تأثيرات متلوّنة استفادت من وحي وتوهجات العمارة الإسلامية.
فكيف تأتّى لها ذلك؟
دارك أقامت معظم عمرها في سورية، وقلّبت، تقريبًا، معظم أحوال الكنائس الشرقية الموجودة في حلب، وفي غير حلب. والتقطت بالتالي، ملامح من العمارة القوطية، موجودة في كنائس حلبية، وربما دمشقية، وفي عموم مناطق سورية. فسمحت لنفسها أن تستنتج أن العمارة الكنسية الشرقية سبقت العمارة القوطية في كثير من تفاصيلها.
وظيفية الظرف المناخيّ
ماذا لو كانت مخروطيات القباب والمآذن لها علاقة بأحوال الطقس في روسيا الثلجية على سبيل المثال، وهندسها المعماريون، بالتالي، على هذا الشكل، لتقليل فرص تجميعها كتل الثلج التي سوف تتحوّل لاحقًا إلى ماء قد يغرق الكنيسة؟ ماذا لو كانت النوافذ الزجاجية المعشّقة بهجةً، نبتت، فجأةً، في قلب مهندس معماري، فأراد أن ترنّم الكنائس جماليات هذا الحلم الرفيع؟
تداعياتُ القُوط
أول ظهورٍ سياسيٍّ مجتمعيٍّ عرقيٍّ للقوط، تململ في مطالع القرن الخامس الميلادي (407 ـ 409)، في حين أن انبلاج الدين الجديد في بطحاء مكّة، تحقق في نهايات القرن السادس الميلادي (ولد رسول الهدى عام 571 ميلادية، وفَتَحَ مكّة عام 622 ميلادية، أي في القرن السابع). وبالتالي، الحقيقة التاريخية تخبرنا أن سعي العرق القوطيّ لفرض نفسه سبق ظهور الإسلام بقرنٍ ونصف القرن تقريبًا، هذا إن رغبنا تخفيف التوتر والقول إنه سبق الإسلام بقرنيْن كامليْن.
وللإنصاف، ولكي يكون الحياد عنوانًا، فإن بداية فرض القوطيين سمات خاصة بعمارتهم، تأخرت حتى نهايات القرن الثاني عشر، ومطالع القرن الثالث عشر، عندما كان الأندلسيون المسلمون قد أخذوا نصيبهم كاملا من أوروبا القديمة، وبدأوا يتحضرون لزوالِ مجدٍ عاصفٍ كبيرٍ وحاسمٍ في تاريخ الإنسانية القديم والجديد.
"أول ظهورٍ سياسيٍّ مجتمعيٍّ عرقيٍّ للقوط، تململ في مطالع القرن الخامس الميلادي (407 ـ 409)، في حين أن انبلاج الدين الجديد في بطحاء مكّة، تحقق في نهايات القرن السادس الميلادي" |
فما الذي كان يفعله القوطيون من بدايات القرن الخامس، وحتى نهايات القرن الثاني عشر؟ الغزو، ثم الغزو، ثم الغزو.
فكيف يمكننا أن نثق بسمات عمارة خاضت كل حروب هذا الغزو، لتفرض نفسها، أخيرًا، بوصفها كعرقٍ جرمانيٍّ قوطيٍّ، رقمًا صعبًا في المعادلات الأوروبية؟
واضح أن المشاغل الإنسانية التي حرّكت مجاميع العالم، غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا، هي نفسها: الموارد، السيادة، الاستئثار، تحديد العناوين، واستئْجار السّماء.
كاتدرائية ميسينا
أنا شخصيًا، خلال وقوفي أمام كاتدرائية ميسينا في جزيرة صقلية صيف عام 2005، وانتظاري، كما أخبروني، دَقّة منتصف النهار ينجزها في الكاتدرائية الكبرى هناك، ديك وساعة رمل، وتفاصيل هندسية تقليدية عديدة؛ لم أشعر أنني أمام مسجد من مساجد عمّان المدينة التي ولدتُ فيها. واستشعرتُ بكل حياد ونزاهة خصوصيات تلك الكاتدرائية الصامدة منذ مئات السنين في جزيرة (صقلية) فرض المسلمون على مدى مئتي عام قيمهم وسماتهم وأدبياتهم عليها.
مَنْ أثّر في ِمَنْ؟
يخبرنا كلود ليفي شتراوس، في كتابه "الأسطورة والمعنى"، أننا كلّنا نؤثّر بكلّنا. لا أسبقية لأحدٍ على أحد، ولا مجد يُنتظر هنا، طالما أن معظم الإنجازات الحضارية المدينية في خمسين قرنٍ ماضيةٍ قامت على أساس استقواء عرقٍ على عرق.
بيضُ إسبانيا (الأيبيرية) وإنكلترا وإيرلندا واسكتلندا، يستقوون على سكّان أميركا الأصليين، ويشوّهون وجودهم ومعناهم بتسميتهم (الهنود الحُمر). بيضُ أستراليا يحاولون أن يفهموا من هم على وجه الدقّة والمعنى. هم، على الأرجح، معاقبون، محكومون بمددٍ إنكليزيةٍ ملكيةٍ كبرى، تم نفيهم إلى هناك.
فرص التلاقي
الأقواس المدبّبة، القباب المضلّعة، العقد، النوافذ الزجاجية المعشّقة كبيرة الحجم، النوافذ الدائرية، كتف التدعيم، التماثيل الواقعية في الخارج، خصوصًا فوق البوابات، لتوضيح القصص الإنجيلية لرعايا الأبرشية الأمّيين (أيامَ نشوئها) في معظمهم. ما تقدّم أهم عناصر العمارة القوطية، فهل نسهب في تفاصيل تقاطعها مع ما سبقها من عمارات أخرى: إسلامية، وبيزنطية، وسومرية، وغيرها، أم نكتفي أن الوظائف واضحة، وسمات الجمال مشتركة؟
سمات كل عمارة إنسانية تبحث عن فرصِ تلاقيها مع عمارة إنسانية أخرى، في مكان آخر قد يكون بعيدًا، عن سمات في مكان بعيدٍ عن تدفقاتِ بدايتِه.
"يخبرنا كلود ليفي شتراوس، في كتابه "الأسطورة والمعنى"، أننا كلّنا نؤثّر بكلّنا. لا أسبقية لأحدٍ على أحد" |
حين نلحظ في العمارة القوطية: أكتاف التدعيم التي قُوّيَت بقوس إضافي، ورواق داعم سمح بجدران أعلى، ونوافذ أكثر. وتحوُّلِ الأجزاء الستةِ إلى أربعةٍ، ما جعلها أكثر قوة وبساطة. ونلحظ ظهور عنصر عملي وزخرفي آخر عُرف باسم الغرغول، وهو عبارة عن صنبور المطر الزخرفيّ الذي كانت وظيفته نقل المياه من السقف بعيدًا عن المبنى. ونلحظ منبر الخطابة الذي أتاح مجالًا لأروقة وصحون أعلى، ولنوافذ أكبر حجمًا، فإن سؤالًا كبيرًا بحجم أهمية هذه المعضلة يطلع من بين ثنايا اختبار التفاصيل: من أثَّر في مَنْ؟
مفصليةُ دارك
على مرّ القرون، تفاخرت أوروبا بعمارتها القوطيّة، لكنّ باحثةً إنكليزية أرجعت كلّ العمارة القوطية إلى أصلٍ واحد: العمارة الإسلامية.
تستشهد ديانا دارك في كتابها بكلمات المهندس المعماري الإنكليزي كريستوفر رِن (1632 ـ 1723)، الذي كان مدركًا تمامًا الأصول الإسلاميّة في العمارة القوطية، ومنها، كما يرى، التقنيات الهيكلية التي كان يستخدمها الأوروبيّ الغربيّ في كاتدرائية القديس بولس.
رِن كَتَبَ، بحسب دارك، أنّ العمارة القوطية الحديثة في القرن الثامن عشر تتميز بخِفَّة عملها، والجرأة المفرطة في ارتفاعاتها، ورِقَّة ووفرة المبالغة الخيالية في زخارِفها. مثل هذه المنتجات جيدة التهوية لا يمكنها قبول أنها تنتمي إلى أصول العمارة القوطية. بدلًا من ذلك، خَلصَت دارك إلى أن النسبة لجميع معالم العمارة الجديدة يمكن أن تُنسب فقط إلى الموريسكيين (المسلمين المهجّرين من الأندلس)، أو العرب، أي باختصار العمارة الإسلامية.
والمفارقة تكمن في اسم كتاب دارك نفسه Stealing from the Saracens، فتاريخيًا كان Saracen مصطلحًا ازدرائيًا للمسلمين العرب، الذين حاربوا الصليبيين في الحروب الصليبية. وقد نشأ هذا المصطلح من الكلمة العربية "سرقة"، حيث كان يُنظر إلى المسلمين على أنهم لصوصٌ ونُهَّاب، في حالة تناسٍ كبرى، حول حقيقة أن الصليبيين نهبوا كل ما في طريقهم عبر أوروبا والقدس والقسطنطينية، ويبدو أنهم سرقوا أيضًا، عجائب العمارة الإسلامية أينما ذهبوا، وزيَّفوا أصول غنائمهم الثقافية تلك بعد ذلك في عماراتهم الغربية.
هذا ما تقوله دارك صاحبة كتابيّ: "بيتي في دمشق"، و"التاجر السوري"، وتطمئنّ إليه، وهي التي قضت معظم عمرها حبيسة الدفق الأموي الساكن مدنَ سورية في دمشق وحلب، وما حولهما. هذا يرجعنا إلى الخلاف التاريخيّ القائم حول "آيا صوفيا"، وهل هي التي أثّرت في العمارة العثمانية معبّرًا عنها، أساسًا، بما أنجزه هناك مِعمار سِنان (1489 ـ 1588)، أم العكس. الجواب الشافي الكافي يتجلّى في أن أي تأثير عِمارة بأخرى، وعلى أخرى، ونحو أخرى، لا يمكن أن يكون كاملًا منجزًا نهائيًّا، وإلا فكيف يمكن تفسير أن الكاتدرائيات القوطية كانت تفرد مساحة للجوقة وآلاتها وكراسي مستمعيها، فهل في الطقسية الدينية الإسلامية هكذا تفاصيل؟
إننا أبناء كرة أرضيةٍ لم تتشكّل نهائيًّا بعد، بيضاويةُ فرادتها، وامتيازها عن غيرها من كواكب المجرّات وتحركات المدارات، لم تتحقق حتى في مساحة حضورها المتواضع أمام سرمديّة ما حولها من غيرها وأبعد.. أبعد منها، ما يجعل لِمساعي الأقوام والأعراق والإثنيات والجهات خصوصية وفردانية أصيلة وغير مؤثّرة، أو متأثّرة، عندما نتحدث عن مباحث الذات والجهات والحضارات، كي تكون وتزدهر ويكون لها بصمتها الحارقة الخارقة في تجلّيات المشهد الأرضيّ الكونيّ السرمديّ البرزخيّ المعماريّ الطالع من أقدم لمسةٍ وجوديّةٍ خطّها بنو الإنسان فوق أرض الحياة.