عمارة فاس.. قنطرة زخارف منقوشة بمجد الأندلس
محمد جميل خضر 31 أكتوبر 2021
عمارة
مجمّع القرويين الجامع والجامعة والمكتبة تحفة فاس الباقية
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابه الموسوعيّ "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، يفرد شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمريّ الدمشقيّ (1301 ـ 1349)، مساحة لافتة لِمدينة فاس المغربية، ويغدق عليها، ويترك آخرين يغدقون عليها، بالوصف وتناول عِمارتها وطبيعتها وبِركها ونوافيرها وجبالها وسهولها ووديانها وغزارة مياهها وناسها وتقسيماتها وتفرعاتها وبساتينها وقِباب بيوتها بشرحٍ مسهبٍ وتفصيلٍ دقيق.
يقول العمريّ الدمشقيّ في (المسالك) واصفًا فاس:
"مكان السلطان من دار العُدْوة هو بفاس الجديدة المسمّاة بالبيضاء، في دار لا يختص بزيادة رفعة على نشز أو ربوة، وتسمى القصر، وهو عالي البناء ذو قِباب عليه ضخمة تليق بالملوك، وغرف مرتفعة وَرفارف علويّة، ومجالس سلطانيّة، وبداخل القبّة المعروفة بقبّة الرِّضا، وهي قبة عظيمة الارتفاع خارقة الاتساع، وقدّامها بركة ممتدة بها مركب لاتساعها وكبرها، وخلفها بركة أخرى مثلها، بها مركب آخر لاتساعها وكبرها، ومساحة البِركتيْن واحدة، والقبة العظمى بينهما، وفي نهاية كل بِركة قبّة لطيفة المقدار، وفي جميع جُدر القباب شبابيك مطلّة، والبستان حافٌّ بالجميع، وهو بستان جليل منوّع، بصفوف الأشجار والغِراس على اختلافها، ويجري الماء إلى قصر السلطان من مكان يعرف بـ(أساليس) على بعد نصف نهار أو أقل مرفوعًا في قناةٍ على قَناطر مبنيّة إليها، واصطبْلاته إلى جوار قصره لا يسكن معه في قصوره إلا حريمه وفتيانه وهم الخدم الخصيان، ويبيتُ حوله في ظاهر قصره طائفة من الإفْرنج، وأناس يعرفون بالعُدْويين بمنزلة النقباء، وَوصفان السلطان والبوّابون، ولا ينازله في قصره أحد من الأشْياخ ولا الجند ولا الغرباء" (صفحة 171).
يسهب نِصفُ الرحّال المؤرخ بالوصف، لا يترك شاردةً ولا واردةً حتى الخدم (المخصيين). وأقول نِصف رحّال، لأن ما خَبِره بنفسه في كتابه شهاب الدين، لا يزيد على عُشرِ الممالك والبلدان والنواحي والقارات التي أوردها وكتب عنها (يبدو أنه زار فقط مصر والشام والحجاز). وأما في خصوص المغرب، على وجه العموم، وفاس منها، على وجه الخصوص، فمعظم ما أورده حولهما أخذه من كتاب "المُغرِب في حِلى المَغرب"، لابنِ سعيد المغربي المُتوَفّى سنة 685 هجرية 1286 ميلادية، وهو كتابٌ مفقودٌ فعليًّا، فلا يعود لدينا، والحال كذلك، إلا أن نصدّق شهاب الدين، وما كتبه شهاب الدين حول عِمارة فاس التي كانت تمتد أيام الأدارِسة لتشمل مراكش والدار البيضاء، وربّما حتى الرباط عاصمة المملكة المغربية الحديثة.
ما يهمّنا من مجمل ما كتبه شهاب الدين حول عِمارة فاس، هو ما يتعلق بتجلّي القباب بوصفها مفردة أساسية من مفردات تلك العِمارة، لا تقتصر، كما يبدو، على المساجد فقط، بل تمتد لتشمل القصور.
كما يتجلّى واضحًا بقليلٍ من تدقيق جمل وصفه، أن التباين الطبقيّ كان سمة سائدة، فقصور الحكّام لا تشبه بيوت العوام. والعِمارة في الزمن الذي يتناوله كتاب المسالك لم تكن قد وصلت إلى فرضِ عناصر جامعةً يمكن ملاحظتها في عموم التّكوينات المِعمارية التي شكّلت الواجهة الحضرية المعمارية الإنشائية لذلك الزمان البعيد.
خصوصية معمارية مغربية لافتة
بعيدًا عن أي مشكلات، قد تتعلّق بدقة وصف شهاب الدين الدمشقيّ لعِمارة فاس وما حولها، فمما لا شك فيه أن للعمارة المغربية خصوصية لا تشبه غيرها. إنها عِمارة تمثل، بشكلٍ أو بِآخر، وبحسب ما يذهب إليه المغربيّ عمر عبد السلام في دراسة له، مدرسة مستقلة بسمات خاصة متميزة بذاتها، من دون إنكار أنها تشكّل فرعًا من فروع الفن الإسلامي العام.
يقول عبد السلام في بحثه الموسوم "عمارات المغرب المعاصرة تحمل بصمات العهود السابقة بأنفاس جديدة": "قامت دول وممالك منذ فجر الإسلام بالمغرب، ويعد تأسيس مدينة فاس كعاصمة لانطلاق دولة الأدارِسة، أوّل مظهر للعِمارة الإسلامية بالمغرب، وإيذانًا بمولد طراز معماريّ جديد في كل من المغرب والأندلس".
العقود الموازية لجدار القِبلة المسماة بِنعل الفرس، المئذنة المربّعة، كما في مجمّع القرويين، على سبيل المثال، الذي يشتمل على جامع وجامعة ومكتبة، تحمل جميعها اسم القرويين (نتحدث هنا عن إسهامات الأدارِسة في العِمارة المغربية عمومًا، وعِمارة فاس على وجه الخصوص. واللافت أن معظم آثار الإدريسيين وأوابدهم ومعالمهم وصروحهم قد اندثرت، أو تحوّلت إلى أطلالٍ مُتداعية، ولم يبق بوصفه شاهدًا شامخًا عليها سوى مجمّع القرويين بمختلف محتوياته وتفاصيله). زخرفة البناء في القِباب وغيرها (سِمات عِمارة ظهرت وانتشرت بعد تولي المرابطون زمام الأمور وغياب الأدارسة عن المشهد السياسي في عموم المغرب). الحفر على الحجر والجِبس (المرابطون). انتشار الحصون والقلاع (قلعة الوادية التي شيّدها المرابطون في الرباط أشهرها).
جاء الموحدون خلفًا للمرابطين، فازداد ازدهار العِمارة في المغرب والأندلس: الزخرفة زادت وتوسّعت أشكال استخدامها وجماليات هذا الاستخدام. الأسوار زهتْ بشموخٍ ومفرداتِ تحسينٍ آسِرة. ومن بصماتهم الأندلسية صومعة الخيرالدةLa Giralda في إشبيلية، التي يقترب ارتفاع برجها من 100 متر، مُحقِّقًا عند تشييده مجدَ أنه كان أعلى برجٍ في العالم، وهو اللقب الذي حافظ عليه البرج المُرتبط بِالمَلك الموحديّ أبو يوسف يعقوب المنصور (صاحب أمر تشييده) لِقرون ممتدة.
عِمارة فاس وما حولها تأثرت عند قدوم المرابطين بِعمارة حواضر كبرى كان لها مكانتها في ذلك الزمان، مثل عِمارة القيروان في تونس، وكذلك العِمارة المصرية، والعِمارة في العراق.
بعض الباحثين يرون أن عصر الموحدين يمثل عصر اكتمال ملامح العِمارة المغربية التي تتسيّدها عِمارة فاس. ففي زمنهم تحدّدت بدقةٍ، من حيث التخطيط العام، نِسبُ البِناء وأبعادِه، ومن ذلك تحديد نسبِ صحون المساجد إلى قاعات صالاتها، وطول جدار القِبلة قياسًا إلى عمقها، وما إلى ذلك.
بالانتقال إلى عصر المُرينيين (بنو مُرين أو بنو عبد الحق) الذين حكموا بلاد المغرب الأقصى من القرن الميلاديّ الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، فإن في استطاعتنا القول إننا أصبحنا أمام عِمارةٍ مغربيةٍ ناضجةٍ واضحةِ المعالمِ محددةِ العناصرِ متمايزةِ السِّمات عن غيرها من عِمارات الأرض.
تجلّى ذلك في طراز بناء المدارس الدينية العتيقة، مدارس الصفّارين والعطّارين والبوعنانيّة في مدن فاس ومِكناس وَسلا. وفي تشييد العديد من المساجد التي تعد اليوم من المعالم الدينية والأثرية المهمة في المغرب: المسجدان: الكبير في فاس، والأعظم في الرباط، من الأمثلة الحيّة على ذلك. كما تجلّى في هندسةِ بناء بلاط المحراب في المساجد. المُرينيون هم من أعادوا استخدام العقد كامل الاستدارة الذي استخدمه المرابطون وتركه الموحدون. على الصعيد الأندلسي، فقد احتفوا بالأعمدة الرخامية الرقيقة ذات التيجان الدقيقة المعروفة بالأرابيسك. وتفنّنوا في استخدام فن الزليج الفخاريّ الفسيفسائيّ هندسيّ النَّمط أسفل الجدران.
ولكن، هل تابع السعديون ما أنجزه كل الذين سبقوهم: الأدارِسة، المرابطون، الموحدون والمُرينيون (بنو مُرين)؟ يرى كثير من الباحثين والمؤرخين أن ما واجهه حكام المغرب السعديّون من أطماع استعمارية برتغالية وإسبانية، أضعف تحقيقهم حضورًا ساطعًا كالذي حققه من سبقهم، فإذا بالعِمارة المغربية تتراجع، هم لا يقولون إنها في عهدهم فَنَت واضمحلّت واندثرت، فقط تراجعت، ولكنّ هذا التراجع المهجوسَ بمواجهةِ أطماعِ الطامعين وسِهام المعتدين وبارودِ الغَازين، لم يمنعهم من تشييد الحصون الحربية والقلاع الملكية، بل بالعكس جعلهم يزيدون حصّة هذا النوع من العِمران على حساب أنواع أخرى. ورغم كل هذا وذاك فإن قصر البديع في مرّاكش (قِبلة السيّاح وواحةُ الأرْواح) يُعد من المآثر العظيمة التي خلّفها السعديّون.
بعد سقوط السعديين، وصعود سلالة العلويين، دخل قصر البديع فترة من التدهور السريع. لم يتواصل، على ما يبدو، الحفاظ عليه بعد وفاة المنصور. بينما كان السلطان العلوي الأول، الرشيد بن الشريف، قادرًا على العيش هنا لفترة وجيزة (بين سنتي 1668 ـ 1669). وبعد أقل من عشر سنوات، لم يكن خليفته إسماعيل بن الشريف على استعداد للسماح للسفراء بزيارة القصر بسبب سوء حالته. بحسب الإفراني، أمر إسماعيل بن الشريف بهدم القصر وتجريده من محتوياته ومواده وزخارفه عام 1707 أو 1708 (1119 هـ)، ثم أعيد استخدامه في بناء قصره الجديد وعاصمته في مِكناس. في الواقع، من المحتمل أن يكون تفكيك القصر قد حدث بشكل تدريجيٍّ مع مرور الوقت، بداية قبل عام 1707، واستمر أيضًا بعد عهده. تم العثور على العناصر المِعمارية من أصل سعديّ، بما في ذلك على الأرجح عناصر من قصر البديع، في عدد من المباني في مختلف أنحاء المغرب وصولًا إلى الجزائر العاصمة. على سبيل المثال، ضريح مولاي إسماعيل في مِكناس، وزاوية مولاي إدريس الثاني في فاس. في غضون ذلك، أصبحت أنقاض القصر موقع رعي للحيوانات، وحتى ملاذًا للبوميّات. اليوم عاد إلى القصر بهاؤه، وصار له روّاده المسكونون بِضربات التاريخ فوق حجارة الأزْمان.
فاس وَطينُها
من طينةٍ لا تشبه غيرها، صنعت فاس مجدها المِعماريّ الخاص بِها. من مُعانقة الصحراء أول حجارة المدن. من هذا الطّين الفاسيّ المتفرّد في كثير من صفاته، صعد عاليًا فن الزَليج، نافس بألوانه الزاهية، نقوش باقي الأرض. صار فسيفساؤهم الحامل بصمتهم، منمنمات وجودهم. عنوان أصالةٍ قائمةٍ على السّهل المُمتنع؛ مواد أولية بسيطة وآليات بدائية ومهارة صانعٍ مبدّعٍ فنّان، رفعت هذا الفن إلى مراتب الهندسة المعمارية، وأدخلته عَرينها من أوسع أبوابها، وجعلته مفردة أساسية في قصور فاس وما حولها، وفي مساجدها وباقي معالمها التاريخية.
عِمارة باقية
بشكلٍ استثنائيٍ، حافظ من تعاقبوا على الإقامة في فاس على عِمارة المدينة، جعلوها واجهة وإرثًا وموقعَ تراثٍ عالميٍّ لليونسكو.
وحتى يومنا هذا، لا يزال عدد كبير من المعالم التاريخية المُمثلة مختلفَ الممالك التي حكمت فاس، ووضعت إسهامها فيها، موجودة وقائمة، بعضها بكامل شموخها وصمود تفاصيلها، بعضها بما تبقّى ويدلّ على بديع ما كانتْه: مساجد، ومدارس، وقناطر، ورياض، ونوافير، وكنيس، وحمّامات، وبازارات، وخانات، وتحصينات دفاعية، وأبواب، ومنازل تاريخية، وقصور.
وأما الأمثلة فهي لا تعد ولا تحصى، نكتفي أن نشير إلى أهمها: مسجد القرويين سالف الذكر، وهو القائم الآن بوصفه مجمّعًا يضم بين جنباته، إضافة إلى المسجد، جامعة ومكتبة. جامع الأندلس. مسجدا الشرفاء والأنوار اللذان يُقال إنهما أقدم مساجد المدينة، رغم ما مرّ عليهما من تغييرات بعضها جوهريّة.
وفي حين حافظ مسجد الشرفاء (مكان دفن إدريس الثاني) على معظم قوامه وهيكله، مع تحوّله إلى زاوية تحمل اسم "مولاي إدريس الثاني"، فإن مسجد الأنوار لم يبق منه، للأسف الشديد، سوى بقايا صغيرة.
ومن الجوامع والمساجد أيضًا: جامع بوجلود، الجامع الكبير بفاس الجديد، مسجد أبو الحسن، مسجد الشرابليين، مسجد الحمراء، وعشرات المساجد الأخرى.
المَلاح (الحي اليهودي) في فاس الجديد هو موقع كنيس ابن دنان، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، وكنيس صلاة الفاسيين، والعديد من المعابد اليهودية الأخرى غير المفتوحة حاليًا.
هذه، لها تصميم يختلف عن المساجد، مع اشتراكها معها في اتجاهات زخرفية مماثلة لبقية العمارة المغربية، مثل البلاط الملوّن، والجصّ المَنحوت.
مدارس الصهريج، والعطّارين، والبوعنانية، والشراطين، من أهم مدارس فاس الممتد معناها وحفرها من مئات السنين.
في المدينة، إلى ذلك، مقابر وأضرحة وزوايا تحمل عِمارتها سمات فاس، وتذكّر بماضٍ تليد، وتؤكد على حاضرٍ منتمٍ إلى ِتاريخ مدينة الأدارِسة. إضافة إلى زاوية مولاي إدريس الثاني، التي أشرنا إليها سابقًا، هنالك زوايا مهمة أخرى: زاوية سيدي أحمد التيجاني، وزاوية سيدي عبد القادر الفاسي، وزاوية سيدي التاودي بن سودة, وغيرها كثير.
ومن مقابرها التاريخية الكبرى، مقبرة باب الفتوح، وباب المحروق، وباب الكنيسة، ومقابرة كثيرة أخرى. داخل بعض هذه المقابر مرابط (مزارات/ مقامات) تحتضن، بحسب المُتداول المغربيّ، أولياء صالحين، منها: مربط سيدي حرازم.
من فنادقها القديمة العريقة: النجّارين، الشمّاعين، وَالتطوانيين.
فيها، إلى ذلك، حمّامات (الصفّارين، وهو أهمها)، ونوافير قد تحمل عندهم اسمًا آخر، هو الساقية، أو السقاية، ولعل سقاية فندق النجّارين أكثر ما يمثل هذه المُفردة من مفرداتِ عِمارة فاس، إضافة إلى نافورة (سقاية) سيدي فرج، ونافورة الطالعة الصغيرة.
جِنان السبيل من حدائق فاس الزاهية. ومن دورِها الحاملة عبق خمس ممالك تعاقبت عليها: دار عديل، ودار مقري، ودار با محمد الشرقي. وفي فاس الرياض، رياضٌ غنّاء ألحانها عبقُ الماضي، ورونقُ الحاضر، وتطلعاتُ المستقبل. ولها أبواب، كل باب يفضي إلى باب. وأما قناطرها فهي تؤاخي بينها وبينها، تمد جسرًا من الوصال مشبعًا بطين أرضها، ضاخًّا بخورَ مواويلها. قناطر لا تربط الأمكنة فقط، بل تشدّ أزرَ الأزمنة، وَتبقيها بِصنيعها كلّه ولمساتِها جميعها حاضرةً، مثل حكواتيّ كلّما مَررنا عليه يُعيد على مسامِعنا الحكايةَ من ألِفها إلى يائِها.
ومنذ بنى دوناس بن حمامة أمير زناتة (مات في 452 هجرية) قنطرة تربط ضِفاف الجهة الشمالية الغربية من فاس البالي بِجهتها الجنوبية الشرقية، صارت القنطرة ملمحًا معماريًا فاسيًّا له دلالاته وحتمًا وظائفه. في هذا السياق فإن قنطرة "بين المدن" بِقوسها الباقي الأخّاذ، وَعتاقتها وصولًا لعهد ابن دوناس، وبعض زُخرفها الطالع من روح فاس، تشفّ عن وظيفتها من خلال اسمها؛ إنها بكل بساطة قنطرة بين مدن فاس وَنواحيها، يمرّ فوقها المتجولون في حواضر فاس، طالبو الرزق في فسحة النهار، التجّار بحثًا عن مطالبهم، وَوصولًا إلى حوانيتهم.
ظلّت فاس تزخرف وجودَها، تنثر فوقَه نقوشَ أزمنةٍ مضت، وَممالك تعاقبت، وَبُناةً وضعوا أثرَهم، وأعراقًا وقومياتٍ وجماعاتٍ مرّت عبرَها، فإذا بها تصبح هي نفسُها، قنطرةَ حضارات، وقوسَ عِمارةٍ مزدحمٍ بمفرداتِ خصوصيّته.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
محمد جميل خضر 31 أكتوبر 2021
عمارة
مجمّع القرويين الجامع والجامعة والمكتبة تحفة فاس الباقية
شارك هذا المقال
حجم الخط
في كتابه الموسوعيّ "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار"، يفرد شهاب الدين أحمد بن فضل الله العمريّ الدمشقيّ (1301 ـ 1349)، مساحة لافتة لِمدينة فاس المغربية، ويغدق عليها، ويترك آخرين يغدقون عليها، بالوصف وتناول عِمارتها وطبيعتها وبِركها ونوافيرها وجبالها وسهولها ووديانها وغزارة مياهها وناسها وتقسيماتها وتفرعاتها وبساتينها وقِباب بيوتها بشرحٍ مسهبٍ وتفصيلٍ دقيق.
يقول العمريّ الدمشقيّ في (المسالك) واصفًا فاس:
"مكان السلطان من دار العُدْوة هو بفاس الجديدة المسمّاة بالبيضاء، في دار لا يختص بزيادة رفعة على نشز أو ربوة، وتسمى القصر، وهو عالي البناء ذو قِباب عليه ضخمة تليق بالملوك، وغرف مرتفعة وَرفارف علويّة، ومجالس سلطانيّة، وبداخل القبّة المعروفة بقبّة الرِّضا، وهي قبة عظيمة الارتفاع خارقة الاتساع، وقدّامها بركة ممتدة بها مركب لاتساعها وكبرها، وخلفها بركة أخرى مثلها، بها مركب آخر لاتساعها وكبرها، ومساحة البِركتيْن واحدة، والقبة العظمى بينهما، وفي نهاية كل بِركة قبّة لطيفة المقدار، وفي جميع جُدر القباب شبابيك مطلّة، والبستان حافٌّ بالجميع، وهو بستان جليل منوّع، بصفوف الأشجار والغِراس على اختلافها، ويجري الماء إلى قصر السلطان من مكان يعرف بـ(أساليس) على بعد نصف نهار أو أقل مرفوعًا في قناةٍ على قَناطر مبنيّة إليها، واصطبْلاته إلى جوار قصره لا يسكن معه في قصوره إلا حريمه وفتيانه وهم الخدم الخصيان، ويبيتُ حوله في ظاهر قصره طائفة من الإفْرنج، وأناس يعرفون بالعُدْويين بمنزلة النقباء، وَوصفان السلطان والبوّابون، ولا ينازله في قصره أحد من الأشْياخ ولا الجند ولا الغرباء" (صفحة 171).
"للعمارة المغربية خصوصيتها. إنها عِمارة تمثل، بشكلٍ أو بِآخر، وبحسب ما يذهب إليه المغربيّ عمر عبد السلام في دراسة له، مدرسة مستقلة بسمات خاصة متميزة بذاتها، من دون إنكار أنها تشكّل فرعًا من فروع الفن الإسلامي" |
يسهب نِصفُ الرحّال المؤرخ بالوصف، لا يترك شاردةً ولا واردةً حتى الخدم (المخصيين). وأقول نِصف رحّال، لأن ما خَبِره بنفسه في كتابه شهاب الدين، لا يزيد على عُشرِ الممالك والبلدان والنواحي والقارات التي أوردها وكتب عنها (يبدو أنه زار فقط مصر والشام والحجاز). وأما في خصوص المغرب، على وجه العموم، وفاس منها، على وجه الخصوص، فمعظم ما أورده حولهما أخذه من كتاب "المُغرِب في حِلى المَغرب"، لابنِ سعيد المغربي المُتوَفّى سنة 685 هجرية 1286 ميلادية، وهو كتابٌ مفقودٌ فعليًّا، فلا يعود لدينا، والحال كذلك، إلا أن نصدّق شهاب الدين، وما كتبه شهاب الدين حول عِمارة فاس التي كانت تمتد أيام الأدارِسة لتشمل مراكش والدار البيضاء، وربّما حتى الرباط عاصمة المملكة المغربية الحديثة.
ما يهمّنا من مجمل ما كتبه شهاب الدين حول عِمارة فاس، هو ما يتعلق بتجلّي القباب بوصفها مفردة أساسية من مفردات تلك العِمارة، لا تقتصر، كما يبدو، على المساجد فقط، بل تمتد لتشمل القصور.
كما يتجلّى واضحًا بقليلٍ من تدقيق جمل وصفه، أن التباين الطبقيّ كان سمة سائدة، فقصور الحكّام لا تشبه بيوت العوام. والعِمارة في الزمن الذي يتناوله كتاب المسالك لم تكن قد وصلت إلى فرضِ عناصر جامعةً يمكن ملاحظتها في عموم التّكوينات المِعمارية التي شكّلت الواجهة الحضرية المعمارية الإنشائية لذلك الزمان البعيد.
خصوصية معمارية مغربية لافتة
بعيدًا عن أي مشكلات، قد تتعلّق بدقة وصف شهاب الدين الدمشقيّ لعِمارة فاس وما حولها، فمما لا شك فيه أن للعمارة المغربية خصوصية لا تشبه غيرها. إنها عِمارة تمثل، بشكلٍ أو بِآخر، وبحسب ما يذهب إليه المغربيّ عمر عبد السلام في دراسة له، مدرسة مستقلة بسمات خاصة متميزة بذاتها، من دون إنكار أنها تشكّل فرعًا من فروع الفن الإسلامي العام.
يقول عبد السلام في بحثه الموسوم "عمارات المغرب المعاصرة تحمل بصمات العهود السابقة بأنفاس جديدة": "قامت دول وممالك منذ فجر الإسلام بالمغرب، ويعد تأسيس مدينة فاس كعاصمة لانطلاق دولة الأدارِسة، أوّل مظهر للعِمارة الإسلامية بالمغرب، وإيذانًا بمولد طراز معماريّ جديد في كل من المغرب والأندلس".
"العمارة في الزمن الذي يتناوله كتاب المسالك لم تكن قد وصلت إلى فرضِ عناصر جامعةً يمكن ملاحظتها في عموم التّكوينات المِعمارية التي شكّلت الواجهة الحضرية المعمارية الإنشائية لذلك الزمان البعيد" |
العقود الموازية لجدار القِبلة المسماة بِنعل الفرس، المئذنة المربّعة، كما في مجمّع القرويين، على سبيل المثال، الذي يشتمل على جامع وجامعة ومكتبة، تحمل جميعها اسم القرويين (نتحدث هنا عن إسهامات الأدارِسة في العِمارة المغربية عمومًا، وعِمارة فاس على وجه الخصوص. واللافت أن معظم آثار الإدريسيين وأوابدهم ومعالمهم وصروحهم قد اندثرت، أو تحوّلت إلى أطلالٍ مُتداعية، ولم يبق بوصفه شاهدًا شامخًا عليها سوى مجمّع القرويين بمختلف محتوياته وتفاصيله). زخرفة البناء في القِباب وغيرها (سِمات عِمارة ظهرت وانتشرت بعد تولي المرابطون زمام الأمور وغياب الأدارسة عن المشهد السياسي في عموم المغرب). الحفر على الحجر والجِبس (المرابطون). انتشار الحصون والقلاع (قلعة الوادية التي شيّدها المرابطون في الرباط أشهرها).
جاء الموحدون خلفًا للمرابطين، فازداد ازدهار العِمارة في المغرب والأندلس: الزخرفة زادت وتوسّعت أشكال استخدامها وجماليات هذا الاستخدام. الأسوار زهتْ بشموخٍ ومفرداتِ تحسينٍ آسِرة. ومن بصماتهم الأندلسية صومعة الخيرالدةLa Giralda في إشبيلية، التي يقترب ارتفاع برجها من 100 متر، مُحقِّقًا عند تشييده مجدَ أنه كان أعلى برجٍ في العالم، وهو اللقب الذي حافظ عليه البرج المُرتبط بِالمَلك الموحديّ أبو يوسف يعقوب المنصور (صاحب أمر تشييده) لِقرون ممتدة.
عِمارة فاس وما حولها تأثرت عند قدوم المرابطين بِعمارة حواضر كبرى كان لها مكانتها في ذلك الزمان، مثل عِمارة القيروان في تونس، وكذلك العِمارة المصرية، والعِمارة في العراق.
بعض الباحثين يرون أن عصر الموحدين يمثل عصر اكتمال ملامح العِمارة المغربية التي تتسيّدها عِمارة فاس. ففي زمنهم تحدّدت بدقةٍ، من حيث التخطيط العام، نِسبُ البِناء وأبعادِه، ومن ذلك تحديد نسبِ صحون المساجد إلى قاعات صالاتها، وطول جدار القِبلة قياسًا إلى عمقها، وما إلى ذلك.
بالانتقال إلى عصر المُرينيين (بنو مُرين أو بنو عبد الحق) الذين حكموا بلاد المغرب الأقصى من القرن الميلاديّ الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، فإن في استطاعتنا القول إننا أصبحنا أمام عِمارةٍ مغربيةٍ ناضجةٍ واضحةِ المعالمِ محددةِ العناصرِ متمايزةِ السِّمات عن غيرها من عِمارات الأرض.
تجلّى ذلك في طراز بناء المدارس الدينية العتيقة، مدارس الصفّارين والعطّارين والبوعنانيّة في مدن فاس ومِكناس وَسلا. وفي تشييد العديد من المساجد التي تعد اليوم من المعالم الدينية والأثرية المهمة في المغرب: المسجدان: الكبير في فاس، والأعظم في الرباط، من الأمثلة الحيّة على ذلك. كما تجلّى في هندسةِ بناء بلاط المحراب في المساجد. المُرينيون هم من أعادوا استخدام العقد كامل الاستدارة الذي استخدمه المرابطون وتركه الموحدون. على الصعيد الأندلسي، فقد احتفوا بالأعمدة الرخامية الرقيقة ذات التيجان الدقيقة المعروفة بالأرابيسك. وتفنّنوا في استخدام فن الزليج الفخاريّ الفسيفسائيّ هندسيّ النَّمط أسفل الجدران.
ولكن، هل تابع السعديون ما أنجزه كل الذين سبقوهم: الأدارِسة، المرابطون، الموحدون والمُرينيون (بنو مُرين)؟ يرى كثير من الباحثين والمؤرخين أن ما واجهه حكام المغرب السعديّون من أطماع استعمارية برتغالية وإسبانية، أضعف تحقيقهم حضورًا ساطعًا كالذي حققه من سبقهم، فإذا بالعِمارة المغربية تتراجع، هم لا يقولون إنها في عهدهم فَنَت واضمحلّت واندثرت، فقط تراجعت، ولكنّ هذا التراجع المهجوسَ بمواجهةِ أطماعِ الطامعين وسِهام المعتدين وبارودِ الغَازين، لم يمنعهم من تشييد الحصون الحربية والقلاع الملكية، بل بالعكس جعلهم يزيدون حصّة هذا النوع من العِمران على حساب أنواع أخرى. ورغم كل هذا وذاك فإن قصر البديع في مرّاكش (قِبلة السيّاح وواحةُ الأرْواح) يُعد من المآثر العظيمة التي خلّفها السعديّون.
بعد سقوط السعديين، وصعود سلالة العلويين، دخل قصر البديع فترة من التدهور السريع. لم يتواصل، على ما يبدو، الحفاظ عليه بعد وفاة المنصور. بينما كان السلطان العلوي الأول، الرشيد بن الشريف، قادرًا على العيش هنا لفترة وجيزة (بين سنتي 1668 ـ 1669). وبعد أقل من عشر سنوات، لم يكن خليفته إسماعيل بن الشريف على استعداد للسماح للسفراء بزيارة القصر بسبب سوء حالته. بحسب الإفراني، أمر إسماعيل بن الشريف بهدم القصر وتجريده من محتوياته ومواده وزخارفه عام 1707 أو 1708 (1119 هـ)، ثم أعيد استخدامه في بناء قصره الجديد وعاصمته في مِكناس. في الواقع، من المحتمل أن يكون تفكيك القصر قد حدث بشكل تدريجيٍّ مع مرور الوقت، بداية قبل عام 1707، واستمر أيضًا بعد عهده. تم العثور على العناصر المِعمارية من أصل سعديّ، بما في ذلك على الأرجح عناصر من قصر البديع، في عدد من المباني في مختلف أنحاء المغرب وصولًا إلى الجزائر العاصمة. على سبيل المثال، ضريح مولاي إسماعيل في مِكناس، وزاوية مولاي إدريس الثاني في فاس. في غضون ذلك، أصبحت أنقاض القصر موقع رعي للحيوانات، وحتى ملاذًا للبوميّات. اليوم عاد إلى القصر بهاؤه، وصار له روّاده المسكونون بِضربات التاريخ فوق حجارة الأزْمان.
فاس وَطينُها
"في عهد الموحدين، ازدهرت العِمارة في المغرب والأندلس: الزخرفة زادت وتوسّعت أشكال استخدامها وجماليات هذا الاستخدام" |
من طينةٍ لا تشبه غيرها، صنعت فاس مجدها المِعماريّ الخاص بِها. من مُعانقة الصحراء أول حجارة المدن. من هذا الطّين الفاسيّ المتفرّد في كثير من صفاته، صعد عاليًا فن الزَليج، نافس بألوانه الزاهية، نقوش باقي الأرض. صار فسيفساؤهم الحامل بصمتهم، منمنمات وجودهم. عنوان أصالةٍ قائمةٍ على السّهل المُمتنع؛ مواد أولية بسيطة وآليات بدائية ومهارة صانعٍ مبدّعٍ فنّان، رفعت هذا الفن إلى مراتب الهندسة المعمارية، وأدخلته عَرينها من أوسع أبوابها، وجعلته مفردة أساسية في قصور فاس وما حولها، وفي مساجدها وباقي معالمها التاريخية.
عِمارة باقية
بشكلٍ استثنائيٍ، حافظ من تعاقبوا على الإقامة في فاس على عِمارة المدينة، جعلوها واجهة وإرثًا وموقعَ تراثٍ عالميٍّ لليونسكو.
وحتى يومنا هذا، لا يزال عدد كبير من المعالم التاريخية المُمثلة مختلفَ الممالك التي حكمت فاس، ووضعت إسهامها فيها، موجودة وقائمة، بعضها بكامل شموخها وصمود تفاصيلها، بعضها بما تبقّى ويدلّ على بديع ما كانتْه: مساجد، ومدارس، وقناطر، ورياض، ونوافير، وكنيس، وحمّامات، وبازارات، وخانات، وتحصينات دفاعية، وأبواب، ومنازل تاريخية، وقصور.
وأما الأمثلة فهي لا تعد ولا تحصى، نكتفي أن نشير إلى أهمها: مسجد القرويين سالف الذكر، وهو القائم الآن بوصفه مجمّعًا يضم بين جنباته، إضافة إلى المسجد، جامعة ومكتبة. جامع الأندلس. مسجدا الشرفاء والأنوار اللذان يُقال إنهما أقدم مساجد المدينة، رغم ما مرّ عليهما من تغييرات بعضها جوهريّة.
وفي حين حافظ مسجد الشرفاء (مكان دفن إدريس الثاني) على معظم قوامه وهيكله، مع تحوّله إلى زاوية تحمل اسم "مولاي إدريس الثاني"، فإن مسجد الأنوار لم يبق منه، للأسف الشديد، سوى بقايا صغيرة.
ومن الجوامع والمساجد أيضًا: جامع بوجلود، الجامع الكبير بفاس الجديد، مسجد أبو الحسن، مسجد الشرابليين، مسجد الحمراء، وعشرات المساجد الأخرى.
المَلاح (الحي اليهودي) في فاس الجديد هو موقع كنيس ابن دنان، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، وكنيس صلاة الفاسيين، والعديد من المعابد اليهودية الأخرى غير المفتوحة حاليًا.
هذه، لها تصميم يختلف عن المساجد، مع اشتراكها معها في اتجاهات زخرفية مماثلة لبقية العمارة المغربية، مثل البلاط الملوّن، والجصّ المَنحوت.
مدارس الصهريج، والعطّارين، والبوعنانية، والشراطين، من أهم مدارس فاس الممتد معناها وحفرها من مئات السنين.
في المدينة، إلى ذلك، مقابر وأضرحة وزوايا تحمل عِمارتها سمات فاس، وتذكّر بماضٍ تليد، وتؤكد على حاضرٍ منتمٍ إلى ِتاريخ مدينة الأدارِسة. إضافة إلى زاوية مولاي إدريس الثاني، التي أشرنا إليها سابقًا، هنالك زوايا مهمة أخرى: زاوية سيدي أحمد التيجاني، وزاوية سيدي عبد القادر الفاسي، وزاوية سيدي التاودي بن سودة, وغيرها كثير.
ومن مقابرها التاريخية الكبرى، مقبرة باب الفتوح، وباب المحروق، وباب الكنيسة، ومقابرة كثيرة أخرى. داخل بعض هذه المقابر مرابط (مزارات/ مقامات) تحتضن، بحسب المُتداول المغربيّ، أولياء صالحين، منها: مربط سيدي حرازم.
من فنادقها القديمة العريقة: النجّارين، الشمّاعين، وَالتطوانيين.
فيها، إلى ذلك، حمّامات (الصفّارين، وهو أهمها)، ونوافير قد تحمل عندهم اسمًا آخر، هو الساقية، أو السقاية، ولعل سقاية فندق النجّارين أكثر ما يمثل هذه المُفردة من مفرداتِ عِمارة فاس، إضافة إلى نافورة (سقاية) سيدي فرج، ونافورة الطالعة الصغيرة.
"المَلاح (الحي اليهودي) في فاس الجديد هو موقع كنيس ابن دنان، الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر، وكنيس صلاة الفاسيين، والعديد من المعابد اليهودية الأخرى غير المفتوحة حاليًا" |
جِنان السبيل من حدائق فاس الزاهية. ومن دورِها الحاملة عبق خمس ممالك تعاقبت عليها: دار عديل، ودار مقري، ودار با محمد الشرقي. وفي فاس الرياض، رياضٌ غنّاء ألحانها عبقُ الماضي، ورونقُ الحاضر، وتطلعاتُ المستقبل. ولها أبواب، كل باب يفضي إلى باب. وأما قناطرها فهي تؤاخي بينها وبينها، تمد جسرًا من الوصال مشبعًا بطين أرضها، ضاخًّا بخورَ مواويلها. قناطر لا تربط الأمكنة فقط، بل تشدّ أزرَ الأزمنة، وَتبقيها بِصنيعها كلّه ولمساتِها جميعها حاضرةً، مثل حكواتيّ كلّما مَررنا عليه يُعيد على مسامِعنا الحكايةَ من ألِفها إلى يائِها.
ومنذ بنى دوناس بن حمامة أمير زناتة (مات في 452 هجرية) قنطرة تربط ضِفاف الجهة الشمالية الغربية من فاس البالي بِجهتها الجنوبية الشرقية، صارت القنطرة ملمحًا معماريًا فاسيًّا له دلالاته وحتمًا وظائفه. في هذا السياق فإن قنطرة "بين المدن" بِقوسها الباقي الأخّاذ، وَعتاقتها وصولًا لعهد ابن دوناس، وبعض زُخرفها الطالع من روح فاس، تشفّ عن وظيفتها من خلال اسمها؛ إنها بكل بساطة قنطرة بين مدن فاس وَنواحيها، يمرّ فوقها المتجولون في حواضر فاس، طالبو الرزق في فسحة النهار، التجّار بحثًا عن مطالبهم، وَوصولًا إلى حوانيتهم.
ظلّت فاس تزخرف وجودَها، تنثر فوقَه نقوشَ أزمنةٍ مضت، وَممالك تعاقبت، وَبُناةً وضعوا أثرَهم، وأعراقًا وقومياتٍ وجماعاتٍ مرّت عبرَها، فإذا بها تصبح هي نفسُها، قنطرةَ حضارات، وقوسَ عِمارةٍ مزدحمٍ بمفرداتِ خصوصيّته.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب