كيف ردّ فرويد على الصهاينة الأوائل بشأن مشروعهم بفلسطين؟
جورج كعدي 26 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى شيرين أبو عاقلة ومحمّد الدرّة
وقافلة شهداء فلسطين منذ 74 عامًا
إنه الأوان الأكثر ملاءمةً وضرورةً لاستعادة ما قاله رائد علم النفس وأحد الأدمغة الكبيرة التي أنجبتها البشريّة ومن أكثرها شهرةً وتأثيرًا، صاحب الفكر الحرّ سيغموند فرويد، حول المشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ في فلسطين، بالوثائق والرسائل والمراجع المثبتة، المعروفة والمعلنة، والتي ينبغي إعادة التذكير بها على الدوام، وخاصة في لحظات تنامي الوحشيّة الإسرائيليّة وتصاعد المقاومة ضدّها في شتى أنحاء فلسطين المحتلّة.
في 26 شباط/ فبراير 1930، وجّه سيغموند فرويد إلى ألبرت آينشتاين الرسالة الآتية: "لست أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولةً يهوديةً، وأنّ العالم المسيحي أو المسلم سيقبل ذات يوم بأن يدع الأماكن المقدّسة في أيدي اليهود. وكنت لأحسنَ الفهم أكثر لو تمّ تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ. ولستُ بقادر على أن أجد في نفسي ظلًّا من التعاطف مع ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قوميّة على حائط هيرودوس، والذي لا يتوجّس، حبًّا منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين".
وفي 26 حزيران/ يونيو 1930 كتب فرويد رسالة إلى الطبيب النمساوي الصهيونيّ حاييم كوفلر ردًّا على طلب وجّهه هذا الأخير إليه وإلى العديد من الشخصيات الأوروبية البارزة، لتوقيع عريضة احتجاج ضدّ عرب القدس لما يقومون به من "أعمال شغب وعنف"! لمنع اليهود من الوصول إلى "حائط المبكى" الذي يشكّل قسمًا من المسجد الأقصى. وقد بقيت رسالة فرويد الجوابيّة سرًّا مكتومًا لأكثر من سبعين عامًا، بعدما كان المُرسَل إليه، الدكتور كوفلر، قد سلّمها إلى ناشط صهيونيّ يمينيّ متطرّف يهوى جمع تواقيع في القدس اسمه أبراهام شوادرون، على أن يتعهّد هذا الأخير بـ"ألاّ يُتاح لأي عين بشرية أن تقع عليها"، والمقصود بالطبع رسالة فرويد الجوابية إلى كوفلر. ووفى جامع التواقيع بتعهّده، ولم يُكشف النقاب عن الرسالة إلاّ بعد مرور خمسة وسبعين عامًا، حين نشرتها مجلة "سيينّا" الإيطالية تزامنًا مع صدور كتاب "أرض الميعاد" لمؤلّفه ميشيل رانشيتي، المعنيّ بتاريخ الكنيسة والتحليل النفسيّ معًا. وأخذت الرسالة طريقها إلى الرأي العام الإيطاليّ، ثم الأوروبيّ والعالميّ، بعدما أعاد الصحافيّ باولو دي ستيفانو نشرها في الصحيفة اليومية الإيطالية المشهورة "إيل كورييره ديللا سيرا".
وهنا نصّ رسالة فرويد:
"عزيزي الدكتور،
لستُ بمستطيع أن أفعل ما تتمنّاه.
إنني أشعر بنفسي عاجزًا عن التغلّب على نفوري من إثارة اهتمام الجمهور بشخصي، ولا يبدو لي أنّ من شأن الظروف الحرجة الحالية أن تحملني على فعل ذلك. فمن يشأ أن يؤثّر في الجمهور الكبير يتوجّب عليه أن يقدّم إليه شيئًا مدويًّا ومثيرًا للحماسة. في حين أن حكمي على الصهيونيّة لا يسمح لي بشيء من ذلك، ومن المؤكد أنّي أتعاطف مع كل جهد يبذله المرء بملء حريته، وأنا فخور بجامعة القدس (المقصود جامعة القدس العبريّة) وبازدهار المؤسسات التي ينشئها المستوطنون. لكنّي، من جهة أخرى، لا أعتقد البتّة أنّ من الممكن أن تصير فلسطين دولة يهودية، ولا أنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ مستعدّان لأن توضع أماكنهما المقدّسة تحت إشراف يهوديّ. وكان يبدو لي أنّ من الحصافة أكثر لو أُقيم وطن يهوديّ على أرض لا ترزح تحت مثل ذلك الثقل التاريخيّ. لكنّي أعترف بأنّ وجهة نظر عقلانيّة كهذه ما كان لها حظّ كبير في أن تحظى بحماسة الجموع، وبالدعم الماليّ من الأثرياء.
إنّي أسلّم بحزن بأنّ التعصّب اللامبرّر من جانب مواطنينا قمين بتحميله جزئيًا ملامة إيقاظ ريبة العرب. ولا يسعني أن أكنّ تعاطفًا مع ضرب من التديّن أساء اختيار وجهته ومن شأنه أن يحوّل جزءًا من حائط هيرودوس إلى مَعْلَمٍ قوميّ، ولو على حساب جرح مشاعر السكّان الأصليين.
فلتحكم بنفسك الآن ما إذا كنتُ أنا الشخص المؤهل، بوجهة النظر النقديّة التي أعلنُها، لتقديم المؤازرة لشعب أسلم زمام أمره لوهم أمل ليس له ما يبرّره".
خادمك المجلّ
سيغموند فرويد
وفي 14 كانون الأول/ ديسمبر 1937 وجّه فرويد رسالة إلى ن. ن، وهي كاتبة أميركية تعمّد فرويد أن يبقي اسمها مجهولًا، إذ كانت تبادلت معه مراسلات منذ عام 1935 تستشيره في شأن ابنها الذي كانت تشتبه في أنّ له ميولًا جنسية مثليّة.
ورد في رسالة فرويد هذه:
"سيّدتي العزيزة
يتعيّن عليّ أن أضيف بضع كلمات إلى شكري لكِ على إرسالكِ كتابك الثمين إليّ، وليس فقط لأنّ التحليل النفسي يحظى بتقديرك، أو لأنّكِ توردين اسمي في عدّة مواضع بطريقة مستحبّة، بل على الأخصّ لأنّ كتابكِ يتضمّن أمورًا كثيرة لا يجد القارئ اليهوديّ أمامه مناصًا من أن يقرّ بأهميّتها وصحّتها.
لقد شرعتُ منذ بضع سنوات في التساؤل حول كيفيّة اكتساب اليهود الطابع الخاص الذي أمسى طابعهم. وعلى مألوفي، عدتُ إلى الأصول الأولى المبكرة. ولم أجد في نفسي حاجة إلى أن أطيل النظر. فقد فاجأني اكتشافي أنّ التجربة الأولى، التجربة الجنينيّة إن جاز التعبير، لذاك الشعب، أي تأثير الرجل موسى والنزوح عن مصر، قد حدّدت تطوّره اللاحق بتمامه إلى يومنا هذا – شأنها شأن الرضّة (Trauma) الفعليّة العائدة إلى الطفولة الأولى في تاريخ الفرد العُصابيّ (Nevrotic). فهناك بادئ ذي بدء، التصوّر الزمنيّ للحياة، ومعه تجاوز الفكر الاستيهاميّ ورفض الروحانيّات، وهما قَسَمتان تعودان ولا بدّ إلى موسى نفسه، وربما إلى ما قبله أيضًا، ولكن من دون أن يتوافر لنا في هذا الصدد يقين مرجوّ. وقد نشرت مجلة "إيماغو" دراستين هذه السنة تنطويان على جزء على الأقلّ من النتائج التي توصّلتُ إليها، بينما توجّب عليّ أن أحتفظ لنفسي بالأجزاء الأخرى. وسوف يسعدني أن تطّلعي على هاتين الدراستين".
تحيّاتي
المخلص لكِ فرويد
والآن إلى رسالة إضافيّة لفرويد موجّهة إلى المؤرّخ البريطانيّ تشارلز سنجر (1876-1960) المتخصّص في التأريخ للعلوم والطبّ، ومن مؤلفاته "من السحر إلى العلم".
في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1938 كتب فرويد هذه الرسالة إلى سنجر:
"سيّدي الموقّر
إنّ الدافع إلى المراسلة بيننا لا يخلو من إشكال. فكتابي الصغير هو الآن قيد الطباعة وسيصدر في الربيع القادم تحت عنوان "موسى والتوحيد". وهو يحتوي على بحثٍ مبنيّ على أساس فرضيّات تحليليّة نفسيّة في ما يخصّ أصل الأديان، وبصفة خاصة الديانة التوحيديّة اليهوديّة، وهو بمثابة تتمّة وتطوير لنصٍّ آخر كنتُ نشرتُه قبل خمسة وعشرين عامًا تحت عنوان "الطوطم والتابو". فالمرء إذا شاخ لا يعود يهتدي إلى أفكار جديدة، فلا يبقى أمامه سوى أن يكرّر نفسه.
لا يمكن القول عن الكتاب المشار إليه إنّه يهاجم الدين إلاّ بقدر ما أنّ التمحيص العلميّ لأيّ ضرب من ضروب الإيمان الدينيّ يفترض مسبقًا عدم الإيمان. ولست أخفي، سواء في حياتي الخاصة أو في كتاباتي، واقع أنّني غير مؤمن جوهرًا وأساسًا. ومن ينظر إلى كتابي من وجهة النظر هذه لن يكون أمامه – والحق يقال – مناص من التسليم بأنّ اليهود حصرًا، وليس المسيحيين، هم مَنْ يحقّ لهم أن يشعروا بأنّهم متأذّون مما خلص إليه كتابي من استنتاجات. ذلك أنّي لا أستهدف المسيحيّة إلاّ بعدد ضئيل من الملاحظات الفرعيّة التي لا تنطوي على شيء لم يسبق قوله منذ زمن بعيد. ولكن في وسع المرء، على كل حال، أن يستشهد بالقول الشائع القديم: اعتُقلا معًا، شُنقا معًا.
وبديهيّ أيضًا أنّي لا أحرص على إهانة من ينتمي من الناس إلى جنسي، ولكن هل باليد حيلة؟ لقد أمضيتُ حياتي المديدة كلّها وأنا أدافع عمّا كنتُ أعتبره الحقيقة العلميّة، حتى عندما يكون في الأمر مبعث على الحرج والكراهية بالنسبة إلى بني جلدتي. ولست بقادرٍ على أن أختمها بفعل تنكّر وجحد. ورسالتك إليّ تنطوي على ملاحظة تشهد على تفوّق فكرك: ألا وهي توكيدك على أنّ كلّ ما سأكتبه سيثير ضروبًا من سوء الفهم. وهل لي أن أضيف: ومن الاستنكار؟ والواقع أنّ ما نلام عليه نحن اليهود هو أنّنا صرنا على مرّ العصور جبناء (بعدما كنّا أمّة مقدامة). ولستُ أنا بشريك في هذا التراجع. ومن ثمّ لا مناص لي من أن أركب مركب المجازفة".
المخلص لك وبكل احترام
فرويد
وهذه رسالة فرويد إلى يسرائيل كوهين (1879-1961)، الصحافي والزعيم الصهيونيّ الإنكليزيّ- البولنديّ الأصل، الذي كان وجّه إلى فرويد نداءً كأمين عام لـ"المنظمة الصهيونية العالمية" يطلب إليه فيه "الدعم والمؤازرة". ولم يُعثر على النصّ الألمانيّ الأصليّ لرسالة فرويد الجوابيّة إلا عام 1987، علمًا بأنّها كانت نُشرت بالإنكليزية للمرة الأولى في مجلة "الرقيب اليهوديّ والشرق الأوسط" في عدد 4 حزيران/ يونيو 1945. وكان ردّ فرويد على كوهين كالآتي:
"سيدي المحترم،
علاوةً على شكري لترحابك بوصولي إلى إنكلترا أضيف هذا الرجاء: أرجوك ألا تعاملني كـ"زعيم في إسرائيل" وأحبّذ ألا يُنظر إليّ إلا بكوني عالِمًا متواضعًا، وألا أوصف بغير ذلك. ومع أنّي يهوديّ صالح لم ينكر قطّ يهوديته، لا يسعني مع ذلك ألا أدرك أنّ موقفي السلبيّ حيال كلّ دين، بما فيه الدين اليهوديّ، يبعدني عن غالبية صحابتي ويجعلني غير صالح للدور الذي تودّ ترشيحي له".
المخلص لكَ
فرويد
بِمَ نخلص من قراءة هذه الرسائل لرائد علم النفس مفصحًا عن رؤياه الفذّة حول مستقبل المشروع الصهيوني في فلسطين؟
1- لنا في رسالة فرويد إلى آينشتاين الخلاصات الأبرز:
2- في رسالة فرويد إلى حاييم كوفلر تسطع هذه الحقائق:
3- من رسالة فرويد إلى الكاتبة ن. ن نخرج بالأفكار الآتية:
4- خلاصات مهمة جدًا تطالعنا في رسالة فرويد إلى المؤرّخ العلمي البريطاني تشارلز سنجر، أبرزها:
5- أمّا ردًّا على رسالة الصهيوني يسرائيل كوهين فكانت رسالة فرويد الجوابيّة حاسمة:
ألا بورك الفكر النيّر، العادل، الموضوعيّ، العقلانيّ، العلميّ، الإنسانيّ (رفضه إلحاق الظلم بشعب آخر واستيطان أرضه). هذا الفكر العميق، الرؤيويّ، المنفتح، هو ما تحتاج إليه البشريّة للتطوّر والترقّي والسلام بين الدول والشعوب والأعراق والأديان والقوميّات. وهذا كلّه تفتقده الحركة الصهيونية المجرمة التي فرضت بالقوّة والمجازر الوحشيّة المستمرّة أمرًا واقعًا لتثبيت كيانها المسخ المدعو "إسرائيل".
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
هامش:
رسائل فرويد من كتابه "مستقبلُ وهم" في ترجمة قيّمة للراحل الكبير جورج طرابيشي صدرت في طبعة جديدة عام 2015 لدى دار مدارك للنشر.
جورج كعدي 26 مايو 2022
تغطيات
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى شيرين أبو عاقلة ومحمّد الدرّة
وقافلة شهداء فلسطين منذ 74 عامًا
إنه الأوان الأكثر ملاءمةً وضرورةً لاستعادة ما قاله رائد علم النفس وأحد الأدمغة الكبيرة التي أنجبتها البشريّة ومن أكثرها شهرةً وتأثيرًا، صاحب الفكر الحرّ سيغموند فرويد، حول المشروع الصهيونيّ الاستيطانيّ في فلسطين، بالوثائق والرسائل والمراجع المثبتة، المعروفة والمعلنة، والتي ينبغي إعادة التذكير بها على الدوام، وخاصة في لحظات تنامي الوحشيّة الإسرائيليّة وتصاعد المقاومة ضدّها في شتى أنحاء فلسطين المحتلّة.
في 26 شباط/ فبراير 1930، وجّه سيغموند فرويد إلى ألبرت آينشتاين الرسالة الآتية: "لست أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولةً يهوديةً، وأنّ العالم المسيحي أو المسلم سيقبل ذات يوم بأن يدع الأماكن المقدّسة في أيدي اليهود. وكنت لأحسنَ الفهم أكثر لو تمّ تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ. ولستُ بقادر على أن أجد في نفسي ظلًّا من التعاطف مع ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قوميّة على حائط هيرودوس، والذي لا يتوجّس، حبًّا منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين".
وفي 26 حزيران/ يونيو 1930 كتب فرويد رسالة إلى الطبيب النمساوي الصهيونيّ حاييم كوفلر ردًّا على طلب وجّهه هذا الأخير إليه وإلى العديد من الشخصيات الأوروبية البارزة، لتوقيع عريضة احتجاج ضدّ عرب القدس لما يقومون به من "أعمال شغب وعنف"! لمنع اليهود من الوصول إلى "حائط المبكى" الذي يشكّل قسمًا من المسجد الأقصى. وقد بقيت رسالة فرويد الجوابيّة سرًّا مكتومًا لأكثر من سبعين عامًا، بعدما كان المُرسَل إليه، الدكتور كوفلر، قد سلّمها إلى ناشط صهيونيّ يمينيّ متطرّف يهوى جمع تواقيع في القدس اسمه أبراهام شوادرون، على أن يتعهّد هذا الأخير بـ"ألاّ يُتاح لأي عين بشرية أن تقع عليها"، والمقصود بالطبع رسالة فرويد الجوابية إلى كوفلر. ووفى جامع التواقيع بتعهّده، ولم يُكشف النقاب عن الرسالة إلاّ بعد مرور خمسة وسبعين عامًا، حين نشرتها مجلة "سيينّا" الإيطالية تزامنًا مع صدور كتاب "أرض الميعاد" لمؤلّفه ميشيل رانشيتي، المعنيّ بتاريخ الكنيسة والتحليل النفسيّ معًا. وأخذت الرسالة طريقها إلى الرأي العام الإيطاليّ، ثم الأوروبيّ والعالميّ، بعدما أعاد الصحافيّ باولو دي ستيفانو نشرها في الصحيفة اليومية الإيطالية المشهورة "إيل كورييره ديللا سيرا".
"كتب فرويد لآينشتاين: كنت لأحسنَ الفهم أكثر لو تمّ تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ. ولستُ بقادر على أن أجد في نفسي ظلًّا من التعاطف مع ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قوميّة على حائط هيرودوس" |
وهنا نصّ رسالة فرويد:
"عزيزي الدكتور،
لستُ بمستطيع أن أفعل ما تتمنّاه.
إنني أشعر بنفسي عاجزًا عن التغلّب على نفوري من إثارة اهتمام الجمهور بشخصي، ولا يبدو لي أنّ من شأن الظروف الحرجة الحالية أن تحملني على فعل ذلك. فمن يشأ أن يؤثّر في الجمهور الكبير يتوجّب عليه أن يقدّم إليه شيئًا مدويًّا ومثيرًا للحماسة. في حين أن حكمي على الصهيونيّة لا يسمح لي بشيء من ذلك، ومن المؤكد أنّي أتعاطف مع كل جهد يبذله المرء بملء حريته، وأنا فخور بجامعة القدس (المقصود جامعة القدس العبريّة) وبازدهار المؤسسات التي ينشئها المستوطنون. لكنّي، من جهة أخرى، لا أعتقد البتّة أنّ من الممكن أن تصير فلسطين دولة يهودية، ولا أنّ العالمين المسيحيّ والإسلاميّ مستعدّان لأن توضع أماكنهما المقدّسة تحت إشراف يهوديّ. وكان يبدو لي أنّ من الحصافة أكثر لو أُقيم وطن يهوديّ على أرض لا ترزح تحت مثل ذلك الثقل التاريخيّ. لكنّي أعترف بأنّ وجهة نظر عقلانيّة كهذه ما كان لها حظّ كبير في أن تحظى بحماسة الجموع، وبالدعم الماليّ من الأثرياء.
إنّي أسلّم بحزن بأنّ التعصّب اللامبرّر من جانب مواطنينا قمين بتحميله جزئيًا ملامة إيقاظ ريبة العرب. ولا يسعني أن أكنّ تعاطفًا مع ضرب من التديّن أساء اختيار وجهته ومن شأنه أن يحوّل جزءًا من حائط هيرودوس إلى مَعْلَمٍ قوميّ، ولو على حساب جرح مشاعر السكّان الأصليين.
فلتحكم بنفسك الآن ما إذا كنتُ أنا الشخص المؤهل، بوجهة النظر النقديّة التي أعلنُها، لتقديم المؤازرة لشعب أسلم زمام أمره لوهم أمل ليس له ما يبرّره".
خادمك المجلّ
سيغموند فرويد
من مراسلات فرويد وآينشتاين (www.Preining. info) |
ورد في رسالة فرويد هذه:
"سيّدتي العزيزة
يتعيّن عليّ أن أضيف بضع كلمات إلى شكري لكِ على إرسالكِ كتابك الثمين إليّ، وليس فقط لأنّ التحليل النفسي يحظى بتقديرك، أو لأنّكِ توردين اسمي في عدّة مواضع بطريقة مستحبّة، بل على الأخصّ لأنّ كتابكِ يتضمّن أمورًا كثيرة لا يجد القارئ اليهوديّ أمامه مناصًا من أن يقرّ بأهميّتها وصحّتها.
لقد شرعتُ منذ بضع سنوات في التساؤل حول كيفيّة اكتساب اليهود الطابع الخاص الذي أمسى طابعهم. وعلى مألوفي، عدتُ إلى الأصول الأولى المبكرة. ولم أجد في نفسي حاجة إلى أن أطيل النظر. فقد فاجأني اكتشافي أنّ التجربة الأولى، التجربة الجنينيّة إن جاز التعبير، لذاك الشعب، أي تأثير الرجل موسى والنزوح عن مصر، قد حدّدت تطوّره اللاحق بتمامه إلى يومنا هذا – شأنها شأن الرضّة (Trauma) الفعليّة العائدة إلى الطفولة الأولى في تاريخ الفرد العُصابيّ (Nevrotic). فهناك بادئ ذي بدء، التصوّر الزمنيّ للحياة، ومعه تجاوز الفكر الاستيهاميّ ورفض الروحانيّات، وهما قَسَمتان تعودان ولا بدّ إلى موسى نفسه، وربما إلى ما قبله أيضًا، ولكن من دون أن يتوافر لنا في هذا الصدد يقين مرجوّ. وقد نشرت مجلة "إيماغو" دراستين هذه السنة تنطويان على جزء على الأقلّ من النتائج التي توصّلتُ إليها، بينما توجّب عليّ أن أحتفظ لنفسي بالأجزاء الأخرى. وسوف يسعدني أن تطّلعي على هاتين الدراستين".
تحيّاتي
المخلص لكِ فرويد
"كتب فرويد لتشارلز سنجر: "لا أحرص على إهانة من ينتمي من الناس إلى جنسي، ولكن هل باليد حيلة؟ لقد أمضيتُ حياتي المديدة كلّها وأنا أدافع عمّا كنتُ أعتبره الحقيقة العلميّة، حتى عندما يكون في الأمر مبعث على الحرج والكراهية بالنسبة إلى بني جلدتي"" |
في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1938 كتب فرويد هذه الرسالة إلى سنجر:
"سيّدي الموقّر
إنّ الدافع إلى المراسلة بيننا لا يخلو من إشكال. فكتابي الصغير هو الآن قيد الطباعة وسيصدر في الربيع القادم تحت عنوان "موسى والتوحيد". وهو يحتوي على بحثٍ مبنيّ على أساس فرضيّات تحليليّة نفسيّة في ما يخصّ أصل الأديان، وبصفة خاصة الديانة التوحيديّة اليهوديّة، وهو بمثابة تتمّة وتطوير لنصٍّ آخر كنتُ نشرتُه قبل خمسة وعشرين عامًا تحت عنوان "الطوطم والتابو". فالمرء إذا شاخ لا يعود يهتدي إلى أفكار جديدة، فلا يبقى أمامه سوى أن يكرّر نفسه.
لا يمكن القول عن الكتاب المشار إليه إنّه يهاجم الدين إلاّ بقدر ما أنّ التمحيص العلميّ لأيّ ضرب من ضروب الإيمان الدينيّ يفترض مسبقًا عدم الإيمان. ولست أخفي، سواء في حياتي الخاصة أو في كتاباتي، واقع أنّني غير مؤمن جوهرًا وأساسًا. ومن ينظر إلى كتابي من وجهة النظر هذه لن يكون أمامه – والحق يقال – مناص من التسليم بأنّ اليهود حصرًا، وليس المسيحيين، هم مَنْ يحقّ لهم أن يشعروا بأنّهم متأذّون مما خلص إليه كتابي من استنتاجات. ذلك أنّي لا أستهدف المسيحيّة إلاّ بعدد ضئيل من الملاحظات الفرعيّة التي لا تنطوي على شيء لم يسبق قوله منذ زمن بعيد. ولكن في وسع المرء، على كل حال، أن يستشهد بالقول الشائع القديم: اعتُقلا معًا، شُنقا معًا.
وبديهيّ أيضًا أنّي لا أحرص على إهانة من ينتمي من الناس إلى جنسي، ولكن هل باليد حيلة؟ لقد أمضيتُ حياتي المديدة كلّها وأنا أدافع عمّا كنتُ أعتبره الحقيقة العلميّة، حتى عندما يكون في الأمر مبعث على الحرج والكراهية بالنسبة إلى بني جلدتي. ولست بقادرٍ على أن أختمها بفعل تنكّر وجحد. ورسالتك إليّ تنطوي على ملاحظة تشهد على تفوّق فكرك: ألا وهي توكيدك على أنّ كلّ ما سأكتبه سيثير ضروبًا من سوء الفهم. وهل لي أن أضيف: ومن الاستنكار؟ والواقع أنّ ما نلام عليه نحن اليهود هو أنّنا صرنا على مرّ العصور جبناء (بعدما كنّا أمّة مقدامة). ولستُ أنا بشريك في هذا التراجع. ومن ثمّ لا مناص لي من أن أركب مركب المجازفة".
المخلص لك وبكل احترام
فرويد
وهذه رسالة فرويد إلى يسرائيل كوهين (1879-1961)، الصحافي والزعيم الصهيونيّ الإنكليزيّ- البولنديّ الأصل، الذي كان وجّه إلى فرويد نداءً كأمين عام لـ"المنظمة الصهيونية العالمية" يطلب إليه فيه "الدعم والمؤازرة". ولم يُعثر على النصّ الألمانيّ الأصليّ لرسالة فرويد الجوابيّة إلا عام 1987، علمًا بأنّها كانت نُشرت بالإنكليزية للمرة الأولى في مجلة "الرقيب اليهوديّ والشرق الأوسط" في عدد 4 حزيران/ يونيو 1945. وكان ردّ فرويد على كوهين كالآتي:
"سيدي المحترم،
علاوةً على شكري لترحابك بوصولي إلى إنكلترا أضيف هذا الرجاء: أرجوك ألا تعاملني كـ"زعيم في إسرائيل" وأحبّذ ألا يُنظر إليّ إلا بكوني عالِمًا متواضعًا، وألا أوصف بغير ذلك. ومع أنّي يهوديّ صالح لم ينكر قطّ يهوديته، لا يسعني مع ذلك ألا أدرك أنّ موقفي السلبيّ حيال كلّ دين، بما فيه الدين اليهوديّ، يبعدني عن غالبية صحابتي ويجعلني غير صالح للدور الذي تودّ ترشيحي له".
المخلص لكَ
فرويد
بِمَ نخلص من قراءة هذه الرسائل لرائد علم النفس مفصحًا عن رؤياه الفذّة حول مستقبل المشروع الصهيوني في فلسطين؟
1- لنا في رسالة فرويد إلى آينشتاين الخلاصات الأبرز:
- فلسطين لن تصبح يومًا دولةً يهوديّة.
- المسيحيّون والمسلمون لن يسلّموا مقدّساتهم لليهود.
- كان عل الصهاينة البحث عن أرض بلا سكان وبلا تاريخ لإقامة دولتهم المزعومة.
- اليهود الصهاينة ضلّوا الطريق إلى "دولة قوميّة" تستند إلى بضعة أحجار (حائط القائد الروماني هيرودوس الذي يطلق عليه الصهاينة في فلسطين المحتلة اسم "حائط المبكى").
- وجود الصهاينة على أرض فلسطين المحتلّة يصدم مشاعر السكان الأصليين، وهذه شهادة تاريخيّة مفحمة لفرويد تناقض مقولة "أرضٌ بلا شعب لشعب بلا أرض"!
"بالنسبة إلى فرويد، حائط هيرودوس (أو "حائط المبكى") ليس مَعْلَمًا قوميًّا ولا يُعتدُّ به ولا يَمنح مجموعة مستعمرة ومحتلّة ذرّةً من حقّ" |
- لم تقدّم الصهيونيّة - في رؤية فرويد الثاقبة – شيئًا مدوّيًا (أي حقائق مدوّية) ومثيرًا للحماسة (أي اليقين بأنّ لليهود حقوقًا تاريخيّة في فلسطين تدفع الصهاينة إلى التضحية في سبيل "قضيتهم" التي يتبدّى بوضوح أنّها زائفة ومفتعلة ومرتكزة على الخرافات والأوهام التاريخية).
- إن نظرية فرويد العقلانية لا حظّ لها في أن يقبلها الصهاينة وداعموها الأثرياء.
- التعصّب اليهودي يستفزّ العرب ويثير ريبتهم ويجرح مشاعر الفلسطينيين أصحاب الدولة والأرض والحقّ.
- حائط هيرودوس (أو "حائط المبكى") ليس مَعْلَمًا قوميًّا بالنسبة إلى فرويد ولا يُعتدُّ به، ولا يَمنح مجموعة مستعمرة ومحتلّة ذرّةً من حقّ.
- أسلم بعض الشعب اليهودي زمام أموره لوهم ليس له ما يبرّره.
3- من رسالة فرويد إلى الكاتبة ن. ن نخرج بالأفكار الآتية:
- إن الشعب اليهودي منذ زمن موسى (المصريّ بحسب فرويد في بحثه القيّم والصادم لبني ديانته) يعاني في التحليل النفسي رضّة (Trauma) أفضت به إلى أن يمسي شعبًا عصابيًّا (Neurotic) مصابًا بحالة عُصاب نفسي مستمرّة تاريخيّة حتى غدت سمة من سماته وسببًا لقسوته ووحشيّته وتوتّره الدائم ومنبعًا لعدوانيّته المريضة والوحشيّة.
مراسلات فرويد عن مشروع الصهاينة بفلسطين (www.loc.gov) |
4- خلاصات مهمة جدًا تطالعنا في رسالة فرويد إلى المؤرّخ العلمي البريطاني تشارلز سنجر، أبرزها:
- إعلان فرويد الصريح بأنّه ملحد وبأنّه ليس مؤمنًا بأيّ دين، بما في ذلك الدين الذي اكتسبه بالولادة والنشأة، أي الدين اليهوديّ، وبأنّه يضعه على مشرحته الفكرية والنفسية والعلميّة والتاريخيّة مثله مثل أيّ من الأديان الأخرى، بل أكثر من باقي الأديان بحسب تصريحه، ما جرّ عليه نقمة اليهود، والصهاينة منهم تحديدًا، وأَنْزَلَ به غضبًا بلغ حدّ نَعْته بـ"كاره نفسه" وإلى حدّ ما باللاساميّ، لذا هو غير مرحّب به في المزعومة "إسرائيل" لا فكرًا ولا ذِكرًا ولا تدريسًا.
- يقول على نحو صادم إنّ اليهود أضحوا على مرّ العصور جبناء "بعدما كانوا أمّة مقدامة"، بحسب تعبيره، وإنّه لا يريد أن يكون شريكًا في هذا التراجع، مؤثْرًا أن يركب مركب المجازفة، أيضًا وفق تعبيره.
"في رسالته إلى يسرائيل كوهين، يقول فرويد: "أرجوك ألا تعاملني كـ"زعيم في إسرائيل" وأحبّذ ألاّ يُنظر إليّ إلا بكوني عالِمًا متواضعًا، وألا أوصف بغير ذلك" |
- رفضه أن يُعامل كـ"زعيم في إسرائيل" إذْ لم يؤمن يومًا بمشروع هذه الدولة أصلًا، رغم أنّه - والتعبير له – لم ينكر قطّ يهوديته، مؤكدًا لكوهين الذي طلب إلى فرويد "الدعم والمؤازرة" أنّه غير صالح للدور الذي شاءت الحركة الصهيونية، بفروعها وأذرعها الأوروبيّة كافّة، أن توليه إيّاه، طمعًا بعبقريته وشهرته وعلمه، وخاصة بدينه الأصلي الذي لم يكن يعني له شيئًا على الإطلاق، سوى من ناحية الانتماء الثقافيّ، ومن ناحية أن الكائن لا يسعه تبديل جلده تبديلًا كاملًا.
ألا بورك الفكر النيّر، العادل، الموضوعيّ، العقلانيّ، العلميّ، الإنسانيّ (رفضه إلحاق الظلم بشعب آخر واستيطان أرضه). هذا الفكر العميق، الرؤيويّ، المنفتح، هو ما تحتاج إليه البشريّة للتطوّر والترقّي والسلام بين الدول والشعوب والأعراق والأديان والقوميّات. وهذا كلّه تفتقده الحركة الصهيونية المجرمة التي فرضت بالقوّة والمجازر الوحشيّة المستمرّة أمرًا واقعًا لتثبيت كيانها المسخ المدعو "إسرائيل".
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
هامش:
رسائل فرويد من كتابه "مستقبلُ وهم" في ترجمة قيّمة للراحل الكبير جورج طرابيشي صدرت في طبعة جديدة عام 2015 لدى دار مدارك للنشر.