دوستويفسكي والإشكاليّة السلافيّةـ اليهوديّة.. في أصول الـ"غوييميّة"(2/2)
جورج كعدي 17 سبتمبر 2022
تغطيات
تمثال دوستويفسكي في مدينة توبلسك الروسية (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى الزميل الصديق صقر أبو فخر لعلّه يعثر هنا على جوابٍ عن سؤالٍ جوهريّ يطرحه.
نتابع قراءة مقالة الأديب والمفكّر الروسيّ، فيودر دوستويفسكي، التي منحها عنوان "المسألة اليهودية"، وترجمها عن الروسيّة مباشرة الأستاذ حسن سامي اليوسف (الجزء الأوّل من هذه القراءة نُشر في "ضفّة ثالثة" في 7 سبتمبر الجاري) ، وكان هدف دوستويفسكي يوم نشرها في عدد مارس/ آذار عام 1877 في مجلّته "يوميّات كاتب" معالجة الإشكاليّة السلافيّة ـ اليهوديّة، في جانبيها العام والخاص، من جهة، وردّ التهمة الباطلة والمتهافتة التي وُجِّهتْ إليه من بعض يهود روسيا بأنّه "كاره لليهود"!، الأمر الذي ينفيه على نحو حاسم جملةً وتفصيلًا، مفنّدًا بموضوعيّة وعمق دوافع هذا النفي، والأسباب التي دعته إلى مناقشة المسألة، في خمس عشرة صفحة فحسب.
يؤكد دوستويفسكي من موقع العارف والمراقب والأكثر فهمًا لواقع شعبه وأخلاقيّاته وجوهره الطيّب والمتسامح أنّ "ليس لدى الشعب الروسيّ البسيط أيّ كراهية مسبقة لليهود. لا يوجد مثل هذه الكراهية القَبْليّة، أو الطوباويّة، أو حتى الدينية. وما من كراهية من قبيل "يهوذا، كما يقال، باع المسيح". ومع أنّك قد تسمع هذا من طفل، أو من رجل ثمل، فإنّني أشير هنا إلى أنّ الشعب الروسيّ بأجمعه ينظر إلى اليهود ـ وأكرّر ذلك ـ من دون أيّ كراهية مسبقة. رأيت هذا طوال خمسين عامًا. أنا عشت بين الناس، بين جماهير الشعب البسيط، عاينت ذلك في معسكرات الجيش، حيث كان بيننا عدد من اليهود، ولم يحتقرهم أحد، ولم يطردهم أحد. حتّى عندما كانوا يصلّون ـ واليهوديّ يصلّي بصراخ مرتديًا مسوحًا خاصة به ـ حتى في هذه الحال، فإنّ لا أحد من الروس كان يرى الأمر غريبًا، ولا أزعجه بشيء، ولا سخر منه. ماذا كنتم تنتظرون من "شعب جلف"، بحسب مفهومكم للشعب الروسيّ؟ كان الروس ينظرون إلى اليهود ويقولون: "هكذا هي ديانتهم، وهكذا هم يصلّون"، ثم يتابعون طريقهم بهدوء وباستحسان تقريبًا لصلاة الآخرين. ثم ماذا؟ اليهود أنفسهم كانوا يبتعدون عمدًا عن الروس.. يرفضون مشاركتهم الطعام.. ينظرون إليهم من علٍ.. وأين يحدث ذلك؟ حتّى في المعتقل. وكانوا يُظهرون عامةً اشمئزازًا وتقزّزًا حيال الروس، أي حيال سكان البلد الأصليين. الأمر نفسه في كلّ ناحية من روسيا. انظروا بأنفسكم واسألوا: هل كان الروس يُغضبون اليهود في المعسكرات كيهود؟ كـ"مرابين جشعين"؟ هل كانوا يغضبونهم بسبب معتقداتهم؟ أو بسبب عاداتهم وتقاليدهم؟ على الإطلاق، لا أحد كان يُغضب اليهود لذلك. وليس في الجيش فحسب، بل بين الشعب عامةً.
العكس هو الصحيح، يرى الإنسان الروسي البسيط ويدرك ـ حتى اليهود أنفسهم لا يخفون ذلك ـ أنّ اليهوديّ يرفض مشاركته الطعام، ويتقزّز منه، ويبتعد عنه قدر المستطاع. ومع ذلك، بدلًا من أن يغضب الروسيّ منه يقول بهدوء ووضوح: "هكذا هي ديانة اليهوديّ، وهو إنّما بسبب معتقداته يسلك هذا السلوك، وليس بسبب شرّ ما". والروسيّ الذي يدرك ذلك يسامح اليهوديّ من صميم قلبه. تراودني أحيانًا هذه الفكرة المتخيّلة: ماذا لو لم يكن عدد اليهود في روسيا ثلاثة ملايين؟ ماذا لو كان العكس هو الصحيح، بحيث يكون عدد اليهود ثمانين مليونًا، بينما عدد الروس ثلاثة ملايين؟ ماذا كان ليفعل اليهود بالروس؟ هل كانوا أعطوهم الحقوق نفسها التي يتمتّعون بها؟ هل كانوا ليسمحوا لهم بالصلاة ـ بحريّة ـ بينهم؟ أما كانوا حوّلوهم إلى عبيد؟ وأسوأ من ذلك كلّه، أما كانوا سلخوا جلودهم أجمعين؟ أما كانوا ضربوهم حتى الإبادة مثلما فعلوا مع الشعوب الغريبة عنهم في تاريخهم القديم؟ لا.. أؤكد لكم أن لا كراهية مسبقة لدى الشعب الروسيّ تجاه اليهود، ولكن قد يكون هنالك عدم ارتياح لهم، وقد يكون عدم الارتياح هذا قويًّا جدًا.. لا يمكن نفي وجود ذلك، إنّه موجود، بلى موجود، إنّما ليس متأتيًا من أنّ اليهوديّ هو يهوديّ، وليس بدافع مسبق، ولا لسبب دينيّ، بل إنّ مبعث ذلك أسباب مختلفة تمامًا، وهذه الأسباب ليس الشعب الروسيّ مسؤولًا عنها، ولا سكان البلاد الأصليّون.. بل اليهود أنفسهم..".
خلاصة ثالثة
(الخلاصتان الأولى والثانية في الجزء الأول من المقال)
ـ يُبرز دوستويفسكي حقيقةً لا يرقى إليها أدنى شك مفادها أنّ الشعب الروسي لم يتعامل على مرّ التاريخ بكُرْهٍ مسبق، أو احتقار، للفرد، أو المجتمع اليهوديين في روسيا، ولطالما أظهر له احترامًا لمعتقداته وطقوسه الدينيّة.
ـ يثبت دوستويفسكي من اختباره ومعاينته الشخصيين أنّ العكس هو الصحيح، فاليهوديّ الموجود كأقليّة في روسيا هو مَنْ يتعامل بفوقيّة مع سكان البلاد وأصحابها الأصليين، أي الشعب الروسيّ السلافيّ، ويبتعد عنه ولا يقاسمه شيئًا حتى الجلوس إلى الطعام في المعتقل! وبالتالي يُطرح السؤال المشروع: مَنْ الأكثر طيبةً وتواضعًا وقبولًا للآخر وتسامحًا: اليهوديّ أم الروسيّ؟
ـ الخلاصة الأبلغ من هذا المقطع من مقالة دوستويفسكي: ألا ينطبق تعامل اليهود الفوقيّ مع غير اليهوديّ على ما يحصل اليوم في فلسطين، ومنذ 1948 وما قبل، مع أصحاب الأرض الأصليين، أي الشعب الفلسطينيّ، من معاملة فوقيّة، متعالية، احتقاريّة "غوييميّة"، وحشيّة، قاتلة، مُنكِّلة، مستبيحة للأرض والأرزاق والأعراض والكرامات، قاهرة، مذلّة للأطفال والشيوخ والنساء، منتهكة للمقدّسات، غير متسامحة مع معتقدات الآخرين، مسلمين ومسيحيين؟ عقدة الفوقيّة وخرافة "شعب الله المختار" تتجلّيان في أقبح تمظهراتهما اليوم على أرض فلسطين.
يتابع دوستويفسكي كاتبًا: "الكراهية المبنيّة على معتقدات خرافيّة.. إنّه الاتهام اليهوديّ للسكان الأصليين. وطالما أن كلامكم يدور حول المعتقدات الخرافيّة فكيف أنتم تفكّرون؟ هل يتغذّى اليهوديّ بالخرافات أقلّ من الروس؟ لقد وضعتُ أمامكم أمثلة عن النظرة التي يحملها الروسيّ البسيط لليهود، أمّا الآن فأمامي رسائل عديدة، ليست من بسطاء اليهود، بل من المتعلّمين بينهم، وكم تحمل هذه الرسائل من كراهية لسكان البلاد الأصليين!! وأسوأ ما في الأمر أنّ اليهود أنفسهم لا يُدركون ذلك. لاحظوا معي أنّه من أجل البقاء أربعين قرنًا في الوجود ـ أي على مدار التاريخ البشريّ بأكمله تقريبًا ـ وفي وحدةٍ متماسكة غير منفصمة كهذه، تضيع أرضك وحريتك السياسية مرّات عديدة، وتضيع قوانينك، وإلى حدّ ما معتقداتك، ثمّ تعود وتتوحّد وتنبعث من الفكرة السابقة ذاتها، وحتى وإن في شكل آخر، وتضع لنفسك مجدّدًا القوانين والمعتقدات.. إنّ شعبًا كهذا، غير عاديّ، قويّ، حيويّ، لا نظير له في العالم، لا يستطيع البتّة أن يعيش من دون (*)Status in statu. ولدى الحديث عنStatus in statu لا أسعى إلى أيّ إدانة، أو اتهام للآخرين. ولكن فيمَ يكمن جوهر هذا الـ Status in statu؟ وما هي فكرته السرمديّة غير المتبدّلة؟ من الصعب الكلام تفصيليًّا على هذه النقطة في مقالة قصيرة كهذه، بل ومن الصعب عامةً تناولها، لسبب آخر هو أنّ جميع الأزمان والمواقيت لم تحن، بغضّ النظر عن القرون الأربعين المنصرمة، فالكلمة النهائيّة للبشريّة عن هذه القبيلة لم يحن أوان قولها. أمّا الآن فإن كنّا عاجزين عن الغوص في جوهر هذه المادة وعمقها، نستطيع، على الأقلّ، تحديد بعض ملامح هذا الـStatus in statu. أقول، على الأقلّ، بعض ملامحه الخارجيّة، وهي: عدم التبدّل، أو التحوّل، على مستوى المعتقد الدينيّ، عدم الامتزاج بالآخرين، الثقة العمياء بأنّ ليس على الأرض سوى شخصية واحدة هي الشخصية اليهودية، أمّا الآخرون، ورغم أنهم موجودون، إلاّ أنّه يجب عدم أخذهم في الحسبان: "اخرج من الشعوب واحتفظ بشخصيتك المتفرّدة، واعلم أنّك الوحيد عند الربّ، إسحق الآخرين، أو حوّلهم إلى عبيد أو استغلّهم كما تشاء، ثق بأنّ جميع الشعوب سوف تخضع لك، أَعرضْ عن الجميع باشمئزاز، ولا تختلط بأحد، وحتّى عندما تُطرد من الأرض وتفقد شخصيتك السياسيّة، حتّى عندما تتشرّد في مختلف أنحاء المعمورة وبين مختلف الشعوب ـ سيّان ـ ثق بما وُعدتَ به مرّة وإلى الأبد، ثق بأنّ كل شيء سيصطلح، وحتّى يتحقّق الوعد، عِشْ، أَعرِض عن الآخرين، توحّد واستغلّ و.. انتظر، انتظر". هذا هو جوهر فكرة Status in statu، وعدا ذلك ثمة قوانين أخرى باطنيّة محيطة بهذه الفكرة الجوهريّة. أنتم أيّها السادة المتعلّمون اليهود تقولون: "هذا كلّه خَطَلٌ وسَخَفٌ، وإذ وُجد هذا الـ Status in statu " ـ بالأحرى كان موجودًا ولم يبقَ منه سوى آثار واهمة ـ فإنّ السبب الذي قاد إليه إنّما هو الاضطهاد. إنّ الاضطهاد الدينيّ المتراكم منذ العصور الوسيطة، وحتّى منذ ما قبل هذا التاريخ، هو الذي صنع Status in statu، لمساعدتنا في الحفاظ على هويتنا، وإذا كان Status in statu ما انفكّ موجودًا، وبخاصةٍ بين يهود روسيا، فالسبب أنّ اليهوديّ لم ينل إلى الآن الحقوق التي يتمتّع بها سكان البلاد الأصليون..". وإليكم ما أراه أنا: حتّى لو نال اليهوديّ كامل الحقوق التي يطالب بها، فإنّه لن يتنازل في أيّ حال من الأحوال عن Status in statu، فلو ذيّلنا Status in statu بتوقيع الاضطهاد والحفاظ على الذات فحسب لكنّا مخطئين. هذا وحده غير كافٍ، إذ لكان اليهود افتقروا في هذه الحال إلى المثابرة والمواظبة على حفظ الذات، فحتّى أقوى الحضارات في تاريخ البشريّة لم تستطع أن تحافظ على نفسها نصف هذه القرون الأربعين، وإلاّ قد تفقد سريعًا قوّتها السياسيّة وهيئتها القَبَليّة. إذًا، ليس الحفاظ على الذات هو السبب الأوّل، بل ثمة فكرة ثانية، فكرة مندفعة ومتحرّكة، فكرة عميقة ذات طابع عالميّ، فكرة لن تستطيع البشريّة الآن أن تقول بشأنها الكلمة الأخيرة، كما سبق أن كتبت أعلاه. إنّ الهويّة الدينيّة تحتلّ ـ من دون شكّ ـ موقع الصدارة في المسألة. إنّ الإله اليهوديّ، والذي كان يسمّى في البدء "يهوه" هو الذي ما زال يقود شعبه بمُثُلِهِ الخاصة وَوَعْدِهِ الخاصّ.. إنّه يقود اليهود إلى هدفٍ قاسٍ جدًا. هذا واضح تمامًا. خطأ قاتل، أعود وأكرّر، أن نتصوّر اليهوديّ من دون إله، وأقلّ ما يسعني قوله هنا هو أنني لا أثق البتّة بأولئك اليهود المتعلّمين الذن يتظاهرون بالإلحاد: إنّهم من العجينة الجاهلة ذاتها، والله وحده يعلم كم ستعاني البشريّة من هؤلاء اليهود المتعلّمين.. قرأتُ وسمعتُ في طفولتي أسطورةً يهوديّة تقول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا ينتظرون ـ بثبات ـ المخلّص. جميع اليهود بلا استثناء، من أكثرهم فقرًا إلى أكثرهم علمًا، وأكثرهم جَوْرًا واستعبادًا للآخرين، يعتقدون بأنّ المخلّص يلمّهم ويعيدهم إلى أورشليم. وأنّه (أي المخلّص) سوف يُخضع شعوب الأرض كلّها بسيفه، وسوف يقطع رقاب الجميع، بحدّ هذا السيف. ولذلك فإنّ اليهود قاطبةً لا يجيدون سوى مهنة واحدة، تجارة الذهب وتصنيعه، وهذا لكي لا يكون ـ لدى ظهور المخلّص ـ أيّ من اليهود مرتبطًا بأيّ أرض غريبة، ولا يكون لهم وطن آخر، بل يجب امتلاك الذهب، وكل ما هو ثمين فقط، من أجل سهولة الرحيل عندما:
"يظهر ويلمع شعاع الفجر..
سوف نحمل الدفّ والمزمار..
والخير والمقدّسات
سوف نحملها إلى بيتنا القديم، إلى فلسطين..".
خلاصة رابعة
ـ يجيب دوستويفسكي عن أسئلة كثيرة مطروحة، وتحديدًا عن سؤال محقّ يطرحه مثقفون وباحثون عن كيفيّة حفاظ اليهود على وجودهم كأقّلية، على المستوى العالميّ، على مرّ عشرات القرون التي تعرّضوا فيها للنفي والإبعاد والهجرة الطوعيّة، أو القسريّة، بين الدول والقارّات، والعيش المديد في الشتات، وضمن "غيتوات" غالبًا. ها هو أديبنا الروسيّ يعثر على الجواب المقنع جدًّا: إنّه الـStatus in statu ، أو "الوضع القائم في الدولة"، ولا مرادف له في المعنى الحقيقيّ سوى "الغيتو". إذًا، هو "الغيتو"، أو "المُنْعَزَل"، الذي تحصّن به يهود العالم، أنّى وُجدوا، للحفاظ على معتقدهم، ونقاء "دمهم"، وتماسك مجتمعهم وتقاليدهم الخاصة، وفق المبدأ القديم المعروف "في الاتحاد قوة"، الذي زادوا عليه فأمسى "في الاتحاد والانعزال قوّة".
ومن هذا "الغيتو" ينقضّون في أي مجتمع أو بلد يقيمون فيه على مراكز القوّة والقرار، من الأسواق المالية، وأسواق الذهب، إلى مؤسسات الإعلام والنشر، ومواقع القرارات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، بحيث يغدو "الغيْتو" مركز تحصّن وحماية وقلعة دفاع وهجوم في الوقت عينه. إذًا، يكشف دوستويفسكي سرّ هذه المجموعة، أو الأقلّية الدينيّة، عبر نحو أربعين قرنًا من الزمن: إنّه "الغيتو" اليهوديّ، الذي اتّسع حجمًا اليوم ليصير دولةً مسوّرة بخريطة متعرّجة من الأسوار والجدران على أرض فلسطين التاريخيّة، من خلال الاحتلال والإحلال والمجازر غير المتوقفة منذ أربعة وسبعين عامًا!
ـ اللقيا الثانية بالغة الأهميّة. يأتينا بها دوستويفسكي، لتفيدنا بأنّ اليهوديّ لا يستطيع البقاء والاستمرار من دون إله، حتّى لو زعم أنّه ملحد. اليهود، وباستثناء الإنسانييّن منهم والمتنوّرين والمتجاوزين الخرافة الدوغمائيّة العجيبة، العبثيّة والمستهجنة، من نوع "شعب الله المختار"!، مسلّمون بـ"توجيهات يهوه" الذي "يَهديهم" إلى قتل سائر الأقوام والشعوب، ويبيح لهم سائر المحظورات الإنسانيّة والموبقات، ليرثوا وحدهم الأرض وما فيها وما عليها! أفليس عجيبًا غريبًا هذا "الإله" الذي يفوّض "شعبه المختار" بقتل سائر البشر، بلا رحمة أو شفقة؟! "إله" وقاتل؟! كيف ذلك؟! هذا ما يستغربه دوستويفسكي أشدّ استغراب ويستهجنه، وتشاركه مليارات البشر هذين الاستغراب والاستهجان حيال خرافة دينيّة من صنع بشر وكتابتهم واختلاقهم. كمن يطلق كذبةً، أو وهمًا، ويصدّقهما ويتّخذهما ناموس حياة وأسلوب تعامل مع الآخرين.
أيّ دور يلعبه اليهود في المجتمعات التي يتواجدون فيها؟ هل هو دورٌ خيّرٌ مفيد لتلك المجتمعات، أم مؤذٍ وضارّ؟ يجيب دوستويفسكي: "من أجل بقاء هذا الجوهر اليهوديّ حيًّا، من الضروريّ أن يبقى الـStatus in statu في أكثر أشكاله قسوةً وصرامةً، وبما أنّه حاضر فعلًا في هذا الشكل، فإنّ الاضطهاد ليس وحده سبب بقائه، وإنّما بالتأكيد فكرة مختلفة.. إذا كان لدى اليهود مثل هذا النظام القاسي، المختلف، الباطنيّ، الذي يوحّدهم جميعًا في هدف خاص ومتكامل، فإنّ علينا التفكير جدّيًا في قضيّة المساواة في الحقوق بينهم وبين السكان الأصليين. من البدهيّ في هذه الحال أنّ كلّ ما تحتاجه الإنسانيّة والعدالة وكلّ ما يحتاجه خير البشريّة والقانون المسيحيّ إنّما يجب أن يكون معدًّا خصّيصًا من أجل خدمة اليهود.. ولكن إذا كان اليهود، بكل ما في نظامهم القاسي من خصائص وعزلة دينيّة وقبليّة، إن على مستوى العيش اليوميّ، أو على مستوى المبادئ العامة، سيحصلون على الحقوق نفسها التي يتمتّع بها العالم الأوروبي، أفلا يكونون في هذه الحال قد حصلوا على شيء أكبر، أو أكثر، أو شيء زائد، أو أعلى ممّا للسكان الأصليين أنفسهم؟(...) في هذا السياق، بمَ اليهوديّ ضارّ؟! إذا كانت هنالك نوعيّة سيّئة من الشعب اليهوديّ، فذلك لأنّ الشعب الروسيّ نفسه يريد ذلك بفظاظته وجهله وعدم قدرته على الاستقلال، وانخفاض مستواه الاقتصاديّ. الشعب الروسيّ نفسه يبحث عن الوسطاء والأوصياء والسماسرة، وهو نفسه يبحث عن المرابين، ويسعى وراءهم، ويرتمي عليهم حيثما وجدوا.. انظروا في الطرف الآخر من أوروبا: هنالك شعوب قويّة ومستقلّة روحيًّا ومتطوّرة قوميًّا، وتملك تقاليد عريقة في مجال العمل، ولذلك فإنّ هذه الشعوب لا تخشى إعطاء اليهود جميع الحقوق (...) تلوح أمامنا ملاحظة: "يكون الوضع أفضل لليهود، حيث يوجد شعب فظّ غليظ غير متحرر وقليل التطور اقتصاديًا"، فبدلًا من أن يعمل اليهوديّ على تقوية التعليم وتطوير الفعاليات الاقتصادية فإنّه يعمل، حيثما وُجِدْ، على إضعاف هذا الشعب وتحطيمه.. حيثما وُجِدَ اليهوديّ تدنّت الإنسانيّة، وهبط مستوى التعليم، واتّسع على نحو مقزّز البؤس الذي يبدو أن لا مخرج منه، كما يسيطر اليأس والقنوط.. اسألوا السكّان الأصليين في بقاعنا النائية: ما الذي حرّك اليهود وما فتىء يحرّكهم طوال القرون الماضية؟! أؤكد أنكم ستحصلون على إجابة واحدة من الجميع: اللاشفقة (إنّ المحرّك الأساسيّ لليهود خلال القرون الطويلة الماضية هو: اللاشفقة والعطش الأبديّ لتجرّع عرقنا ودمائنا).. لقد أخذوا حقوقًا منّا اكثر ممّا نملك (...) وماذا بعد؟ دلّوني لو سمحتم، على ملّة واحدة من الملل الأجنبيّة التي تعيش في روسيا يمكن مقارنتها باليهود لجهة امتلاكها هذا النفوذ الهمجيّ.. لن تجدوا ملّة كهذه على الإطلاق. وفي هذا المفهوم تحديدًا يحتفظ اليهوديّ بأصالته الخاصة مقارنةً بباقي الأجانب في روسيا، وهذا عائدٌ بالطبع إلىStatus in statu .. إلى روحه التي تغذّي تلك اللاشفقة الملعونة.. اللاشفقة حيال كل مَنْ هو غير يهوديّ، اللاشفقة وعدم الاحترام لسائر الشعوب، وللوجود الإنسانيّ كلّه باستثناء اليهود حكمًا. فهل كون الشعب الروسي أضعف من شعوب أوروبا يبرّر استغلال هذا الشعب الذي عانى على مدى قرون من أوضاع سياسيّة لا تطاق؟ وهل يجب سحق هذا الشعب أو تجب مساعدته؟!!".
خلاصة خامسة
ـ إنّ بقاء مبدأ "الوضع القائم في الدولة" بكامل قسوته وحضوره الصارم لا يعود إلى مسألة الاضطهاد فحسب، بل يشكّ دوستويفسكي في أنّ ثمة فكرة أخرى من ورائه، باطنيّة، ترمي إلى تحقيق هدف خاص ومتكامل لليهود.
ـ إنّ لازمة الحقوق والمطالبة المستمرّة بالمساواة أفضتا في بعض الحالات، في روسيا وأوروبا، إلى حصول اليهوديّ على حقوق وامتيازات وإمكانات تفوق ما يملكه الشعب الأصليّ، في هذا البلد، أو ذاك.
ـ لا يعفي دوستويفسكي شعبه الروسيّ من اللوم، لافتًا إلى أنّ الجهل والفقر يدفعان الفلاح الروسي الفقير إلى اللجوء إلى المرابي اليهوديّ، أو الارتماء في حضنه طوعًا والخضوع لابتزازه واستغلاله.
ـ يرصد دوستويفسكي صفة تاريخيّة ثابتة في الشخصية اليهوديّة: اللاشفقة والتعطّش الأبديّ الى امتصاص عرق الشعوب ودمائهم ماليًّا واقتصاديًا. ولا يعثر على ملّة واحدة في بلده روسيا تملك مثل هذه الصفات الجشعة والاستغلاليّة.
ونصل إلى الأفكار الأخيرة المتبقّية في مقالة دوستويفسكي الخاصة بـ"المسألة اليهودية"، ومن أبرز نقاطها التي تعرّج على بلدان أوروبية أخرى، غير روسيا، مثل فرنسا، حيث: "الـ Status in statuضارّ حتى هناك.. وممّا لا شك فيه أنّ المسيحية والفكر المسيحيّ قد سقطا وما برحا في سقوط، ليس بسبب اليهود، وإنّما بسبب المسيحيين أنفسهم. ولكن يجب ألّا ننسى أنّ اليهوديّة المسيطرة في أوروبا قد استبدلت كثيرًا من الأفكار والمفاهيم هناك بأفكارها ومفاهيمها الخاصة.. لقد كان الإنسان على مرّ العصور يعبد المادّة، وكان دائم الميل إلى فهم الحرية والنظر إليها من خلال جمع المال بكلّ الوسائل وبكامل القوة الاحتياطيّة التي يملكها. بيد أنّ ذاك الفهم وتلك النظرة لم يكونا بمثل هذا الوضوح الذي هما عليه، ولم يكونا مرفوعين ـ كمبدأ الأعلى ـ كما هما عليه في قرننا التاسع عشر: "كل واحد لذاته، ولذاته فقط، وكل علاقة مع الآخرين هي حصرًا من أجل الذات". إنّه المبدأ الأخلاقيّ لدى غالبية أناس زمننا الحاضر، وهي الفكرة الأساسيّة للبورجوازيّة التي حلّت منذ نهاية القرن الماضي مكان الشكل السابق في الأخوّة، أمّا استغلال الغني للفقير، أوه! هذا كلّه كان موجودًا ماضيًا، إلاّ أنّه لم يكن قائمًا على مستوى المبدأ الأعلى، كان مدانًا من المسيحية، أمّا الآن، فعلى العكس تمامًا: لقد تحوّل إلى فضيلة ـ وهكذا، ليست مصادفةً أنّ اليهود يسيطرون في أوروبا على البنوك وأسواق البورصة والودائع، وليست مصادفةً، أكرّر ذلك، أنّهم يتحكّمون في السياسة على نحوٍ تامّ.. وماذا بعد؟ الإجابة واضحة: إنّ القيصريّة اليهوديّة تقترب.. القيصريّة المطلقة.. وسوف تحلّ بشكل احتفاليّ الأفكار التي سيتحطّم أمامها حب الإنسان للحقيقة، والمشاعر المسيحيّة، وحتى الشعور القوميّ والعزّة القوميّة لدى شعوب أوروبا، وسوف تحلّ ماديّة عمياء وعطشٌ حسّي مجنون لادخار المال بكلّ الوسائل الممكنة وغير الممكنة. هذا ما أضحى متعارفًا عليه الآن كهدف أعلى، هذا ما أنجبه العقل، هذه هي الحرية. بذلك كلّه استبدلوا الأفكار المسيحيّة المنقذة لأخوّة بشريّة عامّة. سوف يضحكون ويقولون إنّ ما يحدث في غرب أوروبا ليس اليهود مسؤولين عنه.. ليس اليهود وحدهم، بالتأكيد، ولكن إذا كان اليهود قد ازدهروا وسيطروا بشكل نهائيّ في أوروبا تحديدًا، في حين سيطرت تلك الأفكار الجديدة الى حد بنائها على المستوى الأخلاقيّ، فمن الخطأ إذًا ألاّ نؤكد أنّ اليهود قد وضعوا نفوذهم في هذا الشأن (...) يصرخ اليهود باستمرار أنّ بينهم أناسًا جيّدين. يا إلهي! وهل المسألة هنا؟! نحن لا نتحدث الآن عن أناس جيدين وأناس سيئين. ألا يوجد في الطرف الآخر أناس جيّدون أيضًا؟! (...) إننا نتحدث هنا عن الكلّ، عن الشايلوكيّة، وعن الفكرة الشايلوكيّة التي تحلّ في العالم تدريجيًا مكان المسيحيّة "الخائبة" (...)".
يعود دوستويفسكي بعد مطالعته الانتقادية لـ"الشايلوكيّة" اليهوديّة إلى نبرته الإنسانيّة العالية قائلًا: "(...) إنّني أقف بحزم مؤيدًا إعطاء اليهود كامل الحقوق التي للسكان الأصليين، لأنّ قانون المسيحيين هو هكذا، ولأنّه المبدأ المسيحيّ العام... وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كتبتُ هذه الصفحات كلّها، وماذا أردتُ أن أقول طالما انني أناقض نفسي؟! كلا، ليس من تناقض هنا: إذ ليس لدى الإنسان الروسيّ أي تحامل أو ظنّ مسبق في ما يتعلّق بقضيّة توسيع الحريات لليهود. أؤكد على ذلك، وأؤكد في المقابل على أنّ التحامل والظنّ المسبق قابعان في الطرف اليهوديّ أكثر منهما في الطرف الروسيّ، وإن لم يكن قد قام بَعْدُ هذا الصَرْح من الأخوّة، فإنّ ذنب الروسيّ في هذا الشأن تحديدًا لا يقارن بذنب اليهوديّ (...) إنّ التشكيك والتعالي الموجودين في الطبع اليهوديّ إنّما يشكّلان عندنا نحن الروس أعقد الخصائص وأبشعها في الشخصية اليهوديّة (...) أمّا الشعب الروسي فإنّه يحصر احتجاجه ضدّ اليهود بفكرة واحدة: اليهود لا يحبّوننا إلاّ قليلًا!!".
خلاصة سادسة ختاميّة
ـ دوستويفسكي الميّال بقوّة إلى الإلحاد انطلاقًا من شكّه الميتافيزيقيّ الذي تزخر به رواياته وكتاباته الفكريّة، وبدافع حضاريّ وقيميّ ينتمي إليه يتّصل بالمسيحيّة الأرثوذكسية، وقيمها التاريخيّة والإنسانيّة المرتبطة وثيقًا بالشعب الروسيّ السلافيّ، يشير إلى أفول المسيحيّة وفكرها وقيمها ومفاهيمها في أوروبا (مقدّمًا مثل فرنسا هنا) ويصفها بالمسيحيّة "الخائبة" بعدما حلّت مكانها القيم والمفاهيم الماديّة اليهوديّة الأرضيّة (Terre à terre) حيث أمسى الإنسان الأوروبي مادّيًا أنانيًّا على قاعدة "كل واحد لذاته، ولذاته فقط، وكلّ علاقة مع الآخرين هي حصرًا من أجل الذات" وقد أضحت قاعدة عالمية اليوم بعد انقضاء الحقبة التي عاش فيها الأديب الروسيّ الكبير.
ـ يؤكّد لنا دوستويفسكي خلوصه إلى أنّ "اللاشفقة" متجذّرة في العقيدة والتصرّف اليهوديين، فالشفقة، أو الرأفة، التي تدين بها المسيحيّة مبدأ منبوذ ومكروه من اليهوديّ الذي يرى أنّ ملكوته ليس آخرويًّا، بل دنيويًا محضًا (نقطة اكتشفها قبله الفيلسوف الألمانيّ الكبير آرثر شوبنهاور، الذي شرح الفرق الجوهريّ بين المسيحية التي تؤمن بالملكوت السماويّ، أي بالآخرة، وما تفرضه من أخلاقيات، هي نقيض "الأخلاقيات" اليهودية التي لا تؤمن بأيّ ملكوت سوى الملكوت الأرضيّ. ومن هنا نهمها على خيرات الأرض من مال وذهب وسلطة وتملّك).
ـ رغم هجائه الحادّ لـ"الشايلوكية" اليهوديّة، إلاّ أنّ دوستويفسكي الإنسانيّ الطيّب والحسن النيّة والمتسامي فكرًا وتسامحًا يعود ليدعو اليهود إلى أخوّة بشريّة، وإلى منح اليهود حقوقًا يزعمون أنّهم (كمساكين وودعاء مضطهدين) يفتقدونها ويطالبون بها.
ولكن على مَنْ تنادي يا فيودور الطيّب؟! أَعلى من تمرّس طوال أربعين قرنًا في التظلّم والشكوى فيما هو يحكم سيطرته على العالم، ويكمل مشروعه الجشع، النهم، العدوانيّ والقاتل عند الضرورة (كما في فلسطين)؟ عبثًا تدعو هذه الجماعة إلى الأخوّة والتسامح والرأفة، عبثًا تفعل وعبثًا تراهن، فها نحن نشهد اليوم، بعد نحو مئة وأربعين عامًا على وفاتك، أفظع ممّا ارتكبه يهود زمنك، إذ ارتقوا إلى المرتبة الصهيونيّة، الأوحش، والأكثر قتلًا وحقدًا، فيا لطيبة قلبك ورفعة أخلاقك وعظمة إنسانيتك وعبقريتك التي عمّت بقاع الأرض. يا لخيبتك وخيبتنا معًا، نتشاركها حتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
(*) ورد مصطلح Status in statu باللاتينيّة في نصّ دوستويفسكي، وترجمته "الوضع القائم في الدولة"، لكنّه يتجاوز في هذا السياق نطاق المصطلح ومعناه الأصليّ ليدلّ دوستويفسكي به على التجمّعات اليهوديّة المغلقة في مختلف الدول، أي "الغيتو".
*ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.
جورج كعدي 17 سبتمبر 2022
تغطيات
تمثال دوستويفسكي في مدينة توبلسك الروسية (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
إلى الزميل الصديق صقر أبو فخر لعلّه يعثر هنا على جوابٍ عن سؤالٍ جوهريّ يطرحه.
نتابع قراءة مقالة الأديب والمفكّر الروسيّ، فيودر دوستويفسكي، التي منحها عنوان "المسألة اليهودية"، وترجمها عن الروسيّة مباشرة الأستاذ حسن سامي اليوسف (الجزء الأوّل من هذه القراءة نُشر في "ضفّة ثالثة" في 7 سبتمبر الجاري) ، وكان هدف دوستويفسكي يوم نشرها في عدد مارس/ آذار عام 1877 في مجلّته "يوميّات كاتب" معالجة الإشكاليّة السلافيّة ـ اليهوديّة، في جانبيها العام والخاص، من جهة، وردّ التهمة الباطلة والمتهافتة التي وُجِّهتْ إليه من بعض يهود روسيا بأنّه "كاره لليهود"!، الأمر الذي ينفيه على نحو حاسم جملةً وتفصيلًا، مفنّدًا بموضوعيّة وعمق دوافع هذا النفي، والأسباب التي دعته إلى مناقشة المسألة، في خمس عشرة صفحة فحسب.
يؤكد دوستويفسكي من موقع العارف والمراقب والأكثر فهمًا لواقع شعبه وأخلاقيّاته وجوهره الطيّب والمتسامح أنّ "ليس لدى الشعب الروسيّ البسيط أيّ كراهية مسبقة لليهود. لا يوجد مثل هذه الكراهية القَبْليّة، أو الطوباويّة، أو حتى الدينية. وما من كراهية من قبيل "يهوذا، كما يقال، باع المسيح". ومع أنّك قد تسمع هذا من طفل، أو من رجل ثمل، فإنّني أشير هنا إلى أنّ الشعب الروسيّ بأجمعه ينظر إلى اليهود ـ وأكرّر ذلك ـ من دون أيّ كراهية مسبقة. رأيت هذا طوال خمسين عامًا. أنا عشت بين الناس، بين جماهير الشعب البسيط، عاينت ذلك في معسكرات الجيش، حيث كان بيننا عدد من اليهود، ولم يحتقرهم أحد، ولم يطردهم أحد. حتّى عندما كانوا يصلّون ـ واليهوديّ يصلّي بصراخ مرتديًا مسوحًا خاصة به ـ حتى في هذه الحال، فإنّ لا أحد من الروس كان يرى الأمر غريبًا، ولا أزعجه بشيء، ولا سخر منه. ماذا كنتم تنتظرون من "شعب جلف"، بحسب مفهومكم للشعب الروسيّ؟ كان الروس ينظرون إلى اليهود ويقولون: "هكذا هي ديانتهم، وهكذا هم يصلّون"، ثم يتابعون طريقهم بهدوء وباستحسان تقريبًا لصلاة الآخرين. ثم ماذا؟ اليهود أنفسهم كانوا يبتعدون عمدًا عن الروس.. يرفضون مشاركتهم الطعام.. ينظرون إليهم من علٍ.. وأين يحدث ذلك؟ حتّى في المعتقل. وكانوا يُظهرون عامةً اشمئزازًا وتقزّزًا حيال الروس، أي حيال سكان البلد الأصليين. الأمر نفسه في كلّ ناحية من روسيا. انظروا بأنفسكم واسألوا: هل كان الروس يُغضبون اليهود في المعسكرات كيهود؟ كـ"مرابين جشعين"؟ هل كانوا يغضبونهم بسبب معتقداتهم؟ أو بسبب عاداتهم وتقاليدهم؟ على الإطلاق، لا أحد كان يُغضب اليهود لذلك. وليس في الجيش فحسب، بل بين الشعب عامةً.
"في معسكرات الجيش، كان بيننا عدد من اليهود، ولم يحتقرهم أحد، ولم يطردهم أحد. حتّى عندما كانوا يصلّون ـ واليهوديّ يصلّي بصراخ مرتديًا مسوحًا خاصة به ـ حتى في هذه الحال، فإنّ لا أحد من الروس كان يرى الأمر غريبًا، ولا أزعجه بشيء، ولا سخر منه" |
العكس هو الصحيح، يرى الإنسان الروسي البسيط ويدرك ـ حتى اليهود أنفسهم لا يخفون ذلك ـ أنّ اليهوديّ يرفض مشاركته الطعام، ويتقزّز منه، ويبتعد عنه قدر المستطاع. ومع ذلك، بدلًا من أن يغضب الروسيّ منه يقول بهدوء ووضوح: "هكذا هي ديانة اليهوديّ، وهو إنّما بسبب معتقداته يسلك هذا السلوك، وليس بسبب شرّ ما". والروسيّ الذي يدرك ذلك يسامح اليهوديّ من صميم قلبه. تراودني أحيانًا هذه الفكرة المتخيّلة: ماذا لو لم يكن عدد اليهود في روسيا ثلاثة ملايين؟ ماذا لو كان العكس هو الصحيح، بحيث يكون عدد اليهود ثمانين مليونًا، بينما عدد الروس ثلاثة ملايين؟ ماذا كان ليفعل اليهود بالروس؟ هل كانوا أعطوهم الحقوق نفسها التي يتمتّعون بها؟ هل كانوا ليسمحوا لهم بالصلاة ـ بحريّة ـ بينهم؟ أما كانوا حوّلوهم إلى عبيد؟ وأسوأ من ذلك كلّه، أما كانوا سلخوا جلودهم أجمعين؟ أما كانوا ضربوهم حتى الإبادة مثلما فعلوا مع الشعوب الغريبة عنهم في تاريخهم القديم؟ لا.. أؤكد لكم أن لا كراهية مسبقة لدى الشعب الروسيّ تجاه اليهود، ولكن قد يكون هنالك عدم ارتياح لهم، وقد يكون عدم الارتياح هذا قويًّا جدًا.. لا يمكن نفي وجود ذلك، إنّه موجود، بلى موجود، إنّما ليس متأتيًا من أنّ اليهوديّ هو يهوديّ، وليس بدافع مسبق، ولا لسبب دينيّ، بل إنّ مبعث ذلك أسباب مختلفة تمامًا، وهذه الأسباب ليس الشعب الروسيّ مسؤولًا عنها، ولا سكان البلاد الأصليّون.. بل اليهود أنفسهم..".
خلاصة ثالثة
(الخلاصتان الأولى والثانية في الجزء الأول من المقال)
ـ يُبرز دوستويفسكي حقيقةً لا يرقى إليها أدنى شك مفادها أنّ الشعب الروسي لم يتعامل على مرّ التاريخ بكُرْهٍ مسبق، أو احتقار، للفرد، أو المجتمع اليهوديين في روسيا، ولطالما أظهر له احترامًا لمعتقداته وطقوسه الدينيّة.
ـ يثبت دوستويفسكي من اختباره ومعاينته الشخصيين أنّ العكس هو الصحيح، فاليهوديّ الموجود كأقليّة في روسيا هو مَنْ يتعامل بفوقيّة مع سكان البلاد وأصحابها الأصليين، أي الشعب الروسيّ السلافيّ، ويبتعد عنه ولا يقاسمه شيئًا حتى الجلوس إلى الطعام في المعتقل! وبالتالي يُطرح السؤال المشروع: مَنْ الأكثر طيبةً وتواضعًا وقبولًا للآخر وتسامحًا: اليهوديّ أم الروسيّ؟
ـ الخلاصة الأبلغ من هذا المقطع من مقالة دوستويفسكي: ألا ينطبق تعامل اليهود الفوقيّ مع غير اليهوديّ على ما يحصل اليوم في فلسطين، ومنذ 1948 وما قبل، مع أصحاب الأرض الأصليين، أي الشعب الفلسطينيّ، من معاملة فوقيّة، متعالية، احتقاريّة "غوييميّة"، وحشيّة، قاتلة، مُنكِّلة، مستبيحة للأرض والأرزاق والأعراض والكرامات، قاهرة، مذلّة للأطفال والشيوخ والنساء، منتهكة للمقدّسات، غير متسامحة مع معتقدات الآخرين، مسلمين ومسيحيين؟ عقدة الفوقيّة وخرافة "شعب الله المختار" تتجلّيان في أقبح تمظهراتهما اليوم على أرض فلسطين.
"تراودني أحيانًا هذه الفكرة المتخيّلة: ماذا لو لم يكن عدد اليهود في روسيا ثلاثة ملايين؟ ماذا لو كان العكس هو الصحيح، بحيث يكون عدد اليهود ثمانين مليونًا، بينما عدد الروس ثلاثة ملايين؟ ماذا كان ليفعل اليهود بالروس؟" |
يتابع دوستويفسكي كاتبًا: "الكراهية المبنيّة على معتقدات خرافيّة.. إنّه الاتهام اليهوديّ للسكان الأصليين. وطالما أن كلامكم يدور حول المعتقدات الخرافيّة فكيف أنتم تفكّرون؟ هل يتغذّى اليهوديّ بالخرافات أقلّ من الروس؟ لقد وضعتُ أمامكم أمثلة عن النظرة التي يحملها الروسيّ البسيط لليهود، أمّا الآن فأمامي رسائل عديدة، ليست من بسطاء اليهود، بل من المتعلّمين بينهم، وكم تحمل هذه الرسائل من كراهية لسكان البلاد الأصليين!! وأسوأ ما في الأمر أنّ اليهود أنفسهم لا يُدركون ذلك. لاحظوا معي أنّه من أجل البقاء أربعين قرنًا في الوجود ـ أي على مدار التاريخ البشريّ بأكمله تقريبًا ـ وفي وحدةٍ متماسكة غير منفصمة كهذه، تضيع أرضك وحريتك السياسية مرّات عديدة، وتضيع قوانينك، وإلى حدّ ما معتقداتك، ثمّ تعود وتتوحّد وتنبعث من الفكرة السابقة ذاتها، وحتى وإن في شكل آخر، وتضع لنفسك مجدّدًا القوانين والمعتقدات.. إنّ شعبًا كهذا، غير عاديّ، قويّ، حيويّ، لا نظير له في العالم، لا يستطيع البتّة أن يعيش من دون (*)Status in statu. ولدى الحديث عنStatus in statu لا أسعى إلى أيّ إدانة، أو اتهام للآخرين. ولكن فيمَ يكمن جوهر هذا الـ Status in statu؟ وما هي فكرته السرمديّة غير المتبدّلة؟ من الصعب الكلام تفصيليًّا على هذه النقطة في مقالة قصيرة كهذه، بل ومن الصعب عامةً تناولها، لسبب آخر هو أنّ جميع الأزمان والمواقيت لم تحن، بغضّ النظر عن القرون الأربعين المنصرمة، فالكلمة النهائيّة للبشريّة عن هذه القبيلة لم يحن أوان قولها. أمّا الآن فإن كنّا عاجزين عن الغوص في جوهر هذه المادة وعمقها، نستطيع، على الأقلّ، تحديد بعض ملامح هذا الـStatus in statu. أقول، على الأقلّ، بعض ملامحه الخارجيّة، وهي: عدم التبدّل، أو التحوّل، على مستوى المعتقد الدينيّ، عدم الامتزاج بالآخرين، الثقة العمياء بأنّ ليس على الأرض سوى شخصية واحدة هي الشخصية اليهودية، أمّا الآخرون، ورغم أنهم موجودون، إلاّ أنّه يجب عدم أخذهم في الحسبان: "اخرج من الشعوب واحتفظ بشخصيتك المتفرّدة، واعلم أنّك الوحيد عند الربّ، إسحق الآخرين، أو حوّلهم إلى عبيد أو استغلّهم كما تشاء، ثق بأنّ جميع الشعوب سوف تخضع لك، أَعرضْ عن الجميع باشمئزاز، ولا تختلط بأحد، وحتّى عندما تُطرد من الأرض وتفقد شخصيتك السياسيّة، حتّى عندما تتشرّد في مختلف أنحاء المعمورة وبين مختلف الشعوب ـ سيّان ـ ثق بما وُعدتَ به مرّة وإلى الأبد، ثق بأنّ كل شيء سيصطلح، وحتّى يتحقّق الوعد، عِشْ، أَعرِض عن الآخرين، توحّد واستغلّ و.. انتظر، انتظر". هذا هو جوهر فكرة Status in statu، وعدا ذلك ثمة قوانين أخرى باطنيّة محيطة بهذه الفكرة الجوهريّة. أنتم أيّها السادة المتعلّمون اليهود تقولون: "هذا كلّه خَطَلٌ وسَخَفٌ، وإذ وُجد هذا الـ Status in statu " ـ بالأحرى كان موجودًا ولم يبقَ منه سوى آثار واهمة ـ فإنّ السبب الذي قاد إليه إنّما هو الاضطهاد. إنّ الاضطهاد الدينيّ المتراكم منذ العصور الوسيطة، وحتّى منذ ما قبل هذا التاريخ، هو الذي صنع Status in statu، لمساعدتنا في الحفاظ على هويتنا، وإذا كان Status in statu ما انفكّ موجودًا، وبخاصةٍ بين يهود روسيا، فالسبب أنّ اليهوديّ لم ينل إلى الآن الحقوق التي يتمتّع بها سكان البلاد الأصليون..". وإليكم ما أراه أنا: حتّى لو نال اليهوديّ كامل الحقوق التي يطالب بها، فإنّه لن يتنازل في أيّ حال من الأحوال عن Status in statu، فلو ذيّلنا Status in statu بتوقيع الاضطهاد والحفاظ على الذات فحسب لكنّا مخطئين. هذا وحده غير كافٍ، إذ لكان اليهود افتقروا في هذه الحال إلى المثابرة والمواظبة على حفظ الذات، فحتّى أقوى الحضارات في تاريخ البشريّة لم تستطع أن تحافظ على نفسها نصف هذه القرون الأربعين، وإلاّ قد تفقد سريعًا قوّتها السياسيّة وهيئتها القَبَليّة. إذًا، ليس الحفاظ على الذات هو السبب الأوّل، بل ثمة فكرة ثانية، فكرة مندفعة ومتحرّكة، فكرة عميقة ذات طابع عالميّ، فكرة لن تستطيع البشريّة الآن أن تقول بشأنها الكلمة الأخيرة، كما سبق أن كتبت أعلاه. إنّ الهويّة الدينيّة تحتلّ ـ من دون شكّ ـ موقع الصدارة في المسألة. إنّ الإله اليهوديّ، والذي كان يسمّى في البدء "يهوه" هو الذي ما زال يقود شعبه بمُثُلِهِ الخاصة وَوَعْدِهِ الخاصّ.. إنّه يقود اليهود إلى هدفٍ قاسٍ جدًا. هذا واضح تمامًا. خطأ قاتل، أعود وأكرّر، أن نتصوّر اليهوديّ من دون إله، وأقلّ ما يسعني قوله هنا هو أنني لا أثق البتّة بأولئك اليهود المتعلّمين الذن يتظاهرون بالإلحاد: إنّهم من العجينة الجاهلة ذاتها، والله وحده يعلم كم ستعاني البشريّة من هؤلاء اليهود المتعلّمين.. قرأتُ وسمعتُ في طفولتي أسطورةً يهوديّة تقول: إنّ اليهود كانوا وما زالوا ينتظرون ـ بثبات ـ المخلّص. جميع اليهود بلا استثناء، من أكثرهم فقرًا إلى أكثرهم علمًا، وأكثرهم جَوْرًا واستعبادًا للآخرين، يعتقدون بأنّ المخلّص يلمّهم ويعيدهم إلى أورشليم. وأنّه (أي المخلّص) سوف يُخضع شعوب الأرض كلّها بسيفه، وسوف يقطع رقاب الجميع، بحدّ هذا السيف. ولذلك فإنّ اليهود قاطبةً لا يجيدون سوى مهنة واحدة، تجارة الذهب وتصنيعه، وهذا لكي لا يكون ـ لدى ظهور المخلّص ـ أيّ من اليهود مرتبطًا بأيّ أرض غريبة، ولا يكون لهم وطن آخر، بل يجب امتلاك الذهب، وكل ما هو ثمين فقط، من أجل سهولة الرحيل عندما:
"يظهر ويلمع شعاع الفجر..
سوف نحمل الدفّ والمزمار..
والخير والمقدّسات
سوف نحملها إلى بيتنا القديم، إلى فلسطين..".
خلاصة رابعة
ـ يجيب دوستويفسكي عن أسئلة كثيرة مطروحة، وتحديدًا عن سؤال محقّ يطرحه مثقفون وباحثون عن كيفيّة حفاظ اليهود على وجودهم كأقّلية، على المستوى العالميّ، على مرّ عشرات القرون التي تعرّضوا فيها للنفي والإبعاد والهجرة الطوعيّة، أو القسريّة، بين الدول والقارّات، والعيش المديد في الشتات، وضمن "غيتوات" غالبًا. ها هو أديبنا الروسيّ يعثر على الجواب المقنع جدًّا: إنّه الـStatus in statu ، أو "الوضع القائم في الدولة"، ولا مرادف له في المعنى الحقيقيّ سوى "الغيتو". إذًا، هو "الغيتو"، أو "المُنْعَزَل"، الذي تحصّن به يهود العالم، أنّى وُجدوا، للحفاظ على معتقدهم، ونقاء "دمهم"، وتماسك مجتمعهم وتقاليدهم الخاصة، وفق المبدأ القديم المعروف "في الاتحاد قوة"، الذي زادوا عليه فأمسى "في الاتحاد والانعزال قوّة".
"حتّى لو نال اليهوديّ كامل الحقوق التي يطالب بها، فإنّه لن يتنازل في أيّ حال من الأحوال عن Status in statu، فلو ذيّلنا Status in statu بتوقيع الاضطهاد والحفاظ على الذات فحسب لكنّا مخطئين" |
ومن هذا "الغيتو" ينقضّون في أي مجتمع أو بلد يقيمون فيه على مراكز القوّة والقرار، من الأسواق المالية، وأسواق الذهب، إلى مؤسسات الإعلام والنشر، ومواقع القرارات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، بحيث يغدو "الغيْتو" مركز تحصّن وحماية وقلعة دفاع وهجوم في الوقت عينه. إذًا، يكشف دوستويفسكي سرّ هذه المجموعة، أو الأقلّية الدينيّة، عبر نحو أربعين قرنًا من الزمن: إنّه "الغيتو" اليهوديّ، الذي اتّسع حجمًا اليوم ليصير دولةً مسوّرة بخريطة متعرّجة من الأسوار والجدران على أرض فلسطين التاريخيّة، من خلال الاحتلال والإحلال والمجازر غير المتوقفة منذ أربعة وسبعين عامًا!
ـ اللقيا الثانية بالغة الأهميّة. يأتينا بها دوستويفسكي، لتفيدنا بأنّ اليهوديّ لا يستطيع البقاء والاستمرار من دون إله، حتّى لو زعم أنّه ملحد. اليهود، وباستثناء الإنسانييّن منهم والمتنوّرين والمتجاوزين الخرافة الدوغمائيّة العجيبة، العبثيّة والمستهجنة، من نوع "شعب الله المختار"!، مسلّمون بـ"توجيهات يهوه" الذي "يَهديهم" إلى قتل سائر الأقوام والشعوب، ويبيح لهم سائر المحظورات الإنسانيّة والموبقات، ليرثوا وحدهم الأرض وما فيها وما عليها! أفليس عجيبًا غريبًا هذا "الإله" الذي يفوّض "شعبه المختار" بقتل سائر البشر، بلا رحمة أو شفقة؟! "إله" وقاتل؟! كيف ذلك؟! هذا ما يستغربه دوستويفسكي أشدّ استغراب ويستهجنه، وتشاركه مليارات البشر هذين الاستغراب والاستهجان حيال خرافة دينيّة من صنع بشر وكتابتهم واختلاقهم. كمن يطلق كذبةً، أو وهمًا، ويصدّقهما ويتّخذهما ناموس حياة وأسلوب تعامل مع الآخرين.
أيّ دور يلعبه اليهود في المجتمعات التي يتواجدون فيها؟ هل هو دورٌ خيّرٌ مفيد لتلك المجتمعات، أم مؤذٍ وضارّ؟ يجيب دوستويفسكي: "من أجل بقاء هذا الجوهر اليهوديّ حيًّا، من الضروريّ أن يبقى الـStatus in statu في أكثر أشكاله قسوةً وصرامةً، وبما أنّه حاضر فعلًا في هذا الشكل، فإنّ الاضطهاد ليس وحده سبب بقائه، وإنّما بالتأكيد فكرة مختلفة.. إذا كان لدى اليهود مثل هذا النظام القاسي، المختلف، الباطنيّ، الذي يوحّدهم جميعًا في هدف خاص ومتكامل، فإنّ علينا التفكير جدّيًا في قضيّة المساواة في الحقوق بينهم وبين السكان الأصليين. من البدهيّ في هذه الحال أنّ كلّ ما تحتاجه الإنسانيّة والعدالة وكلّ ما يحتاجه خير البشريّة والقانون المسيحيّ إنّما يجب أن يكون معدًّا خصّيصًا من أجل خدمة اليهود.. ولكن إذا كان اليهود، بكل ما في نظامهم القاسي من خصائص وعزلة دينيّة وقبليّة، إن على مستوى العيش اليوميّ، أو على مستوى المبادئ العامة، سيحصلون على الحقوق نفسها التي يتمتّع بها العالم الأوروبي، أفلا يكونون في هذه الحال قد حصلوا على شيء أكبر، أو أكثر، أو شيء زائد، أو أعلى ممّا للسكان الأصليين أنفسهم؟(...) في هذا السياق، بمَ اليهوديّ ضارّ؟! إذا كانت هنالك نوعيّة سيّئة من الشعب اليهوديّ، فذلك لأنّ الشعب الروسيّ نفسه يريد ذلك بفظاظته وجهله وعدم قدرته على الاستقلال، وانخفاض مستواه الاقتصاديّ. الشعب الروسيّ نفسه يبحث عن الوسطاء والأوصياء والسماسرة، وهو نفسه يبحث عن المرابين، ويسعى وراءهم، ويرتمي عليهم حيثما وجدوا.. انظروا في الطرف الآخر من أوروبا: هنالك شعوب قويّة ومستقلّة روحيًّا ومتطوّرة قوميًّا، وتملك تقاليد عريقة في مجال العمل، ولذلك فإنّ هذه الشعوب لا تخشى إعطاء اليهود جميع الحقوق (...) تلوح أمامنا ملاحظة: "يكون الوضع أفضل لليهود، حيث يوجد شعب فظّ غليظ غير متحرر وقليل التطور اقتصاديًا"، فبدلًا من أن يعمل اليهوديّ على تقوية التعليم وتطوير الفعاليات الاقتصادية فإنّه يعمل، حيثما وُجِدْ، على إضعاف هذا الشعب وتحطيمه.. حيثما وُجِدَ اليهوديّ تدنّت الإنسانيّة، وهبط مستوى التعليم، واتّسع على نحو مقزّز البؤس الذي يبدو أن لا مخرج منه، كما يسيطر اليأس والقنوط.. اسألوا السكّان الأصليين في بقاعنا النائية: ما الذي حرّك اليهود وما فتىء يحرّكهم طوال القرون الماضية؟! أؤكد أنكم ستحصلون على إجابة واحدة من الجميع: اللاشفقة (إنّ المحرّك الأساسيّ لليهود خلال القرون الطويلة الماضية هو: اللاشفقة والعطش الأبديّ لتجرّع عرقنا ودمائنا).. لقد أخذوا حقوقًا منّا اكثر ممّا نملك (...) وماذا بعد؟ دلّوني لو سمحتم، على ملّة واحدة من الملل الأجنبيّة التي تعيش في روسيا يمكن مقارنتها باليهود لجهة امتلاكها هذا النفوذ الهمجيّ.. لن تجدوا ملّة كهذه على الإطلاق. وفي هذا المفهوم تحديدًا يحتفظ اليهوديّ بأصالته الخاصة مقارنةً بباقي الأجانب في روسيا، وهذا عائدٌ بالطبع إلىStatus in statu .. إلى روحه التي تغذّي تلك اللاشفقة الملعونة.. اللاشفقة حيال كل مَنْ هو غير يهوديّ، اللاشفقة وعدم الاحترام لسائر الشعوب، وللوجود الإنسانيّ كلّه باستثناء اليهود حكمًا. فهل كون الشعب الروسي أضعف من شعوب أوروبا يبرّر استغلال هذا الشعب الذي عانى على مدى قرون من أوضاع سياسيّة لا تطاق؟ وهل يجب سحق هذا الشعب أو تجب مساعدته؟!!".
خلاصة خامسة
ـ إنّ بقاء مبدأ "الوضع القائم في الدولة" بكامل قسوته وحضوره الصارم لا يعود إلى مسألة الاضطهاد فحسب، بل يشكّ دوستويفسكي في أنّ ثمة فكرة أخرى من ورائه، باطنيّة، ترمي إلى تحقيق هدف خاص ومتكامل لليهود.
ـ إنّ لازمة الحقوق والمطالبة المستمرّة بالمساواة أفضتا في بعض الحالات، في روسيا وأوروبا، إلى حصول اليهوديّ على حقوق وامتيازات وإمكانات تفوق ما يملكه الشعب الأصليّ، في هذا البلد، أو ذاك.
"اسألوا السكّان الأصليين في بقاعنا النائية: ما الذي حرّك اليهود وما فتىء يحرّكهم طوال القرون الماضية؟! أؤكد أنكم ستحصلون على إجابة واحدة من الجميع: اللاشفقة" |
ـ لا يعفي دوستويفسكي شعبه الروسيّ من اللوم، لافتًا إلى أنّ الجهل والفقر يدفعان الفلاح الروسي الفقير إلى اللجوء إلى المرابي اليهوديّ، أو الارتماء في حضنه طوعًا والخضوع لابتزازه واستغلاله.
ـ يرصد دوستويفسكي صفة تاريخيّة ثابتة في الشخصية اليهوديّة: اللاشفقة والتعطّش الأبديّ الى امتصاص عرق الشعوب ودمائهم ماليًّا واقتصاديًا. ولا يعثر على ملّة واحدة في بلده روسيا تملك مثل هذه الصفات الجشعة والاستغلاليّة.
ونصل إلى الأفكار الأخيرة المتبقّية في مقالة دوستويفسكي الخاصة بـ"المسألة اليهودية"، ومن أبرز نقاطها التي تعرّج على بلدان أوروبية أخرى، غير روسيا، مثل فرنسا، حيث: "الـ Status in statuضارّ حتى هناك.. وممّا لا شك فيه أنّ المسيحية والفكر المسيحيّ قد سقطا وما برحا في سقوط، ليس بسبب اليهود، وإنّما بسبب المسيحيين أنفسهم. ولكن يجب ألّا ننسى أنّ اليهوديّة المسيطرة في أوروبا قد استبدلت كثيرًا من الأفكار والمفاهيم هناك بأفكارها ومفاهيمها الخاصة.. لقد كان الإنسان على مرّ العصور يعبد المادّة، وكان دائم الميل إلى فهم الحرية والنظر إليها من خلال جمع المال بكلّ الوسائل وبكامل القوة الاحتياطيّة التي يملكها. بيد أنّ ذاك الفهم وتلك النظرة لم يكونا بمثل هذا الوضوح الذي هما عليه، ولم يكونا مرفوعين ـ كمبدأ الأعلى ـ كما هما عليه في قرننا التاسع عشر: "كل واحد لذاته، ولذاته فقط، وكل علاقة مع الآخرين هي حصرًا من أجل الذات". إنّه المبدأ الأخلاقيّ لدى غالبية أناس زمننا الحاضر، وهي الفكرة الأساسيّة للبورجوازيّة التي حلّت منذ نهاية القرن الماضي مكان الشكل السابق في الأخوّة، أمّا استغلال الغني للفقير، أوه! هذا كلّه كان موجودًا ماضيًا، إلاّ أنّه لم يكن قائمًا على مستوى المبدأ الأعلى، كان مدانًا من المسيحية، أمّا الآن، فعلى العكس تمامًا: لقد تحوّل إلى فضيلة ـ وهكذا، ليست مصادفةً أنّ اليهود يسيطرون في أوروبا على البنوك وأسواق البورصة والودائع، وليست مصادفةً، أكرّر ذلك، أنّهم يتحكّمون في السياسة على نحوٍ تامّ.. وماذا بعد؟ الإجابة واضحة: إنّ القيصريّة اليهوديّة تقترب.. القيصريّة المطلقة.. وسوف تحلّ بشكل احتفاليّ الأفكار التي سيتحطّم أمامها حب الإنسان للحقيقة، والمشاعر المسيحيّة، وحتى الشعور القوميّ والعزّة القوميّة لدى شعوب أوروبا، وسوف تحلّ ماديّة عمياء وعطشٌ حسّي مجنون لادخار المال بكلّ الوسائل الممكنة وغير الممكنة. هذا ما أضحى متعارفًا عليه الآن كهدف أعلى، هذا ما أنجبه العقل، هذه هي الحرية. بذلك كلّه استبدلوا الأفكار المسيحيّة المنقذة لأخوّة بشريّة عامّة. سوف يضحكون ويقولون إنّ ما يحدث في غرب أوروبا ليس اليهود مسؤولين عنه.. ليس اليهود وحدهم، بالتأكيد، ولكن إذا كان اليهود قد ازدهروا وسيطروا بشكل نهائيّ في أوروبا تحديدًا، في حين سيطرت تلك الأفكار الجديدة الى حد بنائها على المستوى الأخلاقيّ، فمن الخطأ إذًا ألاّ نؤكد أنّ اليهود قد وضعوا نفوذهم في هذا الشأن (...) يصرخ اليهود باستمرار أنّ بينهم أناسًا جيّدين. يا إلهي! وهل المسألة هنا؟! نحن لا نتحدث الآن عن أناس جيدين وأناس سيئين. ألا يوجد في الطرف الآخر أناس جيّدون أيضًا؟! (...) إننا نتحدث هنا عن الكلّ، عن الشايلوكيّة، وعن الفكرة الشايلوكيّة التي تحلّ في العالم تدريجيًا مكان المسيحيّة "الخائبة" (...)".
يعود دوستويفسكي بعد مطالعته الانتقادية لـ"الشايلوكيّة" اليهوديّة إلى نبرته الإنسانيّة العالية قائلًا: "(...) إنّني أقف بحزم مؤيدًا إعطاء اليهود كامل الحقوق التي للسكان الأصليين، لأنّ قانون المسيحيين هو هكذا، ولأنّه المبدأ المسيحيّ العام... وإذا كان الأمر كذلك فلماذا كتبتُ هذه الصفحات كلّها، وماذا أردتُ أن أقول طالما انني أناقض نفسي؟! كلا، ليس من تناقض هنا: إذ ليس لدى الإنسان الروسيّ أي تحامل أو ظنّ مسبق في ما يتعلّق بقضيّة توسيع الحريات لليهود. أؤكد على ذلك، وأؤكد في المقابل على أنّ التحامل والظنّ المسبق قابعان في الطرف اليهوديّ أكثر منهما في الطرف الروسيّ، وإن لم يكن قد قام بَعْدُ هذا الصَرْح من الأخوّة، فإنّ ذنب الروسيّ في هذا الشأن تحديدًا لا يقارن بذنب اليهوديّ (...) إنّ التشكيك والتعالي الموجودين في الطبع اليهوديّ إنّما يشكّلان عندنا نحن الروس أعقد الخصائص وأبشعها في الشخصية اليهوديّة (...) أمّا الشعب الروسي فإنّه يحصر احتجاجه ضدّ اليهود بفكرة واحدة: اليهود لا يحبّوننا إلاّ قليلًا!!".
خلاصة سادسة ختاميّة
اعتقال رجل فلسطيني من قبل قوات الأمن الإسرائيلية عقب اشتباكات مع مستوطنين إسرائيليين في حي الشيخ جراح في القدس (13/ 2/ 2022/ فرانس برس) |
"نحن لا نتحدث الآن عن أناس جيدين وأناس سيئين. ألا يوجد في الطرف الآخر أناس جيّدون أيضًا؟! (...) إننا نتحدث هنا عن الكلّ، عن الشايلوكيّة، وعن الفكرة الشايلوكيّة التي تحلّ في العالم تدريجيًا مكان المسيحيّة "الخائبة" (...)" |
ـ يؤكّد لنا دوستويفسكي خلوصه إلى أنّ "اللاشفقة" متجذّرة في العقيدة والتصرّف اليهوديين، فالشفقة، أو الرأفة، التي تدين بها المسيحيّة مبدأ منبوذ ومكروه من اليهوديّ الذي يرى أنّ ملكوته ليس آخرويًّا، بل دنيويًا محضًا (نقطة اكتشفها قبله الفيلسوف الألمانيّ الكبير آرثر شوبنهاور، الذي شرح الفرق الجوهريّ بين المسيحية التي تؤمن بالملكوت السماويّ، أي بالآخرة، وما تفرضه من أخلاقيات، هي نقيض "الأخلاقيات" اليهودية التي لا تؤمن بأيّ ملكوت سوى الملكوت الأرضيّ. ومن هنا نهمها على خيرات الأرض من مال وذهب وسلطة وتملّك).
ـ رغم هجائه الحادّ لـ"الشايلوكية" اليهوديّة، إلاّ أنّ دوستويفسكي الإنسانيّ الطيّب والحسن النيّة والمتسامي فكرًا وتسامحًا يعود ليدعو اليهود إلى أخوّة بشريّة، وإلى منح اليهود حقوقًا يزعمون أنّهم (كمساكين وودعاء مضطهدين) يفتقدونها ويطالبون بها.
ولكن على مَنْ تنادي يا فيودور الطيّب؟! أَعلى من تمرّس طوال أربعين قرنًا في التظلّم والشكوى فيما هو يحكم سيطرته على العالم، ويكمل مشروعه الجشع، النهم، العدوانيّ والقاتل عند الضرورة (كما في فلسطين)؟ عبثًا تدعو هذه الجماعة إلى الأخوّة والتسامح والرأفة، عبثًا تفعل وعبثًا تراهن، فها نحن نشهد اليوم، بعد نحو مئة وأربعين عامًا على وفاتك، أفظع ممّا ارتكبه يهود زمنك، إذ ارتقوا إلى المرتبة الصهيونيّة، الأوحش، والأكثر قتلًا وحقدًا، فيا لطيبة قلبك ورفعة أخلاقك وعظمة إنسانيتك وعبقريتك التي عمّت بقاع الأرض. يا لخيبتك وخيبتنا معًا، نتشاركها حتّى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
(*) ورد مصطلح Status in statu باللاتينيّة في نصّ دوستويفسكي، وترجمته "الوضع القائم في الدولة"، لكنّه يتجاوز في هذا السياق نطاق المصطلح ومعناه الأصليّ ليدلّ دوستويفسكي به على التجمّعات اليهوديّة المغلقة في مختلف الدول، أي "الغيتو".
*ناقد وأستاذ جامعيّ من لبنان.