ذكرى والت ديزني: الجانب المظلم لحياة والد ميكي ماوس
مناهل السهوي 5 ديسمبر 2022
تغطيات
والت ديزني مع ابتكاره الأشهر ميكي ماوس (1966/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
والت ديزني، أو العم والت، مؤسس خيالات ديزني الفريدة، من قلاع وشمعدان ذهبي حي يعمل كخادمٍ شخصيّ، والأريكة والساعات المتكلمة، شخصيات تغوص في الخيال بشكل جنوني، لتبدو كأن لا مثيل سابقًا لها. ولد والت ديزني في شيكاغو عام 1901، وترعرع في مدينة كانساس سيتي في ولاية ميسوري. عمل في البداية في باريس كسائق سيارة إسعاف للصليب الأحمر. فيلمه الأول كان "متجر الساعات/ The Clock Store" عام 1931، وهو فيلم قصير يُظهِر محل بيع ساعات تدب الحياة فيه ليلًا، وتعزف كلّ ساعات المتجر موسيقى متناغمة. منذ ذلك الحين لم يتوقف ديزني عن النجاح والتوسع وخلق عوالم خالدة غيّرت من شكل الترفيه في العالم. قال عنه المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين إن عمله أعظم مساهمة من الشعب الأميركي في الفن. أمّا الناقد مارك فان دورين، فوصفه بأنه "فنان من الدرجة الأولى، يعرف حقائق لا حصر لها، ولا يمكن تدريسها".
ديزني الطفل المحروم عاطفيًا
خلف هذه الصورة المثالية لوالت ديزني، هنالك عالم آخر، وخلف العم ديزني اللطيف هنالك رجل غاضب يتعامل بتعالٍ مع موظفيه ويهمل زوجته. هذا ما يكشفه كتاب "والت ديزني: انتصار الخيال الأميركي"، لكاتب السيرة الشهير نيل غابلر، إذ يلقي ضوءًا على صورة أخرى مختلفة وبعيدة بشكل كامل عن شخصية الأسطورة العبقرية التي نعرفها، أو نعتقد ذلك. وغابلر هو مؤلف وصحافي وناقد سينمائي سابق تمكن من الوصول إلى مصادر نادرة تتعلق بحياة ديزني، وتواصل مع عائلته بشكل شخصي.
يكتب غابلر عن رجلٍ مضطرب ووحيد وغريب الأطوار يعاني من الاكتئاب والوحدة والانعزال والإدمان على العمل، مدفوعًا بالكمالية أكثر من أحلامه بأهمية ريادة العمل، مهووس بأي مشروع يستحوذ على خياله.
ديزني هو الابن العاطفي لأب بارد سعى إلى خلق عالم خيالي لنفسه يشعر فيه بالحب والأمان، وانتهى به الأمر بنشر هذا الاختراع في العالم، بحسب غابلر عاش ديزني طفولة متنقلة قوامها الحرمان المادي والعاطفي، ولهذا بدأ في الرسم والانسحاب إلى عوالمه الخيالية، لتصبح حياته جهدًا مستمرًا لابتكار ما يسميه علماء النفس "parcosm"، أي كون مخترع، يمكنه التحكم فيه، على عكس الواقع الذي لم يتمكن من التحكم فيه. خلق ميكي ماوس وشخصيات أخرى وعوالم غامضة ليثبت مكانته كقوة في ذلك العالم، ويمنع الواقع من التعدي، أو السيطرة عليه، بهدف استعادة الشعور بقوة الطفولة التي لم يشعر بها، أو فقدها منذ فترة طويلة.
يشرح الكتاب بالتفصيل حياة مأساوية عاشها والت ديزني، وبخاصة في ظل انهيار علاقته بوالده، إلى حد أنه لم يحضر جنازة والده، لأنه كان في رحلة عمل، وكان الطريق يستغرق وقتًا طويلًا. في الوقت ذاته، شعر ديزني أنه محاصر بسبب عمله وشركته وصورته العامة. قال في إحدى المرات: "لم أعد أنا والت ديزني، والت ديزني شيء آخر، لقد نما ليكون معنى مختلفًا تمامًا عن مجرد رجل واحد".
ديزني رجل الأعمال المتسلط
على الصعيد الشخصي، كانت علاقة ديزني مع زوجته سيئة. في الواقع، كان متزوجًا من الاستوديو الخاص به، حتى أن زوجته اشتكت قائلة إنها أصبحت "أرملة فأر". قضى ديزني معظم وقته في حديقة الترفيه خاصته، يعرف مكان كل مسمار في ديزني لاند، أما حين يعود إلى قصره فكان يلعب بلعبة قطار ضخم مع مسار يمتد لنصف ميل، صممه بنفسه في منزله، بما في ذلك نفق بطول 90 قدمًا. وعلى الرغم من أن ديزني كانت أبًا شغوفًا ومحبًّا لابنتيه، لكن الشيء المؤكد أن العمل كان مركز حياته.
باختصار، وبحسب غابلر: والت ديزني هو صاحب رؤية حقيقية حوّلت رغبته في الهروب والكمال والمثالية الرسوم المتحركة من حداثة إلى شكل فني، أولًا مع ميكي ماوس، ثم مع أفلامه الطويلة، وأبرزها سنو وايت. ليس هذا وحسب، إذ أحدثت ديزني ثورة في صناعة الترفيه، بطريقة لم يسبقها مثيل. بنى والت إمبراطورية جمعت بين الأفلام والتلفزيون والمتنزهات والموسيقى، ونشر الكتب والبضائع، لكن هذه الإمبراطورية كان خلفها مدير يسيء معاملة موظفيه وأصدقاءه المقربين، وكان يمينيًا شرسًا مناهضًا للشيوعية خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت. كان ديزني قاسيًا ومسيطرًا على موظفيه، لم تستثن معاملته القاسية حتى أخاه روي، الذي كان له دور محوري في الشركة بفضل سياساته المالية الذكية التي كان يفتقر إليها والت، لكن هذا لم يمنع ديزني من السخرية من روي في أحد الاجتماعات، أثناء مناقشة الموسيقى التصويرية لفيلم "فانتازيا"؛ اقترح روي استخدام بعض الموسيقى الأكثر شعبية، لكن والت طرده من الغرفة قائلة: "عُدْ إلى الأسفل واحتفظ بالكتب". الأمر لا ينتهي عند أخيه، فيبدو أن ديزني كان أيضًا عنصريًا، إذ أبدى استياءه من فكرة توظيف السود للعمل في ديزني لاند!
ديزني لاند والثقافة الأميركية
على الرغم من الشخصية المعقدة لديزني إلا أنه لا يمكن إنكار الأثر الذي تركه خلفه، إذ تمكن من الدخول إلى كل منزل في أميركا، ومن ثم العالم. أحبه الأطفال كأحد أفراد أسرهم، فغدا العم والت. شكلت عوالم ديزني جزءًا كبيرًا من أميركا الحديثة، من خلال شخصيات مثل ميكي ماوس، وأفلام مثل سنو وايت، وفي النهاية حدائق الملاهي. أمّا ديزني لاند فكانت العالم الخيالي الذي لم يوجد، وتمنى ديزني لو أنه وجِدَ. ببساطة، كانت لدى ديزني حاجة ملحة لتغيير ما رآه كعالم يهدده إلى موطن آمن يمكن التحكم فيه. يقول غابلر: "وكما تم تصميم ديزني لاند لحجب العالم، فقد تم تصميمه أيضًا لتقديم نوع معين من التجربة النفسية التي لا يجدها المرء عادةً في مدينة الملاهي، أو الكرنفال. قصد والت ديزني، مقدم الراحة، أن توفر حديقته العكس تمامًا، ليس الحرية، بل السيطرة والنظام".
من جهة أخرى، يقول غابلر إن ديزني "عزز تحطيم المعتقدات التقليدية الأميركية، والتشاركية والتسامح، وساعد في تشكيل جيل مضاد للثقافة"، مساهمًا في تأسيس "الثقافة الشعبية الأميركية باعتبارها الثقافة السائدة في العالم". أما ستيفن واتس، في كتابه "المملكة السحرية"، فقد وصف ديزني بأنه "مهندس رئيسي للثقافة الأميركية الحديثة"، و"ربما المترجم البارز للحياة الخيالية للأمة".
توفي والت ديزني في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1966. وعند وفاته كان قد حصل على 20 جائزة أوسكار من أصل 59 ترشيحًا، وكان أكثر من 240 مليون شخص قد شاهدوا فيلمًا لديزني، و80 مليونًا قرأوا كتابًا له، و100 مليون شاهدوا أحد برامج ديزني التلفزيونية، ولم يتوقف هذا النجاح حتى بعد أكثر من نصف قرنٍ على رحيله.
مصادر:
Walt Disney: The Triumph of the American Imagination - Neal Gabler- Alfred A. Knopf- 2006
The Magic Kingdom: Walt Disney and the American Way of Life- Steven Watts- University of Missouri- 2001
مناهل السهوي 5 ديسمبر 2022
تغطيات
والت ديزني مع ابتكاره الأشهر ميكي ماوس (1966/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
والت ديزني، أو العم والت، مؤسس خيالات ديزني الفريدة، من قلاع وشمعدان ذهبي حي يعمل كخادمٍ شخصيّ، والأريكة والساعات المتكلمة، شخصيات تغوص في الخيال بشكل جنوني، لتبدو كأن لا مثيل سابقًا لها. ولد والت ديزني في شيكاغو عام 1901، وترعرع في مدينة كانساس سيتي في ولاية ميسوري. عمل في البداية في باريس كسائق سيارة إسعاف للصليب الأحمر. فيلمه الأول كان "متجر الساعات/ The Clock Store" عام 1931، وهو فيلم قصير يُظهِر محل بيع ساعات تدب الحياة فيه ليلًا، وتعزف كلّ ساعات المتجر موسيقى متناغمة. منذ ذلك الحين لم يتوقف ديزني عن النجاح والتوسع وخلق عوالم خالدة غيّرت من شكل الترفيه في العالم. قال عنه المخرج الروسي سيرغي أيزنشتاين إن عمله أعظم مساهمة من الشعب الأميركي في الفن. أمّا الناقد مارك فان دورين، فوصفه بأنه "فنان من الدرجة الأولى، يعرف حقائق لا حصر لها، ولا يمكن تدريسها".
ديزني الطفل المحروم عاطفيًا
خلف هذه الصورة المثالية لوالت ديزني، هنالك عالم آخر، وخلف العم ديزني اللطيف هنالك رجل غاضب يتعامل بتعالٍ مع موظفيه ويهمل زوجته. هذا ما يكشفه كتاب "والت ديزني: انتصار الخيال الأميركي"، لكاتب السيرة الشهير نيل غابلر، إذ يلقي ضوءًا على صورة أخرى مختلفة وبعيدة بشكل كامل عن شخصية الأسطورة العبقرية التي نعرفها، أو نعتقد ذلك. وغابلر هو مؤلف وصحافي وناقد سينمائي سابق تمكن من الوصول إلى مصادر نادرة تتعلق بحياة ديزني، وتواصل مع عائلته بشكل شخصي.
يكتب غابلر عن رجلٍ مضطرب ووحيد وغريب الأطوار يعاني من الاكتئاب والوحدة والانعزال والإدمان على العمل، مدفوعًا بالكمالية أكثر من أحلامه بأهمية ريادة العمل، مهووس بأي مشروع يستحوذ على خياله.
ديزني هو الابن العاطفي لأب بارد سعى إلى خلق عالم خيالي لنفسه يشعر فيه بالحب والأمان، وانتهى به الأمر بنشر هذا الاختراع في العالم، بحسب غابلر عاش ديزني طفولة متنقلة قوامها الحرمان المادي والعاطفي، ولهذا بدأ في الرسم والانسحاب إلى عوالمه الخيالية، لتصبح حياته جهدًا مستمرًا لابتكار ما يسميه علماء النفس "parcosm"، أي كون مخترع، يمكنه التحكم فيه، على عكس الواقع الذي لم يتمكن من التحكم فيه. خلق ميكي ماوس وشخصيات أخرى وعوالم غامضة ليثبت مكانته كقوة في ذلك العالم، ويمنع الواقع من التعدي، أو السيطرة عليه، بهدف استعادة الشعور بقوة الطفولة التي لم يشعر بها، أو فقدها منذ فترة طويلة.
يشرح الكتاب بالتفصيل حياة مأساوية عاشها والت ديزني، وبخاصة في ظل انهيار علاقته بوالده، إلى حد أنه لم يحضر جنازة والده، لأنه كان في رحلة عمل، وكان الطريق يستغرق وقتًا طويلًا. في الوقت ذاته، شعر ديزني أنه محاصر بسبب عمله وشركته وصورته العامة. قال في إحدى المرات: "لم أعد أنا والت ديزني، والت ديزني شيء آخر، لقد نما ليكون معنى مختلفًا تمامًا عن مجرد رجل واحد".
ديزني رجل الأعمال المتسلط
والت ديزني يحمل أربعة تماثيل أوسكار خلف كواليس حفل توزيع جوائز الأوسكار في لوس أنجلوس/ كاليفورنيا (1954/ Getty) |
"عند وفاته، كان قد حصل على 20 جائزة أوسكار من أصل 59 ترشيحًا، وكان أكثر من 240 مليونًا شاهدوا فيلمًا لديزني، و80 مليونًا قرأوا كتابًا له، و100 مليون شاهدوا أحد برامجه التلفزيونية" |
باختصار، وبحسب غابلر: والت ديزني هو صاحب رؤية حقيقية حوّلت رغبته في الهروب والكمال والمثالية الرسوم المتحركة من حداثة إلى شكل فني، أولًا مع ميكي ماوس، ثم مع أفلامه الطويلة، وأبرزها سنو وايت. ليس هذا وحسب، إذ أحدثت ديزني ثورة في صناعة الترفيه، بطريقة لم يسبقها مثيل. بنى والت إمبراطورية جمعت بين الأفلام والتلفزيون والمتنزهات والموسيقى، ونشر الكتب والبضائع، لكن هذه الإمبراطورية كان خلفها مدير يسيء معاملة موظفيه وأصدقاءه المقربين، وكان يمينيًا شرسًا مناهضًا للشيوعية خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الفائت. كان ديزني قاسيًا ومسيطرًا على موظفيه، لم تستثن معاملته القاسية حتى أخاه روي، الذي كان له دور محوري في الشركة بفضل سياساته المالية الذكية التي كان يفتقر إليها والت، لكن هذا لم يمنع ديزني من السخرية من روي في أحد الاجتماعات، أثناء مناقشة الموسيقى التصويرية لفيلم "فانتازيا"؛ اقترح روي استخدام بعض الموسيقى الأكثر شعبية، لكن والت طرده من الغرفة قائلة: "عُدْ إلى الأسفل واحتفظ بالكتب". الأمر لا ينتهي عند أخيه، فيبدو أن ديزني كان أيضًا عنصريًا، إذ أبدى استياءه من فكرة توظيف السود للعمل في ديزني لاند!
ديزني لاند والثقافة الأميركية
على الرغم من الشخصية المعقدة لديزني إلا أنه لا يمكن إنكار الأثر الذي تركه خلفه، إذ تمكن من الدخول إلى كل منزل في أميركا، ومن ثم العالم. أحبه الأطفال كأحد أفراد أسرهم، فغدا العم والت. شكلت عوالم ديزني جزءًا كبيرًا من أميركا الحديثة، من خلال شخصيات مثل ميكي ماوس، وأفلام مثل سنو وايت، وفي النهاية حدائق الملاهي. أمّا ديزني لاند فكانت العالم الخيالي الذي لم يوجد، وتمنى ديزني لو أنه وجِدَ. ببساطة، كانت لدى ديزني حاجة ملحة لتغيير ما رآه كعالم يهدده إلى موطن آمن يمكن التحكم فيه. يقول غابلر: "وكما تم تصميم ديزني لاند لحجب العالم، فقد تم تصميمه أيضًا لتقديم نوع معين من التجربة النفسية التي لا يجدها المرء عادةً في مدينة الملاهي، أو الكرنفال. قصد والت ديزني، مقدم الراحة، أن توفر حديقته العكس تمامًا، ليس الحرية، بل السيطرة والنظام".
من جهة أخرى، يقول غابلر إن ديزني "عزز تحطيم المعتقدات التقليدية الأميركية، والتشاركية والتسامح، وساعد في تشكيل جيل مضاد للثقافة"، مساهمًا في تأسيس "الثقافة الشعبية الأميركية باعتبارها الثقافة السائدة في العالم". أما ستيفن واتس، في كتابه "المملكة السحرية"، فقد وصف ديزني بأنه "مهندس رئيسي للثقافة الأميركية الحديثة"، و"ربما المترجم البارز للحياة الخيالية للأمة".
توفي والت ديزني في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1966. وعند وفاته كان قد حصل على 20 جائزة أوسكار من أصل 59 ترشيحًا، وكان أكثر من 240 مليون شخص قد شاهدوا فيلمًا لديزني، و80 مليونًا قرأوا كتابًا له، و100 مليون شاهدوا أحد برامج ديزني التلفزيونية، ولم يتوقف هذا النجاح حتى بعد أكثر من نصف قرنٍ على رحيله.
مصادر:
Walt Disney: The Triumph of the American Imagination - Neal Gabler- Alfred A. Knopf- 2006
The Magic Kingdom: Walt Disney and the American Way of Life- Steven Watts- University of Missouri- 2001