روي أندرسون.. السينما نافذة للتأمّل في بؤس الوضع البشريّ
جورج كعدي 27 أكتوبر 2022
سينما
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الحياة مأساة في لقطة قريبة ولكنّها كوميديا في لقطة واسعة"
شارلي شابلن
عالمه خالٍ من الحركة، وذو جمود لا يحتمل (بالإذن من كونديرا و"خفّة الكائن التي لا تُحتمل" لديه)، وذو بطء مقصود الغايات والدلالات ترشح منه رائحة العدم وبؤس الوضع البشريّ (human condition) الآيل إلى التآكل والفراغ. وإن لم يكن أسلوب هذا السينمائيّ السويديّ (مواليد 1943 في غوتنبرغ، أو "يوتيبوري" بالسويدية) فريدًا وجديدًا لناحيتي اللقطات الطويلة الثابتة (Static shot) وجمود الحركة وبطئها (سبقه كثر إلى ذلك من روبير بروسّون وجاك تاتي إلى الفنلنديّ الرائع أكي كوريسماكي)، إلا أنّ روي أندرسون Roy Andersson يتفرّد ويتجاوز أمثاله بنظرته الوجوديّة المتشائمة التي نقع على مثلها لدى أحد أركان الفكر والأدب الوجودييّن ألبير كامو، بل لعلّها نظرة عدميّة تحيلنا على فلسفة الكبير آرثر شوبنهاور. فلا يكتفي أندرسون بالغمز إلى عدم ما قبل، وعدم ما بعد، بل يضيف إليهما عدمًا ثالثًا هو عدم الوجود نفسه، كعدم وسيط أو وَسَطيّ بين عدمين، فالوجود لديه محكوم باللاتواصل بين البشر أوّلًا، وبعنف الإنسان ووحشيّته ثانيًا (لا برهان أعظم من برهان الحروب والصراعات غير المتوقفة مُذ وُجد هذا "الكائن" على الأرض)، وبوحدته وعزلته، وبإحساسه العارم بالسأم والفراغ، وبميله العنيف إلى العدوانيّة والعنصريّة والتعصّب والعبودية... إلى صفات كثيرة من هذا النوع تطغى على الخير والجمال بما لا يُقاس، ليبقى الفنّ والإبداع على صنوفه وأشكاله خلاصًا فرديًّا وحيدًا أمام هذا الكائن المسكين، المدعوّ إنسانًا، في عالم أنتنته الوحشيّة والقسوة غير المنتهيتين، وتوّجته كرزة قالب الحلوى: الموت!
هنا في ما سيأتي، محاولة غوص في لجّة أندرسون العدمية الحارقة لفهم نظرته الخاصة، المبدعة، رغم تشاؤمها المفرط (المحقّ) الى العالم الذي نحيا (نموت واقعًا) فيه.
بعد خمسة وعشرين عامًا غيابًا عن السينما (عمل خلالها في الإعلانات إذ لم يكن عثر حقًا على ما يريد في السينما غير السرد الأدبيّ)، أنجز عام 2000 فيلمه "أغانٍ من الطبقة الثانية" كجزء أوّل من ثلاثيّته التي شاءها "ثلاثيّة الأحياء". فيلم في ساعة وثلاثين دقيقة مكوّن من أربعين مشهدًا فقط، مقترحًا أسلوبًا معاكسًا لسينما السرعة والحركة المتواصلة. وَهَبَ الجمهور فيلمًا بلا حركة، تبعًا للأسلوب الذي سوف يحافظ عليه في أفلامه اللاحقة. حتّى المسار التنفيذيّ للتصوير مخالف لسينما الحقبة، فكلّ من أفلام الثلاثيّة التي سنأتي عليها تباعًا أُنجز في مدّة أربع سنوات، وجمالية اللاحركة (Immobility) تنسحب لديه على كل شيء، من الديكورات إلى الممثلين، حتى باتت تلك اللاحركة سمة صنع الفيلم وطريقته في تصوّر عالمه الخاصّ وخلقه. علمًا بأنّ اللاحركة هي نقيض السينما التي تُعتبر فنّ الحركة، فالسينمائيّ الفرنسيّ الرائد رُنيه كلير René Clair كتب عام 1924: "خُلقت السينما لتسجّل الحركة، وهذا غير قابل البتّة للمناقشة (...). إن تكن ثمة جماليّة للسينما فإنّها اكتشفت في الوقت عينه مع اختراع آلة التصوير والفيلم، مع الأخوين لوميير في فرنسا. إنها تُختزل بكلمة واحدة: الحركة".
ما هو دور المشاهد في عالم أندرسون السينمائيّ غير المتحرّك (أو الجامد إذا شئنا)؟ وبمَ يشعر؟ يستعير أندرسون من الشاعر والمسرحيّ والصحافيّ البيروفي سيزار ﭬيللّيهو César Vellejo (1938-1892) (لا نعجبّن من تناقض لفظ الاسم وكتابته حتى أنّ ثمة لفظًا أغرب هو "باللّيهو"!) بيتًا من إحدى قصائده فيه: "محبوبون هم الذين يجلسون"، وبهذه العبارة الشعرية لفيلليهو يفتتح أندرسون الجزء الأوّل من ثلاثيّته. فماذا يعني الجلوس في عالم أندرسون، وبالتالي الجمود واللاحركة؟ وفي نهاية الأمر، ماذا يقول استخدامه للاّحركة عن رؤيته للعالم، للإنسان، للسينما؟
إنّ اللاحركة لا تتجسّد بالطريقة نفسها عند أندرسون، بل لها أشكال وأبعاد مختلف، مثلما هي الحال لدى الرسّام أو النحّات اللذين يقدّمان عملًا فنّيًا خاليًا من الحركة إنّما ينطوي على مضامين وأبعاد. هكذا يسعنا فهم عالم أندرسون غير المتحرّك، فاللاحركة موجودة بفضل الحركة التي تسبقها أو تلك التي تليها. بالتالي فإنّ لحظة السكون أو السكينة يمكن اعتبارها لحظة تجمع اللاحركة إلى الحركة. نحن هنا إزاء "السينما عند الدرجة صفر" لو قارنّاها بـ"الكتابة عند الدرجة صفر" لرولان بارت. كذلك يعتبر إدغار موران Morin أنّ اللاحركة تكتسب قيمتها من انتظار الحركة. الانتظار هو الحالة الأساسيّة لدى شخوص أندرسون: المسافرون ينتظرون في المحطة، الناس ينتظرون قدوم الباص، الطبيب والممّرضة ينتظران الزبائن ... هم في حالة انتظار مستمرّة لتلك الحركة التي يصفها موران، بيد أنّها، في النهاية، لا تأتي.
غياب الحركة في سينما روي أندرسون يسير توازيًا مع غياب التوليف (المونتاج)، فلو كان المشهد (أو اللقطة الثابتة الطويلة) مقطّعة توليفًا من عدّة لقطات، حتى لو بقيت الأجساد جامدة، فإنّ توالي اللقطات كان ليُعطي انطباعًا بوجود حركة. الشخوص لديه، والمشهد كذلك، في حال من الاستراحة. هنا يلاقي أندرسون المنظّر الكبير أندريه بازان Bazin الذي كان مناهضًا للمونتاج، بلّ كان يدعو حتّى إلى الامتناع عنه. ومع ذلك فإنّ غياب المونتاج مطلقًا لا يصحّ في سينما أندرسون، ففي العديد من المشاهد، ومن خلال الاستخدام المعقّد لمقدّم المشهد وعمقه يخلق أندرسون توليفًا داخل المشهد، أو داخل اللقطة الثابتة غير المقطّعة من حيث الزوايا وأحجام اللقطات. فجأة تظهر شخوصه وسط المشهد، إلاّ أنّها تَفد من خارج حقل الصورة، فهي كانت دومًا حاضرة، لكنّ شخوصًا أخرى كانت تغطّيها أو جزءًا من الديكور. ينطبق ذلك على العديد من مشاهد "أغانٍ من الطبقة الثانية ". بهذا، يترك استخدام التوليف الداخليّ تأثيرًا ليس على الشكل فحسب، بل على السرد (narration) أيضًا. عبر اللجوء إلى "خارج حقل الصورة" الداخليّ يتمكن أندرسون من ابتداع "لصقات" بين مشهدين فيتعاقبان من دون مونتاج. يستخدم ذلك أيضًا للّعب مع السرد وتوليد الغموض والمفاجأة. يكتسب المشهد بأكمله معناه بمجرّد انكشاف الشخصية.
إنّ غياب لقطة القطع تجعل المشهد يدوم طويلًا جدًا، أو يهبنا على الأقلّ انطباعًا بطول مدّته. جيل دولوز Deleuze يدعو لحظات الاستراحة الطويلة هذه "زمنًا ميتًا" في كتابه المرجع "الصورة - الزمن" (له مؤلّفه الآخر المرجعيّ أيضًا "السينما- الحركة") مقدّمًا أمثلةً من سينما أنطونيوني ودي سيكا . تعبير دولوز ينطبق على كلّ مشاهد أندرسون، فـ"ثلاثيّة الأحياء" ترتكز عليه: مشاهد ذات مواقف محدودة، تأمّلات في الحياة اليوميّة، كما لدى سيكا الذي يعتبره أندرسون أحد منابع تأثّراته. رجل جالس على مقعد، امرأة تستحمّ، امرأة تنظر إلى نفسها في المرآة ... زمن اللقطة هو أحد عناصر الشعور باللاحركة. منطق الزمن لدى أندرسون يشبه فكرة برغسون الذي يقول في مؤلَّفه "التطوّر الخلاّق": "لو أردتُ تحضير كوب ماء محلّى فإن عليّ انتظار ذوبان السكر (...) هذا لا ينتمي إلى الفكر، بل هو المُعاش". هكذا يدع أندرسون مشاهده تتقدّم تبعًا لحاجتها الزمنية. المشاهد الطويلة تتيح بذلك إبراز الأشياء رويدًا رويدًا والإفساح للمشهد أن يتطوّر غالبًا في زمن واقعيّ. فالرجل الذي يسير من عمق حقل الصورة إلى مقدّم اللقطة بإيقاع طبيعيّ سوف يصل في اللقطة ذاتها. ثّمة شعور بالقلق والضيق يسري بين الشخوص الذي هم في استراحة، بلا كلام، في انتظار أمر ما.
الشريط الصوتيّ مهمّ أيضًا، عنصر مساعد في تثبيت الانطباع بالاستراحة المستمرّة. الصمت يعزّز الإحساس بانعدام الحركة، والحوارات التي تقلّ أكثر فأكثر بالتوازي مع تطوّر "الثلاثيّة"، تجعل العالم المحيط أكثر جمودًا. في عالم كهذا، ليست الصورة وحدها في استراحة، إنّما الشريط الصوتيّ كذلك.
الخمول والبلادة واللامبالاة سمات بارزة جدًا في شخوص أندرسون. ناس أفلامه بلا شغف... بلا شغف حياة تحديدًا. إنّهم ممهورون باللافعل بامتياز. فقدوا شهيّة الحياة، حافز النشاط والحركة. كأنّهم في محطة انتظار، وبلا فعل، بين عدم أتوا منه، وعدم ماضون إليه. شخوص أندرسون منطوون على ذواتهم ولا يفلحون في الحركة. إنسان أندرسون لا يتفاعل ولا ينفعل غالبًا، لذا تغدو اللاحركة وضعًا طبيعيًا له. إنّه يعاني أزمة الحركة والتفاعل مع أي حدث مهما بلغت خطورته. وهناك أزمة حركة إضافيّة متمثّلة في عجز الشخوص عن التصرّف حتّى لو أرادوا ذلك. كانّهم التجسيد المعاصر لشخصية سيزيف الذي لا يبلغ القمّة رغم محاولاته الكثيرة. هم مثل سيزيف محكومون بخلق حركة مستمرّة لا تبلغ قطّ منتهاها. عالم أندرسون اللامتحرك يتحوّل إذًا إلى جحيم حيث كل فرار هباء (من تأثّرات أندرسون التشكيلية لوحة "الكوميديا الإلهية" لدانتي بريشة الرسّام الفرنسيّ غوستاﭫ دوريه Gustave Doré 1832-1883).
أضف إلى ما سبق، فشل التواصل بين البشر، ما يجعل شخوص أندرسون منعزلين أيضًا. اللقطة الواسعة لديه تُبرز عزلة الأفراد ولا تبغي التركيز على أمر محدّد، ولا التعليق على ما نرى، حتى أنّه يبدو لا مباليًا حيال كل ما يحدث أمام الكاميرا. شخوصه كسولون، خمولون، لا رغبة لديهم في الحركة والإتيان بأيّ فعل، كأنّهم مستسلمون لطبيعة الحياة التي بقدر ما تحضّ البعض على كثرة الحركة هربًا من أمر ما أو سعيًا إليه، تُحجم البعض الآخر على الكسل والخمول (يحضرنا هنا عنوان "في مديح الكسل" للفيلسوف البريطاني برتراند راسل) إذ لا فائدة ترجى من الحركة، ولا رجاء.
أمّا الموسيقى في سينما أندرسون فهي من عناصر الحركة في أفلامه الموسومة باللاحركة إجمالًا. فالإيقاع الموسيقيّ يعزّز لديه الشعور بجمود الصورة. في كلّ فيلم من أفلامه ميلوديا (أو لحن) يمسي "لازِمةً" موسيقيّة مستعادة (Leitmotiv)، ففي "أغانٍ من الطبقة الثانية" ثمّة ميلوديا فَرِحة على آلتي الفلوت (المزمار) والأكورديون، اللتين تتناوبان على الحضور الأكثر طغيانًا، ما يُولِّدُ تنويعات إيقاعية وصوتيّة. وتتحوّل الموسيقى ذات مشهد من نغمة فرحة إلى نغمة حزينة إذ نرى امرأة تعزف تلك الميلوديا نفسها على آلة الفلوت، إنّما بإيقاع أبطأ فتولّد شعورًا بالحزن لا بالفرح. أمّا في الفيلم الثالث من الثلاثية "حمامة جاثمة على غصن تفكّر في الوجود" A Pigeon sat on a branch reflecting on existence (2014)، وهو الموضوع الأساسيّ في دراستنا هذه، تفتح الثيمة الموسيقيّة على آلتي الأكورديون والكمان منذ المشهد الأوّل. في هذا الفيلم، وانطلاقًا من الشريط الصوتيّ، يبرز التضادّ بين الهشاشة (الكمان) والعدوانيّة (الأكورديون). فرح وحزن، من التعارضات الأساسيّة في عالم أندرسون الموجودة بالتوازي في الميلوديات والشريط الصوتيّ. هذه "الموسيقات" تتناقض مع المناخ العام في أفلام أندرسون القاتمة. هي تساعد في إضفاء الجانب الكوميديّ في المواقف لإنتاجها على نحو أفضل. موسيقى كلّ فيلم تُختزل بميلوديا واحدة تتكرّر مرارًا في الفيلم. وسط الصمت، يؤكّد الإطناب الموسيقيّ أكثر على اللاحركة في المشهد. الشريط الصوتيّ هو إذًا في حركة، لكنّ المحصّلة في النهاية هي غلبة اللاحركة.
لدينا ضمن الشريط الصوتيّ الحوارات أيضًا. ليست كثيرة، لكن في كلّ فيلم تتكرّر الجملة الحواريّة طيلة الوقت. في "أغانٍ من الطبقة الثانية" لدينا أبيات ﭬيلليهو المذكورة آنفًا ("محبوبون هم الذين يجلسون" في شكل أساسيّ)، وفي "أنتم الأحياء" You the living (ثاني أجزاء الثلاثية، 2007) تكرّر الشخوص عبارة "غدًا يوم آخر"، وفي "حمامة جاثمة ..." لا يكف الجميع عن تكرار الجملة هذه عينها: "إنّني مسرور بأنّك على خير ما يرام". هذه الجُمل أو العبارات المتكرّرة تؤدي دور اللازمة الموسيقيّة. تصبح "اللازمة الكلاميّة" التي هي في تضادّ مع الموقف فتولّد الضحك.
شخوص أندرسون يكوّنون العنصر الثاني الذي يخلق الازدواجيّة بين اللاحركة والحركة في العالم "الأندرسونيّ". وثمّة جنس الشخصية سمة جوهريّة، فهناك لاحركة ذكريّة وحركة أنثويّة. معظم شخوص أفلام أندرسون رجال، وهم موضوعون في مقدّم المشهد، في سائر أفلام الثلاثيّة. ولكن عندما تحضر المرأة في حقل الصورة فإنّها غالبًا في حركة. بذلك، النساء في تضادّ مع الرجال الذين يمثّلون الجمود في عوالم أندرسون.
النساء ماثلات غالبًا في خلفيّة المشهد، يحضّرن طعامًا، أو يخاطبن الرجل الذي يلبث جامدًا في مقدّم اللقطة، أو يَصِحنَ في وجهه. هنّ، معظم الأحيان، في فعل يجعلهنّ في حالة حركة. هنّ اللاتي يبكين ويعبّرن عن مشاعرهنّ، وإن بَدَوْنَ عاطفيّات فإنهنّ المسيطرات أثناء الفعل الجنسيّ. الرجل في وضعية لا حركة مستلقيًا على ظهره في حين أنّ المرأة هي التي تتحرّك فوقه. اللاحركة الذكريّة والحركة الأنثويّة تولّدان شعورًا انفعاليًّا في الكادر.
يلعب أندرسون كذلك على عمق حقل الصورة (Depth of Field) الذي يتيح له تكوين مستويات ومنظورات متعدّدة في اللقطة الواحدة. تستطيع شخوصه بهذا أن تتحرّك في مقدّم اللقطة وفي عمقها. عامةً، حين يكون الأول في حركة يكون الثاني في لا حركة، والعكس صحيح. ثمة كوريغرافيا حركة وجمود. الكادر مكوّن بطريقة تمحو الحدود بين الحالتين. اللعبة مبنيّة بفضل عناصر الديكور (لوح زجاجيّ يفصل بين حدثين أو شخصيتين مثلًا) التي تتضاعف. المُشاهد يرى بذلك "شاشتين" في الوقت عينه. الديكور يخلق "شاشة منقسمة" (Split Screen) طبيعيّة تسمح بجمع حدثين مختلفين. يتوصّل أندرسون عبر مستويات جذب الانتباه المختلفة وألعاب الحركة واللاحركة إلى إنجاز توليف (مونتاج) في العمق يمكّنه من عدم قطع المشاهد، ملتقيًا مع بازان و"المونتاج الممنوع". حتى أنّه يؤثِر تحريك الكاميرا لضبط الكادر على قطع اللقطة. الاستثناء الوحيد الذي يلجأ إليه مستخدمًا المونتاج هو عند حاجته إلى كشف زاوية النظر الأخرى للمشهد. بيد أنّها حركة ثابتة لأنّ الكادر لا يتحرّك ولا يتبدّل. فالتكوين لدى أندرسون مسرحيّ حيث الكاميرا هي في موقع المتفرّج. القفز إلى الزاوية المقابلة يستخدم في الأحلام ولا يُحدِثُ صدمةً، ففي عالم الأحلام كل شيء مباح (هنا يلتقي أندرسون عميقًا مع أحد السينمائيّين المعلمين الكبار لويس بونوييل Bunuel الذي محا في سينماه جميع الفواصل بين الحلم والواقع فلم نعد ندري هل ما نراه هو حلم أم واقع، كما في تحفته "جميلة النهار" Belle du jour، حيث نصاب بدوار من فرط هَدْمِه الجدران بين الحلم والواقع).
يستلهم أندرسون الرسم واللوحة لأفلامه أكثر من السينما، ولذلك فإنّ مراجعه هي في معظم الأحيان تشكيليّة. يحبّ كثيرًا الرسّام البلجيكيّ René Magritte (1967-1898) لدنوّ أعماله من الحلم، أيضًا الرسام البلجيكي Paul Delvaux (1994-1897) لمناخاته الهلوسيّة الحلميّة، فضلًا عن الفرنسي Honoré Daumier (1879-1808) لغرابة شخوص لوحاته وبدانتها. لوحات ماغريت تلهمه بثيماتها السورياليّة وبـ"نسيج" (Texture) الصورة في أفلامه، تحديدًا "حمامة جاثمة...." الذي يعتمد له الجماليّة الباردة أحاديّة اللون. أما لوحات دلفو فتوحي له بالغرائبية وعمق حقل الصورة وتعدّد نقاط الجذب. ومن لوحات دومييه يستلهم هيئات شخوصه والسخرية الحادّة والناحية الكوميديّة – التراجيديّة والمواضيع الاجتماعية.
إضافة إلى هذه المرجعيات الثلاث في فنّ الرسم، يمكننا أن نقع لدى أندرسون على التشاؤم التاريخيّ الذي يسم أعمال فناني القرن التاسع عشر، من غويا إلى رسّامي موجة "الموضوعية الجديدة"، إلى الرسّامين التعبيريين. جميع أولئك الرسامين التراجيديين يلازمون مخيّلته. إلهامات أندرسون هي إذًا خليط من المأساويّ، الغرائبيّ، الساخر والاجتماعيّ.
مسرح العبث، وبخاصة مسرح بيكيت، أيضًا مصدر إلهام كبير لأندرسون. في مسرح العبث توضع الشخوص في خانة المهرّجين، وتدمّر لديهم كلّ إمكانات التواصل، ينزع التماسك من الحبكة وكلّ منطق من الحوارات. فلدى أندرسون في "حمامة جاثمة..." شخصيتا البائعين جوناثان وسام تشبهان إلى حدّ بعيد شخصيتي المشرّدين إستراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت الأشهر والأعظم "في انتظار غودو" حيث المزيج بين المبتذل والميتافيزيقيّ، فخلال ساعات ثلاث يتفوّهان بكل شيء وبأيّ شيء بلا معنى. منطق مسرح العبث هو في أساس البناء السرديّ والإيقاعيّ لدى أندرسون، ومراجعه المسرحيّة تتبدّى من النظرة الأولى إلى شخوصه، فممثّلوه جميعًا ذوو وجوه بيضاء (ألا يهبنا ذلك شعور الأموات – الأحياء؟). هنا نتذكّر أيضًا تبرّجات وجوه مسرح الكابوكي اليابانيّ التقليديّ. شخوص أندرسون منزوعة الهويّة الفرديّة لأنها متماثلة، حتى في ناحيتي الجسد واللباس، بحيث تغدو شخصًا واحدًا.
جانب مسرحيّ آخر في سينما أندرسون: شخوصه تواجه دومًا الكاميرا من غير أن تنظر إليها مباشرة. في ثلاثيّة أفلامه التي نحن في صددها، يتحدث عدد من شخوصه عن حياتهم إلى المشاهد. معالج نفسيّ يتكلّم عن عمله، حسناء تعشق فرق الـPop تفصح عن حلمها، بائع جبنة يكشف عن مزاجه، والحلاّق في "حمامة جاثمة..." يعترف للمشاهدين بأنّه ليس حلاّقًا في الحقيقة بل يحلّ مكان صهره المريض، فيهرب أحد الزبائن الذي كان ينوي قصّ شعره سريعًا.
هذه النظرة المباشرة إلى الكاميرا ومخاطبة المشاهد تهدم واقعًا الجدار الرابع المتعارف عليه في المسرح والذي يعني جدارًا غير مرئيّ يفصل خشبة المسرح عن المشاهدين. هذا الجدار يسمح للمشاهد بأن يقبل على نحو تامّ العالم الذي سينبني أمام ناظريه. هنا يدنو أندرسون من مسرح برتولت بريشت، أبرز روّاد هدم الجدار الرابع عبر مبدأ "التغريب" (Distanciation) الذي اقترن بمنهجه المسرحيّ المناقض للمسرح الأرسطيّ، والرافض لتماهي الممثل مع الشخصية التي يؤديّها (كما لدى ستانيسلافسكي مثلًا) من خلال الإبقاء على مسافة بين الحدث المسرحيّ وجمهور المتفرّجين، فالتغريب بحسب بريشت يذكّر المشاهد على الدوام بأنّ ما يُعرض أمامه هو مجرّد عمل مسرحيّ قابل للمناقشة والتبديل وإعادة النظر وليس نهائيًا ومحتومًا. مسرح بريشت يثير الوعي بالاغتراب لا بالتماهي. روي أندرسون يتبنّى المفهوم البريشتي للتغريب، فضلًا عن العبث الذي أشرنا إليه. يمزج على نحو عبقريّ بين اتجاهين مسرحيين متناقضين: المسرح العبثيّ الوجوديّ والعدميّ، والمسرح العبثيّ والعدميّ، والمسرح "المؤدلج" والملتزم المفترق تمامًا عن التشاؤم الوجوديّ والعبث والعدم، والمتمثلّ بامتياز في مسرح برتولت بريشت الماركسيّ. يأخذ أندرسون من هذا وذاك ما يلائم نظرته الخاصة والفريدة، ويفيد من اتجاهات مختلفة في السينما والمسرح والتشكيل.
الملمح الكوميديّ في سينما روي أندرسون سرعان ما يتحوّل تراجيديًا. وضع البعض سينما أندرسون في خانة كوميديا الـ "Slapstick" (burlesque بالفرنسية) أي تلك التي شاعت وازدهرت في مرحلة السينما الهوليوودية الصامتة مع أمثال شابلن وكيتون ولويد ولوريل وهاردي، والقائمة على الحركة والإيماء والمفارقات والمطاردات والمواقف الكوميدية الخلاّقة، ولكن هذا التصنيف لسينما أندرسون غير صحيح لأنّ الكوميديا لديه هي مضادّة لكوميديا الحركة إذ تنهض على الثبات وانعدام الحركة (Statique)، والأهمّ أنّ الملمح الكوميديّ في أفلامه سرعان ما ينقلب نحو البُعد المأساويّ التشاؤميّ، بل العدميّ ميتافيزيقيًا ووجوديًّا، وهو بالتالي يوظّف الكوميديا لأغراض أخرى غير كوميديّة (وإن تكن فعليًّا كذلك في بعض اللحظات) بل مفرطة الجديّة في أبعادها ودلالاتها. تنشأ الكوميديا السوداء و"الساتيريّة " في ثلاثيّته، موضوع دراستنا، من غياب الحركة، إذًا هي سينما ضدّ – هزليّة لمضيّها في نحو معاكس للهزل والحركة وتوليدها رغم ذلك التأثير عينه للكوميديا العبثيّة.
يؤمن أندرسون بأنّ الإنسان يستطيع تجاوز شرّه الوجوديّ إذا أقرّ بمسؤوليته الأخلاقيّة التي هي مسؤولية كل كائن بشريّ، ويدعو هذه المسؤولية بـ"الذنب حيال الوجود" مستندًا إلى بحث مارتن بوبر Buber الذي يحمل عنوان "الذنب والشعور بالذنب". والعالم بالنسبة إلى أندرسون قريب من النهاية. إنّهما الشعور والمناخ اللذان يسودان ثلاثيته الميتافيزيقيّة. إنّهما رؤيا "أبوكاليبتيّة" فنائيّة. الإنسان والوجود معلّقان. شيء ما يحصل. لا الشخوص ولا المشاهدون يعرفون أو يفهمون ما يحدث. إنه عالم منعدم الحركة في حالة دائمة من الانتظار.
إعجابي الشديد بسينما روي أندرسون دفعني إلى هذه الدراسة المقتضبة لسينماه، بيد أنّ ذلك لا يمنعني من الإشارة إلى علامة سوداء مستنكرة في فيلموغرافيته، فهذا السينمائي القدير والعميق والمدهش لا يرعوي، وهو ينتقد في أفلامه مأساة الوجود والوضع البشريّ، عن الإلماح إلى "الهولوكوست" في فيلمه القصير World of glory" (1990)" تحت تأثير من ثقافته الأوروبيّة ومن الدعاية الصهيونيّة التي لا ينجو منها أحد في القارة العجوز المريضة.
ويحقّ لي أن أتساءل هنا: كيف يرى سينمائيّ ذو نزعة إنسانيّة ووجوديّة الهولوكوست اليهوديّ ولا يرى الكارثة الفلسطينيّة المستمرّة على أيدي الصهاينة منذ أربعة وسبعين عامًا؟!
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
جورج كعدي 27 أكتوبر 2022
سينما
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
"الحياة مأساة في لقطة قريبة ولكنّها كوميديا في لقطة واسعة"
شارلي شابلن
عالمه خالٍ من الحركة، وذو جمود لا يحتمل (بالإذن من كونديرا و"خفّة الكائن التي لا تُحتمل" لديه)، وذو بطء مقصود الغايات والدلالات ترشح منه رائحة العدم وبؤس الوضع البشريّ (human condition) الآيل إلى التآكل والفراغ. وإن لم يكن أسلوب هذا السينمائيّ السويديّ (مواليد 1943 في غوتنبرغ، أو "يوتيبوري" بالسويدية) فريدًا وجديدًا لناحيتي اللقطات الطويلة الثابتة (Static shot) وجمود الحركة وبطئها (سبقه كثر إلى ذلك من روبير بروسّون وجاك تاتي إلى الفنلنديّ الرائع أكي كوريسماكي)، إلا أنّ روي أندرسون Roy Andersson يتفرّد ويتجاوز أمثاله بنظرته الوجوديّة المتشائمة التي نقع على مثلها لدى أحد أركان الفكر والأدب الوجودييّن ألبير كامو، بل لعلّها نظرة عدميّة تحيلنا على فلسفة الكبير آرثر شوبنهاور. فلا يكتفي أندرسون بالغمز إلى عدم ما قبل، وعدم ما بعد، بل يضيف إليهما عدمًا ثالثًا هو عدم الوجود نفسه، كعدم وسيط أو وَسَطيّ بين عدمين، فالوجود لديه محكوم باللاتواصل بين البشر أوّلًا، وبعنف الإنسان ووحشيّته ثانيًا (لا برهان أعظم من برهان الحروب والصراعات غير المتوقفة مُذ وُجد هذا "الكائن" على الأرض)، وبوحدته وعزلته، وبإحساسه العارم بالسأم والفراغ، وبميله العنيف إلى العدوانيّة والعنصريّة والتعصّب والعبودية... إلى صفات كثيرة من هذا النوع تطغى على الخير والجمال بما لا يُقاس، ليبقى الفنّ والإبداع على صنوفه وأشكاله خلاصًا فرديًّا وحيدًا أمام هذا الكائن المسكين، المدعوّ إنسانًا، في عالم أنتنته الوحشيّة والقسوة غير المنتهيتين، وتوّجته كرزة قالب الحلوى: الموت!
هنا في ما سيأتي، محاولة غوص في لجّة أندرسون العدمية الحارقة لفهم نظرته الخاصة، المبدعة، رغم تشاؤمها المفرط (المحقّ) الى العالم الذي نحيا (نموت واقعًا) فيه.
"روي أندرسون يتفرّد ويتجاوز أمثاله بنظرته الوجوديّة المتشائمة التي نقع على مثلها لدى أحد أركان الفكر والأدب الوجودييّن ألبير كامو، بل لعلّها نظرة عدميّة تحيلنا على فلسفة الكبير آرثر شوبنهاور" |
ما هو دور المشاهد في عالم أندرسون السينمائيّ غير المتحرّك (أو الجامد إذا شئنا)؟ وبمَ يشعر؟ يستعير أندرسون من الشاعر والمسرحيّ والصحافيّ البيروفي سيزار ﭬيللّيهو César Vellejo (1938-1892) (لا نعجبّن من تناقض لفظ الاسم وكتابته حتى أنّ ثمة لفظًا أغرب هو "باللّيهو"!) بيتًا من إحدى قصائده فيه: "محبوبون هم الذين يجلسون"، وبهذه العبارة الشعرية لفيلليهو يفتتح أندرسون الجزء الأوّل من ثلاثيّته. فماذا يعني الجلوس في عالم أندرسون، وبالتالي الجمود واللاحركة؟ وفي نهاية الأمر، ماذا يقول استخدامه للاّحركة عن رؤيته للعالم، للإنسان، للسينما؟
إنّ اللاحركة لا تتجسّد بالطريقة نفسها عند أندرسون، بل لها أشكال وأبعاد مختلف، مثلما هي الحال لدى الرسّام أو النحّات اللذين يقدّمان عملًا فنّيًا خاليًا من الحركة إنّما ينطوي على مضامين وأبعاد. هكذا يسعنا فهم عالم أندرسون غير المتحرّك، فاللاحركة موجودة بفضل الحركة التي تسبقها أو تلك التي تليها. بالتالي فإنّ لحظة السكون أو السكينة يمكن اعتبارها لحظة تجمع اللاحركة إلى الحركة. نحن هنا إزاء "السينما عند الدرجة صفر" لو قارنّاها بـ"الكتابة عند الدرجة صفر" لرولان بارت. كذلك يعتبر إدغار موران Morin أنّ اللاحركة تكتسب قيمتها من انتظار الحركة. الانتظار هو الحالة الأساسيّة لدى شخوص أندرسون: المسافرون ينتظرون في المحطة، الناس ينتظرون قدوم الباص، الطبيب والممّرضة ينتظران الزبائن ... هم في حالة انتظار مستمرّة لتلك الحركة التي يصفها موران، بيد أنّها، في النهاية، لا تأتي.
"هكذا يسعنا فهم عالم أندرسون غير المتحرّك: اللاحركة موجودة بفضل الحركة التي تسبقها أو تلك التي تليها. بالتالي فإنّ لحظة السكون أو السكينة يمكن اعتبارها لحظة تجمع اللاحركة إلى الحركة. نحن هنا إزاء "السينما عند الدرجة صفر" لو قارنّاها بـ"الكتابة عند الدرجة صفر" لرولان بارت" |
إنّ غياب لقطة القطع تجعل المشهد يدوم طويلًا جدًا، أو يهبنا على الأقلّ انطباعًا بطول مدّته. جيل دولوز Deleuze يدعو لحظات الاستراحة الطويلة هذه "زمنًا ميتًا" في كتابه المرجع "الصورة - الزمن" (له مؤلّفه الآخر المرجعيّ أيضًا "السينما- الحركة") مقدّمًا أمثلةً من سينما أنطونيوني ودي سيكا . تعبير دولوز ينطبق على كلّ مشاهد أندرسون، فـ"ثلاثيّة الأحياء" ترتكز عليه: مشاهد ذات مواقف محدودة، تأمّلات في الحياة اليوميّة، كما لدى سيكا الذي يعتبره أندرسون أحد منابع تأثّراته. رجل جالس على مقعد، امرأة تستحمّ، امرأة تنظر إلى نفسها في المرآة ... زمن اللقطة هو أحد عناصر الشعور باللاحركة. منطق الزمن لدى أندرسون يشبه فكرة برغسون الذي يقول في مؤلَّفه "التطوّر الخلاّق": "لو أردتُ تحضير كوب ماء محلّى فإن عليّ انتظار ذوبان السكر (...) هذا لا ينتمي إلى الفكر، بل هو المُعاش". هكذا يدع أندرسون مشاهده تتقدّم تبعًا لحاجتها الزمنية. المشاهد الطويلة تتيح بذلك إبراز الأشياء رويدًا رويدًا والإفساح للمشهد أن يتطوّر غالبًا في زمن واقعيّ. فالرجل الذي يسير من عمق حقل الصورة إلى مقدّم اللقطة بإيقاع طبيعيّ سوف يصل في اللقطة ذاتها. ثّمة شعور بالقلق والضيق يسري بين الشخوص الذي هم في استراحة، بلا كلام، في انتظار أمر ما.
الشريط الصوتيّ مهمّ أيضًا، عنصر مساعد في تثبيت الانطباع بالاستراحة المستمرّة. الصمت يعزّز الإحساس بانعدام الحركة، والحوارات التي تقلّ أكثر فأكثر بالتوازي مع تطوّر "الثلاثيّة"، تجعل العالم المحيط أكثر جمودًا. في عالم كهذا، ليست الصورة وحدها في استراحة، إنّما الشريط الصوتيّ كذلك.
الخمول والبلادة واللامبالاة سمات بارزة جدًا في شخوص أندرسون. ناس أفلامه بلا شغف... بلا شغف حياة تحديدًا. إنّهم ممهورون باللافعل بامتياز. فقدوا شهيّة الحياة، حافز النشاط والحركة. كأنّهم في محطة انتظار، وبلا فعل، بين عدم أتوا منه، وعدم ماضون إليه. شخوص أندرسون منطوون على ذواتهم ولا يفلحون في الحركة. إنسان أندرسون لا يتفاعل ولا ينفعل غالبًا، لذا تغدو اللاحركة وضعًا طبيعيًا له. إنّه يعاني أزمة الحركة والتفاعل مع أي حدث مهما بلغت خطورته. وهناك أزمة حركة إضافيّة متمثّلة في عجز الشخوص عن التصرّف حتّى لو أرادوا ذلك. كانّهم التجسيد المعاصر لشخصية سيزيف الذي لا يبلغ القمّة رغم محاولاته الكثيرة. هم مثل سيزيف محكومون بخلق حركة مستمرّة لا تبلغ قطّ منتهاها. عالم أندرسون اللامتحرك يتحوّل إذًا إلى جحيم حيث كل فرار هباء (من تأثّرات أندرسون التشكيلية لوحة "الكوميديا الإلهية" لدانتي بريشة الرسّام الفرنسيّ غوستاﭫ دوريه Gustave Doré 1832-1883).
أضف إلى ما سبق، فشل التواصل بين البشر، ما يجعل شخوص أندرسون منعزلين أيضًا. اللقطة الواسعة لديه تُبرز عزلة الأفراد ولا تبغي التركيز على أمر محدّد، ولا التعليق على ما نرى، حتى أنّه يبدو لا مباليًا حيال كل ما يحدث أمام الكاميرا. شخوصه كسولون، خمولون، لا رغبة لديهم في الحركة والإتيان بأيّ فعل، كأنّهم مستسلمون لطبيعة الحياة التي بقدر ما تحضّ البعض على كثرة الحركة هربًا من أمر ما أو سعيًا إليه، تُحجم البعض الآخر على الكسل والخمول (يحضرنا هنا عنوان "في مديح الكسل" للفيلسوف البريطاني برتراند راسل) إذ لا فائدة ترجى من الحركة، ولا رجاء.
"في "أنتم الأحياء" You the living (ثاني أجزاء الثلاثية، 2007) تكرّر الشخوص عبارة "غدًا يوم آخر"، وفي "حمامة جاثمة ..." لا يكف الجميع عن تكرار الجملة هذه عينها: "إنّني مسرور بأنّك على خير ما يرام". هذه الجُمل أو العبارات المتكرّرة تؤدي دور اللازمة الموسيقيّة" |
لدينا ضمن الشريط الصوتيّ الحوارات أيضًا. ليست كثيرة، لكن في كلّ فيلم تتكرّر الجملة الحواريّة طيلة الوقت. في "أغانٍ من الطبقة الثانية" لدينا أبيات ﭬيلليهو المذكورة آنفًا ("محبوبون هم الذين يجلسون" في شكل أساسيّ)، وفي "أنتم الأحياء" You the living (ثاني أجزاء الثلاثية، 2007) تكرّر الشخوص عبارة "غدًا يوم آخر"، وفي "حمامة جاثمة ..." لا يكف الجميع عن تكرار الجملة هذه عينها: "إنّني مسرور بأنّك على خير ما يرام". هذه الجُمل أو العبارات المتكرّرة تؤدي دور اللازمة الموسيقيّة. تصبح "اللازمة الكلاميّة" التي هي في تضادّ مع الموقف فتولّد الضحك.
شخوص أندرسون يكوّنون العنصر الثاني الذي يخلق الازدواجيّة بين اللاحركة والحركة في العالم "الأندرسونيّ". وثمّة جنس الشخصية سمة جوهريّة، فهناك لاحركة ذكريّة وحركة أنثويّة. معظم شخوص أفلام أندرسون رجال، وهم موضوعون في مقدّم المشهد، في سائر أفلام الثلاثيّة. ولكن عندما تحضر المرأة في حقل الصورة فإنّها غالبًا في حركة. بذلك، النساء في تضادّ مع الرجال الذين يمثّلون الجمود في عوالم أندرسون.
النساء ماثلات غالبًا في خلفيّة المشهد، يحضّرن طعامًا، أو يخاطبن الرجل الذي يلبث جامدًا في مقدّم اللقطة، أو يَصِحنَ في وجهه. هنّ، معظم الأحيان، في فعل يجعلهنّ في حالة حركة. هنّ اللاتي يبكين ويعبّرن عن مشاعرهنّ، وإن بَدَوْنَ عاطفيّات فإنهنّ المسيطرات أثناء الفعل الجنسيّ. الرجل في وضعية لا حركة مستلقيًا على ظهره في حين أنّ المرأة هي التي تتحرّك فوقه. اللاحركة الذكريّة والحركة الأنثويّة تولّدان شعورًا انفعاليًّا في الكادر.
يلعب أندرسون كذلك على عمق حقل الصورة (Depth of Field) الذي يتيح له تكوين مستويات ومنظورات متعدّدة في اللقطة الواحدة. تستطيع شخوصه بهذا أن تتحرّك في مقدّم اللقطة وفي عمقها. عامةً، حين يكون الأول في حركة يكون الثاني في لا حركة، والعكس صحيح. ثمة كوريغرافيا حركة وجمود. الكادر مكوّن بطريقة تمحو الحدود بين الحالتين. اللعبة مبنيّة بفضل عناصر الديكور (لوح زجاجيّ يفصل بين حدثين أو شخصيتين مثلًا) التي تتضاعف. المُشاهد يرى بذلك "شاشتين" في الوقت عينه. الديكور يخلق "شاشة منقسمة" (Split Screen) طبيعيّة تسمح بجمع حدثين مختلفين. يتوصّل أندرسون عبر مستويات جذب الانتباه المختلفة وألعاب الحركة واللاحركة إلى إنجاز توليف (مونتاج) في العمق يمكّنه من عدم قطع المشاهد، ملتقيًا مع بازان و"المونتاج الممنوع". حتى أنّه يؤثِر تحريك الكاميرا لضبط الكادر على قطع اللقطة. الاستثناء الوحيد الذي يلجأ إليه مستخدمًا المونتاج هو عند حاجته إلى كشف زاوية النظر الأخرى للمشهد. بيد أنّها حركة ثابتة لأنّ الكادر لا يتحرّك ولا يتبدّل. فالتكوين لدى أندرسون مسرحيّ حيث الكاميرا هي في موقع المتفرّج. القفز إلى الزاوية المقابلة يستخدم في الأحلام ولا يُحدِثُ صدمةً، ففي عالم الأحلام كل شيء مباح (هنا يلتقي أندرسون عميقًا مع أحد السينمائيّين المعلمين الكبار لويس بونوييل Bunuel الذي محا في سينماه جميع الفواصل بين الحلم والواقع فلم نعد ندري هل ما نراه هو حلم أم واقع، كما في تحفته "جميلة النهار" Belle du jour، حيث نصاب بدوار من فرط هَدْمِه الجدران بين الحلم والواقع).
"لدى أندرسون في "حمامة جاثمة..." شخصيتا البائعين جوناثان وسام تشبهان إلى حدّ بعيد شخصيتي المشرّدين إستراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت الأشهر والأعظم "في انتظار غودو" حيث المزيج بين المبتذل والميتافيزيقيّ" |
إضافة إلى هذه المرجعيات الثلاث في فنّ الرسم، يمكننا أن نقع لدى أندرسون على التشاؤم التاريخيّ الذي يسم أعمال فناني القرن التاسع عشر، من غويا إلى رسّامي موجة "الموضوعية الجديدة"، إلى الرسّامين التعبيريين. جميع أولئك الرسامين التراجيديين يلازمون مخيّلته. إلهامات أندرسون هي إذًا خليط من المأساويّ، الغرائبيّ، الساخر والاجتماعيّ.
مسرح العبث، وبخاصة مسرح بيكيت، أيضًا مصدر إلهام كبير لأندرسون. في مسرح العبث توضع الشخوص في خانة المهرّجين، وتدمّر لديهم كلّ إمكانات التواصل، ينزع التماسك من الحبكة وكلّ منطق من الحوارات. فلدى أندرسون في "حمامة جاثمة..." شخصيتا البائعين جوناثان وسام تشبهان إلى حدّ بعيد شخصيتي المشرّدين إستراغون وفلاديمير في مسرحية بيكيت الأشهر والأعظم "في انتظار غودو" حيث المزيج بين المبتذل والميتافيزيقيّ، فخلال ساعات ثلاث يتفوّهان بكل شيء وبأيّ شيء بلا معنى. منطق مسرح العبث هو في أساس البناء السرديّ والإيقاعيّ لدى أندرسون، ومراجعه المسرحيّة تتبدّى من النظرة الأولى إلى شخوصه، فممثّلوه جميعًا ذوو وجوه بيضاء (ألا يهبنا ذلك شعور الأموات – الأحياء؟). هنا نتذكّر أيضًا تبرّجات وجوه مسرح الكابوكي اليابانيّ التقليديّ. شخوص أندرسون منزوعة الهويّة الفرديّة لأنها متماثلة، حتى في ناحيتي الجسد واللباس، بحيث تغدو شخصًا واحدًا.
جانب مسرحيّ آخر في سينما أندرسون: شخوصه تواجه دومًا الكاميرا من غير أن تنظر إليها مباشرة. في ثلاثيّة أفلامه التي نحن في صددها، يتحدث عدد من شخوصه عن حياتهم إلى المشاهد. معالج نفسيّ يتكلّم عن عمله، حسناء تعشق فرق الـPop تفصح عن حلمها، بائع جبنة يكشف عن مزاجه، والحلاّق في "حمامة جاثمة..." يعترف للمشاهدين بأنّه ليس حلاّقًا في الحقيقة بل يحلّ مكان صهره المريض، فيهرب أحد الزبائن الذي كان ينوي قصّ شعره سريعًا.
هذه النظرة المباشرة إلى الكاميرا ومخاطبة المشاهد تهدم واقعًا الجدار الرابع المتعارف عليه في المسرح والذي يعني جدارًا غير مرئيّ يفصل خشبة المسرح عن المشاهدين. هذا الجدار يسمح للمشاهد بأن يقبل على نحو تامّ العالم الذي سينبني أمام ناظريه. هنا يدنو أندرسون من مسرح برتولت بريشت، أبرز روّاد هدم الجدار الرابع عبر مبدأ "التغريب" (Distanciation) الذي اقترن بمنهجه المسرحيّ المناقض للمسرح الأرسطيّ، والرافض لتماهي الممثل مع الشخصية التي يؤديّها (كما لدى ستانيسلافسكي مثلًا) من خلال الإبقاء على مسافة بين الحدث المسرحيّ وجمهور المتفرّجين، فالتغريب بحسب بريشت يذكّر المشاهد على الدوام بأنّ ما يُعرض أمامه هو مجرّد عمل مسرحيّ قابل للمناقشة والتبديل وإعادة النظر وليس نهائيًا ومحتومًا. مسرح بريشت يثير الوعي بالاغتراب لا بالتماهي. روي أندرسون يتبنّى المفهوم البريشتي للتغريب، فضلًا عن العبث الذي أشرنا إليه. يمزج على نحو عبقريّ بين اتجاهين مسرحيين متناقضين: المسرح العبثيّ الوجوديّ والعدميّ، والمسرح العبثيّ والعدميّ، والمسرح "المؤدلج" والملتزم المفترق تمامًا عن التشاؤم الوجوديّ والعبث والعدم، والمتمثلّ بامتياز في مسرح برتولت بريشت الماركسيّ. يأخذ أندرسون من هذا وذاك ما يلائم نظرته الخاصة والفريدة، ويفيد من اتجاهات مختلفة في السينما والمسرح والتشكيل.
"ينتقد أندرسون في أفلامه مأساة الوجود والوضع البشريّ، عبر الإلماح إلى "الهولوكوست" في فيلمه القصير "World of glory" (1990) تحت تأثير من ثقافته الأوروبيّة ومن الدعاية الصهيونيّة التي لا ينجو منها أحد في القارة العجوز المريضة. ويحقّ لي أن أتساءل هنا: كيف يرى سينمائيّ ذو نزعة إنسانيّة ووجوديّة الهولوكوست اليهوديّ ولا يرى الكارثة الفلسطينيّة المستمرّة على أيدي الصهاينة؟" |
يؤمن أندرسون بأنّ الإنسان يستطيع تجاوز شرّه الوجوديّ إذا أقرّ بمسؤوليته الأخلاقيّة التي هي مسؤولية كل كائن بشريّ، ويدعو هذه المسؤولية بـ"الذنب حيال الوجود" مستندًا إلى بحث مارتن بوبر Buber الذي يحمل عنوان "الذنب والشعور بالذنب". والعالم بالنسبة إلى أندرسون قريب من النهاية. إنّهما الشعور والمناخ اللذان يسودان ثلاثيته الميتافيزيقيّة. إنّهما رؤيا "أبوكاليبتيّة" فنائيّة. الإنسان والوجود معلّقان. شيء ما يحصل. لا الشخوص ولا المشاهدون يعرفون أو يفهمون ما يحدث. إنه عالم منعدم الحركة في حالة دائمة من الانتظار.
إعجابي الشديد بسينما روي أندرسون دفعني إلى هذه الدراسة المقتضبة لسينماه، بيد أنّ ذلك لا يمنعني من الإشارة إلى علامة سوداء مستنكرة في فيلموغرافيته، فهذا السينمائي القدير والعميق والمدهش لا يرعوي، وهو ينتقد في أفلامه مأساة الوجود والوضع البشريّ، عن الإلماح إلى "الهولوكوست" في فيلمه القصير World of glory" (1990)" تحت تأثير من ثقافته الأوروبيّة ومن الدعاية الصهيونيّة التي لا ينجو منها أحد في القارة العجوز المريضة.
ويحقّ لي أن أتساءل هنا: كيف يرى سينمائيّ ذو نزعة إنسانيّة ووجوديّة الهولوكوست اليهوديّ ولا يرى الكارثة الفلسطينيّة المستمرّة على أيدي الصهاينة منذ أربعة وسبعين عامًا؟!
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.