الموسيقي الفلسطينيّ.. من عبق التراث إلى رحاب العالم
أشرف الحساني 17 يوليه 2022
موسيقى
محل جارو للآلات الموسيقية في غزة (21/9/2020/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
شكّل الموروث الموسيقيّ الشعبي الفلسطينيّ حلقة قويّة داخل مسار التحديث الفنّي في العالم العربيّ، فالتجارب الموسيقيّة الفلسطينيّة الجديدة خلال الألفية الثالثة لم تعمل على نسف القديم، وإنّما اشتغلت على تثمينه وتوليفه، عبر آلاتٍ موسيقيّة معاصرة تُحافظ على رونق وعمق هذا التراث الفنّي الغني، لكنّها تُعيد في الوقت نفسه إنتاجه موسيقيًا من خلال دمجه مع ألوانٍ موسيقيّة غربيّة. غير أنّ هذا التجديد لم يبقَ رهين الشكل الموسيقيّ، بل تشعّب إلى نمط الإنتاج، وساهم في بروز تجارب لافتة تستحضر التراث وتجعل منه قاطرة صوب تجريبٍ موسيقيّ جديد. لذلك، فإنّ عملية الاستناد على التراث الشعبي لم تبقَ رهينة الموسيقى الفلسطينيّة، بل امتدت وتشعّبت وتشابكت مع باقي الفنون الأخرى داخل المنطقة العربيّة، عاملة على تجديد موروثها الرمزي عبر الإنتاج الموسيقيّ المعاصر. وعلى الرغم من أنّ هذا التجديد قد بدأ عربيًا منذ سبعينيّات القرن العشرين، حيث شهدت المرحلة تضاربًا بين العديد من الحركات الموسيقيّة والتيارات الغنائية، تحكّمت فيها العديد من الثنائيات الفكرية (الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة)؛ إلاّ أنّ هذا الجدل الفكري الذي عرفه الفنّ العربيّ الحديث والمعاصر لم يتغيّر إلى اليوم، إذْ لا يزال يعمل بشكلٍ مُبطّن على طرح أسئلة عدّة بالنسبة لكينونة الموسيقيّ العربيّ. والسبب لا تتحكّم فيه نوازعٌ فنّية وجماليّة، وإنّما فكريّة ترتبط بالديمومة التاريخيّة وقُدرتها على تجاوز ذاتية الموسيقيّ العربيّ وجعله مجرّد جسدٍ يتحكّم فيه براديغم التاريخ والرجّات التي يشهدها الواقع بين حينٍ وآخر. لكنّ الذاكرة في التجربة الموسيقيّة الفلسطينيّة تبرز بشكل أقوى وأكثر وعيًا ونضجًا، لأنّ مفهوم الذاكرة لا يعمل كإطار زمنيّ يحتضن التجربة الفنّية، بل كمُحرّك خفيّ ودافع أساس لبلورة التجربة الموسيقيّة والتأثير في راهنها.
فهذا الحضور للتراث الشعبي يُغذّي الموسيقي الفلسطينيّة المعاصرة، ويجعلها تتجدّد من تلقاء نفسها. إنّها أشبه بنبتة الظلّ التي لا تحتاج إلى شمس، لأنّ قُدرتها القويّة على الصمود تجعل فعل النمو والتبرعم أمرًا طبيعيًا بالنّظر إلى ذاكرة البلد وتاريخه وفنونه ورموزه. ويُعدّ مفهوم التجريب الموسيقيّ من أهمّ الحلقات الجماليّة في ذاكرة التجارب الموسيقيّة الجديدة، فقد قاد هذا الولع بالموروث الفنّي إلى اجتراح تجارب معاصرة تنبني وتُشيّد على هذا التراث. وأستحضر هنا تجربة المطربة الفلسطينية سناء موسى، كأبرز التجارب الغنائية الجديدة، التي وسّعت مفهوم التراث، وأعادت الاشتغال عليه غنائيًا، وبوعيّ كبيرٍ. ولا شك في أنّ المُتتبّع لتجربتها الغنائية سيفطن إلى الدور البارز الذي لعبته في تقوية أواصر الصداقة بين العتاقة والأصالة. إنّها تجربة فريدةٌ يُغذّيها وعي الفنّانة بتاريخها وذاكرتها، وقدرة الأغنية على فعل المُقاومة والصمود، أمام موجات الطمس الدائم التي تطاول الفنّ الفلسطينيّ من لدن الاحتلال. من ثمّ، فإنّ هذا التراث الشعبي بالنسبة لها، ليس مجرّد رمزٍ ثقافي، أو هويّة فنّية، بقدر ما يُمثّل علامة وجودٍ على تاريخٍ وحضارة ضاربين في القدم.
عن علاقة الموسيقيّ الفلسطينيّ بتراثه الشعبي، وعناصر وآليات التجديد داخل التجربة الموسيقيّة الفلسطينيّة العاصرة، كانت لنا هذه الوقفة مع نماذج موسيقيّة ونقديّة من الجيل الجديد:
شادي زقطان (موسيقي فلسطيني):
قضية تتوق إلى الحياة
لطالما نجت الأغنية الفلسطينية من تصدعات قضيّتها، وقفزت بأعجوبة إلى قطعة رصيف ما متبقٍ بعد القصف الجوي في بيروت، أو تسربت في ضيق الخناق حول فلسطين نفسها، إلى شروقها من تحت أنقاض قصف سلاح الطيران نفسه، باختلاف الطيارين طبعًا. في غزة، نجت من إشكالية التعريف من الداخل، أو من الضفة، اخترقت الحدود، وظهرت في أمسيات وصباحات عربية بعيدًا عن بيتها الذي خرجت منه. قد لا تشبه أغنية اليوم القادمة من الأراضي المحتلّة شكلها المعتاد، مثقلة بالعتب والهم بالالتزام العسكري بالقضية، تغيّرت الأغنية الفلسطينية، هي فعلًا حرّة، وغير قابلة للإيقاف، هي أغنية رشيقة اليوم، ملوّنة، ثارت على ثوريتها، وعلى شكلها ومضمونها وأهدافها. انسلت من بين قطبي هويتها المعتادة، البطل والضحية، قدمت نفسها بنفسها من جديد بوجوهٍ عدة، وأصوات في مختلف أنواع الموسيقى الموجودة الآن في العالم العربي، والعالم أيضًا، هي تعرف معنى الاحتلال، هي قادمة من خلف الحواجز العسكرية الثابتة والطيارة، هي قادمة من تحت الاحتلال من فوقه. إنّ الفلسطيني في الأغنية الجديدة قد لا يكون بطلًا، ولكنه بالتأكيد ليس ضحية، هو حي وموجود ويتكلم ويغني.
وصلت الأغنية الفلسطينية الجديدة إلى الشباب العربي في العواصم المجاورة والبعيدة، وجلست بثقة بين أغاني العواصم القديمة، وصلت أيضًا إلى شباب رام الله، طولكرم، ونابلس، والمخيم، عاشت وعاشها الشباب الفلسطيني والعربي، بل وجدت من حيث لا تدري ذائقة عامّة عجزت عنها خطابات وسيمفونيات أحلام عربيّة ومحلية وتليفزيونات وصانعي محتوى. لقد عمل موسيقيون كسفراء في عالم شاب، بعيدًا عن عجز السفارات المنسية للدولة منذ عقود، فرقص العالم ولو قليلًا معنا.
إنّ ما استندت إليه الأغنية الفلسطينيّة الجديدة هو ما استندت عليه شقيقتها الأكبر بعشر وبعشرين وبخمسين عامًا، استندت إلى قضية تتوق في جوهرها إلى الحياة والنور، الفرح والعدالة، أغنية اليوم من فلسطين كشقيقتها الأكبر حية، متجددة، متّصلة مع جيلها الكبير، لأنها فلسطينية وحرة حتى من نفسها.
جوان صفدي (موسيقي فلسطيني):
إقحام عناصر تراثيّة
لا أنسى كيف كان المشهد في بداية الألفية وبداية ما يمكن تسميته اليوم "ثورة الموسيقى البديلة". كان الجميع يحاول الدمج بين قوالب موسيقية مستوردة وبين الموسيقى الشعبيّة في بلده أو غيرها. في 2008، أسست مع مجموعة أصدقاء فرقة سميتها "نجوم الضهر"، وكانت تسعى إلى دمج الموسيقى الفلسطينيّة الشعبيّة مع الروك، في لون جديد سميّناه "الحفلة روك" وكان فيها عود ودربكّة إلى جانب آلات الروك التقليديّة، كما كان فيها غناء جماعيّ، وأورغ أفراح، وكثير من الفرح حقًا. تطوّرت هذه الفرقة لتصبح "فش سمك"، التي كانت فرقة روك عربي حرّ، وهو الجانر الذي توصّلنا إليه من كل هذه التجارب. تزامن ذلك مع صعود "أوتوستراد"، التي برعت في استحضار أجواء الموسيقى الفرايحيّة العربيّة، ودمجها مع الفانك روك والجاز، وغيرها. كانت هنالك تجارب عديدة واعدة في كل الجانرات المعروفة. كانت هذه روح المرحلة؛ مرحلة التجريب والاستكشاف. اليوم يبدو أن العولمة استفحلت لدرجة أن الأغاني الحديثة في فلسطين، وغيرها، تتركّب من العناصر نفسها المستعملة في كل العالم؛ الإيقاعات والمؤثرات الصوتية والألوان الموسيقية كلها تكيّف نفسها مع آخر التطورات في الصوت العالمي، حتى الكلمات المستعملة في الأغاني صارت تستعير من الإنكليزية، أو جماليّات الغناء الغربيّ، ما عدا في الأعمال التي امتهن أصحابها إعادة إنتاج الأغاني التراثيّة بقوالب عصريّة، وبلمسة خاصة، مثل الفنانة سناء موسى، والفنانة دلال أبو آمنة، والراحلة الجميلة ريم بنا، التي دمجت التهاليل والأهازيج مع الجاز والموسيقى الإلكترونيّة، وكانت من القلّة الوفيّة للتجريب والتجديد بعيدًا عن اعتبارات الدارج. قد يعود بهتان العنصر التراثيّ في الموسيقى الحديثة إلى الانقطاع الذي تكبّدته التجربة الثقافيّة الفلسطينيّة إثر النكبة. لم يكن هذا مجرّد حدث تاريخيّ عارض، بل خلق فجوة كبيرة بين الجيل الذي ينتج الفن اليوم، وبين تراثه الذي نفِي من الكمان لعقود طويلة. مع ذلك، نجد عند الموسيقي الفلسطيني المعاصر ميلًا طبيعيًا لإقحام عناصر تراثيّة دائمًا، سواء في الأداء الغنائيّ، أو عنصر موسيقي آخر، مما يضفي ميزة محليّة على أعمال تتحدّث باللغة العالميّة، وتصل الحاضر بالماضي. لا شك أن الدبكة الفلسطينية، مثلًا، حاضرة بإيقاعها، ولغتها الموسيقيّة في عديد التجارب الجديدة، وفي جانرات عدة؛ الراب، الروك، والدانس، وغيرها، ولعلّ أبرز تلك التجارب هي التي قدّمها الفنّان، ولاء سبيت، في تلك الفترة، حيث دمج الدبكة والزجل الشعبي مع الريجي، والهيب هوب، والموسيقى الإلكترونيّة. كما أن الإيقاعات والمقامات العربيّة وجمل من الأغاني الشعبيّة تجد طريقها على الدوام إلى الأغاني الفلسطينيّة البديلة في الراب، البوب، الروك، وحتى الجاز، وغيرها، وتندمج فيها من دون أن تطغى عليها في أغلب الحالات، أي تكون عنصرًا جماليًا في الأغنية، ولا تعتمد عليه.
لم تنجح التجارب الجديدة في الساحة الفلسطينيّة البديلة بإنتاج جانر جديد يدمج بشكل طبيعي بين التراث والموسيقى الحديثة، مثلما تفعل موسيقى "المهرجانات" في مصر مثلًا. ولعل الأنجح منها بذلك هي الدحيّة البدويّة، وموسيقى الأفراح بشكل عام، إذ تحافظ على لحنها وطاقاتها كما كانا منذ الأزل، ويتطوّر فيها الإيقاع والأصوات مع تطوّر الموسيقى الإلكترونيّة بشكل طرديّ، وتتجدّد كلماتها بشكل دائم لمواكبة التغيّرات السياسيّة بعفويّة أخاذة.
عُلا الشيخ (ناقدة فنية فلسطينيّة):
في حضرة تجارب قدّمت شكلًا جديدًا
عند الحديث عن الفنون الكلية التي لها علاقة بتاريخ الشعوب وتطورها، لا يستقيم النظر اليها من خلال تقسيم جغرافي (إداري) حصل مؤخرًا، فتراث هذه المنطقة الموسيقي ممتد ومتشعب ومتداخل، شأنه شأن غيره من أنواع الفنون الأخرى، والصيغ الجمعية التي تربط هذه الشعوب، بغض النظر عن التقسيمات الجغرافية الإدارية الحديثة.
فلنأخذ مثالًا على ذلك حركة الفنون في مصر في بداية القرن الفائت، حيث سنجد تداخلًا كبيرًا بين مؤسسيها ومبدعيها، ومن أين جاؤوا، وما أضافوا إليها. الأدعى حاليًا مناقشة التطور الموسيقى في الحيز الجغرافي (الإداري) في مصر، وسورية، وفلسطين، ولبنان، والمغرب العربي، والخليج... إلخ، من ناحية حداثية، حيث هنالك أجيال جديدة الآن تقوم بالاستناد إلى فولكلورها وإرثها الشعبي باستخراج أنماط جديدة من الموسيقى، هذه اللغة العالمية للتعبير عن نفسها ووجودها. وأكبر مثال على ذلك أن فكرة الراب العربي بين جمهور الشباب حاليًا منتشرة بكثافة، مع أن الراب ولد من مكان بعيد جدًا، لذلك، ففي فلسطين نرى كما في لبنان السبعينيات وبداية الثمانينيات (قبل الحرب الأهلية) انتشار فن الزجل المصور والتحديات التي تحدث بين القرى والضيع، وبين فرسان هذا النوع من الفن الشعبي، يحدث نسج آخر الآن على المجوز الشعبي، وفن زجلي بين مطربين يلعبون على القوافي، وكسر الآخر من خلال الإقحام البلاغي والقافية، يقابله بشكل شبيه لهذا النوع، مع تطور في الأداء، وطريقة الحركة، ونوع الموسيقى المستخدمة، وبسبب الكثافة السكانية في مصر، مع ظهور فن المهرجانات، أو مطربي المهرجانات (مع الاعتذار للصفة الحقيقية للمطربين).
وعن فلسطين تحديدًا، فهي تعيش مع كل هذا، في حضرة تجارب استطاعت أن تقدم شكلًا جديدًا على الثقافة المتداولة شعبيًا، مثل تجربة فرج سليمان، تامر نفار، شادي زقطان، أحمد عيد، باسل عباس، وغيرهم، وأصبح لهذه الأسماء حضورها في التأليف الموسيقى للأفلام الفلسطينية أيضًا.
ومع هذا الحديث، يحضرني فيلم "في أثر مادة سحرية"، للمخرجة الفلسطينية جمانة مناع، التي تحكي الموسيقى وتطورها في حضرة العزل الذي يعيشه سكان فلسطين التاريخية، بمعنى الفصل، والذي لا يرتبط فقط بالفصل العنصري الذي يمارسه الاحتلال فحسب، بل هو فصل المجتمع الفلسطيني عن محيطه الجغرافي القريب والبعيد الذي يرتبط معه باللغة على أقل تقدير، ببساطة لصعوبة جمع الموسيقيين من المنطقة في فلسطين، فتعيش مع كاميرا المخرجة مناع شكل الموسيقى والأغنيات، وكل ما طرأ عليها.
أشرف الحساني 17 يوليه 2022
موسيقى
محل جارو للآلات الموسيقية في غزة (21/9/2020/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
شكّل الموروث الموسيقيّ الشعبي الفلسطينيّ حلقة قويّة داخل مسار التحديث الفنّي في العالم العربيّ، فالتجارب الموسيقيّة الفلسطينيّة الجديدة خلال الألفية الثالثة لم تعمل على نسف القديم، وإنّما اشتغلت على تثمينه وتوليفه، عبر آلاتٍ موسيقيّة معاصرة تُحافظ على رونق وعمق هذا التراث الفنّي الغني، لكنّها تُعيد في الوقت نفسه إنتاجه موسيقيًا من خلال دمجه مع ألوانٍ موسيقيّة غربيّة. غير أنّ هذا التجديد لم يبقَ رهين الشكل الموسيقيّ، بل تشعّب إلى نمط الإنتاج، وساهم في بروز تجارب لافتة تستحضر التراث وتجعل منه قاطرة صوب تجريبٍ موسيقيّ جديد. لذلك، فإنّ عملية الاستناد على التراث الشعبي لم تبقَ رهينة الموسيقى الفلسطينيّة، بل امتدت وتشعّبت وتشابكت مع باقي الفنون الأخرى داخل المنطقة العربيّة، عاملة على تجديد موروثها الرمزي عبر الإنتاج الموسيقيّ المعاصر. وعلى الرغم من أنّ هذا التجديد قد بدأ عربيًا منذ سبعينيّات القرن العشرين، حيث شهدت المرحلة تضاربًا بين العديد من الحركات الموسيقيّة والتيارات الغنائية، تحكّمت فيها العديد من الثنائيات الفكرية (الأصالة والمعاصرة، التقليد والحداثة)؛ إلاّ أنّ هذا الجدل الفكري الذي عرفه الفنّ العربيّ الحديث والمعاصر لم يتغيّر إلى اليوم، إذْ لا يزال يعمل بشكلٍ مُبطّن على طرح أسئلة عدّة بالنسبة لكينونة الموسيقيّ العربيّ. والسبب لا تتحكّم فيه نوازعٌ فنّية وجماليّة، وإنّما فكريّة ترتبط بالديمومة التاريخيّة وقُدرتها على تجاوز ذاتية الموسيقيّ العربيّ وجعله مجرّد جسدٍ يتحكّم فيه براديغم التاريخ والرجّات التي يشهدها الواقع بين حينٍ وآخر. لكنّ الذاكرة في التجربة الموسيقيّة الفلسطينيّة تبرز بشكل أقوى وأكثر وعيًا ونضجًا، لأنّ مفهوم الذاكرة لا يعمل كإطار زمنيّ يحتضن التجربة الفنّية، بل كمُحرّك خفيّ ودافع أساس لبلورة التجربة الموسيقيّة والتأثير في راهنها.
فهذا الحضور للتراث الشعبي يُغذّي الموسيقي الفلسطينيّة المعاصرة، ويجعلها تتجدّد من تلقاء نفسها. إنّها أشبه بنبتة الظلّ التي لا تحتاج إلى شمس، لأنّ قُدرتها القويّة على الصمود تجعل فعل النمو والتبرعم أمرًا طبيعيًا بالنّظر إلى ذاكرة البلد وتاريخه وفنونه ورموزه. ويُعدّ مفهوم التجريب الموسيقيّ من أهمّ الحلقات الجماليّة في ذاكرة التجارب الموسيقيّة الجديدة، فقد قاد هذا الولع بالموروث الفنّي إلى اجتراح تجارب معاصرة تنبني وتُشيّد على هذا التراث. وأستحضر هنا تجربة المطربة الفلسطينية سناء موسى، كأبرز التجارب الغنائية الجديدة، التي وسّعت مفهوم التراث، وأعادت الاشتغال عليه غنائيًا، وبوعيّ كبيرٍ. ولا شك في أنّ المُتتبّع لتجربتها الغنائية سيفطن إلى الدور البارز الذي لعبته في تقوية أواصر الصداقة بين العتاقة والأصالة. إنّها تجربة فريدةٌ يُغذّيها وعي الفنّانة بتاريخها وذاكرتها، وقدرة الأغنية على فعل المُقاومة والصمود، أمام موجات الطمس الدائم التي تطاول الفنّ الفلسطينيّ من لدن الاحتلال. من ثمّ، فإنّ هذا التراث الشعبي بالنسبة لها، ليس مجرّد رمزٍ ثقافي، أو هويّة فنّية، بقدر ما يُمثّل علامة وجودٍ على تاريخٍ وحضارة ضاربين في القدم.
عن علاقة الموسيقيّ الفلسطينيّ بتراثه الشعبي، وعناصر وآليات التجديد داخل التجربة الموسيقيّة الفلسطينيّة العاصرة، كانت لنا هذه الوقفة مع نماذج موسيقيّة ونقديّة من الجيل الجديد:
شادي زقطان (موسيقي فلسطيني):
قضية تتوق إلى الحياة
لطالما نجت الأغنية الفلسطينية من تصدعات قضيّتها، وقفزت بأعجوبة إلى قطعة رصيف ما متبقٍ بعد القصف الجوي في بيروت، أو تسربت في ضيق الخناق حول فلسطين نفسها، إلى شروقها من تحت أنقاض قصف سلاح الطيران نفسه، باختلاف الطيارين طبعًا. في غزة، نجت من إشكالية التعريف من الداخل، أو من الضفة، اخترقت الحدود، وظهرت في أمسيات وصباحات عربية بعيدًا عن بيتها الذي خرجت منه. قد لا تشبه أغنية اليوم القادمة من الأراضي المحتلّة شكلها المعتاد، مثقلة بالعتب والهم بالالتزام العسكري بالقضية، تغيّرت الأغنية الفلسطينية، هي فعلًا حرّة، وغير قابلة للإيقاف، هي أغنية رشيقة اليوم، ملوّنة، ثارت على ثوريتها، وعلى شكلها ومضمونها وأهدافها. انسلت من بين قطبي هويتها المعتادة، البطل والضحية، قدمت نفسها بنفسها من جديد بوجوهٍ عدة، وأصوات في مختلف أنواع الموسيقى الموجودة الآن في العالم العربي، والعالم أيضًا، هي تعرف معنى الاحتلال، هي قادمة من خلف الحواجز العسكرية الثابتة والطيارة، هي قادمة من تحت الاحتلال من فوقه. إنّ الفلسطيني في الأغنية الجديدة قد لا يكون بطلًا، ولكنه بالتأكيد ليس ضحية، هو حي وموجود ويتكلم ويغني.
وصلت الأغنية الفلسطينية الجديدة إلى الشباب العربي في العواصم المجاورة والبعيدة، وجلست بثقة بين أغاني العواصم القديمة، وصلت أيضًا إلى شباب رام الله، طولكرم، ونابلس، والمخيم، عاشت وعاشها الشباب الفلسطيني والعربي، بل وجدت من حيث لا تدري ذائقة عامّة عجزت عنها خطابات وسيمفونيات أحلام عربيّة ومحلية وتليفزيونات وصانعي محتوى. لقد عمل موسيقيون كسفراء في عالم شاب، بعيدًا عن عجز السفارات المنسية للدولة منذ عقود، فرقص العالم ولو قليلًا معنا.
"انسلت الموسيقى من بين قطبي هويتها المعتادة، البطل والضحية، قدمت نفسها بنفسها من جديد بوجوهٍ عدة، وأصوات في مختلف أنواع الموسيقى الموجودة الآن في العالم العربي، والعالم أيضًا" |
إنّ ما استندت إليه الأغنية الفلسطينيّة الجديدة هو ما استندت عليه شقيقتها الأكبر بعشر وبعشرين وبخمسين عامًا، استندت إلى قضية تتوق في جوهرها إلى الحياة والنور، الفرح والعدالة، أغنية اليوم من فلسطين كشقيقتها الأكبر حية، متجددة، متّصلة مع جيلها الكبير، لأنها فلسطينية وحرة حتى من نفسها.
جوان صفدي (موسيقي فلسطيني):
إقحام عناصر تراثيّة
لا أنسى كيف كان المشهد في بداية الألفية وبداية ما يمكن تسميته اليوم "ثورة الموسيقى البديلة". كان الجميع يحاول الدمج بين قوالب موسيقية مستوردة وبين الموسيقى الشعبيّة في بلده أو غيرها. في 2008، أسست مع مجموعة أصدقاء فرقة سميتها "نجوم الضهر"، وكانت تسعى إلى دمج الموسيقى الفلسطينيّة الشعبيّة مع الروك، في لون جديد سميّناه "الحفلة روك" وكان فيها عود ودربكّة إلى جانب آلات الروك التقليديّة، كما كان فيها غناء جماعيّ، وأورغ أفراح، وكثير من الفرح حقًا. تطوّرت هذه الفرقة لتصبح "فش سمك"، التي كانت فرقة روك عربي حرّ، وهو الجانر الذي توصّلنا إليه من كل هذه التجارب. تزامن ذلك مع صعود "أوتوستراد"، التي برعت في استحضار أجواء الموسيقى الفرايحيّة العربيّة، ودمجها مع الفانك روك والجاز، وغيرها. كانت هنالك تجارب عديدة واعدة في كل الجانرات المعروفة. كانت هذه روح المرحلة؛ مرحلة التجريب والاستكشاف. اليوم يبدو أن العولمة استفحلت لدرجة أن الأغاني الحديثة في فلسطين، وغيرها، تتركّب من العناصر نفسها المستعملة في كل العالم؛ الإيقاعات والمؤثرات الصوتية والألوان الموسيقية كلها تكيّف نفسها مع آخر التطورات في الصوت العالمي، حتى الكلمات المستعملة في الأغاني صارت تستعير من الإنكليزية، أو جماليّات الغناء الغربيّ، ما عدا في الأعمال التي امتهن أصحابها إعادة إنتاج الأغاني التراثيّة بقوالب عصريّة، وبلمسة خاصة، مثل الفنانة سناء موسى، والفنانة دلال أبو آمنة، والراحلة الجميلة ريم بنا، التي دمجت التهاليل والأهازيج مع الجاز والموسيقى الإلكترونيّة، وكانت من القلّة الوفيّة للتجريب والتجديد بعيدًا عن اعتبارات الدارج. قد يعود بهتان العنصر التراثيّ في الموسيقى الحديثة إلى الانقطاع الذي تكبّدته التجربة الثقافيّة الفلسطينيّة إثر النكبة. لم يكن هذا مجرّد حدث تاريخيّ عارض، بل خلق فجوة كبيرة بين الجيل الذي ينتج الفن اليوم، وبين تراثه الذي نفِي من الكمان لعقود طويلة. مع ذلك، نجد عند الموسيقي الفلسطيني المعاصر ميلًا طبيعيًا لإقحام عناصر تراثيّة دائمًا، سواء في الأداء الغنائيّ، أو عنصر موسيقي آخر، مما يضفي ميزة محليّة على أعمال تتحدّث باللغة العالميّة، وتصل الحاضر بالماضي. لا شك أن الدبكة الفلسطينية، مثلًا، حاضرة بإيقاعها، ولغتها الموسيقيّة في عديد التجارب الجديدة، وفي جانرات عدة؛ الراب، الروك، والدانس، وغيرها، ولعلّ أبرز تلك التجارب هي التي قدّمها الفنّان، ولاء سبيت، في تلك الفترة، حيث دمج الدبكة والزجل الشعبي مع الريجي، والهيب هوب، والموسيقى الإلكترونيّة. كما أن الإيقاعات والمقامات العربيّة وجمل من الأغاني الشعبيّة تجد طريقها على الدوام إلى الأغاني الفلسطينيّة البديلة في الراب، البوب، الروك، وحتى الجاز، وغيرها، وتندمج فيها من دون أن تطغى عليها في أغلب الحالات، أي تكون عنصرًا جماليًا في الأغنية، ولا تعتمد عليه.
"قد يعود بهتان العنصر التراثيّ في الموسيقى الحديثة إلى الانقطاع الذي تكبّدته التجربة الثقافيّة الفلسطينيّة إثر النكبة" |
لم تنجح التجارب الجديدة في الساحة الفلسطينيّة البديلة بإنتاج جانر جديد يدمج بشكل طبيعي بين التراث والموسيقى الحديثة، مثلما تفعل موسيقى "المهرجانات" في مصر مثلًا. ولعل الأنجح منها بذلك هي الدحيّة البدويّة، وموسيقى الأفراح بشكل عام، إذ تحافظ على لحنها وطاقاتها كما كانا منذ الأزل، ويتطوّر فيها الإيقاع والأصوات مع تطوّر الموسيقى الإلكترونيّة بشكل طرديّ، وتتجدّد كلماتها بشكل دائم لمواكبة التغيّرات السياسيّة بعفويّة أخاذة.
عُلا الشيخ (ناقدة فنية فلسطينيّة):
في حضرة تجارب قدّمت شكلًا جديدًا
عند الحديث عن الفنون الكلية التي لها علاقة بتاريخ الشعوب وتطورها، لا يستقيم النظر اليها من خلال تقسيم جغرافي (إداري) حصل مؤخرًا، فتراث هذه المنطقة الموسيقي ممتد ومتشعب ومتداخل، شأنه شأن غيره من أنواع الفنون الأخرى، والصيغ الجمعية التي تربط هذه الشعوب، بغض النظر عن التقسيمات الجغرافية الإدارية الحديثة.
"فلسطين استطاعت أن تقدم شكلًا جديدًا على الثقافة المتداولة شعبيًا" |
فلنأخذ مثالًا على ذلك حركة الفنون في مصر في بداية القرن الفائت، حيث سنجد تداخلًا كبيرًا بين مؤسسيها ومبدعيها، ومن أين جاؤوا، وما أضافوا إليها. الأدعى حاليًا مناقشة التطور الموسيقى في الحيز الجغرافي (الإداري) في مصر، وسورية، وفلسطين، ولبنان، والمغرب العربي، والخليج... إلخ، من ناحية حداثية، حيث هنالك أجيال جديدة الآن تقوم بالاستناد إلى فولكلورها وإرثها الشعبي باستخراج أنماط جديدة من الموسيقى، هذه اللغة العالمية للتعبير عن نفسها ووجودها. وأكبر مثال على ذلك أن فكرة الراب العربي بين جمهور الشباب حاليًا منتشرة بكثافة، مع أن الراب ولد من مكان بعيد جدًا، لذلك، ففي فلسطين نرى كما في لبنان السبعينيات وبداية الثمانينيات (قبل الحرب الأهلية) انتشار فن الزجل المصور والتحديات التي تحدث بين القرى والضيع، وبين فرسان هذا النوع من الفن الشعبي، يحدث نسج آخر الآن على المجوز الشعبي، وفن زجلي بين مطربين يلعبون على القوافي، وكسر الآخر من خلال الإقحام البلاغي والقافية، يقابله بشكل شبيه لهذا النوع، مع تطور في الأداء، وطريقة الحركة، ونوع الموسيقى المستخدمة، وبسبب الكثافة السكانية في مصر، مع ظهور فن المهرجانات، أو مطربي المهرجانات (مع الاعتذار للصفة الحقيقية للمطربين).
وعن فلسطين تحديدًا، فهي تعيش مع كل هذا، في حضرة تجارب استطاعت أن تقدم شكلًا جديدًا على الثقافة المتداولة شعبيًا، مثل تجربة فرج سليمان، تامر نفار، شادي زقطان، أحمد عيد، باسل عباس، وغيرهم، وأصبح لهذه الأسماء حضورها في التأليف الموسيقى للأفلام الفلسطينية أيضًا.
ومع هذا الحديث، يحضرني فيلم "في أثر مادة سحرية"، للمخرجة الفلسطينية جمانة مناع، التي تحكي الموسيقى وتطورها في حضرة العزل الذي يعيشه سكان فلسطين التاريخية، بمعنى الفصل، والذي لا يرتبط فقط بالفصل العنصري الذي يمارسه الاحتلال فحسب، بل هو فصل المجتمع الفلسطيني عن محيطه الجغرافي القريب والبعيد الذي يرتبط معه باللغة على أقل تقدير، ببساطة لصعوبة جمع الموسيقيين من المنطقة في فلسطين، فتعيش مع كاميرا المخرجة مناع شكل الموسيقى والأغنيات، وكل ما طرأ عليها.