جماليات الغناء.. الهودج والبابور وفهد بلان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • جماليات الغناء.. الهودج والبابور وفهد بلان

    جماليات الغناء.. الهودج والبابور وفهد بلان
    خطيب بدلة 11 مايو 2022
    موسيقى
    (gettyimages)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط


    أحاولُ، هنا، الوقوفَ على الأساليب التي كان مطربو عصر النهضة الغنائية يعبِّرون فيها لحبيباتهم عن الحب، والوجد، والشوق، واللوعة، والتقلب على نار الفراق.. وفي رأيي أن مطربي القرن العشرين الذين تغنوا بما يُعْرَفُ في اللغة الرسمية باسم "وسائل النقل"، (وبالعامية: المواصلات) كانوا يسيرون على نهج "الحُداء" الذي كان يُغنى لقوافل الجِمَال في العصور القديمة.



    حادي العيس

    كان المطرب الذي يحدو لقوافل الجِمال في الصحارى يُسمى "حادي العيس"، وهذا يأخذنا، تلقائيًا، إلى قصيدة غناها الراحل صباح فخري، يعود تاريخ تأليفها، كما جاء في كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي، إلى العصر العباسي، إنها قصة شعرية رومانسية مدهشة، بطلُها شاعرٌ شاب، وسيم، متأنق، يبدأ قصيدته بوصف الحالة العامة للمشهد الدرامي (قوم يحمّلون أمتعتَهم على ظهور العيس)، ويثنِّي بتحديد الوقت (قبيل الصبح - الدجى)، ثم يصف الحبيبة الراحلة مع أهلها بأنها كانت ترسل ناظرها من خلال الشق الكائن بين ستارتي الهودج، أي السجف، وترنو إليه وهي في حالة انفعالية قصوى (ودمعُ العينِ ينهملُ):

    لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمُ

    وحمّلوها وسارت في الدجى الأبلُ

    وأرسلتْ من خلال السَجْفِ ناظرَها

    ترنو اليّ ودمع العين ينهملُ

    وهكذا دواليك؛ حتى يصل إلى وصف حالته النفسية وهو يتوسل إلى حادي العيس، أن يعرّج عليه، قبل الانطلاق، كي يودع هؤلاء الراحلين، وينذره بأنه سيموت بسبب هذا النأي الوشيك: في ترحالكَ الأجلُ.
    "يقول وديع الصافي، في مقابلة تلفزيونية، إنه حينما سمع فريد الأطرش يغني "يا عواذل فلفلو" تشجع، وغنى "ع اللومة".. وحقق بها نجاحًا باهرًا"


    ظروف قاهرة

    ينجمُ الفراقُ، عادةً، عن ظروف قاهرة تؤدي إلى أن تسافر الحبيبةُ فجأة، "من غير وداع"؛ مثلما عَبَّرَ عبد الحليم حافظ في أغنية "حاول تفتكرني"، من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي (1973):

    وسافرْ من غير وداعْ

    فاتْ في قلبي جراحُه

    دُبْتِ في ليلْ السهرْ

    والعيونْ ما ارتاحوا

    ومن هذه الظروف القاهرة أن يرفض أبو الفتاة تزويجَها للعاشق، لأنه (مش قد المقام)، مثلًا، أو أن يكون قلبُها قاسيًا، فتهجره عامدة، مخلفة في عينيه اللوعة، على حد تعبير أم كلثوم (يا قاسي بص في عينيّ- وشوف إيه انكتب فيها)، أو يضيِّع العشقُ مستقبل حياة الإنسان، كما يغني سيد درويش، باللوم وكتر البَغْدَدَة، أو نتيجة زعلٍ يتسبب به العواذل الذين زهق منهم فريد الأطرش، ذات يوم، فوبخهم في أغنية مرحة كتبها أبو سعود الأبياري وغناها سنة 1950:

    ما قالْ لي وقلتلو

    ومالْ لي وملتلو

    وجاني ورحتلو

    يا عواذل فلفلو..

    إضافة أولى: يقول وديع الصافي، في مقابلة تلفزيونية، إنه حينما سمع فريد الأطرش يغني "يا عواذل فلفلو" تشجع، وغنى "ع اللومة".. وحقق بها نجاحًا باهرًا.

    إضافة ثانية: تعرضت هذه الأغنية، فور ظهورها، إلى حملة صحافية، فالكثيرون اعتبروها هابطة.


    كان شائعًا أن يستخدم شعراء الأغاني والمطربون اللهجة البدوية، وهناك أغنية شهيرة جدًا يؤديها فهد بلان وسَحَر مقلي بطريقة الدويتو
    التفكير بالوصال

    وفي كل الأحوال؛ يشكلُ اللقاءُ بين العاشقَيْن، أو ما يسمونه "الوصال"، الهاجسَ الذي يسيطر على ساحة اللاشعور عند الإنسان، فيجافيه لذلك النوم، ويعتكرُ صفو حياته، حتى يصبح ما غنته أم كلثوم من شعر أحمد رامي وألحان سيد مكاوي صحيحًا تمامًا:

    يا مسهر النوم في عينيَّ

    سهرت أفكاري وياك..

    ويصح، أيضًا، ما غناه محمد عبد الوهاب:

    بالليل يا روحي

    أرتل بالأنين اسمَكْ
    "المطربة السورية كروان اختارت وسيلة نقل تراثية كانت شائعة في العصور القديمة، وهي "الهودج"، وتكون بـ شَدّ بيت خشبي على ظهر جَمَل"

    من أين تبدأ الحكاية؟

    تبدأ فكرةُ البحث عن وسيلة نقل تؤدي إلى جمع الحبيبين مع بعضهما بسؤال طرحه شاعر قديم، يُدعى سعيد بن أحمد البوسعيدي، في قصيدة حافلة بالصور الرومانسية غناها مطربون كثيرون، منهم أديب الدايخ (1938- 2001)، ولطفي بوشناق، وأصالة نصري، يقول في مطلعها:

    يا مَن هواهُ أعزه وأذلني

    كيفَ السبيلُ إلى وصالك؟ دلني

    فمِنْ هنا، مِنْ (كيفَ السبيلُ إلى وصالك؟) ينطلق بحثُ الشعراء الذين يكتبون كلمات الأغاني عن وسيلة توصلُ المطربَ العاشق إلى حيث توجد حبيبته، أو توصل المطربةَ العاشقة إلى حبيبها.. بمعنى أننا أصبحنا، الآن، محتاجين لـ وسائل النقل.. وهذا الأمر كان يأخذ أشكالًا متنوعة، تختلف من شاعر لآخر، ومن مطرب لآخر، ومن عصر لآخر، فالمطربة السورية كروان (1932- 2001) اختارت وسيلة نقل تراثية كانت شائعة في العصور القديمة، وهي "الهودج"، وتكون بـ شَدّ بيت خشبي على ظهر جَمَل. (يعود تاريخ الأغنية إلى سنة 1950):

    شدوا لي الهودَج يا الله

    مشتاق لحبيبي والله

    يمكن يسمعني الله

    ياه يا الله، ياه يا الله

    وللتذكير؛ صباح فخري أتى على ذكر الهودج في أغنية:

    تحت هودجها وتعالجنا

    صار سحب سيوف

    يا ويل حالي.

    والأغنية نفسها غنتها فيروز مع تغيير طفيف في بعض الكلمات:

    غرب هودجها وتعانقنا

    صار ضرب سيوف

    يا ويل حالي.

    كتب كلمات أغنية كروان "شدوا لي الهودج"، الشاعر رفعت العاقل، ولحنها عدنان قريش.

    ملاحظة: كان شائعًا، منذ بدايات عصر النهضة، أن يستخدم شعراء الأغاني والمطربون اللهجةَ البدوية، وبالأخص في سورية والأردن (وحتى في مصر بدليل فيلم أم كلثوم "سَلَّامة").. فمع أن المطربة كروان كانت ترتدي الزي الشامي، وتسكن في مدينة دمشق، فقد غنت للهودج، وكانت هذه حالُ كثير من المطربين، مثل سميرة توفيق وعبدو موسى، وهناك أغنية شهيرة جدًا يؤديها فهد بلان (1933- 1997) وسَحَر مقلي بطريقة الدويتو تقول كلماتها:

    فهد: آه يا قليبي آه يا قليبي آه يا قليبي.

    سحر: شبو قليبك شبو قليبك قول يا قليبي

    فهد: حاسس بيه عمال يدق، يدق زيادة

    ملاحظة: ولدت المطربة سحر مقلي في مدينة إدلب سنة 1935، وماتت، حسب ما يروي الأستاذ خيري الذهبي، بحادث اعتداء عليها من قبل عناصر سرايا الدفاع التابعين لرفعت الأسد سنة 1981، وهي زوجة الفنان الراحل خالد تاجا.
    "كان من جملة الأسباب التي كانت تدعو الفنان لتغيير اسمه، في تلك الأيام، اعتراضُ الأهل على عمل ابنهم في الفن، وهذا ينطبق على السيدات في الدرجة الأولى، مع أن بعض الرجال لم يسلموا من هذه المشكلة"
    كروان مع عدنان قريش

    استمع المطرب السوري مصطفى هلال (وهو ليس مصطفى هلال المعاصر) لصوت المطربة جميلة نَصُّور القادمة من مدينة اللاذقية، وكانت تؤدي بعض أغاني أسمهان، فأطلق عليها لقب "كروان"، وقد كان على حق في ذلك، فصوتها، في الواقع، أقرب ما يكون إلى تغريد الكروان.

    كان من جملة الأسباب التي كانت تدعو الفنان لتغيير اسمه، في تلك الأيام، اعتراضُ الأهل على عمل ابنهم في الفن، وهذا ينطبق على السيدات في الدرجة الأولى، مع أن بعض الرجال لم يسلموا من هذه المشكلة، ومنهم خير الدين عدنان الداغستاني الذي اختار لنفسه اسمه "عدنان قريش" (1911- 2004)، وهو الذي استقال من سلك الدرك سنة 1945، احتجاجًا على تصرفات الفرنسيين القمعية، وتفرغ للتأليف الموسيقي حتى أصبح من أهم صانعي مجد الأغنية السورية ابتداء من أربعينيات القرن العشرين.

    وما دمنا نتحدث عن وسائل النقل، يجدر بنا الإشارة إلى أنها تستخدم، في بعض الأحيان، لأمور أخرى غير وصال الحبيب، للنزهة مثلًا، فمما لحن عدنان قريش للمونولوجيست رفيق السبيعي أغنية تقول:

    صَفّر صفر يا بابور

    خدنا ع الزبداني

    ببقّين منعمل الفطور

    العشا في بلوداني..


يعمل...
X