أغراض الأغاني الشعبية الأردنية.. إيفاء حاجات روحية وعقلية ونفسية
محمد جميل خضر 30 يناير 2022
موسيقى
الجرة والأزياء من مفردات الغناء الشعبي
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا تبتعد أغراض الغناء الشعبي الأردني، على وجه العموم، عن أغراض الشعر العربي التقليدي. كما أن التشابه بينهما- القصيدة العربية التقليدية، والقصيدة الأردنية المتغنّى بها- يكاد يكون صارخًا بوضوحه واتساع عناصره. وإن كان من تباينات فإنها تلك التي أسهمت بتحققها بعض الموروثات الشعبية التي أثّرت في وجهات الأغنية الشعبية، ومن تلك الموروثات: النكتة الشعبية، وكذلك الأحجية الشعبية. هذا النوع من الموروث الشعبي شكّل منطقة وسطى بين أدب البادية، وما ينتج عن هذا الأدب من غناء، وأدب الحواضر، وما نتج عنه من غناء. هذا لا يعني أن أدب الريف، وما نتج عنه من غناء، لم يتأثر بشكل أو بآخر بأغراض الغناء البدوي والحضري، ولكنه ميّز نفسه عنهما بخصلة أساسية غير موجودة في النوعيْن الآخرين؛ إنها تلك الخصلة المتعلقة بما يحوزه من عمق الجماعية، التحدث والغناء بلسان حال المجموع، عكس الغناء البدوي الفردي في معظم تجلياته، وكذلك الغناء الحضري الذي ينزع إلى البوح بأشجان الذات المنعزلة عن محيطها.
ورغم أن الأغاني الشعبية ليست بدعًا منبتًا عن سائر الفنون الأخرى، إلا أن ملامستها الوجدان والعقل، في آن، وتعبيرها عن خلجات الذات والمجموع، كوّن لها خلال مسيرتها الممتدة خصائصها وأغراضها وموضوعاتها.
الغزل..
سعيُ الرجلِ إلى كسب ود المرأة قديم قدم التاريخ البشريّ. ففي هذا السعي دوافع غرائزية ووجدانية وعاطفية جعلت الرجل الساعي إلى امتلاك المرأة، ومعانقة مفردات جمالها جميعها الحسيّة الجسدية والمشاعرية الجوّانية غير الحسيّة، يطلق عنان خياله ومخياله تشببًا بهذا الجمال، وتقربًا منه في الوقت نفسه.
وحين يتحقق اللقاء بين الرجل والمرأة، فإن الفرحة التي تسكنه حين تحققه، تجعله غير قادر على كتم عواطفه، ولا قادر عن الامتناع عن وصف ما رأته عيناه. وإذا به يصفها كما يصف من يشاهد لوحة تفاصيل تلك اللوحة. مع فارق أن الواصف الشعبيّ يمتح من مفردات البيئة حوله تشابيه هذا الوصف، فإذا بالعيون كالفنجان، أو الغدران، وإذا بالخدود مثل التفاح، والنهود رمّان، والشعر الطويل الجديل أفاعٍ تتحرك فوق رأسها:
"وشعرها يا خوي وتقول حِنْشان
برضِ الخلا يا خوي هاشن عليّا
ونهودها يا خوي وتقول رمّان
رمّانة على امّها مستويّا
وخدودها يا خوي وتقول تفّاح
تفاحة على امّها مستويّا
وعيونها يا خوي وتقول غدران
برضِ الخلا يا خوي فاضن عليّا".
وكما وصف العاشق محبوبته، وصف لواعج حبّه:
"لا بوكِل ولا بشرب بس أسلي عشيري"
هو لا يتحمّل دلعها:
"وَنا بهواك مولع لا تتدلّع
دخلك تتطلع صوبي لا تتعزز".
ليست الأغنية وحدها من وصفت لواجع الرجل الواقع في الغرام، الموال أيضًا قام بهذا الدور، خصوصًا حين يود العاشق أن يبكي فراق محبوبته وهجرها له:
"يا طولك طول الحور واقف
نصل لحمي وعظمي وظل واقف
أنا كرمال عيونه لظل واقف
عبد مأمور لحين الطلب.. يا ميجنا".
وفي موال آخر يصف ما يقاسيه لصديقه الأثير:
"يا عطية ما طواك اللي طواني ما طواك اللي طوى خلّي عليّا
يا عذابي كل طير يناجي طيره وأنا طيري مع طيور حائمات".
الغزل الشعبي جاء بمعظمه عفيفًا صادقًا، إذ تأثر من صاغوه ومن غنّوه بطبيعتهم وفطرتهم، من دون أن يمنع ذلك من بعض الشيطنة ومغامرات الشباب في أغنيات بعينها:
"خشخش حديد المهرة هَيلْي حَسّوا حرامي
واثرى الحرامي شويقي نامي يا عيني نامي".
عمومًا، غلب التذكير على أغاني الغزل للابتعاد عن دوائر الحرج. ومن الملاحظات التي يمكن التقاطها في أغنيات الغزل الشعبية، غياب الغزل بالذكور كما كان شائعًا في بعض العصور العربية القديمة مما غنّته القيان الأعجميات. من موضوعات الغزل وتجلياته ما تصفه بعض أغنيات الغزل البدوية حول مغامرات تسلل الحبيب إلى مخدع حبيبته المتزوجة. وهو وصف لا تتضمنه أغنيات الغزل الريفية والحضرية.
الفخر والحماسة..
وهو باب واسع من أبواب الغناء الشعبي الأردني، بسبب طبيعة الأردني النازعة إلى الفخر والمباهاة بأمجاد الآباء والأجداد.
وهو موضوع قائم أساسًا على العصوبة التي تعد الحامل الأكثر صلابة لتماسك عشيرة ما، ودوام مقدارها، وترسيخ سؤددها. وهي عصوبة تبدأ من الابن لأبيه، فهو ظل أبيه ما دام والده على قيد الحياة، ثم عصوبة الشقيق لشقيقه، والأخ لأخيه، وابن العم لابن العم، وهكذا نحو الدائرة الأوسع فالأوسع.
الفخر هنا هو مولّد حماسة، والحماسة بدورها سبب وجيه للفخر. وفيهما وصف معارك ونزالات وغزوات وأسباب قوة. كما نجد في بعض أغاني الفخر الشعبية بعدًا قصصيًا ملحميًا، كما في الأغنية التي تروي حادثة وقعت في الأغوار بين شخص يدعى اليماني مع الموظفيْن جميل الحديدي ومحمود الأريش:
اللوزي سوا مِثايل ****** شد من الهجن حايل
شقحى ما تهاب الزوايل ***** حرّة يا بنت وضحانِ
ركبْ جنود ومأمور ***** عسكر بنيّة الغور
يبغى يتم المقدورِ ******** يناس امر الله ما يوانِي
الفجر عند الصباح بالشونة صار الصّياح
عسكر صِحيّة مِسطاح ***** وبعيني شِفْتَ الدّمانِ
حلمت حلمًا بالليل **** فسرته بِصبحي وجميلِ
يا رجب الهم عديلِ **** عند الحكيم الطلياني
يا خيّ يا أبو بشيّرْ أنا بحلمي متحيّر
هات الرفاقة وسيّر واذبح لي شاة تفداني
جميلٌ لا تعمل حِيلة قناتي ما بها نحيلة
راسك بالموزر أشيله دقّة ألماني ما تواني".
بسردٍ ملحميّ، تناولت الأهازيج الشعبية مواضيع الفخر والحماسة، لم تترك شاردة ولا واردة من تفاصيل البطولة الفردية والجماعية، وصولًا للبطولات الوطنية واللحظات المصيرية الجامعة: "هبّت النار والبارود غنّى".
المدح والهجاء..
منذ فجر التاريخ تمايز بشر عن آخرين بالمواهب والقيم والقدرات. ومع تطوّر الحضارات تعمق إحساس بني البشر بتلك الفوارق القيمية والأخلاقية الفردية والجماعية التي تميز إنسانًا عن آخر وأمّة عن أخرى، فحاول الأدب الشعبي الذي وصل للأمم البائدة أن يصعد للقمم العليا من عناوين الفضيلة والفرادة، يتقرّب منها ويتودّدها، إمّا عن إيمان صادقٍ بعظمة هذه الصفات عند فرد بعينه، أو مجموعة، من دون غيرها، وإما بقصد التكسّب. وها هي الألواح التي تركتها لنا الحضارات القديمة، والكتابات والنقوش، تغص بالحمد والثّناء، وها هي الملاحم القديمة، كالإلياذة، والأوذيسة، وغيرها، تتضمّن كثيرًا من أبيات المديح بأخيل العظيم ورجاله الشجعان. لم يقتصر المديح على الملاحم المعروفة، بل امتد ليشمل الأناشيد الشعبية، حيث البطل في كل مرّة مثالًا للشرف والبطولة والكرم وسموّ الخُلُق. بعض المدائح الشعبية احتفت بالقادة والزعماء. الكتب الدينية احتفت بالرسل والأنبياء ومدحت صفاتهم وأخلاقهم.
على وجه العموم، يتميز الغناء الشعبي الذي انشغل بالمديح أنه لم يكن يسعى إلى مال، ولا مكاسب شخصية، بل هو تعبير عن وجدانٍ جمعيٍّ ومواقف جامعة يلتقي حولها أبناء منطقة بعينها ويتوارثوا تمجيدها أو تمجيد الأشخاص الذين يرون فيهم ما يستحق المديح من قيم وأخلاق وبطولة وشرف ونبل وشجاعة وصفات قيادة فذّة.
يدور غناء المديح الشعبي حول إبراز الصفات الطيبة والأخلاق السامية للممدوح، ولا يشكّل ثراء إنسان سببًا لمدحه، بل ينشغل الشاعر الشعبي والغناء الشعبي بالصفات المعنوية:
"يا بيّ فلان يا جوهر جماعتنا يا جوهر العز ما إنت جوهر المالِ
يا بيدر القمح كل الناس تنكالِ كيّل عَربنا وغطى على بني هلالِ".
الكرم من العناوين المهمة التي تستحق المديح
"تسلملي يا بيّ فلان يا طعام الزادِ صيتك وذكرك ذاع ما بين الجوادِ".
ولعل أوفر المدائح عزة وأنفة وقومية تلك التي انصبّت على الزعيم الشيخ، فالشعب يظل دائم البحث عن الزعيم وعندما يجده يلتفّ حوله بإخلاص نادر عرف به شعبنا الأردني، وينتسبون له:
"دقّوا الرمح بعود الزين وانتوا يا نشامى منين
واحنا ربع أبو فلان والنعم والنعمتين".
النبي محمد صلى الله عليه وسلّم ناله قسط كبير ووافر من المديح "اختم كلامي بالزين/ بمحمد يا نور العين"، وكذلك النبيّ عيسى عليه السلام "دق باب القيامة رن باب الصُّور/ ضويت قبر المسيح المشتعل بالنور".
في سياق الهجاء، يحمل الشاعر الشعبي لواء قومه مدافعًا عن أحسابهم وأعراضهم، ومتناولًا، في الوقت نفسه، خصومهم وأعداءهم بالتقريع والتوبيخ على درجات مختلفة.
والهجاء قديم قِدم الحضارات التي وصلتنا أخبارها، منذ حضارات بابل وما قبلها. كما أن اليونان برعوا في فنون الهجاء، وتضمنت مسرحياتهم ألوانًا من الهجاء، مثل ذمّ المرأة الفاجرة، أو الآلهة الغادرة، أو اللص الباغي، أو التاجر البخيل.
في حالة الأغاني الشعبية المحليّة، لا يوجد للهجاء قصائد منفردة قائمة بذاتها، بل يمر عليه الشاعر الشعبي مرورًا داخل قصيدة فيها أغراض أخرى غير الهجاء، كأن يتطرق في مقطوعة داخل القصيدة لوصف (كنّة) لِحماتها:
"وامّك من جوية الشيك ويلي ما ابشع لدّتها
ما ادري هي قلّة صابون ولا هاي قيافتها".
وفي مقطع آخر تفاضل المرأة بين فراق زوجها وفراق أمّه:
"يا بو الطقم الليمونِ قدّيش حقّه يا عيوني
وافراق أمّك عيد الله وافراقك عمى عيوني".
ثمّة هجاء حسّي يتناول الهيئة وملامح الوجه بشكل مباشر:
"وجهك بريق التنك مطبوق ومن الصّدا كاشف لونه".
ومن الهجاء القبليّ:
"شَرارى وشْ لَكْ بِزَبْنِيّةْ مالكْ غَرضْ بحكَاياها
لفضّخْ راسكْ بِرِدْنِيّةْ والْعَن أبو مَنْ تِداناها".
ابتعد الهجاء، على وجه العموم، عن التكلّف وتجويد القول، ولم يتضمن أي قدر من الصناعة الشعرية، أو الغموض الدلاليّ. بل هو ينقل الواقع المحسوس من دون أي تجميل، أو تهذيب:
"يا فلان يا بو الوسخ عَ الثوب والجاج ينقّب عصاقيلك".
الرثاء..
طالما هنالك موت هنالك رثاء. وباستثناء رثائيات نمر بن عدوان الموجعة المبكية لزوجته وضحا، فنادرًا ما صاغ الرثاء الشعبيّ رجلٌ بعينه معروف باسمه وشخصيته، بل هو تواتر جماعيّ يتناقله الناس، ويُعبّر عنه غالبًا على لسان امرأة ترثي رجلها، أو رجالها. هذا لا يمنع أحيانًا، وفي حالات قليلة، من رثاء يخص صبية شابة فجع أهلها بها، أو رحلت وتركت وراءها أطفالًا كزغب القطا.
بيد أن الحزن يشتد عند رحيل الزعماء، وفي حين كانت القبائل تتباهى بصلابتها وعدم بكائها على أمواتها (الحمولة الفلانية تبكّي على الميت مثل النسوان)، فإن الأمر لا يخلو من حالات خاصة يشكّل الرحيل فيها فاجعة جماعية، وتتناسب مكانة الميت طرديًا مع ما تظهره النساء من حزن عليه:
"علام الشمس مصفرة حزينة عَ بيّ فلان يا ركن المدينة
يا شيخنا يا اللي عليك الهيبة خليتنا شبه الحريم السيبة
يا شيخنا يا للي عليك المعتمد خلّيتنا مثل البيوت بلا عمد".
وفي الرثاء، يجري تعداد مناقب المرثيّ، مثل ذكر كرمه وإطعامه الناس وشجاعته وإقدامه وأخلاقه الحميدة على وجه العموم:
"عَ بيدره هدّا الحمام
عَ فرشته طاب الكلام
عَ منسفه ربيوا ليتام".
الوصف..
الوصف آخر أغراض الأغاني الشعبية وأوسعها. فالوصف يشمل الأبواب الأخرى جميعها. الشاعر الشعبي اعتمد في الوصف على حسٍّ جماعيٍّ بخلاف الشعر الفصيح، حيث يظهر الإحساس الجماعي جليًّا في الغناء الشعبيّ. ويمكن تعريف الوصف أنه تلوين للآثار الإنسانية بألوان باهرة تتبيّن مواطن الجمال، وهو يحتاج إلى ذوق فني رفيع كي يتسنى له نقل الصورة المشابهة من الواقع المحيط.
التنوّع البيئي الذي يمثل أماكن إقامة الإنسان الأردنيّ؛ من رمال وأنواء ورياح نكباء جافة، إلى رياض فيحاء تنتشر على أكتاف الأودية وسفوح الجبال المكتظة بالأشجار الحرجية، إلى المناطق الغورية، منح الوصف في أغانيه الشعبيّة تنوّعًا نابعًا من تنوّع بيئته ومفردات الطبيعة والأمكنة حوله. فها هو الغناء الشعبيّ يشبّه الناقة النجيبة سريعة الانطلاق بالصقر:
"شدّيت آني طلقة الذِرْعان شِبه الشياهين مَدّني".
كما وصف المروج الخضراء التي ترعى بها الغزلان:
"يا علّاني مرج أخضر يرعى بيه الغزلانِ".
ووصف الدابة التي تجر لوح المدراس قائلًا:
"يا حمرا يا لوّاحة لونك لون التفاحة
يا حمرا لوحيني لوح قلبي من الهوا مجروح".
الغناء الشعبي لم ينس وصف بعض الاختراعات التي شكّلت نقلة في زمن ما مثل السيّارة:
"لوهيْ حلالاتي لا يا الحنتور هو وشفيره تحت يدّي".
ومن الوصف المتأثر بظهور الكهرباء:
"شبّهت عيونك فنجان صيني يا لمضِةْ كهربٍ عَ البلاكينِ".
ومن الأوصاف الغزلية الحسّية:
"خدّه يا قرص الجبنة يفطر عليه الصايم". و"صدر البنيّة بستان وأنا السنة ضمانه".
خصائص الأغاني الشعبية وموسيقاها
في الوقت الذي احتضنت فيه بغداد الموال الشعبي المحمّل بعدًا فجائعيًّا دراماتيكيًا، فإن لونًا شعبيًا ازدهر في منطقتنا منذ مئات السنين هو الغناء الحورانيّ، وقد وصف ابن خلدون هذا اللون في مقدمته: "كانوا يجيئون به معصبًا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويّه، ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة".
هذا اللون، على هذه الشاكلة، لا يزال معروفًا في منطقته والمنطقة التي تليها جنوبًا، أي الشمال الأردني ووسطه، حيث يعرف باسم (الدلاعين).
ظهر بعد ذلك لون شعبيّ آخر هو الميجنا، وهي النسخة الحرفية عن الموال المربع. وقد اقترن ظهور الميجنا بحدث دراماتيكيّ، إذ اختفت قبل قرون عدة فلاحة جميلة تدعى (ميجنا)، عاد زوجها الكادح الفقير إلى كوخه فلم يجد زوجته ميجنا التي كانت تحنو عليه وتتقاسم معه هموم الحياة ومتاعبها. وعندما بدأ يبحث عنها أخبره أحدهم أن الإقطاعيّ سرقها كي تقيم في قصره المنيف. أيقن الفلاح المسكين أن كل شيء انتهى، ولن يستطيع استرداد زوجته ميجنا، فهام على وجهه ينادي عليها بأبيات ملحنة كان ينهيها بـ(يا ميجنا). واصل هيامه الليل بالنهار حتى هزل، ثم وضع نفسه في متناول أفعى ضخمة لدغته، فانتشر السم في جسده ومات.
قصة تشبه قصة (يا ليل) المصرية، ومتفرعة، كما يبدو، من نكبة الرشيد للبرامكة. على كل حال، بغض النظر عن تقاطعات الميجنا مع ألوان غناء شعبي أخرى، وقصص شعبية هنا وهناك، إلا أن هذا اللون الذي انتشر في المناطق الجبلية الأردنية والفلسطينية على السواء، ظل يخضع لمزاج المغني وأحوال المستمعين له. كما أنه لا يقال إلا عند اشتداد الألم أو الفراق أو الكبت. وهو مؤلف من أربعة مقاطع، الثلاثة الأولى تنتهي أواخرها بكلمة متشابهة في اللفظ مع اختلاف المعنى، وكأن الشاعر الشعبي أرادها متجانسة لتدلّ على حالته النفسية المنفعلة، ثم الرابعة التي تنتهي بقافية مختلفة ومنتهية بألف ممدودة، لتتهيأ له أسباب التنفسي عن آلامه. ومن الشائع والمألوف أن يأتي هذا اللون على بحر الوافر وزنًا تخصص به.
وعلى مرّ السنين، طرأت على الأغاني الشعبية بعض التعديلات من دون مساس باللحن الأصلي.
أردنيًا، التفتت الإذاعة الأردنية مبكّرًا إلى الأغاني الشعبية، فقامت بالتعاون مع الشاعر، رشيد زيد الكيلاني، بجمع عيناتها وتبويبها وإخراجها بما يتوافق مع المِزاج العام والظروف المحلية.
يؤكد صلاح أبو زيد في لقاء أجراه معه د. هاني العمد بتاريخ 14 أيلول/ سبتمبر 1966، أن مرحلة جمع الغناء الشعبي والموروث وتقديمه للجمهور عبر أثير الإذاعة سبق ظهور وزارة الإعلام بأربع سنوات، أي في الفترة التي كان فيها أبو زيد مديرًا للإذاعة من عام 1958 إلى عام 1962. وبحسب (أبو زيد) فإن أول أغنية شعبية بثتها الإذاعة كانت بصوت عبده موسى، الذي رافق غناءها بالعزف على الربابة.
بعد نجاح التجربة، أرسل صلاح أبو زيد فرقًا شعبية إلى الشمال والجنوب والضفة الغربية كان هدفها تسجيل الأغاني الشعبية في مسارحها الأصلية وفي المناسبات التي كانت تتغنى بها.
ومع تراجع هذا اللون في سورية ولبنان والعراق، فقد اكتسحت الأغاني الأردنية ذات الطابع الشعبي الأسواق الفنية والمسارح الليلية في هذه البلدان الثلاثة، حتى في بيروت.
سبق هذه المرحلة من تطوّر الأغنية الشعبية ما تلا نكبة فلسطين عام 1948، حيث امتزج الغناء الأردني بالفلسطيني، فأعيد تلحين الأغاني القومية، وقدّموا الأهازيج التي كانت تتصاعد وقت الاقتتال مع العدو. وقام بعض المعنيين بإصدار الأناشيد الوطنية والأهازيج الشعبية ذات الصلة بالقضية في كتيبات جرى توزيعها على المدارس. كما قام بعض الشعراء بصياغة بعض الكلام ووضعوه في اللحن الشعبي الجاهز بعد إفراغه من قوالبه الأصلية، مستفيدين من قابلية هذه القوالب لتقبّل أي كلام من هذا اللون. ما تقدّم جعل الناس يدركون قيمة المأثور وندرته وروعته.
المرحلة الثالثة بدأت مع توجه وزارة الإعلام لاستقدام الفرق العربية والأجنبية لإحياء الحفلات الغنائية، ومنها الفرق الشعبية اللبنانية وفرقة رضا المصرية، ما شجّع على ظهور فرق شعبية أردنية. الفرق الناشئة حديثًا بدأ تحيي حفلات لها على مسارح مدينة رام الله الصيفية، وفي المدرج الروماني في عمّان، ومسارح جرش الأثرية. كما قامت الوزارة والإذاعة بإرسال بعض الفرق لتجوب أنحاء الأردن وتسجل أغانيها على الطبيعة أغنيات شعبية مرددة زادت على الثلاثمائة أغنية وأخرجت الإذاعة بالتعاون مع القسم الموسيقي فيها أكثر من مئتي أغنية.
إنها على وجه العموم الأغاني الفولكلورية بعد إعادة توزيعها لتكون صالحة للبث عبر أثير الإذاعة من دون تبديل، أو تحريف، أو أن مطالعها على الأقل ظلت من دون تبديل، أو تغيير، وتغيّر سياقها فقط، مثل:
"برجاس يا قاضي الهوى برجاس حنا قلال ورافعين الراس
ورجالنا عاداتها كيد العدا وسيوفنا ضرباتها بالراس"
التي كانت قبل ذلك:
"برجاس يا قاضي العدا برجاس حِنا قلال وكايدين الناس".
أو مثل:
"الورد فتّح يا زارعين الورد الورد فتّح فتّح وما شا الله"
التي كانت:
"الورد فتّح يا زارعين الورد الورد فتّح يا مخاليق الله".
أو:
"وين عَ رام الله ولفي مسافر وين عَ رام الله".
التي كانت:
"وين عَ باب الله ولفي مسافر وين عَ باب الله".
أسهمت الإذاعة بنشر أغانينا الشعبية بعد إخضاعها لعوامل فنية تجميلية، وإزالة بعض الشوائب منها، وجعلها ملائمة للتوزيع الموسيقي الحديث (الهارموني). كما أسهمت جولات (النَّوَر) المتنقلين بين الأقطار العربية بنقل الأغاني الشعبية من بلد عربي إلى آخر.
يقول مصطفى وهبي التل بحسب ما أورد يعقوب العودات في كتابه "عرار" من الصفحة 125 وما بعدها: "كنا نهرع إلى دوي طبول النور، إلى حيث انتصبت خيامهم، فنشهد الألعاب البهلوانية العجيبة، ونستمع إلى أغانيهم العذبة التي جاءوا بها من بعيد، وليس هذا فحسب، بل إن الشاعر كان يسمع ألحانًا جديدة طارئة أخذت طريقها إلى الآذان بنغمات لاهثة متهافتة تحدثك عن المسافات الشاسعة التي قطعها منشدوها حتى وصلتنا محشرجة باكية يهدهدها نشيج مكبوت، يحدثك عما يعتلج في صدورهم".
بحزن عذب ولوعة موسيقية آسرة، تتشبب الغجرية بوليفها، ويتشبب الغجري بمحبوبته:
"والله لعبّي الجرّة من ميتك يا عاصي
حبّي راسه بوجعه ريت الوجع لراسي
يا يمّه ماني بنيّك ماني غالي عليكِ
خليني ألحق ولفي الله يرضى عليكِ".
ومن أغاني النور الشعبية:
"يا قمرنا يا عالي يا للي نجومك بتلالي
فكرنا العِشرة يومين تاري شهور وليالي".
وحين كانت تتوجّه ضعونهم نحو العراق فلهذه اللحظة أغنيتها الشعبية:
"يا عنيزة شو تقولين إنْ صار لفراق
والظعن شال بليل وجه عَ العراق".
أما الميجنا والموال فقد جاء على لسان النَّور وبأصوات غنائهم حزينًا غارقًا باللواجع، وبما يقترب من حدود المأساة.
وفي رحلاتهم ذهابًا وإيابًا، كانوا يحدثون على اللحن الأول والكلمات الأولى بعض التعديلات المتأثرة بالبلد الذي رجعوا منه، كما في "ربيتك صغيرْ وليش انكرتني"، التي أصبحت بعد عودتهم من العراق "ربيتك صغيرون ليش انكرتني". أو كما في هذا المقطع:
"يا ربي ترزق ولفي ومن الغنم قطعانِ
ومن الأصايل عشرة ومن النسابس (آني)".
فـ(آني) بهذا اللفظ عراقية بامتياز، ما جعل غناء النّور جزءًا لا يتجزّأ من غناء الشعب الأردني بمختلف تلوّنه والتأثيرات الخراجية التي دخلت عليه.
النّور، إلى ذلك، أسهموا بتجديد في الموسيقى المصاحبة للأغنيات الشعبية، من خلال إدخالهم آلات موسيقية بسيطة، مثل الطبل، والعود، والناي، والبزق، إضافة إلى الربابة، التي استعاروها من البادية، فأجادوا العزف عليها. ولكن ذلك ما يقلل من شأن الآلات الإيقاعية الأساسية في الموسيقى المصاحبة للأغاني الشعبية.
التطوّر الثاني الذي حققته الموسيقى المصاحبة للأغاني الشعبية هو تلحين بعض الأغاني الشعبية عن طريق الجمل الموسيقية والنوتات والتوزيع الهارموني.
تنتمي الأغنية الشعبية إلى روح الشعب الذي ينظمها ويرددها، فهي خزان موروثه، وموثقة أنّاته وعبراته ومختلف تصاريف حياته. ومن الأغاني الشعبية المهددة بالانقراض أغنية العمل، فأغنيات الحقل من حراثة وحصاد ودراس، وما إلى ذلك، لم يعد من الممكن نقلها إلى المصنع.
الأغنية الشعبية منحازة بفطرتها للإنسان العادي، هي لوحات رسمها الشعب بدقة فنية، فإذا بها مدوّنته التي أغفلها المؤرخون فتصدى لها هو بنفسه يوثق تطلعاته وصبواته ونبض قلبه وشذرات عشقه.
وشأنها شأن مختلف الروايات الشفوية، من نكات وألغاز وأمثال وقصص شعبية، فهي تتناقل بالسماع ويتوارثها اللاحقون عن السابقين.
وهي جماعية، فالأغنية التي لا تعترف بها جماعة الناس في قرية، أو منطقة سكانية تموت من فورها.
وهي لا تنقاد للبحث اللحوح الساعي للقبض على مصدرها الأول، أو مؤلف كلماتها الأول. إن هذا النوع من البحث والتقصي لا طائل من ورائه، لأنه لا يوجّه جهده نحو المسائل الأكثر أهمية على صعيد الأغنية الشعبية، مثل رصد التغيّر التدريجي الذي يطرأ عليها بين حقبة وأخرى، أو رصد المجالات التي استوعبتها الأغنية الشعبية وعبّرت عنها: الحب، الغزل، أغاني الأطفال، المواسم، العمل، الأفراح، الأحزان، التضرع لله والتبرك بأوليائه، وموضوعاتها الأخرى.
الأغنية الشعبية هادفة، ملتزمة، للنص فيها أولوية على الموسيقى. ومن قوالبها في الأردن: القصيد الذي ظل محافظًا على لحنه الوحيد رغم عشرات القصائد التي كتبت له.
كما تتميز بالمرونة اللحنية، وهي سمة مشتركة في الأغاني الشعبية بأي مكان وزمان.
كلامها يشكّل جزءًا كبيرًا من نظمها، فهو كلام كتب في معظم الحالات للأغنية الشعبية على وجه الخصوص.
وفيها انسجام بين اللحن والنص والحركة. وهي وعاء للناس الذين يتداولونها، تعكس شجاعة الفرد الأردني وكرمه ونخوته. وتركّز على عدم قبوله الضيم واعتداده بعاداته الاجتماعية، وتمسكه بمعتقداته الدينية.
وهي على وجه العموم لم تخل من إشارات تاريخية، كما في هذا المقطع:
"اسكندر القرنين حكم وانغضر من عاش في الدنيا وسلم من بلاء".
وفي بعضه إشارة لِما كان من العثمانيين معنا:
"يا هنيالك يا ها القط يا للي عَ الحيط بتنط
مال ميري ما عليك ونظامية ما بتحط".
ولا ينسى الغناء الشعبي السفر برلك:
"بيدك تفاحة بيدي تفاحة من سفر برلك ما ذقنا الراحة".
غناء وصل إلى أبي زيد الهلالي وسيرته:
"يا خيمة لبو فلان عَ الحيط مبنية
مكتوب عَ بابها صيت الهلالية".
أغنيات تربط المكان بالزمان:
"عمّان مع العصر تجيبه وصويلح مع الوذان".
وفي الأغاني الشعبية توثيق للعشائر الأردنية، والطوائف الدينية، ومختلف المناسبات والأعياد، وأسماء الأنبياء والأولياء. وفيها توثيق لحوادث بعينها، وقصص من دون غيرها. كما أن أكثر فروع الأدب الشعبي تفاعلت مع الغناء الشعبي، ما أكسبه حيوية وقوة وطواعية على الإيفاء بالحاجات الروحية والعقلية والنفسية الشعبية في كل زمان وكل مكان.
محمد جميل خضر 30 يناير 2022
موسيقى
الجرة والأزياء من مفردات الغناء الشعبي
شارك هذا المقال
حجم الخط
لا تبتعد أغراض الغناء الشعبي الأردني، على وجه العموم، عن أغراض الشعر العربي التقليدي. كما أن التشابه بينهما- القصيدة العربية التقليدية، والقصيدة الأردنية المتغنّى بها- يكاد يكون صارخًا بوضوحه واتساع عناصره. وإن كان من تباينات فإنها تلك التي أسهمت بتحققها بعض الموروثات الشعبية التي أثّرت في وجهات الأغنية الشعبية، ومن تلك الموروثات: النكتة الشعبية، وكذلك الأحجية الشعبية. هذا النوع من الموروث الشعبي شكّل منطقة وسطى بين أدب البادية، وما ينتج عن هذا الأدب من غناء، وأدب الحواضر، وما نتج عنه من غناء. هذا لا يعني أن أدب الريف، وما نتج عنه من غناء، لم يتأثر بشكل أو بآخر بأغراض الغناء البدوي والحضري، ولكنه ميّز نفسه عنهما بخصلة أساسية غير موجودة في النوعيْن الآخرين؛ إنها تلك الخصلة المتعلقة بما يحوزه من عمق الجماعية، التحدث والغناء بلسان حال المجموع، عكس الغناء البدوي الفردي في معظم تجلياته، وكذلك الغناء الحضري الذي ينزع إلى البوح بأشجان الذات المنعزلة عن محيطها.
ورغم أن الأغاني الشعبية ليست بدعًا منبتًا عن سائر الفنون الأخرى، إلا أن ملامستها الوجدان والعقل، في آن، وتعبيرها عن خلجات الذات والمجموع، كوّن لها خلال مسيرتها الممتدة خصائصها وأغراضها وموضوعاتها.
الغزل..
سعيُ الرجلِ إلى كسب ود المرأة قديم قدم التاريخ البشريّ. ففي هذا السعي دوافع غرائزية ووجدانية وعاطفية جعلت الرجل الساعي إلى امتلاك المرأة، ومعانقة مفردات جمالها جميعها الحسيّة الجسدية والمشاعرية الجوّانية غير الحسيّة، يطلق عنان خياله ومخياله تشببًا بهذا الجمال، وتقربًا منه في الوقت نفسه.
"رغم أن الأغاني الشعبية ليست بدعًا منبتًا عن سائر الفنون الأخرى، إلا أن ملامستها الوجدان والعقل، في آن، وتعبيرها عن خلجات الذات والمجموع، كوّن لها خلال مسيرتها الممتدة خصائصها وأغراضها وموضوعاتها" |
وحين يتحقق اللقاء بين الرجل والمرأة، فإن الفرحة التي تسكنه حين تحققه، تجعله غير قادر على كتم عواطفه، ولا قادر عن الامتناع عن وصف ما رأته عيناه. وإذا به يصفها كما يصف من يشاهد لوحة تفاصيل تلك اللوحة. مع فارق أن الواصف الشعبيّ يمتح من مفردات البيئة حوله تشابيه هذا الوصف، فإذا بالعيون كالفنجان، أو الغدران، وإذا بالخدود مثل التفاح، والنهود رمّان، والشعر الطويل الجديل أفاعٍ تتحرك فوق رأسها:
"وشعرها يا خوي وتقول حِنْشان
برضِ الخلا يا خوي هاشن عليّا
ونهودها يا خوي وتقول رمّان
رمّانة على امّها مستويّا
وخدودها يا خوي وتقول تفّاح
تفاحة على امّها مستويّا
وعيونها يا خوي وتقول غدران
برضِ الخلا يا خوي فاضن عليّا".
وكما وصف العاشق محبوبته، وصف لواعج حبّه:
"لا بوكِل ولا بشرب بس أسلي عشيري"
هو لا يتحمّل دلعها:
"وَنا بهواك مولع لا تتدلّع
دخلك تتطلع صوبي لا تتعزز".
ليست الأغنية وحدها من وصفت لواجع الرجل الواقع في الغرام، الموال أيضًا قام بهذا الدور، خصوصًا حين يود العاشق أن يبكي فراق محبوبته وهجرها له:
"يا طولك طول الحور واقف
نصل لحمي وعظمي وظل واقف
أنا كرمال عيونه لظل واقف
عبد مأمور لحين الطلب.. يا ميجنا".
وفي موال آخر يصف ما يقاسيه لصديقه الأثير:
"يا عطية ما طواك اللي طواني ما طواك اللي طوى خلّي عليّا
يا عذابي كل طير يناجي طيره وأنا طيري مع طيور حائمات".
الغزل الشعبي جاء بمعظمه عفيفًا صادقًا، إذ تأثر من صاغوه ومن غنّوه بطبيعتهم وفطرتهم، من دون أن يمنع ذلك من بعض الشيطنة ومغامرات الشباب في أغنيات بعينها:
"خشخش حديد المهرة هَيلْي حَسّوا حرامي
واثرى الحرامي شويقي نامي يا عيني نامي".
عمومًا، غلب التذكير على أغاني الغزل للابتعاد عن دوائر الحرج. ومن الملاحظات التي يمكن التقاطها في أغنيات الغزل الشعبية، غياب الغزل بالذكور كما كان شائعًا في بعض العصور العربية القديمة مما غنّته القيان الأعجميات. من موضوعات الغزل وتجلياته ما تصفه بعض أغنيات الغزل البدوية حول مغامرات تسلل الحبيب إلى مخدع حبيبته المتزوجة. وهو وصف لا تتضمنه أغنيات الغزل الريفية والحضرية.
الفخر والحماسة..
وهو باب واسع من أبواب الغناء الشعبي الأردني، بسبب طبيعة الأردني النازعة إلى الفخر والمباهاة بأمجاد الآباء والأجداد.
وهو موضوع قائم أساسًا على العصوبة التي تعد الحامل الأكثر صلابة لتماسك عشيرة ما، ودوام مقدارها، وترسيخ سؤددها. وهي عصوبة تبدأ من الابن لأبيه، فهو ظل أبيه ما دام والده على قيد الحياة، ثم عصوبة الشقيق لشقيقه، والأخ لأخيه، وابن العم لابن العم، وهكذا نحو الدائرة الأوسع فالأوسع.
"من الملاحظات التي يمكن التقاطها في أغنيات الغزل الشعبية، غياب الغزل بالذكور كما كان شائعًا في بعض العصور العربية القديمة مما غنّته القيان الأعجميات" |
الفخر هنا هو مولّد حماسة، والحماسة بدورها سبب وجيه للفخر. وفيهما وصف معارك ونزالات وغزوات وأسباب قوة. كما نجد في بعض أغاني الفخر الشعبية بعدًا قصصيًا ملحميًا، كما في الأغنية التي تروي حادثة وقعت في الأغوار بين شخص يدعى اليماني مع الموظفيْن جميل الحديدي ومحمود الأريش:
اللوزي سوا مِثايل ****** شد من الهجن حايل
شقحى ما تهاب الزوايل ***** حرّة يا بنت وضحانِ
ركبْ جنود ومأمور ***** عسكر بنيّة الغور
يبغى يتم المقدورِ ******** يناس امر الله ما يوانِي
الفجر عند الصباح بالشونة صار الصّياح
عسكر صِحيّة مِسطاح ***** وبعيني شِفْتَ الدّمانِ
حلمت حلمًا بالليل **** فسرته بِصبحي وجميلِ
يا رجب الهم عديلِ **** عند الحكيم الطلياني
يا خيّ يا أبو بشيّرْ أنا بحلمي متحيّر
هات الرفاقة وسيّر واذبح لي شاة تفداني
جميلٌ لا تعمل حِيلة قناتي ما بها نحيلة
راسك بالموزر أشيله دقّة ألماني ما تواني".
بسردٍ ملحميّ، تناولت الأهازيج الشعبية مواضيع الفخر والحماسة، لم تترك شاردة ولا واردة من تفاصيل البطولة الفردية والجماعية، وصولًا للبطولات الوطنية واللحظات المصيرية الجامعة: "هبّت النار والبارود غنّى".
المدح والهجاء..
منذ فجر التاريخ تمايز بشر عن آخرين بالمواهب والقيم والقدرات. ومع تطوّر الحضارات تعمق إحساس بني البشر بتلك الفوارق القيمية والأخلاقية الفردية والجماعية التي تميز إنسانًا عن آخر وأمّة عن أخرى، فحاول الأدب الشعبي الذي وصل للأمم البائدة أن يصعد للقمم العليا من عناوين الفضيلة والفرادة، يتقرّب منها ويتودّدها، إمّا عن إيمان صادقٍ بعظمة هذه الصفات عند فرد بعينه، أو مجموعة، من دون غيرها، وإما بقصد التكسّب. وها هي الألواح التي تركتها لنا الحضارات القديمة، والكتابات والنقوش، تغص بالحمد والثّناء، وها هي الملاحم القديمة، كالإلياذة، والأوذيسة، وغيرها، تتضمّن كثيرًا من أبيات المديح بأخيل العظيم ورجاله الشجعان. لم يقتصر المديح على الملاحم المعروفة، بل امتد ليشمل الأناشيد الشعبية، حيث البطل في كل مرّة مثالًا للشرف والبطولة والكرم وسموّ الخُلُق. بعض المدائح الشعبية احتفت بالقادة والزعماء. الكتب الدينية احتفت بالرسل والأنبياء ومدحت صفاتهم وأخلاقهم.
على وجه العموم، يتميز الغناء الشعبي الذي انشغل بالمديح أنه لم يكن يسعى إلى مال، ولا مكاسب شخصية، بل هو تعبير عن وجدانٍ جمعيٍّ ومواقف جامعة يلتقي حولها أبناء منطقة بعينها ويتوارثوا تمجيدها أو تمجيد الأشخاص الذين يرون فيهم ما يستحق المديح من قيم وأخلاق وبطولة وشرف ونبل وشجاعة وصفات قيادة فذّة.
يدور غناء المديح الشعبي حول إبراز الصفات الطيبة والأخلاق السامية للممدوح، ولا يشكّل ثراء إنسان سببًا لمدحه، بل ينشغل الشاعر الشعبي والغناء الشعبي بالصفات المعنوية:
"يا بيّ فلان يا جوهر جماعتنا يا جوهر العز ما إنت جوهر المالِ
يا بيدر القمح كل الناس تنكالِ كيّل عَربنا وغطى على بني هلالِ".
الكرم من العناوين المهمة التي تستحق المديح
"تسلملي يا بيّ فلان يا طعام الزادِ صيتك وذكرك ذاع ما بين الجوادِ".
ولعل أوفر المدائح عزة وأنفة وقومية تلك التي انصبّت على الزعيم الشيخ، فالشعب يظل دائم البحث عن الزعيم وعندما يجده يلتفّ حوله بإخلاص نادر عرف به شعبنا الأردني، وينتسبون له:
"دقّوا الرمح بعود الزين وانتوا يا نشامى منين
واحنا ربع أبو فلان والنعم والنعمتين".
النبي محمد صلى الله عليه وسلّم ناله قسط كبير ووافر من المديح "اختم كلامي بالزين/ بمحمد يا نور العين"، وكذلك النبيّ عيسى عليه السلام "دق باب القيامة رن باب الصُّور/ ضويت قبر المسيح المشتعل بالنور".
في سياق الهجاء، يحمل الشاعر الشعبي لواء قومه مدافعًا عن أحسابهم وأعراضهم، ومتناولًا، في الوقت نفسه، خصومهم وأعداءهم بالتقريع والتوبيخ على درجات مختلفة.
والهجاء قديم قِدم الحضارات التي وصلتنا أخبارها، منذ حضارات بابل وما قبلها. كما أن اليونان برعوا في فنون الهجاء، وتضمنت مسرحياتهم ألوانًا من الهجاء، مثل ذمّ المرأة الفاجرة، أو الآلهة الغادرة، أو اللص الباغي، أو التاجر البخيل.
في حالة الأغاني الشعبية المحليّة، لا يوجد للهجاء قصائد منفردة قائمة بذاتها، بل يمر عليه الشاعر الشعبي مرورًا داخل قصيدة فيها أغراض أخرى غير الهجاء، كأن يتطرق في مقطوعة داخل القصيدة لوصف (كنّة) لِحماتها:
"وامّك من جوية الشيك ويلي ما ابشع لدّتها
ما ادري هي قلّة صابون ولا هاي قيافتها".
وفي مقطع آخر تفاضل المرأة بين فراق زوجها وفراق أمّه:
"يا بو الطقم الليمونِ قدّيش حقّه يا عيوني
وافراق أمّك عيد الله وافراقك عمى عيوني".
ثمّة هجاء حسّي يتناول الهيئة وملامح الوجه بشكل مباشر:
"وجهك بريق التنك مطبوق ومن الصّدا كاشف لونه".
ومن الهجاء القبليّ:
"شَرارى وشْ لَكْ بِزَبْنِيّةْ مالكْ غَرضْ بحكَاياها
لفضّخْ راسكْ بِرِدْنِيّةْ والْعَن أبو مَنْ تِداناها".
ابتعد الهجاء، على وجه العموم، عن التكلّف وتجويد القول، ولم يتضمن أي قدر من الصناعة الشعرية، أو الغموض الدلاليّ. بل هو ينقل الواقع المحسوس من دون أي تجميل، أو تهذيب:
"يا فلان يا بو الوسخ عَ الثوب والجاج ينقّب عصاقيلك".
الرثاء..
طالما هنالك موت هنالك رثاء. وباستثناء رثائيات نمر بن عدوان الموجعة المبكية لزوجته وضحا، فنادرًا ما صاغ الرثاء الشعبيّ رجلٌ بعينه معروف باسمه وشخصيته، بل هو تواتر جماعيّ يتناقله الناس، ويُعبّر عنه غالبًا على لسان امرأة ترثي رجلها، أو رجالها. هذا لا يمنع أحيانًا، وفي حالات قليلة، من رثاء يخص صبية شابة فجع أهلها بها، أو رحلت وتركت وراءها أطفالًا كزغب القطا.
"لم يقتصر المديح على الملاحم المعروفة، بل امتد ليشمل الأناشيد الشعبية، حيث البطل في كل مرّة مثالًا للشرف والبطولة والكرم وسموّ الخُلُق" |
بيد أن الحزن يشتد عند رحيل الزعماء، وفي حين كانت القبائل تتباهى بصلابتها وعدم بكائها على أمواتها (الحمولة الفلانية تبكّي على الميت مثل النسوان)، فإن الأمر لا يخلو من حالات خاصة يشكّل الرحيل فيها فاجعة جماعية، وتتناسب مكانة الميت طرديًا مع ما تظهره النساء من حزن عليه:
"علام الشمس مصفرة حزينة عَ بيّ فلان يا ركن المدينة
يا شيخنا يا اللي عليك الهيبة خليتنا شبه الحريم السيبة
يا شيخنا يا للي عليك المعتمد خلّيتنا مثل البيوت بلا عمد".
وفي الرثاء، يجري تعداد مناقب المرثيّ، مثل ذكر كرمه وإطعامه الناس وشجاعته وإقدامه وأخلاقه الحميدة على وجه العموم:
"عَ بيدره هدّا الحمام
عَ فرشته طاب الكلام
عَ منسفه ربيوا ليتام".
الوصف..
الوصف آخر أغراض الأغاني الشعبية وأوسعها. فالوصف يشمل الأبواب الأخرى جميعها. الشاعر الشعبي اعتمد في الوصف على حسٍّ جماعيٍّ بخلاف الشعر الفصيح، حيث يظهر الإحساس الجماعي جليًّا في الغناء الشعبيّ. ويمكن تعريف الوصف أنه تلوين للآثار الإنسانية بألوان باهرة تتبيّن مواطن الجمال، وهو يحتاج إلى ذوق فني رفيع كي يتسنى له نقل الصورة المشابهة من الواقع المحيط.
التنوّع البيئي الذي يمثل أماكن إقامة الإنسان الأردنيّ؛ من رمال وأنواء ورياح نكباء جافة، إلى رياض فيحاء تنتشر على أكتاف الأودية وسفوح الجبال المكتظة بالأشجار الحرجية، إلى المناطق الغورية، منح الوصف في أغانيه الشعبيّة تنوّعًا نابعًا من تنوّع بيئته ومفردات الطبيعة والأمكنة حوله. فها هو الغناء الشعبيّ يشبّه الناقة النجيبة سريعة الانطلاق بالصقر:
"شدّيت آني طلقة الذِرْعان شِبه الشياهين مَدّني".
كما وصف المروج الخضراء التي ترعى بها الغزلان:
"يا علّاني مرج أخضر يرعى بيه الغزلانِ".
ووصف الدابة التي تجر لوح المدراس قائلًا:
"يا حمرا يا لوّاحة لونك لون التفاحة
يا حمرا لوحيني لوح قلبي من الهوا مجروح".
الغناء الشعبي لم ينس وصف بعض الاختراعات التي شكّلت نقلة في زمن ما مثل السيّارة:
"لوهيْ حلالاتي لا يا الحنتور هو وشفيره تحت يدّي".
ومن الوصف المتأثر بظهور الكهرباء:
"شبّهت عيونك فنجان صيني يا لمضِةْ كهربٍ عَ البلاكينِ".
ومن الأوصاف الغزلية الحسّية:
"خدّه يا قرص الجبنة يفطر عليه الصايم". و"صدر البنيّة بستان وأنا السنة ضمانه".
خصائص الأغاني الشعبية وموسيقاها
في الوقت الذي احتضنت فيه بغداد الموال الشعبي المحمّل بعدًا فجائعيًّا دراماتيكيًا، فإن لونًا شعبيًا ازدهر في منطقتنا منذ مئات السنين هو الغناء الحورانيّ، وقد وصف ابن خلدون هذا اللون في مقدمته: "كانوا يجيئون به معصبًا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويّه، ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة".
هذا اللون، على هذه الشاكلة، لا يزال معروفًا في منطقته والمنطقة التي تليها جنوبًا، أي الشمال الأردني ووسطه، حيث يعرف باسم (الدلاعين).
"في الوقت الذي احتضنت فيه بغداد الموال الشعبي المحمّل بعدًا فجائعيًّا دراماتيكيًا، فإن لونًا شعبيًا ازدهر في منطقتنا منذ مئات السنين هو الغناء الحورانيّ" |
ظهر بعد ذلك لون شعبيّ آخر هو الميجنا، وهي النسخة الحرفية عن الموال المربع. وقد اقترن ظهور الميجنا بحدث دراماتيكيّ، إذ اختفت قبل قرون عدة فلاحة جميلة تدعى (ميجنا)، عاد زوجها الكادح الفقير إلى كوخه فلم يجد زوجته ميجنا التي كانت تحنو عليه وتتقاسم معه هموم الحياة ومتاعبها. وعندما بدأ يبحث عنها أخبره أحدهم أن الإقطاعيّ سرقها كي تقيم في قصره المنيف. أيقن الفلاح المسكين أن كل شيء انتهى، ولن يستطيع استرداد زوجته ميجنا، فهام على وجهه ينادي عليها بأبيات ملحنة كان ينهيها بـ(يا ميجنا). واصل هيامه الليل بالنهار حتى هزل، ثم وضع نفسه في متناول أفعى ضخمة لدغته، فانتشر السم في جسده ومات.
قصة تشبه قصة (يا ليل) المصرية، ومتفرعة، كما يبدو، من نكبة الرشيد للبرامكة. على كل حال، بغض النظر عن تقاطعات الميجنا مع ألوان غناء شعبي أخرى، وقصص شعبية هنا وهناك، إلا أن هذا اللون الذي انتشر في المناطق الجبلية الأردنية والفلسطينية على السواء، ظل يخضع لمزاج المغني وأحوال المستمعين له. كما أنه لا يقال إلا عند اشتداد الألم أو الفراق أو الكبت. وهو مؤلف من أربعة مقاطع، الثلاثة الأولى تنتهي أواخرها بكلمة متشابهة في اللفظ مع اختلاف المعنى، وكأن الشاعر الشعبي أرادها متجانسة لتدلّ على حالته النفسية المنفعلة، ثم الرابعة التي تنتهي بقافية مختلفة ومنتهية بألف ممدودة، لتتهيأ له أسباب التنفسي عن آلامه. ومن الشائع والمألوف أن يأتي هذا اللون على بحر الوافر وزنًا تخصص به.
وعلى مرّ السنين، طرأت على الأغاني الشعبية بعض التعديلات من دون مساس باللحن الأصلي.
أردنيًا، التفتت الإذاعة الأردنية مبكّرًا إلى الأغاني الشعبية، فقامت بالتعاون مع الشاعر، رشيد زيد الكيلاني، بجمع عيناتها وتبويبها وإخراجها بما يتوافق مع المِزاج العام والظروف المحلية.
يؤكد صلاح أبو زيد في لقاء أجراه معه د. هاني العمد بتاريخ 14 أيلول/ سبتمبر 1966، أن مرحلة جمع الغناء الشعبي والموروث وتقديمه للجمهور عبر أثير الإذاعة سبق ظهور وزارة الإعلام بأربع سنوات، أي في الفترة التي كان فيها أبو زيد مديرًا للإذاعة من عام 1958 إلى عام 1962. وبحسب (أبو زيد) فإن أول أغنية شعبية بثتها الإذاعة كانت بصوت عبده موسى، الذي رافق غناءها بالعزف على الربابة.
بعد نجاح التجربة، أرسل صلاح أبو زيد فرقًا شعبية إلى الشمال والجنوب والضفة الغربية كان هدفها تسجيل الأغاني الشعبية في مسارحها الأصلية وفي المناسبات التي كانت تتغنى بها.
ومع تراجع هذا اللون في سورية ولبنان والعراق، فقد اكتسحت الأغاني الأردنية ذات الطابع الشعبي الأسواق الفنية والمسارح الليلية في هذه البلدان الثلاثة، حتى في بيروت.
سبق هذه المرحلة من تطوّر الأغنية الشعبية ما تلا نكبة فلسطين عام 1948، حيث امتزج الغناء الأردني بالفلسطيني، فأعيد تلحين الأغاني القومية، وقدّموا الأهازيج التي كانت تتصاعد وقت الاقتتال مع العدو. وقام بعض المعنيين بإصدار الأناشيد الوطنية والأهازيج الشعبية ذات الصلة بالقضية في كتيبات جرى توزيعها على المدارس. كما قام بعض الشعراء بصياغة بعض الكلام ووضعوه في اللحن الشعبي الجاهز بعد إفراغه من قوالبه الأصلية، مستفيدين من قابلية هذه القوالب لتقبّل أي كلام من هذا اللون. ما تقدّم جعل الناس يدركون قيمة المأثور وندرته وروعته.
المرحلة الثالثة بدأت مع توجه وزارة الإعلام لاستقدام الفرق العربية والأجنبية لإحياء الحفلات الغنائية، ومنها الفرق الشعبية اللبنانية وفرقة رضا المصرية، ما شجّع على ظهور فرق شعبية أردنية. الفرق الناشئة حديثًا بدأ تحيي حفلات لها على مسارح مدينة رام الله الصيفية، وفي المدرج الروماني في عمّان، ومسارح جرش الأثرية. كما قامت الوزارة والإذاعة بإرسال بعض الفرق لتجوب أنحاء الأردن وتسجل أغانيها على الطبيعة أغنيات شعبية مرددة زادت على الثلاثمائة أغنية وأخرجت الإذاعة بالتعاون مع القسم الموسيقي فيها أكثر من مئتي أغنية.
إنها على وجه العموم الأغاني الفولكلورية بعد إعادة توزيعها لتكون صالحة للبث عبر أثير الإذاعة من دون تبديل، أو تحريف، أو أن مطالعها على الأقل ظلت من دون تبديل، أو تغيير، وتغيّر سياقها فقط، مثل:
"برجاس يا قاضي الهوى برجاس حنا قلال ورافعين الراس
ورجالنا عاداتها كيد العدا وسيوفنا ضرباتها بالراس"
التي كانت قبل ذلك:
"برجاس يا قاضي العدا برجاس حِنا قلال وكايدين الناس".
أو مثل:
"الورد فتّح يا زارعين الورد الورد فتّح فتّح وما شا الله"
التي كانت:
"الورد فتّح يا زارعين الورد الورد فتّح يا مخاليق الله".
أو:
"وين عَ رام الله ولفي مسافر وين عَ رام الله".
التي كانت:
"وين عَ باب الله ولفي مسافر وين عَ باب الله".
أسهمت الإذاعة بنشر أغانينا الشعبية بعد إخضاعها لعوامل فنية تجميلية، وإزالة بعض الشوائب منها، وجعلها ملائمة للتوزيع الموسيقي الحديث (الهارموني). كما أسهمت جولات (النَّوَر) المتنقلين بين الأقطار العربية بنقل الأغاني الشعبية من بلد عربي إلى آخر.
يقول مصطفى وهبي التل بحسب ما أورد يعقوب العودات في كتابه "عرار" من الصفحة 125 وما بعدها: "كنا نهرع إلى دوي طبول النور، إلى حيث انتصبت خيامهم، فنشهد الألعاب البهلوانية العجيبة، ونستمع إلى أغانيهم العذبة التي جاءوا بها من بعيد، وليس هذا فحسب، بل إن الشاعر كان يسمع ألحانًا جديدة طارئة أخذت طريقها إلى الآذان بنغمات لاهثة متهافتة تحدثك عن المسافات الشاسعة التي قطعها منشدوها حتى وصلتنا محشرجة باكية يهدهدها نشيج مكبوت، يحدثك عما يعتلج في صدورهم".
بحزن عذب ولوعة موسيقية آسرة، تتشبب الغجرية بوليفها، ويتشبب الغجري بمحبوبته:
"والله لعبّي الجرّة من ميتك يا عاصي
حبّي راسه بوجعه ريت الوجع لراسي
يا يمّه ماني بنيّك ماني غالي عليكِ
خليني ألحق ولفي الله يرضى عليكِ".
ومن أغاني النور الشعبية:
"يا قمرنا يا عالي يا للي نجومك بتلالي
فكرنا العِشرة يومين تاري شهور وليالي".
وحين كانت تتوجّه ضعونهم نحو العراق فلهذه اللحظة أغنيتها الشعبية:
"يا عنيزة شو تقولين إنْ صار لفراق
والظعن شال بليل وجه عَ العراق".
أما الميجنا والموال فقد جاء على لسان النَّور وبأصوات غنائهم حزينًا غارقًا باللواجع، وبما يقترب من حدود المأساة.
وفي رحلاتهم ذهابًا وإيابًا، كانوا يحدثون على اللحن الأول والكلمات الأولى بعض التعديلات المتأثرة بالبلد الذي رجعوا منه، كما في "ربيتك صغيرْ وليش انكرتني"، التي أصبحت بعد عودتهم من العراق "ربيتك صغيرون ليش انكرتني". أو كما في هذا المقطع:
"يا ربي ترزق ولفي ومن الغنم قطعانِ
ومن الأصايل عشرة ومن النسابس (آني)".
فـ(آني) بهذا اللفظ عراقية بامتياز، ما جعل غناء النّور جزءًا لا يتجزّأ من غناء الشعب الأردني بمختلف تلوّنه والتأثيرات الخراجية التي دخلت عليه.
النّور، إلى ذلك، أسهموا بتجديد في الموسيقى المصاحبة للأغنيات الشعبية، من خلال إدخالهم آلات موسيقية بسيطة، مثل الطبل، والعود، والناي، والبزق، إضافة إلى الربابة، التي استعاروها من البادية، فأجادوا العزف عليها. ولكن ذلك ما يقلل من شأن الآلات الإيقاعية الأساسية في الموسيقى المصاحبة للأغاني الشعبية.
"بغض النظر عن تقاطعات الميجنا مع ألوان غناء شعبي أخرى، وقصص شعبية هنا وهناك، إلا أن هذا اللون الذي انتشر في المناطق الجبلية الأردنية والفلسطينية على السواء، ظل يخضع لمزاج المغني وأحوال المستمعين له" |
التطوّر الثاني الذي حققته الموسيقى المصاحبة للأغاني الشعبية هو تلحين بعض الأغاني الشعبية عن طريق الجمل الموسيقية والنوتات والتوزيع الهارموني.
تنتمي الأغنية الشعبية إلى روح الشعب الذي ينظمها ويرددها، فهي خزان موروثه، وموثقة أنّاته وعبراته ومختلف تصاريف حياته. ومن الأغاني الشعبية المهددة بالانقراض أغنية العمل، فأغنيات الحقل من حراثة وحصاد ودراس، وما إلى ذلك، لم يعد من الممكن نقلها إلى المصنع.
الأغنية الشعبية منحازة بفطرتها للإنسان العادي، هي لوحات رسمها الشعب بدقة فنية، فإذا بها مدوّنته التي أغفلها المؤرخون فتصدى لها هو بنفسه يوثق تطلعاته وصبواته ونبض قلبه وشذرات عشقه.
وشأنها شأن مختلف الروايات الشفوية، من نكات وألغاز وأمثال وقصص شعبية، فهي تتناقل بالسماع ويتوارثها اللاحقون عن السابقين.
وهي جماعية، فالأغنية التي لا تعترف بها جماعة الناس في قرية، أو منطقة سكانية تموت من فورها.
وهي لا تنقاد للبحث اللحوح الساعي للقبض على مصدرها الأول، أو مؤلف كلماتها الأول. إن هذا النوع من البحث والتقصي لا طائل من ورائه، لأنه لا يوجّه جهده نحو المسائل الأكثر أهمية على صعيد الأغنية الشعبية، مثل رصد التغيّر التدريجي الذي يطرأ عليها بين حقبة وأخرى، أو رصد المجالات التي استوعبتها الأغنية الشعبية وعبّرت عنها: الحب، الغزل، أغاني الأطفال، المواسم، العمل، الأفراح، الأحزان، التضرع لله والتبرك بأوليائه، وموضوعاتها الأخرى.
الأغنية الشعبية هادفة، ملتزمة، للنص فيها أولوية على الموسيقى. ومن قوالبها في الأردن: القصيد الذي ظل محافظًا على لحنه الوحيد رغم عشرات القصائد التي كتبت له.
كما تتميز بالمرونة اللحنية، وهي سمة مشتركة في الأغاني الشعبية بأي مكان وزمان.
كلامها يشكّل جزءًا كبيرًا من نظمها، فهو كلام كتب في معظم الحالات للأغنية الشعبية على وجه الخصوص.
وفيها انسجام بين اللحن والنص والحركة. وهي وعاء للناس الذين يتداولونها، تعكس شجاعة الفرد الأردني وكرمه ونخوته. وتركّز على عدم قبوله الضيم واعتداده بعاداته الاجتماعية، وتمسكه بمعتقداته الدينية.
وهي على وجه العموم لم تخل من إشارات تاريخية، كما في هذا المقطع:
"اسكندر القرنين حكم وانغضر من عاش في الدنيا وسلم من بلاء".
وفي بعضه إشارة لِما كان من العثمانيين معنا:
"يا هنيالك يا ها القط يا للي عَ الحيط بتنط
مال ميري ما عليك ونظامية ما بتحط".
ولا ينسى الغناء الشعبي السفر برلك:
"بيدك تفاحة بيدي تفاحة من سفر برلك ما ذقنا الراحة".
غناء وصل إلى أبي زيد الهلالي وسيرته:
"يا خيمة لبو فلان عَ الحيط مبنية
مكتوب عَ بابها صيت الهلالية".
أغنيات تربط المكان بالزمان:
"عمّان مع العصر تجيبه وصويلح مع الوذان".
وفي الأغاني الشعبية توثيق للعشائر الأردنية، والطوائف الدينية، ومختلف المناسبات والأعياد، وأسماء الأنبياء والأولياء. وفيها توثيق لحوادث بعينها، وقصص من دون غيرها. كما أن أكثر فروع الأدب الشعبي تفاعلت مع الغناء الشعبي، ما أكسبه حيوية وقوة وطواعية على الإيفاء بالحاجات الروحية والعقلية والنفسية الشعبية في كل زمان وكل مكان.