رمزية الغناء الجالس.. "ناس الغيوان" والوعي بالتغيير
عزيز العرباوي 2 ديسمبر 2021
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
تعد مجموعة "ناس الغيوان" الغنائية من الفرق الموسيقية المغربية التي تركت أثرًا واضحًا في مجال الأغنية الشعبية والملتزمة خلال عقود من القرن العشرين، انطلاقًا من بداية تأسيسها في ستينيات القرن العشرين بالحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء؛ والذي عرف ظهور العديد من الفرق الموسيقية والمسرحية التي ساهمت بشكل كبير في تغيير النظرة الشعبية تجاه الموسيقى وأشكالها المتعددة إلى يومنا، حيث ما زالت الفرقة بقيادة رائد من روادها الفنان عمر السيد وابن من عائلة باطما هو رشيد. ولقد أدى تأسيس هذه المجموعة الغنائية إلى بروز شكل موسيقي جديد مهم في المغرب ولون غنائي مختلف عن السائد آنذاك، إذ ساهمت بشكل كبير في الدفع بالموسيقى التراثية المغربية وتطويرها على الشكل الذي ارتأى مؤسسو المجموعة لها، من خلال اتخاذ أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية المستخدمة، ومن خلال اتخاذهم أشكالًا متعددة لتقديم منتوجهم الموسيقي يتخذ شكل الجلوس في أغلب الأحيان.
لقد عانى التراث المغربي الموسيقي على الخصوص من إهمال كبير ومن تجاهل اتخذ نوعًا من الاتجاه نحو تقليد الغرب أو الشرق العربي؛ ولذلك فُرِض على "ناس الغيوان" أن تتجه نحو البحث في التراث الوطني المغربي والثقافة الشعبية السائدة التي تجذب جمهورًا واسعًا من الفئات الشعبية الهشة والبسيطة التي تجد في أغاني المجموعة ما يثير حفيظتها ويعبر عن أحاسيسها ومشاعرها ومعاناتها في الحياة؛ إن ما يميز أغاني المجموعة هو تلك الروحانية التي تتصف بها في العديد من الأغاني، إضافة إلى نهجها الإبداعي الذي يهيِّج المشاعر الشعبية تجاه السلطة السياسية الاستبدادية ومقاومتها بالأغنية والكلمة الهادفة والملتزمة التي تترك أثرًا واضحًا لدى الجمهور من خلال إثارة انتباهه إلى واقعه الاجتماعي السيئ وأحواله الاقتصادية المزرية.
إن رمزية ظهور مجموعة "ناس الغيوان" بالمغرب مرتبطة بالأساس برغبة بعض أفرادها المؤسسين بالتفكير في التغيير، تغيير نظرة المجتمع المغربي إلى الفن الشعبي ومدى قدرته على التوعية السياسية والثقافية والفكرية وتكريس نوع من الوعي المجتمعي بأهمية هذا النوع من الفن الغنائي والموسيقي في خلق ثقافة تراثية ترتبط بثقافة الشعب وموروثه الفني والثقافي الموغل في التاريخ. وتعد صورة المجموعة وهي جالسة تقدم لجمهورها أجمل أغانيها وأروع إبداعاتها، بمثابة تعبير عن ثقافة الشعب المغربي التي ارتبطت عاداته وتقاليده بالتواضع والكبرياء معًا، سواء على مستوى الاستضافة أم على مستوى التجمعات في الفضاءات العامة وفي البيوت بوضعية الجلوس والارتباط بالأرض. هذه العادات جعلت المجموعة، التي وضعت على عاتقها منذ تأسيسها الحفاظ على التراث المغربي بكل طقوسه وأشكاله التعبيرية الجميلة، تفكر جيدًا في رمزية الجلوس وأهميته في العديد من حفلاتها وسهراتها التي تقيمها في كل مكان.
إن روحية الموسيقى الغيوانية (نسبة إلى "ناس الغيوان") المؤكدة على مرجعيتها الشعبية الأساسية التي تغذي مختلف الأغاني التي قدمتها المجموعة، تستنبط قوتها الإبداعية من سير وتجارب صوفية وأشعار مبدعين زجالين مغاربة كعبد الرحمان المجدوب، وسيدي بوعلام الجيلاني... وفي ذلك يقول عبد الله الحيمر: ""ناس الغيوان" عبارة تعني "أهل الفَهَامة"، وهم أناس يفهمون ويستنبطون ما وراء العبارة فلا يكتفون بظاهر لفظها، وإنما ينجذبون عميقًا إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلب هؤلاء هم شعراء جوّالون، تأثّروا بالطرق الصوفية الشعبية التي ظهرت بالمغرب مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، واكتفوا من حياتهم بوظيفة التخلّي عن الدنيا والتجول في الأرض والإنشاد الذي كانوا يضمّنونه أخبار مَن مرّوا بهم من قبائل ونُجوع وتبليغها إلى مستمعيهم، ونذكر منهم الشاعر والصوفي المغربي عبد الرحمان المجدوب، وسيدي بوعلام الجيلاني، وابن المؤقت المراكشي وغيرهم... وقد تمثّلت فرقة "ناس الغيوان" تاريخ هؤلاء الرجال المجاذيب وروحانياتهم وغموضهم وترحّلهم وزجرهم من الظاهر وميلهم إلى ما لا يدركه البصر، ووجد فيه أفرادُها ما يصلح لهم سبيلاً إلى فهم متغيّرات زمنهم، في زمن كان فيه التعبير والنقد المباشر للسلطة والأوضاع أمرًا خطيرًا قد يؤدي إلى السجن أو القتل والتعذيب، فلاذوا به يستعيرون منه إيحاءاتِ التسمية، وصيغَ التواجد بين الناس، ومفردات الرحلة الروحية، والخروج من ضيق الجسد إلى براح الرؤيا"[1].
رمزية الغناء عند المجموعة
تركز المجموعة في أغانيها على صورة المواطن المهموم والمظلوم، الذي يعاني من المشاكل الحياتية بمختلف أشكالها وأنواعها والتي تقوده إلى الصراخ والتعبير عن مشاعره داخليًا تارة وبالجهر تارة أخرى؛ تعبير يشكل أرقى وسائل التعبير عند الإنسان العربي المهموم الذي يشعر بالدونية في مجتمعه وبالضعف أمام كل أشكال القمع التي يتعرض لها، سواء من طرف السلطة أم من طرف النافذين في المجتمع. فالموسيقى في الوعي الجماهيري "إيقاع محصلة تربوية متكاملة تنهل من محصلة تراثية ذات جمالية في ديناميكية تفاعلية بين أصالة البيئة الثقافية وجدارة التجديد والتطوير. ارتحال كتلك الآلات الوازنة في الاحتفالية ترتد إلى ذهني محملة بثنايا المكان والزمان. ثنايا تقاطعت بين أُسَّيْن، أسٌّ عربي (البداوة والصحراء) وأسٌ أفريقي (موسيقى العبودية المؤجلة). خطوات بخطوات تجد وطنًا في الكلمات على عتبات مدينة الهامش الدار البيضاء في الحي المحمدي"[2].
تقول المجموعة في أغنيتها الشهيرة "مهمومة":
"مهمومة يا خيي مهمومة
مهمومة هـاذ الـدنيا مهمـومة
فيهـا النفـوس ولات مضيـومة
ولّى بنادم عباد الـلُّومة
المسكين ف همومه ساير يْلاَلي
عايـم ف لفقايص عومـة محمومة
شي مفتـون بمالــه سايـر يلالي
لايح الرّْزَانْ ف قهـاوي محرومة
هايـم ب لقصايـر وليلات تلالي
الخرفان مذبوحة والبنات مغرومة
لا حرمـة بقـات لا ديـن لا عبادة".
هنا تعبير عن عدم الشعور بالانتماء والهوية جراء ما يعانيه الفرد في مجتمعه من فقر وتهميش وضياع وفقدان للأمل في المستقبل؛ حيث تتجلى أشكال الظلم وغياب العدالة الاجتماعية بين مختلف فئاته، وبالتالي الشعور بنوع من الضعف والصغر والتقزّم. كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن "ناس الغيوان" خرجوا من رحم الشعب المغربي في زمن كان العديد من فئاته الاجتماعية تعاني الفقر والتهميش جراء سياسات حكومية مجحفة في حق الضعفاء والفقراء والبسطاء، الذين وجدوا في بعض الفنانين والمثقفين الصدر الرحب والصوت القوي المكافح والمناضل من أجلهم.
كافحت المجموعة بالأغنية وناضلت ما وسعها النضال حتى وصلت شهرتها الآفاق، وعرفها القاصي والداني؛ بل وصلت شهرتها إلى المشرق العربي، وخاصة في بلدان الخليج العربي التي استضافتها في بعض الحفلات الخاصة والعامة. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن إبداعاتها كانت وما زالت تمثل الصوت القوي المعبر عن المستضعفين والبسطاء والفقراء الذين لا صوت لهم. ولعل انخراطها في الدفاع عن القضية العربية الأولى، قضية فلسطين، قد رفعت من أسهمها في كل مكان وفي كل وطن عربي من المحيط إلى الخليج؛ ومن أهم ما قدمت المجموعة في ذلك أغنية "فلسطين" التي تقول فيها:
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
دركوها جنة الخلد لا تفوتوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
دركوها جنة الخلد لا تفوتوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
حبوها كيف الحياة كاملة جعلوها
يا جنة ما نبالي ويوم الملقى ولا بد يبانْ
كل قطرة من دمنا تفور في حق الإنسان
فيها الهدف تبلغ ثورة يرجع الشانْ
يا جنة ما نبالي ويوم الملقى ولا بد يبانْ
كل قطرة من دمنا تفور في حق الإنسان
فيها الهدف تبلغ ثورة يرجع الشانْ
.................
أبدعت المجموعة في تعبيرها عن فلسطين وعن أهلها الذين عانوا وما زالوا يعانون من احتلال ظالم وسياسة عدوانية لا مبالية بحقوق الفلسطيني في حريته ووطنه. إننا أمام فن راقٍ يعبر عن النضال الإنساني الرائع الذي يؤمن بالحرية والاستقلال والسلام، بعيدًا عن الانتقائية والانحراف تجاه المصلحة التي صارت تمثل بالنسبة للفن اليوم ولأصحابه الغاية الكبرى والجائزة النهائية من وراء ما يبدعونه ويقدمونه. لقد انقلبت الموازين وصار همّ الفن، أو على الأقل جزء منه، هو الربح وتفادي منطق الخسارة والتضحية والنضال والمقاومة، مقاومة الظلم والاستبداد والطغيان.
رمزية الجلوس وأشكاله
إن جلوس المجموعة في أثناء أداء العديد من أغانيها ليس خيارًا بل فرضته الظروف والوقائع التي مرّت بها المجموعة ومرّ بها الشعب المغربي في العقود الوسيطة من القرن العشرين؛ حيث تجلت رمزية الجلوس لدى المجموعة في تقديم صورة إيحائية لتطوير العلاقة مع الشعب وأفراده البسطاء، ومع عاداته وتقاليده الخاصة في البيوت التي كانت أغلب أفرشتها من حصُرٍ وزراب وأفرشة بسيطة مستوية مع الأرض. وما دام كل أفراد المجموعة من عائلات مغربية بسيطة نبعت من حي شعبي بالدار البيضاء يعيش سكانه حياة عادية وبسيطة جدًا تكاد تستوي والفقر، كان عليهم أن يستجيبوا لواقع الحال وأن يلجأوا إلى النمط الثقافي الدارج في المجتمع آنذاك، والذي ينحاز إلى أبعاد ثقافية وأيديولوجية واضحة المعالم.
ولئن كانت الصورة الرمزية التي تمثل الشكل الظاهري للمجموعة عند البعض من النقاد الفنيين مجرد شكل بسيط، فإنه يمثل عندنا تمثيلًا أيقونيًا يحيل على عبقرية خاصة لدى أفرادها من أجل تحقيق الإبلاغ والتمثيل والإيحاء وتحفيز الرغبة والتأويل لدى جمهورها؛ لأنها تبدي للمحلل شروطًا ترميزية محددة. فهذا الشكل يشير حكمًا ضمن وظيفته الإشارية المرجعية التقريرية من خلال ربطنا لها بالعادات والتقاليد المغربية في أزمنة محددة إلى قوتها الرمزية في التعبير عن النضال والكفاح ضد الظلم والاستبداد والتهميش؛ ضد كل أشكال العنف الرمزي والمعنوي الذي خلف ضحايا كثيرين.
وتشكل رمزية القعود أو الجلوس عند المجموعة نوعًا من الظهور العفوي غير الرسمي، بل شكلًا من أشكال الانحياز إلى الجوهر الداخلي لدى أفرادها والتمسك بالموروث الشعبي المغربي والاعتزاز بالانتماء إلى البسطاء في وقت كانت تسوده أشكال من التغريب والخروج عن الهوية الوطنية عند بعض الفئات الميسورة والنخب المثقفة آنذاك؛ فقد برزت في الأفق في ذلك الوقت العديد من أشكال التعبير والكلام والتموقف والانتماء الغربية التي تأخذ من الثقافة الفرنسية مرجعياتها وأسسها ومبادئها وقوتها الاقتراحية والفعلية. كل هذا دفع بالمجموعة وغيرها من المجموعات الغنائية المغربية الأخرى التي ظهرت بعدها إلى مواجهة هذه الأشكال الغريبة عن المجتمع المغربي بطريقتها الخاصة على مستوى الشكل والمضمون الذي تقدمه في أغانيها وموسيقاها.
مراجع:
[1]- عبد الله الحيمر، ناس الغيوان: خطاب الاحتفالية الغنائية، دار الأمير، باريس، ط. 1، 2020.
[2]- نورة عبيد، "في كتاب ناس الغيوان... الغناء والشفاء من الشقاء"، جريدة القدس العربي، 9 آب/ أغسطس 2020.
عزيز العرباوي 2 ديسمبر 2021
موسيقى
شارك هذا المقال
حجم الخط
تعد مجموعة "ناس الغيوان" الغنائية من الفرق الموسيقية المغربية التي تركت أثرًا واضحًا في مجال الأغنية الشعبية والملتزمة خلال عقود من القرن العشرين، انطلاقًا من بداية تأسيسها في ستينيات القرن العشرين بالحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء؛ والذي عرف ظهور العديد من الفرق الموسيقية والمسرحية التي ساهمت بشكل كبير في تغيير النظرة الشعبية تجاه الموسيقى وأشكالها المتعددة إلى يومنا، حيث ما زالت الفرقة بقيادة رائد من روادها الفنان عمر السيد وابن من عائلة باطما هو رشيد. ولقد أدى تأسيس هذه المجموعة الغنائية إلى بروز شكل موسيقي جديد مهم في المغرب ولون غنائي مختلف عن السائد آنذاك، إذ ساهمت بشكل كبير في الدفع بالموسيقى التراثية المغربية وتطويرها على الشكل الذي ارتأى مؤسسو المجموعة لها، من خلال اتخاذ أنواع مختلفة من الآلات الموسيقية المستخدمة، ومن خلال اتخاذهم أشكالًا متعددة لتقديم منتوجهم الموسيقي يتخذ شكل الجلوس في أغلب الأحيان.
لقد عانى التراث المغربي الموسيقي على الخصوص من إهمال كبير ومن تجاهل اتخذ نوعًا من الاتجاه نحو تقليد الغرب أو الشرق العربي؛ ولذلك فُرِض على "ناس الغيوان" أن تتجه نحو البحث في التراث الوطني المغربي والثقافة الشعبية السائدة التي تجذب جمهورًا واسعًا من الفئات الشعبية الهشة والبسيطة التي تجد في أغاني المجموعة ما يثير حفيظتها ويعبر عن أحاسيسها ومشاعرها ومعاناتها في الحياة؛ إن ما يميز أغاني المجموعة هو تلك الروحانية التي تتصف بها في العديد من الأغاني، إضافة إلى نهجها الإبداعي الذي يهيِّج المشاعر الشعبية تجاه السلطة السياسية الاستبدادية ومقاومتها بالأغنية والكلمة الهادفة والملتزمة التي تترك أثرًا واضحًا لدى الجمهور من خلال إثارة انتباهه إلى واقعه الاجتماعي السيئ وأحواله الاقتصادية المزرية.
"إن رمزية ظهور مجموعة "ناس الغيوان" بالمغرب مرتبطة برغبة بعض أفرادها المؤسسين بالتفكير في تغيير نظرة المجتمع المغربي إلى الفن الشعبي ومدى قدرته على التوعية السياسية والثقافية والفكرية" |
إن روحية الموسيقى الغيوانية (نسبة إلى "ناس الغيوان") المؤكدة على مرجعيتها الشعبية الأساسية التي تغذي مختلف الأغاني التي قدمتها المجموعة، تستنبط قوتها الإبداعية من سير وتجارب صوفية وأشعار مبدعين زجالين مغاربة كعبد الرحمان المجدوب، وسيدي بوعلام الجيلاني... وفي ذلك يقول عبد الله الحيمر: ""ناس الغيوان" عبارة تعني "أهل الفَهَامة"، وهم أناس يفهمون ويستنبطون ما وراء العبارة فلا يكتفون بظاهر لفظها، وإنما ينجذبون عميقًا إلى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلب هؤلاء هم شعراء جوّالون، تأثّروا بالطرق الصوفية الشعبية التي ظهرت بالمغرب مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، واكتفوا من حياتهم بوظيفة التخلّي عن الدنيا والتجول في الأرض والإنشاد الذي كانوا يضمّنونه أخبار مَن مرّوا بهم من قبائل ونُجوع وتبليغها إلى مستمعيهم، ونذكر منهم الشاعر والصوفي المغربي عبد الرحمان المجدوب، وسيدي بوعلام الجيلاني، وابن المؤقت المراكشي وغيرهم... وقد تمثّلت فرقة "ناس الغيوان" تاريخ هؤلاء الرجال المجاذيب وروحانياتهم وغموضهم وترحّلهم وزجرهم من الظاهر وميلهم إلى ما لا يدركه البصر، ووجد فيه أفرادُها ما يصلح لهم سبيلاً إلى فهم متغيّرات زمنهم، في زمن كان فيه التعبير والنقد المباشر للسلطة والأوضاع أمرًا خطيرًا قد يؤدي إلى السجن أو القتل والتعذيب، فلاذوا به يستعيرون منه إيحاءاتِ التسمية، وصيغَ التواجد بين الناس، ومفردات الرحلة الروحية، والخروج من ضيق الجسد إلى براح الرؤيا"[1].
رمزية الغناء عند المجموعة
تركز المجموعة في أغانيها على صورة المواطن المهموم والمظلوم، الذي يعاني من المشاكل الحياتية بمختلف أشكالها وأنواعها والتي تقوده إلى الصراخ والتعبير عن مشاعره داخليًا تارة وبالجهر تارة أخرى؛ تعبير يشكل أرقى وسائل التعبير عند الإنسان العربي المهموم الذي يشعر بالدونية في مجتمعه وبالضعف أمام كل أشكال القمع التي يتعرض لها، سواء من طرف السلطة أم من طرف النافذين في المجتمع. فالموسيقى في الوعي الجماهيري "إيقاع محصلة تربوية متكاملة تنهل من محصلة تراثية ذات جمالية في ديناميكية تفاعلية بين أصالة البيئة الثقافية وجدارة التجديد والتطوير. ارتحال كتلك الآلات الوازنة في الاحتفالية ترتد إلى ذهني محملة بثنايا المكان والزمان. ثنايا تقاطعت بين أُسَّيْن، أسٌّ عربي (البداوة والصحراء) وأسٌ أفريقي (موسيقى العبودية المؤجلة). خطوات بخطوات تجد وطنًا في الكلمات على عتبات مدينة الهامش الدار البيضاء في الحي المحمدي"[2].
تقول المجموعة في أغنيتها الشهيرة "مهمومة":
"مهمومة يا خيي مهمومة
مهمومة هـاذ الـدنيا مهمـومة
فيهـا النفـوس ولات مضيـومة
ولّى بنادم عباد الـلُّومة
المسكين ف همومه ساير يْلاَلي
عايـم ف لفقايص عومـة محمومة
شي مفتـون بمالــه سايـر يلالي
لايح الرّْزَانْ ف قهـاوي محرومة
هايـم ب لقصايـر وليلات تلالي
الخرفان مذبوحة والبنات مغرومة
لا حرمـة بقـات لا ديـن لا عبادة".
هنا تعبير عن عدم الشعور بالانتماء والهوية جراء ما يعانيه الفرد في مجتمعه من فقر وتهميش وضياع وفقدان للأمل في المستقبل؛ حيث تتجلى أشكال الظلم وغياب العدالة الاجتماعية بين مختلف فئاته، وبالتالي الشعور بنوع من الضعف والصغر والتقزّم. كل ذلك يدل دلالة قاطعة على أن "ناس الغيوان" خرجوا من رحم الشعب المغربي في زمن كان العديد من فئاته الاجتماعية تعاني الفقر والتهميش جراء سياسات حكومية مجحفة في حق الضعفاء والفقراء والبسطاء، الذين وجدوا في بعض الفنانين والمثقفين الصدر الرحب والصوت القوي المكافح والمناضل من أجلهم.
"أبدعت المجموعة في تعبيرها عن فلسطين وعن أهلها الذين عانوا وما زالوا يعانون من احتلال ظالم وسياسة عدوانية لا مبالية بحقوق الفلسطيني في حريته ووطنه" |
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
دركوها جنة الخلد لا تفوتوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
دركوها جنة الخلد لا تفوتوها
عتقوها أمي فلسطين لا تدوزوها
حبوها كيف الحياة كاملة جعلوها
يا جنة ما نبالي ويوم الملقى ولا بد يبانْ
كل قطرة من دمنا تفور في حق الإنسان
فيها الهدف تبلغ ثورة يرجع الشانْ
يا جنة ما نبالي ويوم الملقى ولا بد يبانْ
كل قطرة من دمنا تفور في حق الإنسان
فيها الهدف تبلغ ثورة يرجع الشانْ
.................
أبدعت المجموعة في تعبيرها عن فلسطين وعن أهلها الذين عانوا وما زالوا يعانون من احتلال ظالم وسياسة عدوانية لا مبالية بحقوق الفلسطيني في حريته ووطنه. إننا أمام فن راقٍ يعبر عن النضال الإنساني الرائع الذي يؤمن بالحرية والاستقلال والسلام، بعيدًا عن الانتقائية والانحراف تجاه المصلحة التي صارت تمثل بالنسبة للفن اليوم ولأصحابه الغاية الكبرى والجائزة النهائية من وراء ما يبدعونه ويقدمونه. لقد انقلبت الموازين وصار همّ الفن، أو على الأقل جزء منه، هو الربح وتفادي منطق الخسارة والتضحية والنضال والمقاومة، مقاومة الظلم والاستبداد والطغيان.
رمزية الجلوس وأشكاله
إن جلوس المجموعة في أثناء أداء العديد من أغانيها ليس خيارًا بل فرضته الظروف والوقائع التي مرّت بها المجموعة ومرّ بها الشعب المغربي في العقود الوسيطة من القرن العشرين؛ حيث تجلت رمزية الجلوس لدى المجموعة في تقديم صورة إيحائية لتطوير العلاقة مع الشعب وأفراده البسطاء، ومع عاداته وتقاليده الخاصة في البيوت التي كانت أغلب أفرشتها من حصُرٍ وزراب وأفرشة بسيطة مستوية مع الأرض. وما دام كل أفراد المجموعة من عائلات مغربية بسيطة نبعت من حي شعبي بالدار البيضاء يعيش سكانه حياة عادية وبسيطة جدًا تكاد تستوي والفقر، كان عليهم أن يستجيبوا لواقع الحال وأن يلجأوا إلى النمط الثقافي الدارج في المجتمع آنذاك، والذي ينحاز إلى أبعاد ثقافية وأيديولوجية واضحة المعالم.
ولئن كانت الصورة الرمزية التي تمثل الشكل الظاهري للمجموعة عند البعض من النقاد الفنيين مجرد شكل بسيط، فإنه يمثل عندنا تمثيلًا أيقونيًا يحيل على عبقرية خاصة لدى أفرادها من أجل تحقيق الإبلاغ والتمثيل والإيحاء وتحفيز الرغبة والتأويل لدى جمهورها؛ لأنها تبدي للمحلل شروطًا ترميزية محددة. فهذا الشكل يشير حكمًا ضمن وظيفته الإشارية المرجعية التقريرية من خلال ربطنا لها بالعادات والتقاليد المغربية في أزمنة محددة إلى قوتها الرمزية في التعبير عن النضال والكفاح ضد الظلم والاستبداد والتهميش؛ ضد كل أشكال العنف الرمزي والمعنوي الذي خلف ضحايا كثيرين.
"تجلت رمزية الجلوس لدى المجموعة في تقديم صورة إيحائية لتطوير العلاقة مع الشعب وأفراده البسطاء، ومع عاداته وتقاليده الخاصة في البيوت التي كانت أغلب أفرشتها من حصُرٍ وزراب وأفرشة بسيطة مستوية مع الأرض" |
مراجع:
[1]- عبد الله الحيمر، ناس الغيوان: خطاب الاحتفالية الغنائية، دار الأمير، باريس، ط. 1، 2020.
[2]- نورة عبيد، "في كتاب ناس الغيوان... الغناء والشفاء من الشقاء"، جريدة القدس العربي، 9 آب/ أغسطس 2020.