اسم فرات: أتطلع لإنجاز سيرة ذاتية مكانية عن كربلاء
علي لفتة سعيد 12 ديسمبر 2022
حوارات
باسم فرات
شارك هذا المقال
حجم الخط
غادر باسم فرات العراق عام 1993، وكان شاعرًا شابًا صغيرًا بعمر 26 عامًا (ولد في كربلاء عام 1967)، لتتحوّل تلك الرحلة إلى عمليات كشف عن تاريخ ومناطق الدول التي زارها، والتي بلغت أكثر من 40 دولة، ليكون الرحالة الأول على مستوى الوطن العراقي في الزمن الراهن، ويصدر سبعة كتب، فضلًا عن تسع مجموعات شعرية، ويحصد 3 جوائز، منها جائزة ابن بطوطة، وجائزة السلطان قابوس في الثقافة والفنون والآداب.
هنا، حوار معه عن أدب الرحلات، وانشغالاته الأخرى:
(*) من أنت؟ الشاعر، أم الرحالة، أم الموثق، أم الباحث في الشأن التاريخي والأنثروبولوجي؛ أم الإنسان الذي يحمل هموم الكتابة لينتج ما يعتقد أنه غائب عن المشهد العربي؟
كل ما أعرفه أنني أجد نفسي في القراءة والشعر والبحث والترحال، ومحاولة معرفة التاريخ الثقافي للإنسان عبر العقائد واللغة والمكان. أنا قارئ أولًا، لكني أعتزّ بأنني اكتشفت هوسي بالشعر، وأنا ابن ثمانية أعوام، حين كنت أنصت إلى معلمي في العمل، وهو يقرأ شعرًا بصوت عالٍ، فقررت أن أعيش للشعر. وعبر القراءة، عرفت أن أهم الشعراء تنقلوا بين أمكنة مختلفة، ابتداءً من الشاعر طَرفة بن العبد، مرورًا بالمتنبي، وليس انتهاء بعدد كبير من الشعراء الذين سافروا كثيرًا، وارتحلوا من مكان إلى آخر. أما في ما يخص الكتابة في الشأن الثقافي ـ التاريخي ـ الإناسيّ، فهي نتيجة طبيعية لاهتماماتي المبكرة بهذه الحقول المعرفية. وربما أكون أحد أقلّ الشعراء قراءة للإبداع، إذا استثنينا الشعر، والسنوات العشر التي سبقت خروجي من العراق، وحين لاحظت تنامي الأسطورة، والمبالغات والتزوير في سرديات المجموعات اللغوية والعقائدية، أسعفتني هذه القراءات، وترحالًا بين الكتب والثقافات والأمكنة في تفكيك هذه السرديات، وإصدارها في كتاب عنونته "اغتيال الهوية".
(*) ما الذي أضفته الى أدب الرحلات، وهو جنس أدبي مشهور في النتاج العربي القديم؟
في الشعر، وفي أدب الرحلات، كذلك في المقالات، لا أكتب سواي. أما في ما يخص الإضافة، فهذا ما يقرره النقاد والقراء. لكنني أزعم أنني أمتلك أسلوبًا خاصًّا بي في الشعر، مثلما في أدب الرحلات، بل حتى في تناول القضايا الثقافية والتاريخية ـ الإناسية، هو أسلوب يغرف من معين تلاقح قراءاتي، وانغماسي في الثقافات التي عشت بين ظهرانيها، وأزعم أنني أنغمس في عمق المجتمع الذي أرتحل إليه، فضلًا عن قراءاتي لجغرافية المكان التاريخية والاجتماعية والدينية، ومقارنتها بأمكنة أخرى، لكن بلا تفضيل ثقافة على أخرى، لأني أؤمن بأن الثقافات قاطبة يجب أن تُعامل كما يُعامل الإنسان بغض النظر عن لونه ولغته وعقيدته.
(*) زرت دولًا عديدة... كيف استطعت أن تلبي طموحك في هذه المغامرة، ومن أين تحصل على المعلومات؟
حصلت على المعلومات من الكتب التي أشتريها من الدول التي أزورها، فضلًا عن المواقع الأكاديمية الرصينة، ومواقع الجامعات، ومراكز البحوث، ومحاولة ملامسة المجتمع بطبقاته، أعني طبقة المثقفين، وطبقة الكَسَـبَة، حيث لا تتذوق طعم المجتمعات إلّا عبر أسواقها، ومناطق السكن الشعبية، وليس عبر المجمعات السكنية والمجمعات التسويقية التي تفتقد للهوية. ملاصقة المجتمع مفاتيح لفهم سردياته، وكل مجتمع يحوي سرديات متنوعة ومتناقضة، ولا وجود لسردية لا تحمل الغث والسمين.
(*) ما بين كربلاء مسقط الرأس، وما بين القارات التي زرتها؛ من أضاف لك لزيادة التجربة؟
مسقط الرأس هو الذي شكّلني، وأعتقد أن السياحة الدينية في كربلاء أسعفتني أن أحترم التنوع ولا أستهجنه، وأن أبحث في مصادر خطابه وسردياته ومنجزاته، وهذا ما زادني ثقافة بلا شكّ، ولا بدّ من ذكر أنني غادرت العراق مبكرًا، فكان تَشكّلي في العراق، لكن معظم نتاجي الشعري وغير الشعري أنجزته خارج العراق بحكم غربة وترحال وأسفار أصبحت تعانق الثلاثين سنة.
لكن يبقى حلمي هو أن أنجز كتابًا عن كربلاء يكون سيرة ذاتية ـ مكانية.
(*) في كتابتك لأدب الرحلات نجد ثمة ممازجة بين الشعر والسرد، بين الغرائبية والواقع، كيف استطعت جمع المتناقضات؟
لا يمكن للشاعر أن يتخلّص من لغته الشعرية تمامًا حين يكتب في مجالات أخرى، لا سيما حين يقضي أكثر من ثلاثين عامًا مهووسًا بالشعر ومتفرغًا له، ثم تجبره ظروف الحياة أن يكتب غير الشعر، وإذا كانت أولى محاولاتي الشعرية وأنا ابن العاشرة، أو دونها بقليل، فإن أول كتاب لي صدر خارج نطاق الشعر كان عام 2013 ميلادية، أي وأنا ابن الخامسة والأربعين، وأعتقد أن قراءاتي الواسعة والمبكرة للتراث وروائع الروايات العالمية، فضلًا عن كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة" الذي قرأته وأنا في الابتدائية، عوامل صقلت لغتي العربية ونثري، ولا أنسى سماع وقراءة القرآن الكريم، الذي عايشته على امتداد وجودي في مدينتي.
أما المزاوجة بين الماضي والحاضر فسببها ربما كثرة قراءاتي لتاريخ الحضارات، واطلاعي الجيد على التراث العربي ومنجزات الأمم الأخرى.
(*) أمام هذه الرحلة؛ ماذا أردت أن تضيف لأدب الرحلات من طريقة لتجنيس واقع جديد لا يعتمد على ما هو مكتوب سابقًا؟
الوعي بالخصوصية حين يكون فطريًّا عند الشاعر والمبدع بعامة، فإنه لا بدّ أن يغرد خارج السرب، ويمتعنا بالجديد، وأن يعي كاتب أدب الرحلات أنه أمام تحديات وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة المعلوماتية، وفضائيات الإذاعات المرئية، فكان الشعر ولغته التي ترفض الإطناب سبيلًا، ولم أستغرب حين قرأت عند باحثين ونقاد أن لغة الشعر واضحة في منجزي الرحليّ.
(*) تركز في كثير من كتاباتك التاريخية على الأصل في المعلومة. هل يأتي الأمر لكثرة الإطلاعات، أم أن الغربة والتغرّب أتاحا لك الرؤية من منطقة عليا لترى الحقيقة التاريخية؟
لا شكّ كثرة الاطلاع والتحري عن المعلومة، ومحاولة قراءة السرديات من وجهات نظر وزوايا مختلفة، ثم تأمل طبيعة المكان، مثال ذلك أن الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام وعربستان والمناطق العربية ـ السريانية في تركيا) هو أرض الكتابة والتدوين ـ وقد فرقتُ بين الكتابة والتدوين ـ ففيه نشأت الكتابة والأبجديات بما فيها الأبجدية العربية التي اخترعت في الحيرة قبل الإسلام، وليس اعتباطًا أن تنقيطها وتشكيلها ونحوها وصرفها وأول معجم لها كله تم في العراق وليس في مكان آخر، بل ليس اعتباطًا أن حوالي 90% من بدايات الحضارة العربية الإسلامية تمت في العراق وبأقلام عراقية عربية. من هذا المنطلق، فإن كل مجموعة لغوية ـ إثنية ـ تفتقد للكتابة والتدوين، أي لعشرات الأدباء والمؤرخين والباحثين والجغرافيين بلغتها قبل القرن العشرين، ولا أقول قبل القَرن الخامس عشر، فهي طارئة على إقليمنا الحضاري، وهذا لا يقلل من حقها في المواطنة، ولكن حين تنحو سردياتها نحو تأصيل وتأسيس تاريخ عريق لها في عمق العراق وبلاد الشام، بحجج متوهمة، فهذا مرفوض قطعًا، فأرض التدوين الأولى وصاحبة أضخم تراث تدويني بين لغات العالم، لا يمكن أن يُنسب لغير أهله وعدم احترام تنوعه الجميل والحفاظ عليه.
النقطة أعلاه لم يتناولها المؤرخون والباحثون، ولم يركّزوا عليها، بينما أراها ضرورية لفهم دور التنوع اللغوي في الهلال الخصيب، وهكذا يمكن وقف سيل السرديات المتوهمة، لا سيما لمن يفتقد لحضور ثقافي تدويني بلغته قبل الحرب العالمية الأولى.
هامش:
صدر لباسم فرات في أدب الرحلات:
1 ـ مسافر مقيم: عامان في أعماق الأكوادور... وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات (2013 ـ 2014).
2 ـ الحلم البوليفاريّ: رحلة كولومبيا الكبرى... الكتاب الفائز بالجائزة الأولى لأدب الرحلات ـ مسابقة ناجي جواد الساعاتي 2015. وطبعة ثانية عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق 2022.
3 ـ لا عُشبة عند ماهوتا: من منائر بابل إلى جنوب الجنوب، دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي، بالتعاون مع منشورات المتوسط ـ ميلانو ـ إيطاليا 2017.
4 ـ طواف بوذا: رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا، دار الأدهم للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2019.
5 ـ لؤلؤة واحدة وألف تَل: رحلات بلاد أعالي النيل، دار الأدهم للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2019.
6 ـ طريق الآلهة: من منائر بابل إلى هيروشيما، دار سماوات للنشر والترجمة، مسقط 2020، وطبعة ثانية عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق 2022.
7 ـ أمكنة تلوّح للغريب، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عَـمّان ـ الأردن 2021.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
علي لفتة سعيد 12 ديسمبر 2022
حوارات
باسم فرات
شارك هذا المقال
حجم الخط
غادر باسم فرات العراق عام 1993، وكان شاعرًا شابًا صغيرًا بعمر 26 عامًا (ولد في كربلاء عام 1967)، لتتحوّل تلك الرحلة إلى عمليات كشف عن تاريخ ومناطق الدول التي زارها، والتي بلغت أكثر من 40 دولة، ليكون الرحالة الأول على مستوى الوطن العراقي في الزمن الراهن، ويصدر سبعة كتب، فضلًا عن تسع مجموعات شعرية، ويحصد 3 جوائز، منها جائزة ابن بطوطة، وجائزة السلطان قابوس في الثقافة والفنون والآداب.
هنا، حوار معه عن أدب الرحلات، وانشغالاته الأخرى:
(*) من أنت؟ الشاعر، أم الرحالة، أم الموثق، أم الباحث في الشأن التاريخي والأنثروبولوجي؛ أم الإنسان الذي يحمل هموم الكتابة لينتج ما يعتقد أنه غائب عن المشهد العربي؟
كل ما أعرفه أنني أجد نفسي في القراءة والشعر والبحث والترحال، ومحاولة معرفة التاريخ الثقافي للإنسان عبر العقائد واللغة والمكان. أنا قارئ أولًا، لكني أعتزّ بأنني اكتشفت هوسي بالشعر، وأنا ابن ثمانية أعوام، حين كنت أنصت إلى معلمي في العمل، وهو يقرأ شعرًا بصوت عالٍ، فقررت أن أعيش للشعر. وعبر القراءة، عرفت أن أهم الشعراء تنقلوا بين أمكنة مختلفة، ابتداءً من الشاعر طَرفة بن العبد، مرورًا بالمتنبي، وليس انتهاء بعدد كبير من الشعراء الذين سافروا كثيرًا، وارتحلوا من مكان إلى آخر. أما في ما يخص الكتابة في الشأن الثقافي ـ التاريخي ـ الإناسيّ، فهي نتيجة طبيعية لاهتماماتي المبكرة بهذه الحقول المعرفية. وربما أكون أحد أقلّ الشعراء قراءة للإبداع، إذا استثنينا الشعر، والسنوات العشر التي سبقت خروجي من العراق، وحين لاحظت تنامي الأسطورة، والمبالغات والتزوير في سرديات المجموعات اللغوية والعقائدية، أسعفتني هذه القراءات، وترحالًا بين الكتب والثقافات والأمكنة في تفكيك هذه السرديات، وإصدارها في كتاب عنونته "اغتيال الهوية".
(*) ما الذي أضفته الى أدب الرحلات، وهو جنس أدبي مشهور في النتاج العربي القديم؟
في الشعر، وفي أدب الرحلات، كذلك في المقالات، لا أكتب سواي. أما في ما يخص الإضافة، فهذا ما يقرره النقاد والقراء. لكنني أزعم أنني أمتلك أسلوبًا خاصًّا بي في الشعر، مثلما في أدب الرحلات، بل حتى في تناول القضايا الثقافية والتاريخية ـ الإناسية، هو أسلوب يغرف من معين تلاقح قراءاتي، وانغماسي في الثقافات التي عشت بين ظهرانيها، وأزعم أنني أنغمس في عمق المجتمع الذي أرتحل إليه، فضلًا عن قراءاتي لجغرافية المكان التاريخية والاجتماعية والدينية، ومقارنتها بأمكنة أخرى، لكن بلا تفضيل ثقافة على أخرى، لأني أؤمن بأن الثقافات قاطبة يجب أن تُعامل كما يُعامل الإنسان بغض النظر عن لونه ولغته وعقيدته.
(*) زرت دولًا عديدة... كيف استطعت أن تلبي طموحك في هذه المغامرة، ومن أين تحصل على المعلومات؟
حصلت على المعلومات من الكتب التي أشتريها من الدول التي أزورها، فضلًا عن المواقع الأكاديمية الرصينة، ومواقع الجامعات، ومراكز البحوث، ومحاولة ملامسة المجتمع بطبقاته، أعني طبقة المثقفين، وطبقة الكَسَـبَة، حيث لا تتذوق طعم المجتمعات إلّا عبر أسواقها، ومناطق السكن الشعبية، وليس عبر المجمعات السكنية والمجمعات التسويقية التي تفتقد للهوية. ملاصقة المجتمع مفاتيح لفهم سردياته، وكل مجتمع يحوي سرديات متنوعة ومتناقضة، ولا وجود لسردية لا تحمل الغث والسمين.
"أسعفتني قراءاتي، ورحلاتي بين الكتب والثقافات والأمكنة، في تفكيك سردياتنا، وإصدارها في كتاب عنوانه "اغتيال الهوية"" |
(*) ما بين كربلاء مسقط الرأس، وما بين القارات التي زرتها؛ من أضاف لك لزيادة التجربة؟
مسقط الرأس هو الذي شكّلني، وأعتقد أن السياحة الدينية في كربلاء أسعفتني أن أحترم التنوع ولا أستهجنه، وأن أبحث في مصادر خطابه وسردياته ومنجزاته، وهذا ما زادني ثقافة بلا شكّ، ولا بدّ من ذكر أنني غادرت العراق مبكرًا، فكان تَشكّلي في العراق، لكن معظم نتاجي الشعري وغير الشعري أنجزته خارج العراق بحكم غربة وترحال وأسفار أصبحت تعانق الثلاثين سنة.
لكن يبقى حلمي هو أن أنجز كتابًا عن كربلاء يكون سيرة ذاتية ـ مكانية.
(*) في كتابتك لأدب الرحلات نجد ثمة ممازجة بين الشعر والسرد، بين الغرائبية والواقع، كيف استطعت جمع المتناقضات؟
لا يمكن للشاعر أن يتخلّص من لغته الشعرية تمامًا حين يكتب في مجالات أخرى، لا سيما حين يقضي أكثر من ثلاثين عامًا مهووسًا بالشعر ومتفرغًا له، ثم تجبره ظروف الحياة أن يكتب غير الشعر، وإذا كانت أولى محاولاتي الشعرية وأنا ابن العاشرة، أو دونها بقليل، فإن أول كتاب لي صدر خارج نطاق الشعر كان عام 2013 ميلادية، أي وأنا ابن الخامسة والأربعين، وأعتقد أن قراءاتي الواسعة والمبكرة للتراث وروائع الروايات العالمية، فضلًا عن كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة" الذي قرأته وأنا في الابتدائية، عوامل صقلت لغتي العربية ونثري، ولا أنسى سماع وقراءة القرآن الكريم، الذي عايشته على امتداد وجودي في مدينتي.
أما المزاوجة بين الماضي والحاضر فسببها ربما كثرة قراءاتي لتاريخ الحضارات، واطلاعي الجيد على التراث العربي ومنجزات الأمم الأخرى.
(*) أمام هذه الرحلة؛ ماذا أردت أن تضيف لأدب الرحلات من طريقة لتجنيس واقع جديد لا يعتمد على ما هو مكتوب سابقًا؟
الوعي بالخصوصية حين يكون فطريًّا عند الشاعر والمبدع بعامة، فإنه لا بدّ أن يغرد خارج السرب، ويمتعنا بالجديد، وأن يعي كاتب أدب الرحلات أنه أمام تحديات وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة المعلوماتية، وفضائيات الإذاعات المرئية، فكان الشعر ولغته التي ترفض الإطناب سبيلًا، ولم أستغرب حين قرأت عند باحثين ونقاد أن لغة الشعر واضحة في منجزي الرحليّ.
(*) تركز في كثير من كتاباتك التاريخية على الأصل في المعلومة. هل يأتي الأمر لكثرة الإطلاعات، أم أن الغربة والتغرّب أتاحا لك الرؤية من منطقة عليا لترى الحقيقة التاريخية؟
لا شكّ كثرة الاطلاع والتحري عن المعلومة، ومحاولة قراءة السرديات من وجهات نظر وزوايا مختلفة، ثم تأمل طبيعة المكان، مثال ذلك أن الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام وعربستان والمناطق العربية ـ السريانية في تركيا) هو أرض الكتابة والتدوين ـ وقد فرقتُ بين الكتابة والتدوين ـ ففيه نشأت الكتابة والأبجديات بما فيها الأبجدية العربية التي اخترعت في الحيرة قبل الإسلام، وليس اعتباطًا أن تنقيطها وتشكيلها ونحوها وصرفها وأول معجم لها كله تم في العراق وليس في مكان آخر، بل ليس اعتباطًا أن حوالي 90% من بدايات الحضارة العربية الإسلامية تمت في العراق وبأقلام عراقية عربية. من هذا المنطلق، فإن كل مجموعة لغوية ـ إثنية ـ تفتقد للكتابة والتدوين، أي لعشرات الأدباء والمؤرخين والباحثين والجغرافيين بلغتها قبل القرن العشرين، ولا أقول قبل القَرن الخامس عشر، فهي طارئة على إقليمنا الحضاري، وهذا لا يقلل من حقها في المواطنة، ولكن حين تنحو سردياتها نحو تأصيل وتأسيس تاريخ عريق لها في عمق العراق وبلاد الشام، بحجج متوهمة، فهذا مرفوض قطعًا، فأرض التدوين الأولى وصاحبة أضخم تراث تدويني بين لغات العالم، لا يمكن أن يُنسب لغير أهله وعدم احترام تنوعه الجميل والحفاظ عليه.
"قراءاتي الواسعة والمبكرة للتراث وروائع الروايات العالمية، فضلًا عن كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة" الذي قرأته وأنا في الابتدائية، عوامل صقلت لغتي العربية ونثري" |
النقطة أعلاه لم يتناولها المؤرخون والباحثون، ولم يركّزوا عليها، بينما أراها ضرورية لفهم دور التنوع اللغوي في الهلال الخصيب، وهكذا يمكن وقف سيل السرديات المتوهمة، لا سيما لمن يفتقد لحضور ثقافي تدويني بلغته قبل الحرب العالمية الأولى.
هامش:
صدر لباسم فرات في أدب الرحلات:
1 ـ مسافر مقيم: عامان في أعماق الأكوادور... وهو الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات (2013 ـ 2014).
2 ـ الحلم البوليفاريّ: رحلة كولومبيا الكبرى... الكتاب الفائز بالجائزة الأولى لأدب الرحلات ـ مسابقة ناجي جواد الساعاتي 2015. وطبعة ثانية عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق 2022.
3 ـ لا عُشبة عند ماهوتا: من منائر بابل إلى جنوب الجنوب، دار السويدي للنشر والتوزيع ـ أبو ظبي، بالتعاون مع منشورات المتوسط ـ ميلانو ـ إيطاليا 2017.
4 ـ طواف بوذا: رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا، دار الأدهم للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2019.
5 ـ لؤلؤة واحدة وألف تَل: رحلات بلاد أعالي النيل، دار الأدهم للنشر والتوزيع ـ القاهرة 2019.
6 ـ طريق الآلهة: من منائر بابل إلى هيروشيما، دار سماوات للنشر والترجمة، مسقط 2020، وطبعة ثانية عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق 2022.
7 ـ أمكنة تلوّح للغريب، دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عَـمّان ـ الأردن 2021.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب