البستنة مع هايدغر.. من اللغز إلى الحقيقة عبر الأرض
إف بيلي نوروود
ترجمات
"حديقة المنزل في أرجنتويل" لكلود مونيه، 1873
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
عقد إبيقور صفوفه في حديقةٍ في أثينا حيث درّس عدم وجود (أو على الأقل لا مبالاة) الآلهة. وبعد حوالي 700 سنة تقريبًا، اعتنق القدّيس أوغسطين المسيحية في حديقة. كذلك استخدم الأرستقراطيون البريطانيون الحدائقَ ليتباهوا بنباتات الأراضي التي استعمروها. ويستخدم سكان أميركا الأصليون الحدائقَ اليوم ليحافظوا على نباتات أسلافهم. لقد أنشأت كل ثقافة في كل عصر الحدائقَ لأسباب عملية مثل تأمين الغذاء والدواء، لكن كانت لها كذلك دوافع أكثر عمقًا، مثل الجماليات والروحانيات. والسؤال هنا: ما الذي يجعل الحدائق بهذه الخصوصية؟
لم يزعم أحد قط أن الحدائق أدّت غرضًا واحدًا، غير أن الفيلسوف ديفيد إي. كوبر ألّف كتابًا موجزًا عن الأسباب العديدة لامتداحها. في كتابه "فلسفة الحدائق" (2006)، يرفض كوبر فكرة أن الحديقة ليست إلا طريقة عملية للحصول على الطعام والزهور. وبدلًا من ذلك، يقدّم لنا "اقتراحًا متواضعًا" واقتراحًا "غير متواضع" (حسب كلماته). لكن أيًّا منهما، من وجهة نظري، ليس متواضعًا، وكلاهما متبصّرٌ ويعكس رؤية مارتن هايدغر لفلسفة الجمال.
اقتراح كوبر المتواضع هو التالي:
"تمثّل الحديقة الاعتمادَ الهائل، إنما غير المعترَف به غالبًا، للنشاط الإبداعي البشري على تعاون العالم الطبيعي... مجسّدةً اتحادًا بين البشر والعالم الطبيعي، واعتمادًا متبادلًا وثيقًا".
ويمكن أن نلاحظ هنا التأكيد على "الاعتماد المتبادل". قد يبدو واضحًا أننا نعتمد على الطبيعة للحصول على زنبق مميز ملون أو نكهة أومامي في الطماطم، لكن كيف تعتمد الطبيعة علينا؟
بالإضافة إلى الانتفاع فيزيولوجيًا من عناية البشر، يصف لنا كوبر كيف يساعد البشرُ الطبيعةَ في التعبير عن نفسها. مع هذا، إنه لا يحاول أن يسبغ على الطبيعة صفات بشرية مقترحًا أنها تتوق إلى تهليلنا. بالأحرى، الحديقة أشبه بفسيفساء رومانية لا يُكشَف جمالها إلا بعد تنقيبٍ آثاري. بالتالي، لا تنطوي الفسيفساء على معنىً أكثر من التندرا السيبيرية إلى أن يتم اكتشافها من خلال الجهد البشري؛ ينطبق الأمر ذاته على انكشافِ الطبيعة في حديقة. وعندما نأخذ اقتراح كوبر غير المتواضع هذا بعين الاعتبار، تصبح الحديقة عملًا فنيًا عميقًا. بالنتيجة، يُفترض "معنى" الحديقة بوصفه "تجليًّا لعلاقة الإنسان مع اللغز". إن الحديقة تؤمن لنا لقاءً مباشرًا، إنما غريبًا، مع الطبيعة؛ لقاءً يمنحنا تلميحًا بديهيًا عن جوهرها لكنه يتركنا عاجزين عن التعبير عن هذا الجوهر باللغة.
ولهذا، يقتضي فهم هذا اللقاء الرجوعَ إلى فلسفة الحقيقة عند هايدغر. اليوم، وكلما أشرنا إلى هايدغر، سيكون مضمونًا أن نحصل على هذا التحذير: لقد كان مؤيدًا غير نادمٍ للحزب النازي. لكن، إذا قبلنا فكرة أن هذه الحقيقة لا تعرّف كل جوانب فلسفته، يمكننا أن نرى أن هايدغر يطرح أيضًا منظورًا شعريًا وعميقًا حول جماليات مشابهة لتصوّر كوبر عن الحديقة. فلنستكشف هايدغر إذًا، ونرى ماذا يمكن لنازيٌّ أن يعلمنا عن الحديقة.
البشر، بالنسبة إلى هايدغر، مرميون في عالم ليس بوسعهم فهمه تمام الفهم، وفي حال كُشفَت حقيقة ما عن العالم، تبقى حقائق أخرى مخبأةً. إن "الحقائق" المعنية هنا ليست الحقائق القياسية التي نفكر بها في مجال قوانين الفيزياء أو من ربح الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020. بل هي بالأحرى الحقائق الأكثر بَدئية التي تؤثر على منظورنا للعالم، وحتى على اختيارنا للكلمات التي نستخدمها لمناقشة الحقائق. على سبيل المثال، إن تجربة فيزيائية تُظهر أن سترة يمكنها إيقاف رصاصة، تخفي حقيقةَ أن كل المادة هي في معظمها مساحة فارغة. في حين أن تجربة أخرى تظهر أن السترة هي في معظمها مساحة فارغة، تخفي حقيقة أنها تستطيع إيقاف رصاصة. الأمر أشبه بحفرِ حفرة لاكتشاف حقائق، مع استخدام التربة التي نخرجها من الحفرة لدفن حقائق أخرى. بالتالي، ولفهم هذا العالم على نحو أفضل، علينا استكشافه، منقّبين في التربة لكشف كنوز الحقيقة. لكن، من وجهة نظر هايدغر، على التراب الذي نُخرجه أن يُرحّل إلى مكان آخر، وكومة مخلفات الحفر ستدفن حقائق أخرى.
وبينما نترنح محاولين فهم الأشياء، تكشف أفعالنا بعض الحقائق. يشير هايدغر إلى الجزء الذي نفهمه بِـWelt (وهي كلمة ألمانية تُترجم إلى "العالم"). بينما يستخدم كلمة Erd ("الأرض") للإشارة إلى الأشياء التي هي حقيقية لكنها تظل مخبأة. إن الوجود يتطلب مفاوضة "العالم" و"الأرض"؛ أي ما نفهمه وما هو لغز، ونحن في واقع الأمر مدركون لكليهما. كذلك، بالنسبة إلى هايدغر، تصبح التجارب أو الأشياء التي تجعلنا مدركين لـِ"الأرض" (بالمعنى الهايدغري) مقدسةً أو سامية. ومن المهم هنا أن "الأرض" تعكس سلطةً بالمعنى الذي ينطوي عليه وحي إلهي أو نص مقدس.
إن "عالمنا"، وفق التعابير الهايدغرية، يعلّمنا متى نزرع الطماطم وكيف نقلّم الورود، لكننا، بالرغم من كل التطورات العلمية في مجال علم النبات، لا نزال لا نفهم إلا جزءًا يسيرًا من الطبيعة. فأيّ بستاني لا يتوقف عن تعشيبها ليندهش من خصوبة نبتة خيار، جمال زهرة الخطمي، أو قدرة نبتة الهليون على الموت ظاهريًا في الشتاء لتعود وتحيي نفسها بعد بضعة أيام دافئة؟! لا عجب إذًا أن أجدادنا اعتبروا التربة، والحياة النباتية التي تدعمها، إلهًا يمتلك سلطةً تفوق حكمة جميع البشر.
بالنسبة إلى اليونانيين القدامى، لم تكن كلمة "لغز" تشير إلى مجهول وحسب، بل إلى انكشافٍ أيضًا. وتضمنت الحياة الدينية طوائفَ غامضة كانت شعائرها تشمل كشفَ حقيقة ما للمنتمين إليها. غير أن تلك الشعائر لم تثبت الحقيقة وفقًا للمنطق أو الدليل التجريبي، إنما على هيئة تجربة، شعور وفن. والحديقة تفعل الشيء ذاته. إن التربة، النباتات، والحشرات مجتمعةً تغرس فينا إحساسًا بالاندهاش والتبجيل. وفي الحديقة، ما نفهمه وما لا نستطيع أن نسبر غوره تمامًا يتحدان معًا، وهذا بالنسبة إلى هايدغر هو جوهر الفن: "الأرض" ترتفع عبر "العالم"، متحولة إلى ظهورٍ للحقيقة.
تكشف الحديقة خليطًا انتقائيًا من الحقائق. ويمكن هنا أن نتذكر بعض الإرشادات العملية حول تنشئة الأطفال لكي يصبحوا بالغين أقوياء، والتي تشبه حقيقة أن النباتات اليافعة التي نشأت داخل المنازل تحتاج إلى التعرّض لفترة قصيرة للبرد قبل أن تُزرَع. فعند شرح هذه الفكرة لتلاميذي، أستخدم تشبيهَ طفلٍ يتلقى تعلميه في المنزل، وكيف أنه، بدلًا من الذهاب مباشرة من التعليم المنزلي إلى المدارس العامة، من الأفضل أولًا أقلمتُه بجعله ينضم إلى فريق رياضة جماعية. كذلك، من المعروف جيدًا أن زراعة أنواع مختلفة من النباتات في نفس المكان يساعد على حمايتها من ضرر الحشرات، وهذا يخبرنا أنه في الحديقة، أيضًا، يمكن أن يكون التنوعُ مصدرَ قوة.
يرى كوبر أن الحديقة هي شيء أعمق بكثير من الحقائق الشعبية، رغم أنها شيء مماثل لـِ"أرض" هايدغر التي ترتفع عبر "العالم" لكشفِ شيء أكثر بَدئية. إن الاعتناء بحديقة ربما يكون أفضل استعارة يمكن استخدامها لوصف عيشِ الحياة، ولهذا يستخدم جزء كبير من فلسفة هايدغر الشعرية مفرداتٍ تعكس البستنة. وإذا ما بحثتَ على غوغل عن اقتباساته، ستعثر على قوله: "أن تسكن يعني أن تبستِن". ورغم أنه ليس من الواضح إذا ما كان هايدغر قد قال هذه العبارة بالضبط أو أين فعل ذلك، إلا أن مقالته "بناء، سكن، تفكير" تطرح مناقشة مماثلة جدًا.
إن كلّ عمل هايدغر، تقريبًا، يتعلق بماهية شعور أن توجد كإنسان. وقد بدأت كتاباته كفلسفة خاصة مقصورة على فئة معينة، لكنها تطورت إلى شيء يشبه ميثولوجيا شعرية. كوبر، بدوره، يؤدي لنا خدمة العودة بذلك الشعر إلى فلسفة أقل استغلاقًا. لكن، حتى هو يصبح ملغزًا قليلًا عندما يصف الحدائق على أنها تجلٍّ لعلاقة البشر باللغز. أليس بوسعنا قول الشيء ذاته عن الموسيقى والدين؛ وهما اثنان من الأهواء البشرية غامضة الأصل؟ فليكن. أي مديح يمكن أن نمنحه للحديقة أعظم من قولنا إننا لا نستطيع أن نشرح ماهيتها إلا من خلال التغنّي بمزاياها؟!
******
إف بيلي نوروود: أستاذ في مجال الأعمال التجارية الزراعية في قسم الاقتصاد الزراعي، جامعة ولاية أوكلاهوما. ولد حبه للزراعة مع نشأته في مزرعة في كارولينا الجنوبية. وهو مؤلف مشارك في كتب: "التعاطف بالباوند: اقتصاد رعاية حيوانات المزرعة" (2011)، "النقاشات الزراعية والغذائية: ما يحتاج الجميع إلى معرفته" (2014)، "تعرف إلى راديكاليّ الغذاء" (2019)، "التسويق الزراعي وتحليل الأسعار" (الطبعة الثانية، 2021). وله رواية واحدة يسعى فيها إلى دمج الاقتصاد والتاريخ بالأدب تحمل اسم "أولاد ماترونا الأربعة" (2013).
رابط النص الأصلي:
https://psyche.co/ideas/gardening-wi...-via-the-earth
إف بيلي نوروود
ترجمات
"حديقة المنزل في أرجنتويل" لكلود مونيه، 1873
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
عقد إبيقور صفوفه في حديقةٍ في أثينا حيث درّس عدم وجود (أو على الأقل لا مبالاة) الآلهة. وبعد حوالي 700 سنة تقريبًا، اعتنق القدّيس أوغسطين المسيحية في حديقة. كذلك استخدم الأرستقراطيون البريطانيون الحدائقَ ليتباهوا بنباتات الأراضي التي استعمروها. ويستخدم سكان أميركا الأصليون الحدائقَ اليوم ليحافظوا على نباتات أسلافهم. لقد أنشأت كل ثقافة في كل عصر الحدائقَ لأسباب عملية مثل تأمين الغذاء والدواء، لكن كانت لها كذلك دوافع أكثر عمقًا، مثل الجماليات والروحانيات. والسؤال هنا: ما الذي يجعل الحدائق بهذه الخصوصية؟
لم يزعم أحد قط أن الحدائق أدّت غرضًا واحدًا، غير أن الفيلسوف ديفيد إي. كوبر ألّف كتابًا موجزًا عن الأسباب العديدة لامتداحها. في كتابه "فلسفة الحدائق" (2006)، يرفض كوبر فكرة أن الحديقة ليست إلا طريقة عملية للحصول على الطعام والزهور. وبدلًا من ذلك، يقدّم لنا "اقتراحًا متواضعًا" واقتراحًا "غير متواضع" (حسب كلماته). لكن أيًّا منهما، من وجهة نظري، ليس متواضعًا، وكلاهما متبصّرٌ ويعكس رؤية مارتن هايدغر لفلسفة الجمال.
"أنشأت كل ثقافة في كل عصر الحدائقَ لأسباب عملية مثل تأمين الغذاء والدواء، لكن كانت لها كذلك دوافع أكثر عمقًا، مثل الجماليات والروحانيات. والسؤال هنا: ما الذي يجعل الحدائق بهذه الخصوصية؟" |
"تمثّل الحديقة الاعتمادَ الهائل، إنما غير المعترَف به غالبًا، للنشاط الإبداعي البشري على تعاون العالم الطبيعي... مجسّدةً اتحادًا بين البشر والعالم الطبيعي، واعتمادًا متبادلًا وثيقًا".
ويمكن أن نلاحظ هنا التأكيد على "الاعتماد المتبادل". قد يبدو واضحًا أننا نعتمد على الطبيعة للحصول على زنبق مميز ملون أو نكهة أومامي في الطماطم، لكن كيف تعتمد الطبيعة علينا؟
بالإضافة إلى الانتفاع فيزيولوجيًا من عناية البشر، يصف لنا كوبر كيف يساعد البشرُ الطبيعةَ في التعبير عن نفسها. مع هذا، إنه لا يحاول أن يسبغ على الطبيعة صفات بشرية مقترحًا أنها تتوق إلى تهليلنا. بالأحرى، الحديقة أشبه بفسيفساء رومانية لا يُكشَف جمالها إلا بعد تنقيبٍ آثاري. بالتالي، لا تنطوي الفسيفساء على معنىً أكثر من التندرا السيبيرية إلى أن يتم اكتشافها من خلال الجهد البشري؛ ينطبق الأمر ذاته على انكشافِ الطبيعة في حديقة. وعندما نأخذ اقتراح كوبر غير المتواضع هذا بعين الاعتبار، تصبح الحديقة عملًا فنيًا عميقًا. بالنتيجة، يُفترض "معنى" الحديقة بوصفه "تجليًّا لعلاقة الإنسان مع اللغز". إن الحديقة تؤمن لنا لقاءً مباشرًا، إنما غريبًا، مع الطبيعة؛ لقاءً يمنحنا تلميحًا بديهيًا عن جوهرها لكنه يتركنا عاجزين عن التعبير عن هذا الجوهر باللغة.
ولهذا، يقتضي فهم هذا اللقاء الرجوعَ إلى فلسفة الحقيقة عند هايدغر. اليوم، وكلما أشرنا إلى هايدغر، سيكون مضمونًا أن نحصل على هذا التحذير: لقد كان مؤيدًا غير نادمٍ للحزب النازي. لكن، إذا قبلنا فكرة أن هذه الحقيقة لا تعرّف كل جوانب فلسفته، يمكننا أن نرى أن هايدغر يطرح أيضًا منظورًا شعريًا وعميقًا حول جماليات مشابهة لتصوّر كوبر عن الحديقة. فلنستكشف هايدغر إذًا، ونرى ماذا يمكن لنازيٌّ أن يعلمنا عن الحديقة.
"بالنسبة إلى هايدغر، تصبح التجارب أو الأشياء التي تجعلنا مدركين لـِ"الأرض" (بالمعنى الهايدغري) مقدسةً أو سامية. ومن المهم هنا أن "الأرض" تعكس سلطةً بالمعنى الذي ينطوي عليه وحي إلهي أو نص مقدس" |
وبينما نترنح محاولين فهم الأشياء، تكشف أفعالنا بعض الحقائق. يشير هايدغر إلى الجزء الذي نفهمه بِـWelt (وهي كلمة ألمانية تُترجم إلى "العالم"). بينما يستخدم كلمة Erd ("الأرض") للإشارة إلى الأشياء التي هي حقيقية لكنها تظل مخبأة. إن الوجود يتطلب مفاوضة "العالم" و"الأرض"؛ أي ما نفهمه وما هو لغز، ونحن في واقع الأمر مدركون لكليهما. كذلك، بالنسبة إلى هايدغر، تصبح التجارب أو الأشياء التي تجعلنا مدركين لـِ"الأرض" (بالمعنى الهايدغري) مقدسةً أو سامية. ومن المهم هنا أن "الأرض" تعكس سلطةً بالمعنى الذي ينطوي عليه وحي إلهي أو نص مقدس.
إن "عالمنا"، وفق التعابير الهايدغرية، يعلّمنا متى نزرع الطماطم وكيف نقلّم الورود، لكننا، بالرغم من كل التطورات العلمية في مجال علم النبات، لا نزال لا نفهم إلا جزءًا يسيرًا من الطبيعة. فأيّ بستاني لا يتوقف عن تعشيبها ليندهش من خصوبة نبتة خيار، جمال زهرة الخطمي، أو قدرة نبتة الهليون على الموت ظاهريًا في الشتاء لتعود وتحيي نفسها بعد بضعة أيام دافئة؟! لا عجب إذًا أن أجدادنا اعتبروا التربة، والحياة النباتية التي تدعمها، إلهًا يمتلك سلطةً تفوق حكمة جميع البشر.
"إن "عالمنا"، وفق التعابير الهايدغرية، يعلّمنا متى نزرع الطماطم وكيف نقلّم الورود، لكننا، بالرغم من كل التطورات العلمية في مجال علم النبات، لا نزال لا نفهم إلا جزءًا يسيرًا من الطبيعة" |
تكشف الحديقة خليطًا انتقائيًا من الحقائق. ويمكن هنا أن نتذكر بعض الإرشادات العملية حول تنشئة الأطفال لكي يصبحوا بالغين أقوياء، والتي تشبه حقيقة أن النباتات اليافعة التي نشأت داخل المنازل تحتاج إلى التعرّض لفترة قصيرة للبرد قبل أن تُزرَع. فعند شرح هذه الفكرة لتلاميذي، أستخدم تشبيهَ طفلٍ يتلقى تعلميه في المنزل، وكيف أنه، بدلًا من الذهاب مباشرة من التعليم المنزلي إلى المدارس العامة، من الأفضل أولًا أقلمتُه بجعله ينضم إلى فريق رياضة جماعية. كذلك، من المعروف جيدًا أن زراعة أنواع مختلفة من النباتات في نفس المكان يساعد على حمايتها من ضرر الحشرات، وهذا يخبرنا أنه في الحديقة، أيضًا، يمكن أن يكون التنوعُ مصدرَ قوة.
ديفيد إي. كوبر ألّف كتابًا موجزًا عن الأسباب العديدة لامتداح الحدائق في كتابه "فلسفة الحدائق" (2006) |
يرى كوبر أن الحديقة هي شيء أعمق بكثير من الحقائق الشعبية، رغم أنها شيء مماثل لـِ"أرض" هايدغر التي ترتفع عبر "العالم" لكشفِ شيء أكثر بَدئية. إن الاعتناء بحديقة ربما يكون أفضل استعارة يمكن استخدامها لوصف عيشِ الحياة، ولهذا يستخدم جزء كبير من فلسفة هايدغر الشعرية مفرداتٍ تعكس البستنة. وإذا ما بحثتَ على غوغل عن اقتباساته، ستعثر على قوله: "أن تسكن يعني أن تبستِن". ورغم أنه ليس من الواضح إذا ما كان هايدغر قد قال هذه العبارة بالضبط أو أين فعل ذلك، إلا أن مقالته "بناء، سكن، تفكير" تطرح مناقشة مماثلة جدًا.
"يرى كوبر أن الحديقة هي شيء أعمق بكثير من الحقائق الشعبية، رغم أنها شيء مماثل لـِ"أرض" هايدغر التي ترتفع عبر "العالم" لكشفِ شيء أكثر بَدئية" |
******
إف بيلي نوروود: أستاذ في مجال الأعمال التجارية الزراعية في قسم الاقتصاد الزراعي، جامعة ولاية أوكلاهوما. ولد حبه للزراعة مع نشأته في مزرعة في كارولينا الجنوبية. وهو مؤلف مشارك في كتب: "التعاطف بالباوند: اقتصاد رعاية حيوانات المزرعة" (2011)، "النقاشات الزراعية والغذائية: ما يحتاج الجميع إلى معرفته" (2014)، "تعرف إلى راديكاليّ الغذاء" (2019)، "التسويق الزراعي وتحليل الأسعار" (الطبعة الثانية، 2021). وله رواية واحدة يسعى فيها إلى دمج الاقتصاد والتاريخ بالأدب تحمل اسم "أولاد ماترونا الأربعة" (2013).
رابط النص الأصلي:
https://psyche.co/ideas/gardening-wi...-via-the-earth
- المترجم: سارة حبيب