مكانة الأدب بعمليات بناء الذات الفردية والتحرّر والتربية المواطنية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مكانة الأدب بعمليات بناء الذات الفردية والتحرّر والتربية المواطنية

    مكانة الأدب بعمليات بناء الذات الفردية والتحرّر والتربية المواطنية
    آن دوجين وألكسندر جيفين 1 سبتمبر 2022
    ترجمات
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    ترجمة وتقديم: إدريس الخضراوي



    تقديم

    منذ 1980، السنة التي توفي فيها جان بول سارتر، تراجع مفهوم الالتزام، ولم تعد له تلك السطوة التي ظل يتمتع بها منذ النصف الثاني من القرن العشرين. لقد بدا أن الغائية الأساسية للأدب ما عاد رهانها هو نقش الكتابة في الصراع السياسي والاجتماعي، بما يبرز دور الكاتب في التأثير في ثقافة مجتمعه، بل صار يتمثل بالأساس في استقلاليته، وابتعاده عن كلّ غائية اجتماعية. ومع مطلع الألفية الثالثة، سجّل العديد من النقاد أن الاهتمام بالقضايا السياسية والاجتماعية، بات سؤالًا محوريًا في الأدب المعاصر، حتى وإن كان ذلك يتحقق بمعزل عن مفهوم الالتزام، ودلالاته السارترية. وبالفعل، فمفهوم الالتزام، وبعيدًا عن أن يصبح متجاوزًا، ظلّ ينطوي على خصوبة كبيرة، بفضل ضروب الاستثمار الموسع التي ما فتئ يستفيد منها في الآداب العالمية. وبعد الصّرخة التي أطلقها تودوروف بكتابه "الأدب في خطر"، توالت الأعمال التي تفكّر في الأدب من منظور يشدّد على القوة التي يستبطنها، والإمكانيات التي ينطوي عليها للتعبير عن الأسئلة المعقدة التي يواجهها الفرد في بحثه اللاهث عن الحقيقة.
    "الغائية الأساسية للأدب ما عاد رهانها هو نقش الكتابة في الصراع السياسي والاجتماعي، بما يبرز دور الكاتب في التأثير في ثقافة مجتمعه، بل صار يتمثل بالأساس في استقلاليته، وابتعاده عن كلّ غائية اجتماعية"
    في سنة 2007 سينشر جاك رانسيير كتابه "سياسة الأدب" الذي ستأخذ فيه هذه المسألة طابعها النظري: "ليست سياسة الأدب سياسة الكتاب والتزاماتهم. ولا هي تتعلق بالطريقة التي يصورون بها البنى الاجتماعية والصراعات السياسية. إن تعبير سياسة الأدب، يفترض وجود صلة محدّدة بين السياسة بوصفها شكلًا من أشكال الفعل الجماعي، والأدب بوصفه نظامًا محددًا تاريخيًا لفنّ الكتابة". (سياسة الأدب، ترجمة رضوان ضاضا، ص15). وفي السنة الماضية خصّصت المجلة الشهيرة ESPRIT عددها لشهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس لموضوع "سياسات الأدب" Politiques de La Littérature في مسعى للإجابة عن مجموعة من الأسئلة التي يطرحها رجوع الكاتب إلى "المدينة"، والصيغ المختلفة التي يتمّ بها ذلك الرجوع. وخلال هذا العام أصدر الناقد الفرنسي ألكسندر جيفين مؤلفه "La littérature est une affaire politique". ونظرًا للأهمية التي يكتسيها موضوع سياسة الأدب بالنسبة للتفكير النقدي، والجدل العمومي بخصوص الأدب في الثقافة العربية المعاصرة، وخاصّة أن الأدب العربي المعاصر تشتدّ علاقته بالسياسة منذ ما بعد الربيع العربي، كما تشهد على ذلك التجارب المختلفة، في الرواية والشعر والقصة، فإننا نقدّم هنا ترجمة للمقال الافتتاحي الذي كتبه الناقدان آن دوجين وألكسندر جيفين للإضاءة على جوانب من هذا الموضوع.

    *****

    جاك رانسيير وكتابه "سياسة الأدب"

    لقد تغيرت توقعاتنا من الأدب. وبقدر ما يتعيّن الأدب بوصفه تجربة جمالية، فإننا نبحث فيه اليوم عن موارد لفهم العالم المعاصر، وحتى لتغييره. أصبحَ التوسّل بالأدب من أجل إلقاء ضوء جديد على قضية اجتماعية أو سياسية، أسلوبًا متكررًا مرة أخرى في السنوات الأخيرة. ومن المؤكد أن تَصْييرَ الأدب وسيلة للمعرفة، يعني جعله عاملًا أساسيًا في التحول الاجتماعي. وربّما حتى عاملًا ديمقراطيًا، في وقت تساهم فيه دمقرطة الكتابة والنقد، خاصة على مستوى شبكة الإنترنت، في جعل التجربة الأدبية تجربة فردية بقدر ما هي علائقية واجتماعية.

    تعبير "سياسة الأدب" طرحه جاك رانسيير Jacques Rancière سنة 2007 في كتاب بهذا العنوان، للتأكيد على المساواة الجذرية لمشروع الأدب الحديث، والتي تقضي على جميع التراتبيات الاجتماعية المحددة مسبقًا. أما اليوم، فنميل إلى القول: سياسات الأدب بصيغة الجمع، لوصف تنوع العودة إلى الالتزام، الذي يميز الكثير من الكتاب المعاصرين، وقبل كل شيء الأهمية الجديدة المعطاة للمعرفة، والتجارب الأدبية في الحياة المواطنية لكل منهم. هذا المطلب، الذي يُمارَس فيما يتعلق بفكرة الأدب، بقدر ما يُمارَس بالنسبة للمؤسسات الأدبية والكتاب الذين يتم استدعاؤهم إلى فضاء المناقشات في قلب المدينة، يَستحقُّ التساؤل. هذا هو موضوع هذا الملف الذي يُثيرُ حضور الأدب في النقاشات الاجتماعية المعاصرة، ويهتم ليس فقط بالأشكال الاجتماعية الجديدة للأدب، ولكن أيضًا بالمكانة التي تمنحها مجتمعاتنا الليبرالية للآداب في عمليات بناء الذات الفردية، والتحرر، والتربية المواطنية.
    "تعبير "سياسة الأدب" طرحه جاك رانسيير Jacques Rancière سنة 2007 في كتاب بهذا العنوان، للتأكيد على المساواة الجذرية لمشروع الأدب الحديث، والتي تقضي على جميع التراتبيات الاجتماعية المحددة مسبقًا"
    قوة الأدب

    لا شكّ أن هذا الطلب من أجل التدخل الموجه إلى الأدب لا ينفصلُ عن تطور الأدب نفسه. أصبح من الشائع التأكيد على أن الأدب مهتم مرة أخرى بالعالم، حتى إنه "أعيد تسييسه". ويتضح هذا من الأهمية التي اتخذتها قضايا البيئة، والجنس، ونقد الرأسمالية أو عدم المساواة، في الأدب بداية القرن الحادي والعشرين. لكن عودة الالتزام في الأدب المعاصر في سياق عالمي، لا يمكن اختزالها في اختيار "الموضوعات" التي من شأنها أن تشكّل الاهتمامات الأساسية للعصر، والتي لا تقتصرُ على ما هو اقتصادي أو اجتماعي. قبل كل شيء، فعودة الالتزام هاته، متجذرة في إعادة اكتشاف القوى التي يختزنها الحكي والسرد. في هذا السياق، يحظى مفهوم "الهوية السردية" l’identité narrative الأثير لدى بول ريكور Paul Ricoeur بتداولية كبيرة اليوم، سواء تمت الإحالة إليه صراحةً أم لا. وبالنسبة لمسألة معرفة من نحن، أو كيف يمكننا التصرف، أظهر ريكور أن سرد القصص هو وحده الذي يمكن أن يقدّم الإجابات. تعدّد وجهات النظر، والوصول إلى حياة غير الحياة الخاصة للمرء، والتعاطف والخيال الأخلاقي: في عالم معقد، فإن العمل التحليلي هو غاية الأدب، وقدرته على تزويدنا بالأمثلة والتفسيرات، وميله لفهم الحالات التي تهيئ العدّة لتفكيرنا الأخلاقي، وكذلك السياسي. وبتخلّصه من المأزق الشكلاني منذ مطلع القرن العشرين، أصبح الأدب مرة أخرى المكان المميز حيث يمكن التفكير في تجربة إنسانية جديرة بالتشارك. وإذا فكرنا في "أدب المجال" la literature de terrain، ومشاريعه العلائقية، ألفيناه يتعين في بعض الأحيان بوصفه المكان الذي تختبر فيه اليوتوبيات.

    يحظى مفهوم "الهوية السردية" l’identité narrative الأثير لدى بول ريكور بتداولية كبيرة اليوم، سواء تمت الإحالة إليه صراحةً أم لا



    الأدب والالتزام

    هل يجب أن نرى في هذا الوضع الذي يتخذه الأدب عودة إلى ما أطلق عليه القرن العشرون "أدب الالتزام"؟ من الجدير بالملاحظة أن الكتاب الذين أُعطُوا الكلمة في هذا الملف لا يدّعون ذلك، بل إنهم يبقون على مسافة بعيدة من هذا النموذج المثالي للكاتب، والذي ستكون أعماله امتدادًا للمواقف السياسية المتخذة. ومن ناحية أخرى، يزعمون وجود صلة بين الأدب والسياسي le politique، بسبب الطريقة التي يتساءل بها عمل السرد وتجربة اللغة عن الواقع، وينتقدون الخطابات الاجتماعية من خلال تنمية التفكير والتأمل. من هنا يتم استبدال رواية الأطروحة، عن طيب خاطر، بالتحقيق أو الشهادة. إنه أيضًا اختلاف في المواقف، يطالب به الكتاب المعاصرون. لقد تم استبدال وضعية البرج العاجي التي ميزت الكاتب "المكرّس" الذي مُنحَ قوة روحية كما وصفه بول بينيشو Paul Bénichou، بالكاتب "في المدينة". مفهوم معاصر للغاية، ويعكس بقوة الطريقة التي كان الأدب حاضرًا بها في مجلة Esprit. هذا المفهوم يعود إليه ميشيل مورا Michel MURAT في هذا العدد. هكذا يمكننا أن نقرأ بقلم ألبرت بيجين Albert Béguin الذي أدار المجلة (Esprit) بين عامي 1950 و1957، القول التالي: "هناك معرفة "موضوعية"، لها مجالاتها المحفوظة، وهيبتها، ووظيفتها؛ لكنها لا تستطيع أن تدرك أعماق معينة بداخلنا. هناك الشهادة التي يتم التعرف عليها من خلال نبرة صوت غير قابل للتعويض، والتي تنشئ بين الناس الوحدة الأكثر واقعية".
    "المسرح هو المكان الذي تتساءل فيه المدينة عادة عن نفسها. ومن ناحية أخرى، ربما يكون الشعر هو النوع الأكثر ميلًا لأن يُنظرَ إليه على أنه يتعارض مع العالم، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين"

    إذا كانت العلاقة بين الأدب والسياسة تخضع للتجديد، فإن هذا التجديد لا يدور حول فكرة الالتزام السياسي للكاتب، بقدر ما يتمحور حول الأدب كشكل سياسي، وهو مفهوم قديم تعاد صياغته اليوم. ويعدّ المسرح بلا شك، النوع الذي لا يثير فيه الوعي بالحوار الدائم مع السياسة، والقضايا التي تؤثر على الجسد الاجتماعي أي شك: المسرح هو المكان الذي تتساءل فيه المدينة عادة عن نفسها. ومن ناحية أخرى، ربما يكون الشعر هو النوع الأكثر ميلًا لأن يُنظرَ إليه على أنه يتعارض مع العالم، لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن وجهًا مثل وجه الشاعرة أماندا غورمان Amanda Gorman، وحده، يشهد على حقيقة أن هذه الحدود تتحرك، ويشدّد على أن الخيارات السياسية ليست غير مبالية بأشكال الحياة. أما بالنسبة للرواية، فقد اعتبرت منذ فترة طويلة النوع الديمقراطي بامتياز. النوع الذي يجعل تعدد الأصوات الممثلة في العالم الاجتماعي مسموعًا، وهو الذي يروي تاريخ [العالم الاجتماعي] ويتنبأ بمستقبله. أكثر من أي وقت مضى-والروائيون الذين يتم ذكرهم في هذا العدد، مثل فلوين سار Felwine Sarr أو أليس زينيتر Alice Zeniter، يشهدون على ذلك -تُستثمر الكتابة الروائية بوصفها فضاء يتم فيه إنشاء تمثيلات مشتركة، وسرديات مجسّدة في تجربة، لكنها تُعرض على مجموعة ينظر إلى أفرادها على أنهم يشكلون كلا يتميز بسمات وسلوكيات مشتركة.

    وجه مثل وجه الشاعرة أماندا غورمان، وحده، يشهد على حقيقة أن هذه الحدود تتحرك، ويشدّد على أن الخيارات السياسية ليست غير مبالية بأشكال الحياة



    فضاء للنقاش

    هذه المقاربة للأدب، وهذا المنعطف الذي يقترح هذا الملف وصفهما، ليس عليهما إجماع رغم ذلك. الخلاف الأساس يتعلق بالطريقة التي يُنظرُ بها إلى هذا التطور. وبينما يرى فريق في عودة الالتزام إلى الأدب، ديناميكية إيجابية مرتبطة بالطبيعة الديمقراطية والتعددية لمجتمعاتنا، وبإعادة اكتشاف القوة السياسية للخيال، يذهب آخرون خلاف ذلك مشدّدين على الخسارة التي تتمثل في نهاية الأدب المستقل، المتمركز على القضايا الجمالية. نسيان قضايا الشكل والأسلوب، والضياع التدريجي في الصحافة أو محترف الكتابة، ورفض المسافة الضرورية بالنسبة العالم، واستغلال الكتابة؛ الانتقادات حول تدني مستوى الأدب المعاصر كثيرة، ولن يهتم بها هذا الملف.
    "الأدب تعدّدي، وموقع للنقاش، والصراع بين رؤى العالم وطرق التعبير عنها. النقد نفسه يجب أن يكون تعدديًا. وهذه سمة يشترك فيها مع الديمقراطية"
    إن مسألة المعايير التي بموجبها يمكن للمرء أو يجب أن يحكم على عمل أدبي مهمة للغاية، لكننا نريد أن نعتقد هنا أن الجدل الأبدي حول أهمية المحتوى، وأهمية الشكل يستحق المجاوزة، وأن أي عمل عظيم، اليوم كما هو الحال الأمس، يجمع بين تصور واقع جديد والشكل الفني الصحيح. وأنه يبدع طريقته الخاصة في ممارسة السياسة، في وقت يتم فيه تعريف السياسة بأنها الطريقة الصحيحة للتكيف مع الطبيعة والآخرية، وليس بوصفها الطريقة المثلى لتقاسم الثروة. والأدب المعاصر نفسه، حيث تظهر خيارات متناقضة للغاية بخصوص العلاقة بين الأدب والسياسة، ليس موضوع إجماع أيضًا: هناك طريق طويل من الأهاجي Pamphlets إلى الفورة الواقعية، ومن الإدانة إلى الترميم، من نقد الخطابات إلى إعادة بناء السرد المشترك، ومن تعدد الأصوات إلى الرواية الجديدة، من الالتفاف عبر الماضي إلى الترقب البائس. هناك طريق طويل بين عالم ميلس دو كيرانغال Maylis de Kerangal المرحّب والمفتوح، وعالم ميشيل هوليبيك Michel Houellebecq، وليس هناك أكثر من أي شيء مشترك بين طرق وصف العالم عند أوريليان بيلانغر Aurélien Bellanger وناتالي كينتان Nathalie Quintane. الأدب تعدّدي، وموقع للنقاش، والصراع بين رؤى العالم وطرق التعبير عنها. النقد نفسه يجب أن يكون تعدديًا. وهذه سمة يشترك فيها مع الديمقراطية.



    هوامش:
    • Jacques Rancière, Politique de la littérature, Paris, Galilée, 2007.
    • Paul Bénichou, Le Sacre de l’écrivain (1750-1830). Essai sur l’avènement d’un pouvoir spirituel laïque dans la France moderne, Paris, José Corti, 1973.
    • Albert Béguin, "Fidélité et imagination", Esprit, novembre 1950.
    • المترجم: إدريس الخضراوي
يعمل...
X