مصرُ نيتشه
كريس باركر 6 أكتوبر 2022
ترجمات
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
في واحد من الانتقادات العديدة التي وجهّها إلى "الفلاسفة"، يسخر نيتشه في كتابه "أفول الأصنام" من الإيليين والأفلاطونيين لإيمانهم بالـ"واحد" وبِعالم الوجود؛ "عالم حقيقي" أضيف إلى العالم الفعلي "بواسطة كذبة". كما أنه يلوم الفلاسفة على مصريّتهم؛ أي على تكريمهم للشيء بتحنيطه.
وفي عمله "عن الموسيقى والكلمات" (1871)، تحلّ صفة "مصري" محلّ انتظامِ نصٍّ أوبرالي سيء، لتكون على النقيض من السمة الديونيسية (العفوية واللاعقلانية، والخلاقة في فكر نيتشه) للموسيقى. وفي كتابه "الفلسفة خلال العصر التراجيدي عند الإغريق" (1873) ينتقد نيتشه محاولةَ الانتقال من تعدّد الآلهة الإغريقي نحو مستوى أخفض وأكثر أولية، مثل عبادة الشمس، معتبرًا إياها محاولة مضلَّلة وبربرية. ومع كتاب "إنسانيّ مفرط في إنسانيته" (1878)، تصبح مصر مجازًا مرسلًا للجامد والمتحجّر، رغم أنها أيضًا مجازٌ مرسل للعلمي والأدبي، للمنظَّم والمُعقلِن. والمفارقة أنها تظل هكذا في كتابي "الفجر" (1881) و"إرادة القوة" (المنشور في عام 1901 بعد وفاة نيتشه). بالتالي، وربما تحت تأثير وصف هيرودوتس الشهير للتحنيط في كتاب "تاريخ هيرودوتس"، تبقى مصر متحجرة في تفكير نيتشه على هيئة رمزٍ لانعدام القدرة على التغيير ولوحدة علموية غير رجوليّة، وغير ديونيسية. لكن، لو كان الأمر بفعل ذلك التأثير حقًا، لكان على نيتشه أن يستعيد أيضًا قول هيرودوتس بأن المصريين كانوا أول من آمن بدورة تناسخ متكرّر في أجساد وأشكال مختلفة.
كانت الأبدية بالتأكيد موضع اهتمام المصريين، لكن أيّ نوع من الأبدية؟ لقد أساء نيتشه فهم سبب ممارسة المصريين للتحنيط، أو أساء تصويره على نحو هزلي. فالسبب هو التمتع بشيء شبيه بالعَود الأبدي عند نيتشه أكثر مما هو هربٌ أفلاطوني نحو وجود نقي. وبهذا المعنى العميق، نيتشه مصريّ، ومصرُ القديمة نيتشوية.
في دير المدينة في طيبة (الأُقصر)، يصوّر ضريح الحرفي باشيدو بشكل جميل جبلًا من الحجر الجيري يرتفع في الغرب خلف تمثال أوزيريس، إله الموتى. هذه الصحراء هي الأرض الحمراء، وهي أيضًا أرض الموتى. وفي ميثولوجيا طيبة، الميثولوجيا المصرية المحلية جدًا والمادية جدًا، مصر هي مركز العالم، ونهرها هو مركز المركز، وهي مرتبطة بالسهل الفيضي الخصب (الأرض السوداء) والصحراء (الأرض الحمراء) في الغرب، أي حيث "تموت" الشمس. بالتالي، منطقيًا، الدراما النفسية لولادة الشمس من جديد وهي تعبر من خلال الليل، والدراما النفسية لحياة ما بعد الموت عند البشر، تحدثان على الضفة الغربية للنهر.
إن المجموعة الأساسية من نصوص "المملكة الحديثة" عن الحياة بعد الموت، والمعروفة باسم "كتاب الموتى"، يمكن ترجمة عنوانها على نحو أكثر دقة إلى "الخروج في النهار". وفيها تصف التعويذة رقم 179، على سبيل المثال، المغادرة البارحة والعودة اليوم. وفي إحدى الترجمات الحديثة لهذا الكتاب، تصف المقدمة هذه العودة: إنها تشير إلى "التوق والأمل بالعودة نهارًا من أيّ يكن مكان تمركز الحياة الآخرة، من أجل زيارة مشاهد الأرض المألوفة مرة أخرى عند الرغبة بذلك".
خلاصة القول إذًا أن النظرية المصرية هي شكل من التكرار الأبدي للكائن نفسه. وعلى الرغم من أن أيًا من الدراسات كبيرة الحجم التي كتبها لورنس حطّاب أو كارل لوفيت عن التكرار الأبدي عند نيتشه لم تذكر مصر، فإن المقارنة مثمرة. في "حكم نيتشه المؤبد: التفاهم مع التكرار الأبدي"، يحلّل حطّاب الإغريق ما قبل السقراطيين ويعتبرهم المصدر الأكثر اتصالًا بفكرة التكرار عند نيتشه، ويصف المسيحية على أنها القَطع الذي حدث في تاريخ العالم لــِ"النموذج الإغريقي للتكرار الدوري الأبدي". إن قيمة التكرار الإغريقي هي في إضفائه طابعًا أخلاقيًا على عالم الصيرورة. وبالنسبة إلى حطّاب، العودة النيتشوية ليست "فعلية" بقدر ما هي "تقييميّة"، فالعودة تعني الإقرار. وكما يكتب نيتشه في "ما وراء الخير والشر"، العودة هي لأولئك "الذين يريدون أن يحصلوا على ما تكرّر ويتكرر إلى الأبد".
وفي كتابه الأول المنشور، يخلط نيتشه بين مصر (على سبيل التورية) وبين ما هو جامد على نحو شائن. ففي القسم التاسع من كتاب "مولد التراجيديا"، يصف نيتشه كيف أن الأشكال المتغيرة تتجمد متحولةً إلى "جمود وفتور مصريين". وأيًّا يكن مصدر هذه الملاحظة، فهو بالتأكيد ليس فن مقابرِ طيبة المحفور في الصخر. فكما يظهر في رسومات طيبة، أن تكون ميتًا في مصر يشبه إلى حد كبير أن تكون حيًا في مصر. وعلى الرغم من أن جوانب من الأساطير المتنوعة ونصوصها ذات الطابع الديمقراطي، بصورة أو بأخرى، تطابق بين الموتى الملكيين والآلهة التي لا تتغير أو النجوم الثابتة، فإن حياة ما بعد الموت هي في العموم عالمٌ من الإيقاع والحركة والصيرورة، كما يروي كتاب "الموت والدفن في مصر القديمة" لعالمة المصريات سليمة إكرام. إن حياة ما بعد الموت إقرارٌ باليومي، لا هربٌ منه.
وفي إحدى نسخ هذا التاريخ، ترسم الصحراء نفسها مخططًا لبرنامج النسخة المصرية من حياة ما بعد الموت. فالجسد المجفَّف الذي قُطِّرت منه رطوبته الطبيعية، وحُفظ في حفرة في الصحراء، يقدم الاقتراح الأول لفكرة أنه بوسعنا الاستمرار بالعيش بعد الموت الجسدي. كما أن نسخة أخرى مماثلة، مبنية على أدلة عن التحنيط يعود تاريخها إلى فترة نقادة الثانية ما قبل السلالات (3500-3150 قبل الميلاد)، تُرجع موقع الفكرة إلى الدين، لا إلى العلوم الطبيعية، بحسب كتاب سليمة إكرام.
إن عملية التحنيط هي طريقة لتحسين التجفاف الطبيعي. وفي القبور الأكثر قدمًا في الحفر الصحراوية، ظلّ شكل الجسد محفوظًا، بينما لم يظّل اللحم. لكن، خلال الفترة الانتقالية الثالثة، بين القرنين الحادي عشر والثامن قبل الميلاد، لم تحفظ عملية التحنيط المكتملة شكلَ الجسد وحسب، بل كذلك اللحم والأعضاء الرئيسية الضرورية لحياة جيدة بعد الموت؛ الرئتان، الكبد، المعدة، والأمعاء، بينما كان المخ مهملًا. يبدو إذًا أن المصريين، وبسبب عدم إدراكهم لأهمية المخ في تحقيق العدالة (الإلهة ماعت)، حفظوا الأعضاء الخطأ.
لقد بُنيت ميثولوجيا طيبة المصرية على عبادة إله الشمس الذي يختفي كل ليلة وراء التلال الكلسية على الضفة الغربية لنهر النيل، ويولد من جديد بعد اثنتي عشر ساعة ليلية طويلة يقضيها مبحرًا على قاربه ومسحوبًا إلى البر عبر العالم السفلي (أو ما يدعى "دوات"). كما تكون الشمس المانحة للحياة مهددة، من جميع الجهات، من الثعبان المروع "أبوفيس" الذي يقترن أحيانًا بالضفاف الرملية ويمثّل ربما ميل السفن للجنوح في سهل النيل الفيضي. غير أن أبوفيس يُقتَل من قبل الإلهة "باستيت"، ذات رأس القطة، في أقوى أشكالها؛ والذي هو تجلٍّ لعين إله الشمس له أذنا أرنب، كما هو مصوَّر في قبر إنيرخاو في وادي العمال ("كتاب بينغوين للأساطير والخرافات في مصر القديمة"، جويس تيلديسلي). إن ما يمثلّه ذلك على وجه الدقة ليس واضحًا، لكن موت أبوفيس يحمل وعدًا بحياة متجددة.
لقد كانت حياة ما بعد الموت، في الأصل، للملوك الذين ينضمون إلى حاشية إله الشمس. ولم يبدأ إضفاء الصبغة الديمقراطية على حياة ما بعد الموت إلا مع نهاية المملكة القديمة. فالنسخة الجديدة من ما بعد الموت هي حقل قصب (إيارو) يترأسه أوزيريس؛ ملك كل من بوسعهم تحمل تكاليف دفن وتحنيط لائقين، وهم من كانوا ربما حوالي 10% من المصريين القدماء، بحسب كتاب "الموت والدفن في مصر القديمة".
بالنسبة إلى الأثرياء وذوي الامتيازات، في ذلك الوقت كما الآن، النجاة الجسدية ليس كافية؛ إذ يمكن أن يأمل المرء أيضًا بحياة بعد الموت تتمتع بالوفرة والرفاهية. وكما يذكر كتاب "الموت والدفن في مصر القديمة"، كانت الأضحيات تقدم للروح كا؛ وهي النظير الروحي الذي يجب أن يبقى قريبًا من الجسد، مقابل طائر البا الأكثر تنقلًا. وباتحادهما معًا، كانت الكا والبا تشكّلان الـ"آخ" الغامضة، والتي هي الصورة الحية للموتى. كذلك، أدى دفن متاع مفيدة لإطعام الكا إلى جذب السرقات، بالطبع. كما أن جماعات مستودع الجثث وكهنتهم، بالإضافة إلى ذرية الموتى الذين كانوا يدفعون لتلك الجماعات، لم يكونوا دومًا مصادر إعالة موثوقة. ولذلك، بدلًا عنهم، تطور فن تمثيلي: لوحات جدارية بُعثت فيها الحياة، بواسطة السحر، لتلبية حاجات الموتى. وهكذا، من إدراج المواد الغذائية والأدوات المفيدة في القبور، تطورت الروائع الجمالية في طيبة.
إن النسخة المصرية القديمة من ما بعد الحياة هي، كما أشرنا، مصر مضاعفة؛ بمعنى أنها ذات الصحراء، ذات المياه بالغة الأهمية. وإذا جاز التعبير، فإن المصريين، بتصويرهم هموم ومخاطر هذا العالم في العالم التالي، تمكنوا من إكمال دائرة الحياة. إن للدين إيقاعًا، مثل الموسيقى، وليس تجاوزًا لحدود المعرفة البشرية. الموتى الملكيون يسافرون مع الآلهة. الموتى الطيبون يحرثون الحقول، أو يسحبون لحاء الشمس بسعادة فوق الأرض. الموتى الأشرار يحاولون أن يعيقوا عبور الشمس. إن حياة ما بعد الموت هي حياة عمل، وعملٌ تراتبي فوق ذلك؛ وهو ما يشير إلى أن العمل هو رفيق مصر، وحياة ما بعد الموت هي "القيام بكل ما يُفعل على الأرض"، كما يقول "كتاب الموتى".
علاوة على ذلك، إن إضافة أوزيريس تضفي الطابع الديمقراطي على أرض الموتى وتضيف إليها عنصر الحكم. وحدهم الجديرون يُسمح لهم بدخول حيز الموتى، بينما يُلتَهم البقية على الفور من قبل الوحش المركب المرعب "أميت"، وهو أسد-فرس نهر-تمساح. هكذا، يسهم إضفاء الديمقراطية في تأكيد العدالة، لكنه يستبعد بعنف بعض البشر من النظرية الموسيقية الإيقاعية لعبور الشمس الغربي.
قد يفكر نيتشويٌّ في أسطورة الشمس على النحو التالي: إن عودة العالم ذاته، الحزام الحقلي المحروث ذاته، سهله الفيضي ذاته، الشمس ذاتها، المحاصيل ذاتها، والأطعمة ذاتها، أمر كافٍ. والإيقاع الرئيسي هو إيقاع دورة ولادة وموت جسديين، يضاف إليه شمولية ديمقراطية وحصرية وعظيّة. ثمة أيضًا نقطة بداية عندما انبثق الإله الخالق لنفسه "آتوم" على شكل تل من مياه الإله "نون" غير المتمايزة. وثمة قصة عن اندماج نهائي بين آتوم وأوزيريس وعودة إلى الفوضى البَدئية. بكلمات أخرى، إن في الوحدة والإيقاع الرئيسيين صدوعًا وتمزقات، لكنهما، على عكس رؤى الفردوس الذي يتجاوز حدودهما، لا يوجهان إلى خارج نفسيهما.
إنه لمن المحزن أن نيتشه أخطأ فيما يخص الفن المصري الذي هو ديونيسي، نابض بالحركة، ومليء بالحياة والألوان والأشكال الجسدية غير المكبوتة. على سبيل المثال، يبدو قبر نفرتيتي الملون بالأخضر والتماثيل خضراء الوجوه في وادي الملكات رديئة الذوق، وذات هيئات باهتة؛ ولكن ذلك ينتفي ما إن يُسمَح لعلم تحليل الأيقونات بالكلام. فالوجوه سوداء للدلالة على الخصوبة (الأرض السوداء)، وخضراء للدلالة على انبعاث محاصيل جديدة. كما أن الوجوه الخضراء تتجه شرقًا نحو المحصول، الأكثر من سنوي أحيانًا، في السهل الفيضي، لكن لا أبعد من ذلك. فليس ثمة "عالم آخر" أبعدَ من الشرق والحياة اليومية. وسواء أكانت هنالك خطوة أخيرة بعد هذه الـ"مصر المضاعفة" المهذيّ بها، نحو واقعية كلية - لا أوزيريس ولا دوات، لا حقول قصب، وإضفاء للصفة الديمقراطية والمادية على الجسد بشكل كامل؛ جسد محدود ومتمتع بحياة هي في الآن ذاته وجيزة ونتاج جمع كل الأشياء- فذلك سؤال صعب. لكن، إذا كنا جميعًا "غربيين" بالمعنى المصري للكائنات التي تمارس الاحتضار والموت، فنحن بطبيعة الحال لا ننشد واقعية باتة أو نهايةً للأسطورة. وقد تساءل نيتشه في كتابه "العلم المرح": "لمَ لا يسمح المرء لنفسه بأن يكون مخدوعًا؟" إن ما هو محجوب ومُغطى وغير موضح له أحيانًا أسبابه للبقاء على ذلك النحو، كما يكتب نيتشه في الكتاب ذاته موبخًا الشباب المصريين الذين يقتحمون المعابد. وقد تكون أكثر طرق الحياة حكمة هي أن نواصل العيش "ميثولوجيًا" لا عقلانيًا، كما يرد في كتاب "ما وراء الخير والشر". في حقيقة الأمر، وكما يمكن لأيّ مسافر عائد من طيبة (الأُقصر) أن يخبرنا، الشيء الذي يتردد صداه في الذهن هو فعل صناعة الأسطورة ذاته.
رابط النص الأصلي:
https://thephilosophicalsalon.com/ni...J_1rN0T_fQXxgQ
كريس باركر: مدرس مساعد في الجامعة الأميركية في القاهرة. يدرّس تاريخ الفكر السياسي ومواضيع متعلقة بالنظرية السياسية المعاصرة. له عدة كتب في مجال الدراسات الثقافية. وكتابه الأول حمل عنوان: "تعليم الحرية: الديمقراطية والأرستقراطية في فكر جون ستيورات ميل السياسي" (2018). كما أن له اهتمامات بحثية وتدريسية في مواضيع السجن الجماعي ونظريات العقاب.
كريس باركر 6 أكتوبر 2022
ترجمات
(Getty Images)
شارك هذا المقال
حجم الخط
ترجمة: سارة حبيب
في واحد من الانتقادات العديدة التي وجهّها إلى "الفلاسفة"، يسخر نيتشه في كتابه "أفول الأصنام" من الإيليين والأفلاطونيين لإيمانهم بالـ"واحد" وبِعالم الوجود؛ "عالم حقيقي" أضيف إلى العالم الفعلي "بواسطة كذبة". كما أنه يلوم الفلاسفة على مصريّتهم؛ أي على تكريمهم للشيء بتحنيطه.
وفي عمله "عن الموسيقى والكلمات" (1871)، تحلّ صفة "مصري" محلّ انتظامِ نصٍّ أوبرالي سيء، لتكون على النقيض من السمة الديونيسية (العفوية واللاعقلانية، والخلاقة في فكر نيتشه) للموسيقى. وفي كتابه "الفلسفة خلال العصر التراجيدي عند الإغريق" (1873) ينتقد نيتشه محاولةَ الانتقال من تعدّد الآلهة الإغريقي نحو مستوى أخفض وأكثر أولية، مثل عبادة الشمس، معتبرًا إياها محاولة مضلَّلة وبربرية. ومع كتاب "إنسانيّ مفرط في إنسانيته" (1878)، تصبح مصر مجازًا مرسلًا للجامد والمتحجّر، رغم أنها أيضًا مجازٌ مرسل للعلمي والأدبي، للمنظَّم والمُعقلِن. والمفارقة أنها تظل هكذا في كتابي "الفجر" (1881) و"إرادة القوة" (المنشور في عام 1901 بعد وفاة نيتشه). بالتالي، وربما تحت تأثير وصف هيرودوتس الشهير للتحنيط في كتاب "تاريخ هيرودوتس"، تبقى مصر متحجرة في تفكير نيتشه على هيئة رمزٍ لانعدام القدرة على التغيير ولوحدة علموية غير رجوليّة، وغير ديونيسية. لكن، لو كان الأمر بفعل ذلك التأثير حقًا، لكان على نيتشه أن يستعيد أيضًا قول هيرودوتس بأن المصريين كانوا أول من آمن بدورة تناسخ متكرّر في أجساد وأشكال مختلفة.
"أساء نيتشه فهم سبب ممارسة المصريين للتحنيط، أو أساء تصويره على نحو هزلي. فالسبب هو التمتع بشيء شبيه بالعَود الأبدي عند نيتشه أكثر مما هو هربٌ أفلاطوني نحو وجود نقي. وبهذا المعنى العميق، نيتشه مصريّ، ومصرُ القديمة نيتشوية" |
في دير المدينة في طيبة (الأُقصر)، يصوّر ضريح الحرفي باشيدو بشكل جميل جبلًا من الحجر الجيري يرتفع في الغرب خلف تمثال أوزيريس، إله الموتى. هذه الصحراء هي الأرض الحمراء، وهي أيضًا أرض الموتى. وفي ميثولوجيا طيبة، الميثولوجيا المصرية المحلية جدًا والمادية جدًا، مصر هي مركز العالم، ونهرها هو مركز المركز، وهي مرتبطة بالسهل الفيضي الخصب (الأرض السوداء) والصحراء (الأرض الحمراء) في الغرب، أي حيث "تموت" الشمس. بالتالي، منطقيًا، الدراما النفسية لولادة الشمس من جديد وهي تعبر من خلال الليل، والدراما النفسية لحياة ما بعد الموت عند البشر، تحدثان على الضفة الغربية للنهر.
إن المجموعة الأساسية من نصوص "المملكة الحديثة" عن الحياة بعد الموت، والمعروفة باسم "كتاب الموتى"، يمكن ترجمة عنوانها على نحو أكثر دقة إلى "الخروج في النهار". وفيها تصف التعويذة رقم 179، على سبيل المثال، المغادرة البارحة والعودة اليوم. وفي إحدى الترجمات الحديثة لهذا الكتاب، تصف المقدمة هذه العودة: إنها تشير إلى "التوق والأمل بالعودة نهارًا من أيّ يكن مكان تمركز الحياة الآخرة، من أجل زيارة مشاهد الأرض المألوفة مرة أخرى عند الرغبة بذلك".
خلاصة القول إذًا أن النظرية المصرية هي شكل من التكرار الأبدي للكائن نفسه. وعلى الرغم من أن أيًا من الدراسات كبيرة الحجم التي كتبها لورنس حطّاب أو كارل لوفيت عن التكرار الأبدي عند نيتشه لم تذكر مصر، فإن المقارنة مثمرة. في "حكم نيتشه المؤبد: التفاهم مع التكرار الأبدي"، يحلّل حطّاب الإغريق ما قبل السقراطيين ويعتبرهم المصدر الأكثر اتصالًا بفكرة التكرار عند نيتشه، ويصف المسيحية على أنها القَطع الذي حدث في تاريخ العالم لــِ"النموذج الإغريقي للتكرار الدوري الأبدي". إن قيمة التكرار الإغريقي هي في إضفائه طابعًا أخلاقيًا على عالم الصيرورة. وبالنسبة إلى حطّاب، العودة النيتشوية ليست "فعلية" بقدر ما هي "تقييميّة"، فالعودة تعني الإقرار. وكما يكتب نيتشه في "ما وراء الخير والشر"، العودة هي لأولئك "الذين يريدون أن يحصلوا على ما تكرّر ويتكرر إلى الأبد".
"في كتابه الأول المنشور، يخلط نيتشه بين مصر (على سبيل التورية) وبين ما هو جامد على نحو شائن. ففي القسم التاسع من كتاب "مولد التراجيديا"، يصف نيتشه كيف أن الأشكال المتغيرة تتجمد متحولةً إلى "جمود وفتور مصريين"" |
وفي إحدى نسخ هذا التاريخ، ترسم الصحراء نفسها مخططًا لبرنامج النسخة المصرية من حياة ما بعد الموت. فالجسد المجفَّف الذي قُطِّرت منه رطوبته الطبيعية، وحُفظ في حفرة في الصحراء، يقدم الاقتراح الأول لفكرة أنه بوسعنا الاستمرار بالعيش بعد الموت الجسدي. كما أن نسخة أخرى مماثلة، مبنية على أدلة عن التحنيط يعود تاريخها إلى فترة نقادة الثانية ما قبل السلالات (3500-3150 قبل الميلاد)، تُرجع موقع الفكرة إلى الدين، لا إلى العلوم الطبيعية، بحسب كتاب سليمة إكرام.
إن عملية التحنيط هي طريقة لتحسين التجفاف الطبيعي. وفي القبور الأكثر قدمًا في الحفر الصحراوية، ظلّ شكل الجسد محفوظًا، بينما لم يظّل اللحم. لكن، خلال الفترة الانتقالية الثالثة، بين القرنين الحادي عشر والثامن قبل الميلاد، لم تحفظ عملية التحنيط المكتملة شكلَ الجسد وحسب، بل كذلك اللحم والأعضاء الرئيسية الضرورية لحياة جيدة بعد الموت؛ الرئتان، الكبد، المعدة، والأمعاء، بينما كان المخ مهملًا. يبدو إذًا أن المصريين، وبسبب عدم إدراكهم لأهمية المخ في تحقيق العدالة (الإلهة ماعت)، حفظوا الأعضاء الخطأ.
لقد بُنيت ميثولوجيا طيبة المصرية على عبادة إله الشمس الذي يختفي كل ليلة وراء التلال الكلسية على الضفة الغربية لنهر النيل، ويولد من جديد بعد اثنتي عشر ساعة ليلية طويلة يقضيها مبحرًا على قاربه ومسحوبًا إلى البر عبر العالم السفلي (أو ما يدعى "دوات"). كما تكون الشمس المانحة للحياة مهددة، من جميع الجهات، من الثعبان المروع "أبوفيس" الذي يقترن أحيانًا بالضفاف الرملية ويمثّل ربما ميل السفن للجنوح في سهل النيل الفيضي. غير أن أبوفيس يُقتَل من قبل الإلهة "باستيت"، ذات رأس القطة، في أقوى أشكالها؛ والذي هو تجلٍّ لعين إله الشمس له أذنا أرنب، كما هو مصوَّر في قبر إنيرخاو في وادي العمال ("كتاب بينغوين للأساطير والخرافات في مصر القديمة"، جويس تيلديسلي). إن ما يمثلّه ذلك على وجه الدقة ليس واضحًا، لكن موت أبوفيس يحمل وعدًا بحياة متجددة.
"لقد بُنيت ميثولوجيا طيبة المصرية على عبادة إله الشمس الذي يختفي كل ليلة وراء التلال الكلسية على الضفة الغربية لنهر النيل، ويولد من جديد بعد اثنتي عشر ساعة ليلية طويلة يقضيها مبحرًا على قاربه ومسحوبًا إلى البر عبر العالم السفلي" |
بالنسبة إلى الأثرياء وذوي الامتيازات، في ذلك الوقت كما الآن، النجاة الجسدية ليس كافية؛ إذ يمكن أن يأمل المرء أيضًا بحياة بعد الموت تتمتع بالوفرة والرفاهية. وكما يذكر كتاب "الموت والدفن في مصر القديمة"، كانت الأضحيات تقدم للروح كا؛ وهي النظير الروحي الذي يجب أن يبقى قريبًا من الجسد، مقابل طائر البا الأكثر تنقلًا. وباتحادهما معًا، كانت الكا والبا تشكّلان الـ"آخ" الغامضة، والتي هي الصورة الحية للموتى. كذلك، أدى دفن متاع مفيدة لإطعام الكا إلى جذب السرقات، بالطبع. كما أن جماعات مستودع الجثث وكهنتهم، بالإضافة إلى ذرية الموتى الذين كانوا يدفعون لتلك الجماعات، لم يكونوا دومًا مصادر إعالة موثوقة. ولذلك، بدلًا عنهم، تطور فن تمثيلي: لوحات جدارية بُعثت فيها الحياة، بواسطة السحر، لتلبية حاجات الموتى. وهكذا، من إدراج المواد الغذائية والأدوات المفيدة في القبور، تطورت الروائع الجمالية في طيبة.
إن النسخة المصرية القديمة من ما بعد الحياة هي، كما أشرنا، مصر مضاعفة؛ بمعنى أنها ذات الصحراء، ذات المياه بالغة الأهمية. وإذا جاز التعبير، فإن المصريين، بتصويرهم هموم ومخاطر هذا العالم في العالم التالي، تمكنوا من إكمال دائرة الحياة. إن للدين إيقاعًا، مثل الموسيقى، وليس تجاوزًا لحدود المعرفة البشرية. الموتى الملكيون يسافرون مع الآلهة. الموتى الطيبون يحرثون الحقول، أو يسحبون لحاء الشمس بسعادة فوق الأرض. الموتى الأشرار يحاولون أن يعيقوا عبور الشمس. إن حياة ما بعد الموت هي حياة عمل، وعملٌ تراتبي فوق ذلك؛ وهو ما يشير إلى أن العمل هو رفيق مصر، وحياة ما بعد الموت هي "القيام بكل ما يُفعل على الأرض"، كما يقول "كتاب الموتى".
علاوة على ذلك، إن إضافة أوزيريس تضفي الطابع الديمقراطي على أرض الموتى وتضيف إليها عنصر الحكم. وحدهم الجديرون يُسمح لهم بدخول حيز الموتى، بينما يُلتَهم البقية على الفور من قبل الوحش المركب المرعب "أميت"، وهو أسد-فرس نهر-تمساح. هكذا، يسهم إضفاء الديمقراطية في تأكيد العدالة، لكنه يستبعد بعنف بعض البشر من النظرية الموسيقية الإيقاعية لعبور الشمس الغربي.
"يبدو قبر نفرتيتي الملون بالأخضر والتماثيل خضراء الوجوه في وادي الملكات رديئة الذوق، وذات هيئات باهتة؛ ولكن ذلك ينتفي ما إن يُسمَح لعلم تحليل الأيقونات بالكلام. فالوجوه سوداء للدلالة على الخصوبة (الأرض السوداء)، وخضراء للدلالة على انبعاث محاصيل جديدة" |
إنه لمن المحزن أن نيتشه أخطأ فيما يخص الفن المصري الذي هو ديونيسي، نابض بالحركة، ومليء بالحياة والألوان والأشكال الجسدية غير المكبوتة. على سبيل المثال، يبدو قبر نفرتيتي الملون بالأخضر والتماثيل خضراء الوجوه في وادي الملكات رديئة الذوق، وذات هيئات باهتة؛ ولكن ذلك ينتفي ما إن يُسمَح لعلم تحليل الأيقونات بالكلام. فالوجوه سوداء للدلالة على الخصوبة (الأرض السوداء)، وخضراء للدلالة على انبعاث محاصيل جديدة. كما أن الوجوه الخضراء تتجه شرقًا نحو المحصول، الأكثر من سنوي أحيانًا، في السهل الفيضي، لكن لا أبعد من ذلك. فليس ثمة "عالم آخر" أبعدَ من الشرق والحياة اليومية. وسواء أكانت هنالك خطوة أخيرة بعد هذه الـ"مصر المضاعفة" المهذيّ بها، نحو واقعية كلية - لا أوزيريس ولا دوات، لا حقول قصب، وإضفاء للصفة الديمقراطية والمادية على الجسد بشكل كامل؛ جسد محدود ومتمتع بحياة هي في الآن ذاته وجيزة ونتاج جمع كل الأشياء- فذلك سؤال صعب. لكن، إذا كنا جميعًا "غربيين" بالمعنى المصري للكائنات التي تمارس الاحتضار والموت، فنحن بطبيعة الحال لا ننشد واقعية باتة أو نهايةً للأسطورة. وقد تساءل نيتشه في كتابه "العلم المرح": "لمَ لا يسمح المرء لنفسه بأن يكون مخدوعًا؟" إن ما هو محجوب ومُغطى وغير موضح له أحيانًا أسبابه للبقاء على ذلك النحو، كما يكتب نيتشه في الكتاب ذاته موبخًا الشباب المصريين الذين يقتحمون المعابد. وقد تكون أكثر طرق الحياة حكمة هي أن نواصل العيش "ميثولوجيًا" لا عقلانيًا، كما يرد في كتاب "ما وراء الخير والشر". في حقيقة الأمر، وكما يمكن لأيّ مسافر عائد من طيبة (الأُقصر) أن يخبرنا، الشيء الذي يتردد صداه في الذهن هو فعل صناعة الأسطورة ذاته.
رابط النص الأصلي:
https://thephilosophicalsalon.com/ni...J_1rN0T_fQXxgQ
كريس باركر: مدرس مساعد في الجامعة الأميركية في القاهرة. يدرّس تاريخ الفكر السياسي ومواضيع متعلقة بالنظرية السياسية المعاصرة. له عدة كتب في مجال الدراسات الثقافية. وكتابه الأول حمل عنوان: "تعليم الحرية: الديمقراطية والأرستقراطية في فكر جون ستيورات ميل السياسي" (2018). كما أن له اهتمامات بحثية وتدريسية في مواضيع السجن الجماعي ونظريات العقاب.
- المترجم: سارة حبيب