المهاجران" في كندا.. تتويج لأحاسيسنا عن المنفى والهوية والحرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المهاجران" في كندا.. تتويج لأحاسيسنا عن المنفى والهوية والحرية

    المهاجران" في كندا.. تتويج لأحاسيسنا عن المنفى والهوية والحرية
    مونتريال - دارين حوماني 22 نوفمبر 2022
    مسرح
    شادي مرقش يتوسط زياد التواتي (يمين) ورامز الأسود
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    يأتي العرض المسرحي "المهاجران" الذي قُدّم على مسرح مارسلان شامبليان Marcellin Champagnat في لافال- مونتريال في كندا الأسبوع الفائت كأول إنتاج مسرحي لفرقة "فنون المهجر"، وهي فرقة فنية أسّسها المخرج السوري شادي مقرش والفنان السوري رامز الأسود والفنان التونسي زياد التواتي في مونتريال عام 2020 لتكريس مساحة ثقافية للمهاجرين العرب وللتخفيف من الاغتراب عبر تأسيس بيئة ثقافية انطلاقًا من اللغة العربية في ظل الحنين المزمن لهذه اللغة بين المهاجرين والتي تكاد تتلاشى بين الأجيال الجديدة هنا. وقد اختارت "فنون المهجر" مسرحية "المهاجران" لأننا جميعًا نكاد نكون أبطال هذه المسرحية، إن في الماضي أو في حاضرنا أو في الزمن الآتي؛ حيث ترسم صورًا متعددة الأبعاد للمهاجرين والمنفيين بإرادتهم أو قسرًا، وتحضر فيها أزمة اللاجئ السياسي والفقر والوطن والهوية الثقافية والإقصاء والاغتراب.. إنها محاكاة واقعية معاصرة وراهنة على الرغم من مرور حوالي نصف قرن على كتابة نصّها.
    "اختارت "فنون المهجر" مسرحية "المهاجران" لأننا جميعًا نكاد نكون أبطال هذه المسرحية، إن في الماضي أو في حاضرنا أو في الزمن الآتي؛ حيث ترسم صورًا متعددة الأبعاد للمهاجرين والمنفيين بإرادتهم أو قسرًا"
    المسرحية هي كوميديا سوداء عن مهاجريْن اضطرا لترك بلادهما بحثًا عن حياة أفضل وتستند إلى نص مسرحي بنفس العنوان للكاتب البولندي سلافومير مروجيك (1930-2013) الذي قدّمها لأول مرة عام 1974 وقد احتلت أهمية استثنائية في ذلك الوقت حيث كُتبت في مناخ الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين، شرقي وغربي، وخصوصًا أن مروجيك كان قد ترك بلاده بعد انتقاده للشيوعية حيث كان كاتبًا صحافيًا سياسيًا إضافة إلى كونه كاتبًا مسرحيًا مع حس ساخر في كلا النوعين من الكتابة، وهاجر إلى إيطاليا ثم إلى فرنسا عقب أحداث ما يسمى "ربيع براغ" عام 1968، علمًا أنه كان في بداياته يدعم بناء الاشتراكية، وقد افتتن في شبابه بالشيوعية وانضم إلى حزب العمال البولندي في عهد الستالينية، وتأتي مسرحيته كتجربة شخصية وصورة ذاتية له كمهاجر من دولة شيوعية فقيرة في أوروبا الشرقية يحاول أن يجد مكانه في عالم الازدهار الغربي. وتنتمي مسرحيات مروجيك إلى المسرح العبثي وتمثل "المهاجران" أحد أبرز هذا النوع من المسرحيات حيث كُتبت كمحاكاة ساخرة، ونتاجًا لظروف سياسية واجتماعية وتاريخية.





    في قبو بلا نوافذ أسفل مبنى جنبًا إلى جنب مع رطوبة المكان وأنابيب الصرف الصحي سيترجم المخرج شادي مقرش الحالة التي يعيش فيها المهاجران لتكون السينوغرافيا (تصميم: وائل أبو عياش) مختزلة بكل عناصر الفقر والغربة والأسى.. سريران متباعدان مع طاولة خشبية وكرسيين في الوسط، لوحة وكتاب وراديو فوق سرير المثقف واللاجئ السياسي، أداء رامز الأسود، ومنشر غسيل وصور ممثلات ودمية على شكل كلب فوق سرير العامل البسيط الذي يعمل في الحفر (أداء: زياد التواتي)، وكلاهما يضعان حقيبتيهما تحت السرير. إنها غرفة قلقة مشدودة إلى قعر الحياة لكنها تشكّل الأمان لهما. يحلم الأول أن يكتب يومًا ما كتابًا عن عبودية الإنسان للمال، بينما يجمع الآخر المال، ويحلم يومًا ما بالعودة إلى قريته لبناء منزل يعيش فيه مع عائلته، متخفيًا وراء هالة من النجاح. ثمة هوة أخرى بين العالمين، المبنى فوق والقبو تحت، حياتان متجاورتان لكن إحداهما تحتفل بليلة رأس السنة فيما الأخرى تؤجّل حزنها قدر المستطاع محاولةً تصدير الألم الذي ينتمي إلى الماضي لكن لا يمكن قمعه.
    "إنها غرفة قلقة مشدودة إلى قعر الحياة لكنها تشكّل الأمان لهما (المثقف والعامل). يحلم الأول أن يكتب يومًا ما كتابًا عن عبودية الإنسان للمال، بينما يجمع الآخر المال، ويحلم يومًا ما بالعودة إلى قريته لبناء منزل يعيش فيه مع عائلته"
    هي مسرحية من فصل واحد حيث سنشهد على مجادلة بين المهاجرين لمدة 75 دقيقة متواصلة، وتبدأ المجادلة بينهما منذ الظهور الأول على الخشبة، يحاول العامل الفقير إظهار نجاحه في هذا المجتمع الغريب عنه بينما تنكشف أمام المثقف محاولة إخفاء العامل لوحدته ولفشله، ويتجسّد هذا التشتت النفسي للعامل من خلال انتعاله حذاءً لماعًا مع جوارب ممزقة. يتحدث العامل عن الذباب في الغرفة فيما يجادله المثقف كي ينظر إلى مشاكل العالم وأن يتحدثا عن الظواهر والأحداث والأفكار، عن النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، عن الحدث الثقافي، عن الإنسان الحائر على تقاطع الطريق، وعن الحضارة والتغيير العميق ومشاكل الكون. يجد المثقف أن غربته جعلته يشعر بتفاهة مشاكله في بلده، بالشوفينية التافهة، وقلة الأخلاق والضمير، ويرى الناس من بعيد صغارًا، والأهم أنه "هنا على الأقل تفرد جناحاتك"، ليجيبه العامل الفقير "مثل الذبابة نفرد جناحاتنا". يتبدى لنا من خلال هذه المحاورة التباين في الشخصيات من الناحية الثقافية والنفسية، يبدو التواصل بينهما مستحيلًا، إنهما استعارة للازدواجية الموجودة في كل واحد منا، كأننا أمام مونودراما يقدّمها شخصان، صوتان في دواخلنا، أحدهما يعيش قلق الإنسان وحيرته من مكان عميق وسعيه للحرية والآخر قلق من مكان آخر يريد الحياة البسيطة مع عائلته في بيت يعطيه الطمأنينة التي يفتقدها.





    لا يدفع العامل حصته من إيجار المنزل ويأكل من معلبات المثقف، فيما يخفي معلباته، فيصفه المثقف بالفردانية وبالوحشية وصاحب الشهية البهيمية.. لقطات كوميدية سوداء متتالية مع كل الأسى الموجود لكن المسافة بين الضحك والأسى ضئيلة، يقرأ المثقف محتويات إحدى العلب التي يخفيها صديقه في الغرفة ليتبين أنها علبة طعام للكلاب لكن العامل الأميّ يشتري الأرخص ثمنًا كي يجمع ماله في هدف العودة إلى بلاده.. ويُدخلنا المثقف في تحليل لطبيعة الإنسان ودراسة لشخصية رفيقه ولأبعادها النفسية، ويرى أن عليه أن يقارن ملاحظاته مع عالم الأنثروبولوجيا المعاصر. وللمواجهة بينهما حصتان، من الهدوء ومن الغضب، وكِلتا الحصتين لا تخطئان في احتساب انكساراتنا في الغربة وأبعاد هذا المنفى المعلّق بين الضوء والعتمة. يُحضر المثقف الشامبانيا ليحتفلا، "اشرب بصحة أولئك الذين لا يملكون الحق في قتل أنفسهم..". نحن أمام بحث في مسألة الهوية، يُطالب المثقف العامل ليتعلم لغة هذا المكان لكن العامل يرفض الاندماج في المجتمع مقتنعًا بضرورة العودة إلى بلاده، فيصفه المثقف بالثور الذي يريد أن يجمع المال فقط، "بدي ضل هزّك لتفيق من حلمك البقري..". وفي حديث ينتشل الماضي ويضعه أمامنا ككولاج حكائي، يخبرنا المثقف كيف أزاح الخوف عن جسده، كيف تدبّر أمره معه فتخلص منه حين ترك بلاده، وصار حرًا. كأنه يرفع المصباح لنا لنستكشف شريط حياته وسط الخوف والرغبة في الكتابة إلى الوصول للحرية التي أفقدته حاجته للكتابة.. هي حلقة مفرغة، يقول: "نظريًا لم يعد عندي نفس الحاجة ونفس الإرادة للكتابة إلى أن رأيتك، أنت مثلي بالضبط، من كوكب آخر، مخنوق من عالم آخر"..
    "يبدو التواصل بينهما مستحيلًا، إنهما استعارة للازدواجية الموجودة في كل واحد منا، كأننا أمام مونودراما يقدّمها شخصان، صوتان في دواخلنا، أحدهما يعيش قلق الإنسان وحيرته من مكان عميق وسعيه للحرية والآخر قلق من مكان آخر يريد الحياة البسيطة مع عائلته"
    ويتصاعد الحديث بين الرجلين، ليكتشف العامل أن صديقه في الغرفة كان يتعاطى السياسة في بلاده وقد يكون ملاحقًا، ويرتفع منسوب عدم الثقة لديه ليرفع العامل فأسًا محاولًا التخلص من المثقف ظانًا أنه مُخبر سياسي.. إلا أن ذروة النقاش تحدث حين ينشب حريق في المبنى وتنقطع الكهرباء فيحضن العامل دميته "الكلب" خوفًا من احتراقها، ليتبين أنه يخفي أمواله فيها. وستودي المواجهة بالعامل إلى تمزيق كل نقوده التي جمعها للعودة بعد أن يستفزّه المثقف واصفًا إياه بأنه عبد للمال وأنه لن يعود لعائلته، وأنه فرصته الأخيرة حيث يجري أبحاثه عليه عن العبودية فهو النموذج الأفضل لذلك "والعالِم لا يعطي أهمية لرأي الحشرة"، وهنا سيتبدى للمثقف أنه انغمس في تكهنات النظرية فيمزق مخططاته بعد تمزيق العامل لنقوده: "كان عندي نية لأكتب عملًا عظيمًا، توصلت لنتيجة أن كل عبد لديه لحظات من الحرية". فبينما كان العامل هو مصدر الإلهام للمثقف أصبح نفسه الذي دمّر نظريته ومشروعه عن عبودية الإنسان للمال. يقرر العامل شنق نفسه بالحبل الذي يتدلى من السقف بعد أن فقد أمواله والقدرة على العودة إلى بلاده..




    "كنا أمام كولاج ليس فقط حكائي، بل كولاج آخر مؤلف من المشاعر، من جوارب ممزقة، ومشنقة، ونظرية لم تكتمل، أبدع الثلاثة في حياكته"
    "المهاجران" هي دراسة نفسية لأشكال متعددة من الإقصاء، من الهجرة، هجرة اقتصادية وأخرى سياسية وأخرى نفسية.. يبحث مروجيك في الشخصيات، كأن المسرح كان مختبره.. المسرحية هي صورة مريرة وساخرة لمهاجرين بولنديين في باريس لكنها تحمل روح كل عصر حيث الهجرة أصبحت سمة الشعوب.. ما يجعلها حية هي راهنيّتها.. أراد شادي مقرش تمثيل هجرتنا، أوجاعنا، أفكارنا القلقة، بأداء مطرّز تطريزًا حادًا لرامز الأسود وزياد التواتي لا سقف محدّدًا للتأثر به، بصوتيهما وإلقائهما المتواصل وجسديهما المتنقلين.. كنا أمام كولاج ليس فقط حكائي، بل كولاج آخر مؤلف من المشاعر، من جوارب ممزقة، ومشنقة، ونظرية لم تكتمل، أبدع الثلاثة في حياكته على وقع سيناريوهاتنا غير المرئية التي جعلتنا كجمهور ملأ المكان نشعر أن ما رأيناه هو تتويج لأحاسيسنا جميعًا.


يعمل...
X