المصوّر الفلسطينيّ عطيّة درويش.. أن تخسر عينك ثمناً للحقيقة
مناهل السهوي
فوتوغراف
(عطية درويش)
شارك هذا المقال
حجم الخط
عند تواصلنا مع المصوّر الفلسطيني عطية درويش كان مسافراً إلى مصر لتلقي العلاج إثر إصابته العام الفائت في وجهه بقنبلةٍ غازيّة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي في إحدى "مسيرات العودة".
يقول درويش: "فقدت 80% من بصر عيني اليسرى لكن لا تزال هناك عيني الأخرى لأصور بها".
في جعبة درويش عشر سنوات من العمل في التصوير لصالح عدد من وكالات الأنباء لا يزال يصفها بأنها متواضعة، ليمزج في تجربته رغبته في نقل الحقيقة وإنسانيته مشكّلاً صوراً تحفر في الذاكرة طويلاً.
علاقةُ الفلسطينيين
مع المكانِ
يلتقط درويش لحظات الفرح بمعزل عن الحرب، وكأنّها سعادةٌ مجردة لا تحمل أيّ أحلام أو مخاوف، السعادةُ الصرفة المبنيّة على اللحظة وأدواتها المتاحة دون إثقالها بالواقع المرّ أو الرغبة بالمزيد، فنجد السعادة المطلقة في صورةٍ أطفالٍ يلعبون مع كلبٍ، اللقطة المشغولة في حركات الكلب والتقاطهِ للكرة. ويبدو ربط السعادة بالطبيعة ومكوناتها واضحاً في عمل عطية، ففي صورةٍ أخرى لطفلٍ يركب حماراً ويلوح بيده، ليس الحيوان هنا هو موضوع الفرح بل علاقته مع الإنسان والرابط الذي يتشكل بينهما، بينما نذهب إلى السعادة في أعلى درجاتها حين يخوض أطفالٌ في البحر، أحدهم يركب الحصان بمساعدة والده وأطفال يتحلقون حوله، بهذه
الصورة التي تبدو أقرب إلى ملحمة تشارك بها الطبيعة والموج والكائنات الحية يصل درويش إلى لقطة شبيهة بالتوحد مع السعادة ابتداء من أصغر أسبابها. يقول المصور الفلسطيني: "في كل مكان في غزة توجد السعادة والحياة لكن الحرب غطت عليها، لذلك أذهب إلى تصوير هذه اللحظات".
تُظهِر صور عطية الصلة الأقوى مع فلسطين، وهي صلة العيش والعلاقة مع أرضها ومائها، هذه الصلة لا تتجلى فقط في "مسيرات العودة" أو في مقاومة الاحتلال إنما في علاقة شعبها مع المكان وتواؤمه معه، وخلق ذاته عبر الإمساك بقوة بكلّ العناصر المحيطة وتوظيفها في يومه فيجعلها وسيلة لإظهار فرحه وحيات. يذهب عطية إلى التقاط هذه اللحظات ضمن إطار وكادر حي للغاية، فالطفلة التي تحمل رضيعاً بيديها في مياه البحر تحيلنا إلى التفكير بالآلهات الصغيرة التي توقظ داخلنا حسّ الماء وأصالته التي لا تنتهي، يبدو الماء هو الأبد فيتحول بحر غزة في هذه الصور إلى علاقة مع الخارج الذي مُنِع عن شعب قطاع غزة، وربما يصبح البحر هو العالم بأسره فيدخله الفلسطينيون وكأنهم يوجِدون أنفسهم بطريقة جديدة، بطريقة الخلق والمواجهة، فالبحر أيضاً خطير، لكنهم يتفاعلون معه كما لو أنه أحد أفراد العائلة، هذا البعد الذي يظهر جلياً في صور عطية يحيلنا إلى مفهوم الأرض والانتماء والثبات.
طفلة داخل براد الموتى
يمنحُ عطية لقطاتِ الموت إنسانيته كاملة لتُظْهِر صورهُ الموت الأشمل، المواجهة الحقيقية والأخيرة، لكن ماذا لو كانت هذه المواجهة هي مع طفلة داخل براد الموتى في المستشفى؟ هنا كلّ ما يريده عطية هو إيصال الظلم والقسوة لا غير، لكن حين يجتمع الموت مع الطفلةِ ابنه العام وشهرين نواجه مستوى آخر للموت حيث نعجز عن إبعاده عن الطفولة ونقف مكتوفي الأيدي لا نملك سوى صورةٍ نخبر من خلالها ما يحدث على هذه الأرض، فليس حدث الموت اليوم هو إظهار الجثث وحسب لأنّها باتت كثيرة وموجودة في أي مكان ولا شكّ أن الموت يطغى على وجودنا، هكذا قدم عطية صورة للشهيدة الطفلة صبا أبو عرار وكأنّها نائمة، إنّها اللحظة التي نشكّ فيها إن كانت هذه الطفلة ميتةً حقاً أم نائمة، وربما هذا الشكّ الذي نشعر به هو ما يجعل الصفعة أقوى حين نتأكد أنّها صورة لطفلة ميتة وأن اليد المضمومة والهدوء كله آت من الموت وحسب.
يقول المصور الفلسطيني عن هذه المواجهات لصور الموت: "أنا في النهاية إنسان وأشعر حين
تصويري الموتَ بالألم وبأنه أمر غير طبيعي وبعد مدة أتخيل أن ما حصل مجرد حلم". ويتابع: "أعلم أن صور الجثث والأشلاء هي صور عنيفة ولا تصلح للنشر ولا للعامة، لكن هي جزء من الواقع. لا يُعقل أن تكون الصور لا أخلاقية بينما الأحداث التي ترتبت عليها هذه الصور هي أخلاقية!". من جهة أخرى يود عطية كما كثيرٍ من المصورين الفلسطينيين نقل الحقيقة وإخبار العالم عن فظاعة ما يجري وخصوصاً داخل القطاع لكن ربما تؤدي الصورة دوراً أكبر فحين تغير الصورة حياة طفل بترت قدمه نتيقن تماماً أن الفوتوغراف بات حاجة وصوتاً لأولئك الذين لا يملكون سوى المقاومة والألم، فتلك الصورة التي تَردد عطية في نشرها لطفل بُترت قدمه ساهمت بشكل مباشر في مساعدة الطفل من قبل إحدى المنظمات ليسافر إلى الخارج ويُمنح قدماً اصطناعية.
في النهاية نعلم جيداً أن فاتورة الحقيقة باهظة وتكلفُ أصحابها أجزاءً من ذواتهم وتحدياً لإنسانيتهم وربما تكلف مصوراً كعطية درويش إحدى عينيه، في مقاربة موجعة للثمن الذي قد يدفعه المصورون في القطاع، مقاربة باتت جزءاً من حياة عطية وفاتورة إضافية يدفعها ثمناً لحمله الكاميرا ودفاعه عمن لا يملكون صوتاً.
مناهل السهوي
فوتوغراف
(عطية درويش)
شارك هذا المقال
حجم الخط
عند تواصلنا مع المصوّر الفلسطيني عطية درويش كان مسافراً إلى مصر لتلقي العلاج إثر إصابته العام الفائت في وجهه بقنبلةٍ غازيّة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي في إحدى "مسيرات العودة".
يقول درويش: "فقدت 80% من بصر عيني اليسرى لكن لا تزال هناك عيني الأخرى لأصور بها".
في جعبة درويش عشر سنوات من العمل في التصوير لصالح عدد من وكالات الأنباء لا يزال يصفها بأنها متواضعة، ليمزج في تجربته رغبته في نقل الحقيقة وإنسانيته مشكّلاً صوراً تحفر في الذاكرة طويلاً.
علاقةُ الفلسطينيين
مع المكانِ
يلتقط درويش لحظات الفرح بمعزل عن الحرب، وكأنّها سعادةٌ مجردة لا تحمل أيّ أحلام أو مخاوف، السعادةُ الصرفة المبنيّة على اللحظة وأدواتها المتاحة دون إثقالها بالواقع المرّ أو الرغبة بالمزيد، فنجد السعادة المطلقة في صورةٍ أطفالٍ يلعبون مع كلبٍ، اللقطة المشغولة في حركات الكلب والتقاطهِ للكرة. ويبدو ربط السعادة بالطبيعة ومكوناتها واضحاً في عمل عطية، ففي صورةٍ أخرى لطفلٍ يركب حماراً ويلوح بيده، ليس الحيوان هنا هو موضوع الفرح بل علاقته مع الإنسان والرابط الذي يتشكل بينهما، بينما نذهب إلى السعادة في أعلى درجاتها حين يخوض أطفالٌ في البحر، أحدهم يركب الحصان بمساعدة والده وأطفال يتحلقون حوله، بهذه
"يبدو الماء هو الأبد فيتحول بحر غزة في هذه الصور إلى علاقة مع الخارج الذي مُنِع عن شعب قطاع غزة، وربما يصبح البحر هو العالم بأسره فيدخله الفلسطينيون وكأنهم يوجِدون أنفسهم بطريقة جديدة" |
تُظهِر صور عطية الصلة الأقوى مع فلسطين، وهي صلة العيش والعلاقة مع أرضها ومائها، هذه الصلة لا تتجلى فقط في "مسيرات العودة" أو في مقاومة الاحتلال إنما في علاقة شعبها مع المكان وتواؤمه معه، وخلق ذاته عبر الإمساك بقوة بكلّ العناصر المحيطة وتوظيفها في يومه فيجعلها وسيلة لإظهار فرحه وحيات. يذهب عطية إلى التقاط هذه اللحظات ضمن إطار وكادر حي للغاية، فالطفلة التي تحمل رضيعاً بيديها في مياه البحر تحيلنا إلى التفكير بالآلهات الصغيرة التي توقظ داخلنا حسّ الماء وأصالته التي لا تنتهي، يبدو الماء هو الأبد فيتحول بحر غزة في هذه الصور إلى علاقة مع الخارج الذي مُنِع عن شعب قطاع غزة، وربما يصبح البحر هو العالم بأسره فيدخله الفلسطينيون وكأنهم يوجِدون أنفسهم بطريقة جديدة، بطريقة الخلق والمواجهة، فالبحر أيضاً خطير، لكنهم يتفاعلون معه كما لو أنه أحد أفراد العائلة، هذا البعد الذي يظهر جلياً في صور عطية يحيلنا إلى مفهوم الأرض والانتماء والثبات.
طفلة داخل براد الموتى
يمنحُ عطية لقطاتِ الموت إنسانيته كاملة لتُظْهِر صورهُ الموت الأشمل، المواجهة الحقيقية والأخيرة، لكن ماذا لو كانت هذه المواجهة هي مع طفلة داخل براد الموتى في المستشفى؟ هنا كلّ ما يريده عطية هو إيصال الظلم والقسوة لا غير، لكن حين يجتمع الموت مع الطفلةِ ابنه العام وشهرين نواجه مستوى آخر للموت حيث نعجز عن إبعاده عن الطفولة ونقف مكتوفي الأيدي لا نملك سوى صورةٍ نخبر من خلالها ما يحدث على هذه الأرض، فليس حدث الموت اليوم هو إظهار الجثث وحسب لأنّها باتت كثيرة وموجودة في أي مكان ولا شكّ أن الموت يطغى على وجودنا، هكذا قدم عطية صورة للشهيدة الطفلة صبا أبو عرار وكأنّها نائمة، إنّها اللحظة التي نشكّ فيها إن كانت هذه الطفلة ميتةً حقاً أم نائمة، وربما هذا الشكّ الذي نشعر به هو ما يجعل الصفعة أقوى حين نتأكد أنّها صورة لطفلة ميتة وأن اليد المضمومة والهدوء كله آت من الموت وحسب.
يقول المصور الفلسطيني عن هذه المواجهات لصور الموت: "أنا في النهاية إنسان وأشعر حين
"لا يُعقل أن تكون الصور لا أخلاقية بينما الأحداث التي ترتبت عليها هذه الصور هي أخلاقية!" |
في النهاية نعلم جيداً أن فاتورة الحقيقة باهظة وتكلفُ أصحابها أجزاءً من ذواتهم وتحدياً لإنسانيتهم وربما تكلف مصوراً كعطية درويش إحدى عينيه، في مقاربة موجعة للثمن الذي قد يدفعه المصورون في القطاع، مقاربة باتت جزءاً من حياة عطية وفاتورة إضافية يدفعها ثمناً لحمله الكاميرا ودفاعه عمن لا يملكون صوتاً.