عن ناظم الجعفري.. الفنان البارز الذي اغتاله النسيان
أسعد عرابي
تشكيل
ناظم الجعفري/ أوتوبورتريه (1918 ـ 2015)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتبت في الماضي عن واحد من أبرز الشخصيات التشكيلية التأسيسية في حداثة الفن السوري، وهو عميد كلية الفنوان الجميلة في دمشق، محمود حماد (1923 ـ 1988)م. اخترت هذه المرة معلِّمًا لا يقل عنه تأثيرًا، ابتداء من سيرتي الشخصية، ناظم الجعفري (1918 ـ 2015)م، يتكامل معه، وإن كان الأول يتفوق عليه في الخبرة والثقافة، لأن موهبة الجعفري استثنائية في عموديتها وتخصصها مقارنة بشمولية وتعددية حماد.
يعدُّ الرائد ناظم الجعفري عبقرية انطباعية استثنائية مبكرة، نهضوية، تنويرية مؤسسة في خمسينيات القرن العشرين لأصول الفن السوري، وذلك في الوقت الذي كان فيه رواد الفن المصري (ما بين راغب عياد، ومختار) يحتكرون النهضة التنويرية الغربية منذ أوائل القرن العشرين. يمم الجعفري شطر كلية فنون القاهرة منذ الأربعينيات، في منحة دراسية لوزارة المعارف التي كان يدرس الرسم في إعدادياتها وثانوياتها، وذلك لدراسة للتصوير، بإشراف مؤسس تيار الانطباعية في القاهرة، كامل يوسف. كان تلميذه الجعفري متفوقًا في مسابقة القبول، وخلال سنوات دراسته (حتى تخرجه ما قبل عام 1947م).
وكان أستاذه في دوره يعترف بموهبة الجعفري الاستثنائية في الرسم والتلوين، حتى أنه بزّ أستاذه، إن لم يتفوق عليه باعترافه. كما تفوق على أترابه في المحترفات العربية الشقيقة، على غرار حافظ الدروبي في العراق، وبدايات المناظر الإنطباعية لإهدن، والأرز، التي استهلها صليبا الدويهي في لبنان. ومن الإجحاف مقارنته بالتالي بانطباعيي جيله من السوريين، ابتداء من نصير شورى، وميشيل كرشة، وانتهاء بالناشف، ونشواتي، وقصيباتي، وغيرهم.
وعندما عاد إلى دمشق لم يجد منافسًا له سوى الأستاذ محمود حماد، الذي كان متفوقًا في شموليته الثقافية وحضوره الشخصي. مارس الاثنان، كمبادرة، تصميم الطوابع، ونالا معًا جوائز محلية وعالمية في هذا الميدان.
من حسن حظي أني كنت طالبًا لدى الاثنين. كان الجعفري أستاذي في الرسم والتلوين الزيتي خلال مرحلتي الإعدادي والثانوي، وفي مركز الفنون التشكيلية (التابع لوزارة الثقافة)، وكنت أتردد على محترفة حاملًا لوحاتي (من دون موعد)، لأستنير بنصائحه، في القبو القائم في الحي الذي أسكنه بالقرب "من ساحة السبع بحرات" في مركز العاصمة دمشق.
ثم تأسيس "المعهد العالي للفنون الجميلة" أثناء الوحدة عام 1960م، وكان أساتذته جميعهم مصريين، ما عدا ناظم الجعفري، الذي تسلم مسؤولية قسم التصوير. ابتدأت علاقتي تتمتن مع الأستاذ حماد في ما بعد، وأشرف على مشروع تخرجي عام 1965م، ثم كان له دور في تعييني مدرسًا بعقد، فنشأت علاقة حميمة بيني وبينه حتى عام سفري واستقراري في باريس 1975م.لا يمكن أن نذكر حماد من دون أن نذكر الجعفري، وإلا سنكون شركاء في الظلم الذي ألحق بأهميته خسائر فادحة.
ولد ناظم الجعفري في دمشق عام 1918م، وخلدها في لوحاته، ليصبح المؤرشف البصري لدمشق القديمة، التي دمر عراقتها في الستينيات تنظيم "مشروع إيكوشار" المشبوه. تملك هذه المدينة أهمية خاصة في حياته وفنه، حيث توثق رسومه اليومية أزقتها، وتفاصيل حاراتها المعمرة. يعترض في مقابلاته على الوحش الإسمنتي الذي يبتلع أصالتها كل يوم، ويقول: "رسمت جوامعها وكنائسها وقببها وأسواقها وبيوتها وسقاطات (مغالق) أبوابها، لأني أوثق لأرشيف من أجل حفظها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة". يصوّر مباشرة في وسط الأحياء وجمهرة الأسواق وتدافعها، ومنها لوحة "سوق مدحت باشا" الشهيرة المحفوظة في المتحف الوطني. كان يصرّ، وبعناد، على أن مواجهة واقعية المشهد الحضري بانطباعية بالغة الحيوية والحرارة والحذاقة، وبموهبة لونية متميزة تشع بالضوء المحلي، وبشموس قائظته المتوسطية.
يتفق النقاد على أنه من أغزر الرواد إنتاجًا، يتجاوز عدد لوحاته السبعة آلاف، تغطي بكاملها جدران محترفه، رافضًا أن يبيع حتى رسومه الورقية الصغيرة. تطرح أصالة موهبته الانطباعية الاستثنائية، وتفوق التصاقها بروح وعبق العاصمة، وتمسّك ذاكرته بكل ما هو محلي فيها، سؤالًا شرعيًا حول أسباب إهمال ذكره، وتظليله نقديًّا وإعلاميًا، بعكس معاصريه، من أمثال ميشيل كرشة، ونصير شورى، ومحمود جلال.
لعله من الضروري الاعتراف بأن مزاجه الحاد، ومزاجيته العصبية، شاركتا في أسباب هذا الإهمال، وسوء الفهم والتفاهم مع طلابه وزملائه.
تقع عبقرية نرجسيته المبررة خلف سيرة اللعنة، التي مست مسيرته (المتألقة تقنيًا وروحيًا). شرح لي ذات مرة لوحته "منظر الغوطة" المعلقة على جدار مرسمه بأن شجرة الزيتون بجذعها العملاق تمثل تفوقه رمزيًا. أما الأعشاب والنباتات القزمة الواطئة التي تطوقها فتمثل زملاء الصنعة الهواة والمدعين. إذا كان صحيحًا أنه مثل حماد: "محترف بين الهواة "، فإن الفرق بين الإثنين كان طابع الاستفزاز لدى الأول، والتواضع والحكمة لدى الثاني.
لهذا التعالي وجنون العظمة تاريخ عريق يواكب مسيرة فنه على أصالته. يبتدئ منذ عام 1953م في أعقاب موقفه من صالون الخريف الذي شارك في دورته الأولى (قبل أن ينشأ صالون معرض الربيع في حلب). أشرفت على هذا الصالون وزارة الثقافة، وتجمهرت فيه لوحات أغلب الفنانين المعروفين في ذلك الوقت. نالت لوحته المدهشة الجائزة الأولى باستحقاق وتألق متفوق. تراجعت اللجنة بعد أيام من إعلان النتيجة بسبب عداوة عدد من أعضاء اللجنة للجعفري، وذلك بوضع جائزتها مناصفة مع تمثال مروان قصاب باشي (الذي تغلب عليه صفة الهواية، لأنه لم يكن نحاتًا)، لكن اعتراض فناننا لم يكن يخلو من المجابهة القاسية. رفض الجائزة، وقرر الانقطاع الحاسم عن أي عرض، سواء في صالون الخريف (متحف دمشق)، أو سواه، وعن أي مشاركة مع وزارة الثقافة في نشاطاتها. أستطيع أن أؤكد أن هذا الموقف عزله عن الوسط الفني أكثر من نصف قرن، فاختفى بالطبع ذكره خلال هذه الفترة المديدة.
أنتج الجعفري تربويًا عددًا من الفنانين مصقولي الموهبة، من أبرزهم فؤاد أبو كلام، ووجيه مدور، ونذير نبعة، وفائق دحدوح. لكن علاقاته بالإجمال مع الطلبة كانت مأزومة. ففي الوقت الذي استُبدل فيه الأساتذة المصريون بسوريين متواضعي المستوى، بدأ يظهر تباين صريح بمستوى العلامات، بصفته رئيسًا للقسم، وللجنة التحكيم. لم أكن مثلًا أنا رغم عمق تأثيره عليَّ من طلابه المفضلين، وذلك لسبب بسيط أني في السنة الثانية بدأت بالتعديل الجذري لأسلوبي، متحولًا من الانطباعية والواقعية الأكاديمية إلى تعبيرية حرة، مكتشفًا من رسوم المخطوطات العربية منظور عين الطائر المتعدد مصادر الرؤية والإضاءة. بعكس منظور ألبرتي الشائع الذي يعده الجعفري مقدسًا، وعلى ثنائية الأبعاد المسطحة من دون حجم، كان ذلك مدعاة لتدمير أرقام علاماتي بصيغة تتناقض مع علامات السنة الأولى.
كما كان ذلك مدعاة لغضب الطلبة، وأغلب المدرسين، الذين تظاهروا معًا مطالبين بإعادته إلى ملاك وزارة التربية، وطرده من التدريس في الكلية. قبل هو بنوع من التحدي، وقدم استقالته، فقُبلت خلال نصف ساعة، وهبط فجأة مستوى وظيفته التعليميّة من رئاسة جامعية، إلى دروس الرسم في المرحلة الإعدادية. ثم قرر على إثرها إعلان الطلاق النهائي مع الوسط الفني، والسفر مع كامل لوحاته إلى الولايات المتحدة. كان قرارًا من دون تحضير. عاد بعد أيام خاوي الوفاض، وقد تحطمت إطارات لوحاته، ليلوم حظه العاثر، وليس خيبة حساباته المتسرعة.
مع تراكم انزواءاته، ورفضه البيع، ضاقت به الأحوال المادية، فكان إذا كلفه أحد ببورتريه (رأس نصفي) يتمسك باللوحة في النتيجة ولا يسلمها لصاحبها. وبما أنه كان بارعًا في رسم الوجوه، كانت أغلب اللوحات في أحد معارضه تصور أخته البالغة الجمال.
قرر الجعفري أن يمنح المتحف الوطني كامل ثروة لوحاته مجانًا، والتي لا تقدر بثمن، على أن يخصص لها "صالة متحفية خاصة". لم يصله الرد حتى بعد أشهر طويلة، فاقتناها أحد التجار بمبلغ زهيد (مليون ليرة سورية) بسبب حاجته الماسة للمال. توفي بعد أشهر عام 2015م بصمت مطبق وجحود، ولم يرافق أحد جنازته، وغادر العالم في حداد مديد، وأسدلت ستارة الصمت على فنان استثنائي، وخسر تاريخ الفن السوري واحدًا من أعظم وجوهه تألقًا.
واليوم، لا يعرفه أغلب نقاد وفناني الجيل الراهن. فهو الغائب دومًا عن الذكر والتاريخ، ولكنه حاضر أبدًا، ونحن الغائبون.
***
نذكر في المحترفات العربية عمومًا مثل هذه الثنائيات المتناقضة والمتكاملة، أو المتعاضدة، بين طرفين متباعدين في خصائص أي محترف قطري. وهذه أمثلة تراودني على نظير: محمود حماد - ناظم الجعفري (سورية)؛ جواد سليم - شاكر حسن (العراق)؛ راغب عياد، ومحمود مختار، أو محمود سعيد، وعبد الهادي الجزار (مصر)؛ صليبا الدويهي - سمير الصايغ (لبنان)؛ تيسير بركات، مصطفى الحلاج (فلسطين).. وهكذا.
أسعد عرابي
تشكيل
ناظم الجعفري/ أوتوبورتريه (1918 ـ 2015)
شارك هذا المقال
حجم الخط
كتبت في الماضي عن واحد من أبرز الشخصيات التشكيلية التأسيسية في حداثة الفن السوري، وهو عميد كلية الفنوان الجميلة في دمشق، محمود حماد (1923 ـ 1988)م. اخترت هذه المرة معلِّمًا لا يقل عنه تأثيرًا، ابتداء من سيرتي الشخصية، ناظم الجعفري (1918 ـ 2015)م، يتكامل معه، وإن كان الأول يتفوق عليه في الخبرة والثقافة، لأن موهبة الجعفري استثنائية في عموديتها وتخصصها مقارنة بشمولية وتعددية حماد.
يعدُّ الرائد ناظم الجعفري عبقرية انطباعية استثنائية مبكرة، نهضوية، تنويرية مؤسسة في خمسينيات القرن العشرين لأصول الفن السوري، وذلك في الوقت الذي كان فيه رواد الفن المصري (ما بين راغب عياد، ومختار) يحتكرون النهضة التنويرية الغربية منذ أوائل القرن العشرين. يمم الجعفري شطر كلية فنون القاهرة منذ الأربعينيات، في منحة دراسية لوزارة المعارف التي كان يدرس الرسم في إعدادياتها وثانوياتها، وذلك لدراسة للتصوير، بإشراف مؤسس تيار الانطباعية في القاهرة، كامل يوسف. كان تلميذه الجعفري متفوقًا في مسابقة القبول، وخلال سنوات دراسته (حتى تخرجه ما قبل عام 1947م).
وكان أستاذه في دوره يعترف بموهبة الجعفري الاستثنائية في الرسم والتلوين، حتى أنه بزّ أستاذه، إن لم يتفوق عليه باعترافه. كما تفوق على أترابه في المحترفات العربية الشقيقة، على غرار حافظ الدروبي في العراق، وبدايات المناظر الإنطباعية لإهدن، والأرز، التي استهلها صليبا الدويهي في لبنان. ومن الإجحاف مقارنته بالتالي بانطباعيي جيله من السوريين، ابتداء من نصير شورى، وميشيل كرشة، وانتهاء بالناشف، ونشواتي، وقصيباتي، وغيرهم.
وعندما عاد إلى دمشق لم يجد منافسًا له سوى الأستاذ محمود حماد، الذي كان متفوقًا في شموليته الثقافية وحضوره الشخصي. مارس الاثنان، كمبادرة، تصميم الطوابع، ونالا معًا جوائز محلية وعالمية في هذا الميدان.
من حسن حظي أني كنت طالبًا لدى الاثنين. كان الجعفري أستاذي في الرسم والتلوين الزيتي خلال مرحلتي الإعدادي والثانوي، وفي مركز الفنون التشكيلية (التابع لوزارة الثقافة)، وكنت أتردد على محترفة حاملًا لوحاتي (من دون موعد)، لأستنير بنصائحه، في القبو القائم في الحي الذي أسكنه بالقرب "من ساحة السبع بحرات" في مركز العاصمة دمشق.
"عندما عاد من القاهرة إلى دمشق لم يجد منافسًا له سوى الأستاذ محمود حماد، الذي كان متفوقًا في شموليته الثقافية وحضوره الشخصي" |
ثم تأسيس "المعهد العالي للفنون الجميلة" أثناء الوحدة عام 1960م، وكان أساتذته جميعهم مصريين، ما عدا ناظم الجعفري، الذي تسلم مسؤولية قسم التصوير. ابتدأت علاقتي تتمتن مع الأستاذ حماد في ما بعد، وأشرف على مشروع تخرجي عام 1965م، ثم كان له دور في تعييني مدرسًا بعقد، فنشأت علاقة حميمة بيني وبينه حتى عام سفري واستقراري في باريس 1975م.لا يمكن أن نذكر حماد من دون أن نذكر الجعفري، وإلا سنكون شركاء في الظلم الذي ألحق بأهميته خسائر فادحة.
ولد ناظم الجعفري في دمشق عام 1918م، وخلدها في لوحاته، ليصبح المؤرشف البصري لدمشق القديمة، التي دمر عراقتها في الستينيات تنظيم "مشروع إيكوشار" المشبوه. تملك هذه المدينة أهمية خاصة في حياته وفنه، حيث توثق رسومه اليومية أزقتها، وتفاصيل حاراتها المعمرة. يعترض في مقابلاته على الوحش الإسمنتي الذي يبتلع أصالتها كل يوم، ويقول: "رسمت جوامعها وكنائسها وقببها وأسواقها وبيوتها وسقاطات (مغالق) أبوابها، لأني أوثق لأرشيف من أجل حفظها في ذاكرة الأجيال المتعاقبة". يصوّر مباشرة في وسط الأحياء وجمهرة الأسواق وتدافعها، ومنها لوحة "سوق مدحت باشا" الشهيرة المحفوظة في المتحف الوطني. كان يصرّ، وبعناد، على أن مواجهة واقعية المشهد الحضري بانطباعية بالغة الحيوية والحرارة والحذاقة، وبموهبة لونية متميزة تشع بالضوء المحلي، وبشموس قائظته المتوسطية.
"لا يمكن أن نذكر حماد من دون أن نذكر الجعفري، وإلا سنكون شركاء في الظلم الذي ألحق بأهميته خسائر فادحة" |
يتفق النقاد على أنه من أغزر الرواد إنتاجًا، يتجاوز عدد لوحاته السبعة آلاف، تغطي بكاملها جدران محترفه، رافضًا أن يبيع حتى رسومه الورقية الصغيرة. تطرح أصالة موهبته الانطباعية الاستثنائية، وتفوق التصاقها بروح وعبق العاصمة، وتمسّك ذاكرته بكل ما هو محلي فيها، سؤالًا شرعيًا حول أسباب إهمال ذكره، وتظليله نقديًّا وإعلاميًا، بعكس معاصريه، من أمثال ميشيل كرشة، ونصير شورى، ومحمود جلال.
لعله من الضروري الاعتراف بأن مزاجه الحاد، ومزاجيته العصبية، شاركتا في أسباب هذا الإهمال، وسوء الفهم والتفاهم مع طلابه وزملائه.
تقع عبقرية نرجسيته المبررة خلف سيرة اللعنة، التي مست مسيرته (المتألقة تقنيًا وروحيًا). شرح لي ذات مرة لوحته "منظر الغوطة" المعلقة على جدار مرسمه بأن شجرة الزيتون بجذعها العملاق تمثل تفوقه رمزيًا. أما الأعشاب والنباتات القزمة الواطئة التي تطوقها فتمثل زملاء الصنعة الهواة والمدعين. إذا كان صحيحًا أنه مثل حماد: "محترف بين الهواة "، فإن الفرق بين الإثنين كان طابع الاستفزاز لدى الأول، والتواضع والحكمة لدى الثاني.
لهذا التعالي وجنون العظمة تاريخ عريق يواكب مسيرة فنه على أصالته. يبتدئ منذ عام 1953م في أعقاب موقفه من صالون الخريف الذي شارك في دورته الأولى (قبل أن ينشأ صالون معرض الربيع في حلب). أشرفت على هذا الصالون وزارة الثقافة، وتجمهرت فيه لوحات أغلب الفنانين المعروفين في ذلك الوقت. نالت لوحته المدهشة الجائزة الأولى باستحقاق وتألق متفوق. تراجعت اللجنة بعد أيام من إعلان النتيجة بسبب عداوة عدد من أعضاء اللجنة للجعفري، وذلك بوضع جائزتها مناصفة مع تمثال مروان قصاب باشي (الذي تغلب عليه صفة الهواية، لأنه لم يكن نحاتًا)، لكن اعتراض فناننا لم يكن يخلو من المجابهة القاسية. رفض الجائزة، وقرر الانقطاع الحاسم عن أي عرض، سواء في صالون الخريف (متحف دمشق)، أو سواه، وعن أي مشاركة مع وزارة الثقافة في نشاطاتها. أستطيع أن أؤكد أن هذا الموقف عزله عن الوسط الفني أكثر من نصف قرن، فاختفى بالطبع ذكره خلال هذه الفترة المديدة.
أنتج الجعفري تربويًا عددًا من الفنانين مصقولي الموهبة، من أبرزهم فؤاد أبو كلام، ووجيه مدور، ونذير نبعة، وفائق دحدوح. لكن علاقاته بالإجمال مع الطلبة كانت مأزومة. ففي الوقت الذي استُبدل فيه الأساتذة المصريون بسوريين متواضعي المستوى، بدأ يظهر تباين صريح بمستوى العلامات، بصفته رئيسًا للقسم، وللجنة التحكيم. لم أكن مثلًا أنا رغم عمق تأثيره عليَّ من طلابه المفضلين، وذلك لسبب بسيط أني في السنة الثانية بدأت بالتعديل الجذري لأسلوبي، متحولًا من الانطباعية والواقعية الأكاديمية إلى تعبيرية حرة، مكتشفًا من رسوم المخطوطات العربية منظور عين الطائر المتعدد مصادر الرؤية والإضاءة. بعكس منظور ألبرتي الشائع الذي يعده الجعفري مقدسًا، وعلى ثنائية الأبعاد المسطحة من دون حجم، كان ذلك مدعاة لتدمير أرقام علاماتي بصيغة تتناقض مع علامات السنة الأولى.
"يتجاوز عدد لوحاته السبعة آلاف، كانت تغطي بكاملها جدران محترفه، رافضًا، في مرحلة ما، أن يبيع حتى رسومه الورقية الصغيرة" |
كما كان ذلك مدعاة لغضب الطلبة، وأغلب المدرسين، الذين تظاهروا معًا مطالبين بإعادته إلى ملاك وزارة التربية، وطرده من التدريس في الكلية. قبل هو بنوع من التحدي، وقدم استقالته، فقُبلت خلال نصف ساعة، وهبط فجأة مستوى وظيفته التعليميّة من رئاسة جامعية، إلى دروس الرسم في المرحلة الإعدادية. ثم قرر على إثرها إعلان الطلاق النهائي مع الوسط الفني، والسفر مع كامل لوحاته إلى الولايات المتحدة. كان قرارًا من دون تحضير. عاد بعد أيام خاوي الوفاض، وقد تحطمت إطارات لوحاته، ليلوم حظه العاثر، وليس خيبة حساباته المتسرعة.
مع تراكم انزواءاته، ورفضه البيع، ضاقت به الأحوال المادية، فكان إذا كلفه أحد ببورتريه (رأس نصفي) يتمسك باللوحة في النتيجة ولا يسلمها لصاحبها. وبما أنه كان بارعًا في رسم الوجوه، كانت أغلب اللوحات في أحد معارضه تصور أخته البالغة الجمال.
قرر الجعفري أن يمنح المتحف الوطني كامل ثروة لوحاته مجانًا، والتي لا تقدر بثمن، على أن يخصص لها "صالة متحفية خاصة". لم يصله الرد حتى بعد أشهر طويلة، فاقتناها أحد التجار بمبلغ زهيد (مليون ليرة سورية) بسبب حاجته الماسة للمال. توفي بعد أشهر عام 2015م بصمت مطبق وجحود، ولم يرافق أحد جنازته، وغادر العالم في حداد مديد، وأسدلت ستارة الصمت على فنان استثنائي، وخسر تاريخ الفن السوري واحدًا من أعظم وجوهه تألقًا.
واليوم، لا يعرفه أغلب نقاد وفناني الجيل الراهن. فهو الغائب دومًا عن الذكر والتاريخ، ولكنه حاضر أبدًا، ونحن الغائبون.
***
نذكر في المحترفات العربية عمومًا مثل هذه الثنائيات المتناقضة والمتكاملة، أو المتعاضدة، بين طرفين متباعدين في خصائص أي محترف قطري. وهذه أمثلة تراودني على نظير: محمود حماد - ناظم الجعفري (سورية)؛ جواد سليم - شاكر حسن (العراق)؛ راغب عياد، ومحمود مختار، أو محمود سعيد، وعبد الهادي الجزار (مصر)؛ صليبا الدويهي - سمير الصايغ (لبنان)؛ تيسير بركات، مصطفى الحلاج (فلسطين).. وهكذا.