معرض النحَّات مصطفى علي.. كيف نرسم الصورة ثمَّ نمحوها

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • معرض النحَّات مصطفى علي.. كيف نرسم الصورة ثمَّ نمحوها

    معرض النحَّات مصطفى علي.. كيف نرسم الصورة ثمَّ نمحوها
    أنور محمد
    تشكيل
    مصطفى علي في محترفه في دمشق
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    في حارة اليهود السوريين في دمشق القديمة، المتاخمة لحارة الأمين، حيث منزل الشاعر نزار قباني، وعلى أنقاض حجارتها بعد أن تهدَّمت إثر مغادرة سكَّانها، يقيم الفنان مصطفى علي (1956)، وفي محترفه الذي أعاد تشكيله ورمَّمه بنفسه بما يتوافق مع البيوت الشامية، معرضًا يضم 35 عملًا (اسكتشات) لوجوه أغلبها من الحرب. وجوهٌ كأنَّها مُنتَزَعة من عالم القمع، في حالة شك، ذهول، استغراب، خوف. فلا مقاومة ولا حريَّة، وإن كان النحَّات مصطفى علي في معرضه يحاول أن يستثير نزعة المقاومة في هذه الوجوه التي كما يبدو تعيش قلقًا وجوديًا، وكمن يريد أن يقتلعها من جذورها. وجوه مثقلة بالمرارة، وجوه تنتصب كما رسمها النحَّات واقفةً وإن كانت الحرب الدامية قد حَنَتْها من كثرة ما شدَّتها غريزة الموت إلى الأرض.
    في معرضه هذا يرسم علي صورًا تحتبسُ توترًا دراميًا، وجوهًا تكتم صراخًا من بؤس وشقاء. وجوهًا؛ كاريكترات، اسكتشات لحالاتٍ إنسانية يكشف فيها عن الجانب الكئيب والمأساوي لها وهي تعيش، وهي تعاني من القمع والتسلط، وجوهًا وقد نزعَ عنها الرسَّام الأقنعة، فلا انتقال ولا تحول ولا تناسخ ولا تجليات رمزية، ولا تجسيدات ولا تكشيرات. في المسرح الأقنعة لها دلالات خصيبة، لكنَّها في الاستخدامات الخاصة قد تكتسب، أو تصير ذات صبغة مرعبة. لكنَّ الفنَّان مصطفى علي في هذا المعرض تراه يهدم بناء الخوف، بناء الرعب في الوجوه، يهدم، أو يحاول توصيل هذا الإحساس لزائر معرضه. فالوجوه هناك وجوهٌ في الواقع ربَّما لم يصوِّرها، وجوهُ قادة الحرب، وجوهٌ أكثر وعيًا بانحطاط واهتراء أخلاقها وهي تقودنا إلى هذا الجحيم الاقتصادي والسياسي، وجوهٌ مثقلة وملوَّثة بالخرافات والغيبيات التي تبرِّر لها استعمال العنف، والعنف الممنهج على الناس، فالبشر هم قرابين لها؛ وجوه ذات وجود معوَّق يهدمُ ويدمِّر.
    من معرض مصطفى علي
    "يحاول مصطفى علي أن يستثير نزعة المقاومة في الوجوه التي كما يبدو تعيش قلقًا وجوديًا، كمن يريد أن يقتلعها من جذورها"


    ألوانٌ ورسومٌ لوجوهٍ لا أظن أنَّها مملوءة بالأمل، بل مملوءة باليأس والقلق العصبي، وهي تشربُ كأس السُّم. مَنْ شَرَّبها السمَّ حتى الثمالة؟ الحكاية في هذه الوجوه أنَّ الإنسان في هذه الحرب عدوٌّ للإنسان. ولكنَّها حربٌ مصطنعة، أعداءٌ مصطنعون، أو كانوا يخفون عداءهم تحت وجوههم. النحَّات مصطفى علي في هذا المعرض ينحت، فتبدو ضربات ريشته قاسية وهي تقوم بالحفر على اللوحة، يحفر في وجوه مقموعة، لكنَّها غير مشلولة. عنفٌ ساكنٌ مستقرٌ في الوجوه، عنفٌ مكظومٌ يحفر لنرى خلاياها الإيقاعية، فثمَّة موسيقى في اللون، موسيقى تكشف عن توتر، عن رزم لونية صوتية معًا، لا استرخاء ولا قرار.
    تعبيرية، رسوم تعبيرية في حركة وزمان واقعيين تحيلنا إلى مواجهة بيسكولوجية، رسومٌ، وجوهٌ كما لو أنها فقدت العلاقات الحميمة مع الآخر، فلا صداقة ولا حب. وجوه كما رسمها الفنَّان مصطفى علي منعزلة، ولكنَّها غير عاجزة. ثمَّة بريق في عيونها، تفكيرٌ، هي تُفكِّر. لنرى وهج العيون، انشدادَ، توترَ عضلات الوجه، تشنجات، تقلصات، ظل وضوء، عتمة. خطوط قاسية، إدراك، تفكير، أكثر ما يثيرك في الوجوه أنَّها في لحظة تفكير، وجوه مسكونة بهاجس التحرُّر من الألم، فتتخلَّص من اغترابها وتغييبها. وجوه تمتلك قوَّة الرفض والتمرد رغم بؤسها. النحات علي يقدِّم موقفًا أخلاقيًا من هذه الوجوه، كما لو أنَّها (وجوهه)، وجوه بشرٍ شوَّشتِ الحرب حواسهم، وهو في هذا المعرض يحاول أن يعيد إليها ملكيتها ـ عقلها، كونها وجوها كانت، وما زالت، ذات حضور معرفي ووجودي. حفرٌ وتنقيب في أعماق هذه الكائنات، أعماق ذاتها، لكشف، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى ذلك، عوالمها الخفية، كشف مدى جنونها، وإن لم تجن من هذه الحرب وويلاتها. ربَّما مصطفى علي لم يرسم هذياناتها وهلوساتها، وإن كان يستقصي حركتها؛ حركاتها وهي تنفصل وتتصل بفعل قوَّة وضغط الألم الذي تعيشه. وجوه تريد أن تقلب ولا تقلب، تصل ولا تصل إلى ما يُكاد لها في المجهول، وبالحدس والرؤيا، فتتجاوز ما يعرفه العقل نحو معرفة ما لا يمكن أن يعرفه.
    اسكتشات من المعرض
    "مصطفى علي في هذا المعرض ينحت، فتبدو ضربات ريشته قاسية وهي تقوم بالحفر على اللوحة، يحفر في وجوه مقموعة، لكنَّها غير مشلولة"


    رسومٌ، وجوهٌ، ألوانٌ، وإن كان الظل والضوء يحدِّد ملامح الوجوه التي يرسمها مصطفى علي، فإنَّما ليدفع بالأفكار ـ المعرفة، فتخرج مندفعة، من صندوق القمع، صندوق القامع المستبد نحو حريتها، وأنَّ الرسم تصويرٌ للأحاسيس وليس للأفكار. ثمَّ مَنْ قال إنَّ الأحاسيس ليست كالأفكار. أليست الأحاسيس هي الأفكار قبل أن نرسمها؟ إنَّ تصوير القبح والجمال، أو الخير والشر؛ أَوْ يكون فعل (إبصار) وليس تبصير، أو لا يكون، فنرسم بعين القلب، نرسمُ الأعماقَ وليس السطح؛ سطحَ الصورة حتى لا تمَّحي. إذ ليس من المعقول أن يرسم الفنان الصورة ثمَّ يلقي عليها الحجاب ـ يُحجِّبها، فلا نرى سوى شكلها الشبحي؛ لا نرى الوجه، إذ كيف نرسم الصورة ثمَّ نمحوها؟
    النحات مصطفى علي يرسم صورًا، وجوهًا مشحونة بالمشاعر، بالأحاسيس لأنَّها وجوهٌ وإن نجت من آلام وأهوال الحرب، فإنَّ آلامًا جديدةً في انتظارها؛ آلام ما بعد الحرب.
يعمل...
X