عن النزوح النهضوي للنحت السوري
أسعد عرابي 2
تشكيل
"الجلاد المنخور" لخالد ضوا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة ظاهرة تثير الاهتمام، متمثلة بسيطرة عروض النحت الحداثي المتفوق الخاص بمواهب فنية استثنائية سورية نازحة على الموسم التشكيلي الباريسي أو الفرنسي عمومًا الراهن (شهر حزيران/ يونيو 2022 مـ). وتعكسها أحداث من العروض المتألقة المتزامنة أو المتلاحقة. ففي أمسية العاشر من ذلك الشهر افتتحت ثلاثة عروض بالغة الأهمية للنحت: معرض خالد ضوا في غاليري بانييه (في السان جرمان)، ومعرض ريم يسوف في غاليري كونسيبت 27، وعرض منهل عيسى في محترفه (الباب المفتوح) على مدخل غابات بولونيا بأنغور، تبعهم بعد أيام معرض ماهر بارودي في غاليري خاصة في مدينة فيينا الفرنسية.
عروض متألقة وذلك ضمن وعورة أزمة العرض والتسويق العامة الحادة. أسماء عديدة متمركزة نشاطاتها النحتية في باريس سواء بالعروض الشخصية أو الخارجية العربية أو الأوروبية أو عن طريق وسائط الاتصال الاجتماعي، أو خاصة في المزادات العلنية العامة المعروفة أو الصالونات. بحيث شكلوا جالية فنية بالغة الاحتراف. جميعهم درسوا في "بوزار باريس" أو جامعة السوربون. أغلبهم نازحون بطريقة أو بأخرى إلى عاصمة التشكيل باريس، ومعظمهم يمارس التصوير والرسم مع النحت لسهولة نقله وتسويقه مقارنة بالنحت. من الضروري التعرض لغالبيتهم خاصة النجوم المعروفين اليوم منهم إعلاميًا ونقديًا. قد تكون عظم المحنة التدميرية للحرب الأهلية دفعت هؤلاء باتجاه طوباوية اللجوء إلى أمان الفرانكفونية الفنية، ربما.
خالد ضوا والجلاد المنخور
تعانق غاليري بانييه، عشرين منحوتة برونزية لخالد ضوا (من مواليد سورية 1985 مـ)، وخريج كلية فنونها دمشق، قادمًا من سجنه إلى الملجأ الباريسي منذ 2014 مـ. يحتل المعرض لنجاحه النخبوي فترة الصيف كاملة من 10 حزيران/ يونيو وحتى أواخر آب/ أغسطس من العام الراهن 2022 مـ.
يمثل عقد البرونزيات النحتية تحولات على شخصية أحادية تمثل بيروقراطية السلطة أو الجلاد المترهل المنخور ببثور غثيانية، مبتورًا في قدميه أو ساعديه أو حتى جزًا من رأسه ولحم جسده، هو المتميز بترهله وكرشه النهم الذي لا يفتر عن التهام طعام الضعفاء ولا يشبع من التخمة، رغم أنه منخور بجدري طاعوني، تشبه ثقوبه الدمامل الحبيبية المتقيحة. لا علاج للغرغرينا فيها سوى البتر والجز السادي. شخصية معذبة ومختصة بالتعذيب حتى الموت. يمارس نحاتنا تثقيبها بالمسامير الفولاذية والمطرقة الشديدة البأس. يعمل ساعات وساعات في نخر جلد الشيطان الشبيح. تعادل هذه التعذيبات المجازية عنف القهر الذي عانى منه مع تجربة السجن.
يريم على مسخ هذه الشخصية صمت مريب يشبه السكون الذي يسبق العاصفة. هو عالم تختلط فيه الأحياء بالأموات (كما هي في أقاصيص زكريا تامر)، يستسلم لنهش النمل قبل دفنه محافظًا على تنبّه نظراته التي تشهد تهافته الجسدي المشوه، بحيث تتغلغل البشاعة في جزيئاته الغائرة التي تحمل وزر جرائمه التعسفية، كما يقول جبران خليل جبران "وقاتل النفس مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر".
علينا استدراك شهرته قبل المعرض بسبب مكافأته باختيار تمثاله العملاق ليعرض بالقرب من مركز بومبيدو في ساحته العامة، ثم ترحاب الصالة النخبوية باستقبال أعماله لعدة أشهر، ناهيك عن طلبات تكليفه بالنصب، لعله اعتراف صريح بموهبته، وتجربته التراجيدية العمودية.
محمد عمران وعدمية الصمت المستديم
لا يمكن مقارنة موهبة خالد إلا بتوأمه محمد عمران، أكبر من خالد، من مواليد 1979 بدمشق ودرس في الكلية قبل سفره عام 2014 مـ. هو الذي ينازعه نفس التفوق والقدرة النحتية الاستثنائية، تجمعهما نفس الثقافة رغم اختلافهما المتمايز أسلوبيًا، ونزوح مشترك إلى طوباوية النحت الفرانكفوني انطلاقًا من إشراف نفس المعلم الموهوب هناك، د. فؤاد دحدوح.
نعثر على الحدود المشتركة النوعية في معرض نحت محمد عمران عام 2017 في غاليري أوروبيا - باريس تحت عنوان "انتظار": حشود مقزمة مصفوفة بصيغة شبه متماثلة ولكنها متحولة في انسلاخها عن مجتمعها الإحباطي، هيئات تكعيبية عصابية مقنعة بنظرات ليلية يريم على خوائها صمت مَن على رأسهم الطير. وارتباط التشريح البشري المتحد بتكعيبية الكرسي السلطوي بنائيًا. لا تشي بأي معنى أو معاناة، يجمعها هاجس الانتظار غير المتلهف. في الوقت الذي يعلن فيه تمثال خالد إدانته للفرد الجلاد رمز السلطة، يؤمن عمران بالعكس بقوة الجمهور التعددي المتراص والمختلف في آن واحد ضمن حدود حقه الديمقراطي. قد نجد ذلك أشد وضوحًا في رسوم محمد الكرافيكية التي لا تقل بلاغة وموهبة عن نحته، ينجز تاريخه المهني كتبًا اعتراضية واقتصر في معرضه الأخير قبل أسابيع قليلة في الكويت على اللوحة التصويرية الكرافيكية، يتحرك الأشخاص في الفراغ بشتى القياسات والاتجاهات ضمن منظور شمولي بالغ الحداثة. هو نحات - مصور بما يثمر هذا الانحياز من توليف بعيد عن أحادية خالد التي حاولنا الإمساك بعزلتها الأخلاقية. [لعل أحد أبرز معارضه الذي أقيم في بيروت مع عدي الزعبي بعنوان: "جمهرة ليل كموج البحر". وكذلك معرض 2017 مـ بعنوان جمهرة].
أغنام ماهر البارودي.. ذبائح ودهمائية
معرض ماهر البارودي التراجيدي الراهن من النحت والتصوير والرسم متقدم عدة أيام عن نظائره الثلاثة وذلك في إحدى صالات مدينة فيينا الفرنسية (تيست دوبيللي)، قدم إلى فرنسا قبل المحنة (قبل البقية) لأنه أكبرهم، مولود عام 1955 مـ بدمشق ولكنه درس في نفس البوزار وقبله في نفس الكلية ولكن قبل القيامة الشامية التي لم تبق ولم تذر. ابتدأ الاعتراف به منذ أن عين مدرسًا للنحت في بوزار مدينة ليون عام 1980 مـ. تخصص نحته بمجازية أضاحي الخراف البيضاء بالجص الأبيض. ينحرها قبل تقطيع أوصالها وأجزاء من جسدها المسالم، مع حرصه بدوره على الإبقاء على ملامح التنبه واليقظة والمراقبة المستكينة لفظائع تقطيع جثتها وسلخها (كما هي مستلهمة من بعض لوحات فرانشيسكو غويا)، إشارة مجازية إلى مفهوم القطيع المسير إلى المسالخ وإلى حتفه مذعنا دون مقاومة. قد تجنح رسومه الكرافيكية باتجاه الإدانة المباشرة لبورتريهات "العسكرتاريا" وأوسمتهم الساخرة وفسادهم كما هي لدى التعبيري الألماني جورج غروز. يملك حرية في الرسم والذاكرة التشريحية تتفوق على كل نظائرها، لذلك فإن قوة تميزه مزدوجة، ما بين موهبته الوصفية الأكاديمية وعمق تعبيريته المأساوية الاعتراضية المأزومة.
فادي اليازجي والبارولييف المشوي
إذا كان هذا الفنان متمسكًا بمحترفه الدمشقي في حي القصاع فإن أغلب عروضه وعلاقاته خارجية أوروبية وخاصة باريسية. نجده يعرض مثلًا مع غاليري كلود لومان في باريس ومشاركًا بجناح خاص (قبل ثلاث دورات) في صالون شهير يدعى "آرت باريس - آرت فير" مما يؤكد أن حالته ميسورة ماديًا تجنبه مشاكل التسويق إلا في المزادات الكبرى مثل كريستيس ودروو وسواهما. وفي الصالون المذكور يعرض بمستوى بالغ الأصالة آخر منحوتاته البرونزية التي حصد بسببها جائزة النحت الكبرى 2017 مـ، هو إذًا اسم معروف في فرنسا أكثر من سورية، هو من أبرز مبدعي البارولييف الصلصالي من النحت البارز المشوي، يمارس عبثه البريء والتلقائي باستدعاء تفاصيل سيرة المسيحية المشرقية المحلية (السوريانية) وبخيال تشكيلي بالطين القدسي مادة الأرض، وبتعبير مباشر ملخص وبليغ وسردي مما يجعل قياسات هذه اللوحات ممتدة أفقيًا. هو فنان تعددي في الوسائط والمواد والأنواع، من السيراميك إلى التصوير على رقائق الخبز والرسم على القماش الشعبي وشتى أنواع النحت مما جعله أحد المعلمين الكبار في نحت ما بعد الحداثة.
منهل عيسى من التصوير إلى ذروة النحت
تسارعت نجاحات هذا الفنان مع تحوله المتدرج من التصوير (الذي درسه في كلية فنون دمشق قبل أن يستقر في باريس منذ عام 2000 مـ.) إلى النحت المتطرف في حدة تعبيره ومواده ما بعد الحداثية. تميزت لوحاته العملاقة بقزحية لونية تقطعها تبصيمات جنازير الدبابات بأوزانها الثقيلة. ثم انتقلت هذه الهمجية المثيرة إلى منحوتاته المعدنية الأخاذة، يلملم شظاياها (مثل سيزار وبيكاسو) باللحام الناري ويلصق شظاياها من بقايا المستودعات الآلية العامة، ثم تتمفصل لتشكل رؤوسًا وأقنعة متفحمة مشرذمة بأثلام وأدوات اغتصابية، قبل أن يعلقها في الفراغ مثل جيفة مشوهة بالكدمات والصدمات والصفعات والمحق والسحق، نتف وشظايا من رأس بشري تحول إلى خوذة حربية معدنية مثل أقنعة الساموراي وفرسان هولاكو. ناهيك عن حيواناته المتسارعة المتحولة في أثقالها المتمفصلة معدنيًا مثل الحصان وسواه.
يعمل في النحت والتصوير في محترفه الباريسي مخصصًا القاعة الرئيسية لتدريس الرسم عن موديل. يعمل بين باريس ومدينة آنجي التي تعتبره الرمز النموذجي للنحت خاصة وأنه احتكر عدة جوائز من صالونها الرسمي على شجاعة مواده النحتية ما بعد الحداثية. يعرض في المدينتين بما في ذلك معرضه الأخير في محترفه الباريسي منذ العاشر من حزيران/ يونيو.
رندة المداح وعمالقة خيال الظل
مولودة في مجدل عنجر في الجولان المحتل عام 1985 مـ. اعترفت فرنسا بموهبتها الاستثنائية وذلك بمكافئتها بتخصيص محترف لها في "المدينة العالمية للفنون". أقامت فيها منذ أشهر معرضًا لا ينسى.
تتميز استهلالات تجربتها بنبش هيئات نصبية لأوثان ما قبل الإسلام، مستلهمة ما بقي من منحوتات الآلهة القحطانية واليمنية المرافقة للمعابد الوثنية القديمة. ثم وهو الأهم تقمص هذه الأوثان لآلية تحريك عرائس خيال الظل التراثية، مستبدلة الخيطان بالحبال والعرائس بتماثيل عملاقة ومسرح الأراجوز بمسرح مترامي الأطراف يسمح لطقوسها بالمدى المكاني الرحب الذي تحتاجه. لعل نصبها هذه أِشد أصالة من نبش بعض الفنانين من سابقيها عن الأصول الكنعانية - الفينيقية، كرحم مجازي لترامي زمان الثقافة الفلسطينية.
تستكمل بحثها بمواد عملية للأسفار والنقل والعرض والإنجاز وهي دفاتر البورتفوليو التي تجرب نفس الأساطير في صفحاتها بطريقة أكثر شمولية وتحرر من أسلبة الموضوع السابق. كما هو معرضها المزدوج الأخير في المدينة العالمية للفنون وفي بوزار باريس.
صفاء الست وروبوهات خيال الظل المعدنية
لا يناظر الموهبة الاستثنائية لرندة المداح في الداخل إلا تجربة صفاء الست، لولا معارضها في بيروت لما عرفناها، ابتداء من عام 2015 في غاليري أون 56 في الجميزة، تخرج من أتون المحنة المحلية وطزاجة ضحاياها المجهولي الهوية وغروب لغة الفن والسلام، لتعرض صدمة نحت المعادن والموضوعات الهمجية إلى أن فجرت قنبلة معرضها البركاني عام 2017 مـ الذي اجتاحت به صالات فنون دار النمر للفن والثقافة في بيروت الحديثة مقابل "صالة عرض أيام". من محاسن الصدف أن المؤسسة هذه قدّمت في نفس التاريخ معرضًا تكريميًا لي بعد عشر سنوات من التعاون، وتوقف إثرها أي نشاط معهم. كنت مشغولًا بقرار قطع علاقتي مع عملي معهم وفوجئت بمعرضها المثير، حتى شغلني عن معرضي ولم أتمكن من الكتابة عنها، وها هي الفرصة اليوم لأعوض هذا التقصير. معرضها ببساطة محاولات لنحت الموت فعنوانه: "الموت يسكن قريبًا مني". يقال عن منحوتاتها المعدنية: نسمع فيها جنازير الدبابات وصليل السيوف وذبح مجهولي الهوية في مهب الحديد. خرجت هياكلها المعدنية من طزاجة القيامة الشامية ومنجل الحرب الأهلية التي لم تبق ولم تذر من بشر وحجر، استخدمت مجازًا نخبويًا ما يرجع بالمتفرج إلى خمسة وستين مليون عام إلى الوراء: تاريخ أول قيامة تشبه قيامة الشام، وذلك باصطدام الأستروييد الفلكي بالأرض، وإفناء كائنات الديناصور بأجمعها في العصر الجيراسي، ليشتمل المعرض على فظائع معدنية لهياكل كائنات هذه المصيبة الكوكبية العامة، ناهيك عن عرض رفات الموتى المغتالين في أكياس قيامية من الأقمشة، معرض لا ينسى، بعلو تقنيته من تلحيم وتلسين وتمفصل متوحش في المعادن، والصخب الروحي الذي يثيره ضجيج هذه الخردة والبقايا التي لا تنتسب إلا إلى زمن الحروب والانتحار الجماعي.
تنحت مؤخرًا عرائس معدنية تحمل بصمتها المتميزة نحتيًا أِشبه بروبوهات حرب مستقبلية تشي بتراث عرائس خيال الظل (الأراجوز). ثم حجبتها أحداث (الانفجار مثلًا) المشوشة في لبنان، ولا نطلع على أعمالها إلا في وسائط الاتصال الاجتماعي (الإنستغرام). ننتظر انتقال نشاطها إلى الأزمة الأوروبية لنشهد وحوشها المعدنية عن قرب.
علاء أبو شاهين وحمار الحكيم
أخص بالذكر في النهاية فنانًا موهوبًا هو المعلم النحات والمصور المعروف علاء أبو شاهين. عملنا سوية في غاليري صفير المحترفة في حي صالات العرض السان جرمان. عُرف في حينه بمنحوتاته البرونزية الصغيرة التي تمثل غالبًا موتيف الحمار الساخر، سميته حمار الحكيم إحالة إلى هزليات توفيق الحكيم. أما تصويره الراهن لبورتريهات طفولية فتعتمد على نحت الملصقات الورقية المقزحة باللون، والمشظاة بطريقة تهكمية ساخرة عدمية.
ريم يسوف والمشيمة المجهرية
حضرت خلال أمسية العاشر من حزيران/ يونيو افتتاح ثلاثة معارض سورية للنحت لأول مرة في باريس، منهل عيسى وخالد ضوا وريم يسوف. حضر معرض الأخيرة كل من محمد عمران وفادي يازجي (قادمًا من دمشق ولندن) أما معرض ماهر بارودي فهو بعيد عن باريس. هو معرض النحت الأول لريم يسوف فقد تحولت من التصوير إلى النحت لأول مرة وبصيغة تلقائية، عرضت على جدار كامل في صالون أر باري - أرفيير قبل أيام غاليري Arton 56 th تحولات تصويرية على وجه طفولي.
يحمل معرضها الراهن عنوان: "عبور" في غاليري "كونسيبت 27". توصلت بالتوليف بين التصوير والنحت في عرضها المتألق ما بعد الحداثي، إلى كائنات مشيمية صدفوية عضوية معلقة في الفراغ، مثبتة على منصات من التاريخ الطبيعي. ملصقات تبتدئ من لطخة صدفوية بالألوان الزيتية، وتنتهي إلى تراكم نافر من الملصقات المتراشحة الشفافة بما فيها رقائق الشبك المألوف لديها. خامات تناظر برهافة تماسكها أجنحة الفراشات المصبّرة. هو كل ما بقي من أسراب طيورها المهاجرة (من سنونو إلى نورس) وأطفالها النازحة المشيمية داخل فراغي ثلاثي الأبعاد مستلهم أساسًا من مسرح عرائس خيال الظل الشعبي.
* * *
من الضروري في الختام استدراك أسماء معلمين موهوبين خارج القطر، يحضرني منهم اثنان المعلم الأكبر عاصم الباشا بطزاجة محفوراته والبورتريه التعبيري الحاد، مقيم في إسبانيا، والثاني النحات والمصور زهير دباغ الذي تحول نشاطه من مدينته المدمرة حلب إلى صالات بيروت وباريس. وتحول من النحت إلى التصوير ضمن شخصيته المتميزة الأصيلة.
كما يحضرني معرض مدهش لجيل غض اجتمع في صالة النحات مصطفى علي (دمشق) تحت عنوان "المنحوتة الصغيرة".
وأحببت في الختام أن أتدارك اسمين مجيدين هما لطفي رمحين وقد تميّز بنصبه المعدنية المسلولة والنحيلة مثل السيف الدمشقي، لا أعرف إذا كان محترفه في سورية أو في فرنسا أو الاثنين معًا، وكذلك نور عسلية التي عرفت قبل سنوات باحترافها لتمفصل العناصر النحتية المجهزة بطريقة موهوبة، وكنت قد كتبت دراسة عن تجربتها نشرت في "ضفة ثالثة" بمناسبة بينالي النحت، ولكن ومنذ سنوات استبدلت واسطة النحت بوسائط مفاهيمية حرة، لا أدري هل لا زالت تعتبر عملها نحتًا أم مفاهيميًا؟
وثمة أسماء عديدة موهوبة غضة الأدوات، تعكس تراجيدية الأحوال العامة، ولكني لا أعرفها كفاية بسبب إقامتي البعيدة منذ عقود. وعذرا للأسماء الخارجية التي سقطت من الذاكرة.
أسعد عرابي 2
تشكيل
"الجلاد المنخور" لخالد ضوا
شارك هذا المقال
حجم الخط
ثمة ظاهرة تثير الاهتمام، متمثلة بسيطرة عروض النحت الحداثي المتفوق الخاص بمواهب فنية استثنائية سورية نازحة على الموسم التشكيلي الباريسي أو الفرنسي عمومًا الراهن (شهر حزيران/ يونيو 2022 مـ). وتعكسها أحداث من العروض المتألقة المتزامنة أو المتلاحقة. ففي أمسية العاشر من ذلك الشهر افتتحت ثلاثة عروض بالغة الأهمية للنحت: معرض خالد ضوا في غاليري بانييه (في السان جرمان)، ومعرض ريم يسوف في غاليري كونسيبت 27، وعرض منهل عيسى في محترفه (الباب المفتوح) على مدخل غابات بولونيا بأنغور، تبعهم بعد أيام معرض ماهر بارودي في غاليري خاصة في مدينة فيينا الفرنسية.
عروض متألقة وذلك ضمن وعورة أزمة العرض والتسويق العامة الحادة. أسماء عديدة متمركزة نشاطاتها النحتية في باريس سواء بالعروض الشخصية أو الخارجية العربية أو الأوروبية أو عن طريق وسائط الاتصال الاجتماعي، أو خاصة في المزادات العلنية العامة المعروفة أو الصالونات. بحيث شكلوا جالية فنية بالغة الاحتراف. جميعهم درسوا في "بوزار باريس" أو جامعة السوربون. أغلبهم نازحون بطريقة أو بأخرى إلى عاصمة التشكيل باريس، ومعظمهم يمارس التصوير والرسم مع النحت لسهولة نقله وتسويقه مقارنة بالنحت. من الضروري التعرض لغالبيتهم خاصة النجوم المعروفين اليوم منهم إعلاميًا ونقديًا. قد تكون عظم المحنة التدميرية للحرب الأهلية دفعت هؤلاء باتجاه طوباوية اللجوء إلى أمان الفرانكفونية الفنية، ربما.
"علينا استدراك شهرة خالد ضوا قبل المعرض بسبب مكافأته باختيار تمثاله العملاق ليعرض بالقرب من مركز بومبيدو في ساحته العامة، ثم ترحاب الصالة النخبوية باستقبال أعماله لعدة أشهر" |
تعانق غاليري بانييه، عشرين منحوتة برونزية لخالد ضوا (من مواليد سورية 1985 مـ)، وخريج كلية فنونها دمشق، قادمًا من سجنه إلى الملجأ الباريسي منذ 2014 مـ. يحتل المعرض لنجاحه النخبوي فترة الصيف كاملة من 10 حزيران/ يونيو وحتى أواخر آب/ أغسطس من العام الراهن 2022 مـ.
يمثل عقد البرونزيات النحتية تحولات على شخصية أحادية تمثل بيروقراطية السلطة أو الجلاد المترهل المنخور ببثور غثيانية، مبتورًا في قدميه أو ساعديه أو حتى جزًا من رأسه ولحم جسده، هو المتميز بترهله وكرشه النهم الذي لا يفتر عن التهام طعام الضعفاء ولا يشبع من التخمة، رغم أنه منخور بجدري طاعوني، تشبه ثقوبه الدمامل الحبيبية المتقيحة. لا علاج للغرغرينا فيها سوى البتر والجز السادي. شخصية معذبة ومختصة بالتعذيب حتى الموت. يمارس نحاتنا تثقيبها بالمسامير الفولاذية والمطرقة الشديدة البأس. يعمل ساعات وساعات في نخر جلد الشيطان الشبيح. تعادل هذه التعذيبات المجازية عنف القهر الذي عانى منه مع تجربة السجن.
يريم على مسخ هذه الشخصية صمت مريب يشبه السكون الذي يسبق العاصفة. هو عالم تختلط فيه الأحياء بالأموات (كما هي في أقاصيص زكريا تامر)، يستسلم لنهش النمل قبل دفنه محافظًا على تنبّه نظراته التي تشهد تهافته الجسدي المشوه، بحيث تتغلغل البشاعة في جزيئاته الغائرة التي تحمل وزر جرائمه التعسفية، كما يقول جبران خليل جبران "وقاتل النفس مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر".
علينا استدراك شهرته قبل المعرض بسبب مكافأته باختيار تمثاله العملاق ليعرض بالقرب من مركز بومبيدو في ساحته العامة، ثم ترحاب الصالة النخبوية باستقبال أعماله لعدة أشهر، ناهيك عن طلبات تكليفه بالنصب، لعله اعتراف صريح بموهبته، وتجربته التراجيدية العمودية.
محمد عمران وعدمية الصمت المستديم
لا يمكن مقارنة موهبة خالد إلا بتوأمه محمد عمران، أكبر من خالد، من مواليد 1979 بدمشق ودرس في الكلية قبل سفره عام 2014 مـ. هو الذي ينازعه نفس التفوق والقدرة النحتية الاستثنائية، تجمعهما نفس الثقافة رغم اختلافهما المتمايز أسلوبيًا، ونزوح مشترك إلى طوباوية النحت الفرانكفوني انطلاقًا من إشراف نفس المعلم الموهوب هناك، د. فؤاد دحدوح.
نعثر على الحدود المشتركة النوعية في معرض نحت محمد عمران عام 2017 في غاليري أوروبيا - باريس تحت عنوان "انتظار": حشود مقزمة مصفوفة بصيغة شبه متماثلة ولكنها متحولة في انسلاخها عن مجتمعها الإحباطي، هيئات تكعيبية عصابية مقنعة بنظرات ليلية يريم على خوائها صمت مَن على رأسهم الطير. وارتباط التشريح البشري المتحد بتكعيبية الكرسي السلطوي بنائيًا. لا تشي بأي معنى أو معاناة، يجمعها هاجس الانتظار غير المتلهف. في الوقت الذي يعلن فيه تمثال خالد إدانته للفرد الجلاد رمز السلطة، يؤمن عمران بالعكس بقوة الجمهور التعددي المتراص والمختلف في آن واحد ضمن حدود حقه الديمقراطي. قد نجد ذلك أشد وضوحًا في رسوم محمد الكرافيكية التي لا تقل بلاغة وموهبة عن نحته، ينجز تاريخه المهني كتبًا اعتراضية واقتصر في معرضه الأخير قبل أسابيع قليلة في الكويت على اللوحة التصويرية الكرافيكية، يتحرك الأشخاص في الفراغ بشتى القياسات والاتجاهات ضمن منظور شمولي بالغ الحداثة. هو نحات - مصور بما يثمر هذا الانحياز من توليف بعيد عن أحادية خالد التي حاولنا الإمساك بعزلتها الأخلاقية. [لعل أحد أبرز معارضه الذي أقيم في بيروت مع عدي الزعبي بعنوان: "جمهرة ليل كموج البحر". وكذلك معرض 2017 مـ بعنوان جمهرة].
"في الوقت الذي يعلن فيه تمثال خالد إدانته للفرد الجلاد رمز السلطة، يؤمن عمران بالعكس بقوة الجمهور التعددي المتراص والمختلف في آن واحد ضمن حدود حقه الديمقراطي" |
معرض ماهر البارودي التراجيدي الراهن من النحت والتصوير والرسم متقدم عدة أيام عن نظائره الثلاثة وذلك في إحدى صالات مدينة فيينا الفرنسية (تيست دوبيللي)، قدم إلى فرنسا قبل المحنة (قبل البقية) لأنه أكبرهم، مولود عام 1955 مـ بدمشق ولكنه درس في نفس البوزار وقبله في نفس الكلية ولكن قبل القيامة الشامية التي لم تبق ولم تذر. ابتدأ الاعتراف به منذ أن عين مدرسًا للنحت في بوزار مدينة ليون عام 1980 مـ. تخصص نحته بمجازية أضاحي الخراف البيضاء بالجص الأبيض. ينحرها قبل تقطيع أوصالها وأجزاء من جسدها المسالم، مع حرصه بدوره على الإبقاء على ملامح التنبه واليقظة والمراقبة المستكينة لفظائع تقطيع جثتها وسلخها (كما هي مستلهمة من بعض لوحات فرانشيسكو غويا)، إشارة مجازية إلى مفهوم القطيع المسير إلى المسالخ وإلى حتفه مذعنا دون مقاومة. قد تجنح رسومه الكرافيكية باتجاه الإدانة المباشرة لبورتريهات "العسكرتاريا" وأوسمتهم الساخرة وفسادهم كما هي لدى التعبيري الألماني جورج غروز. يملك حرية في الرسم والذاكرة التشريحية تتفوق على كل نظائرها، لذلك فإن قوة تميزه مزدوجة، ما بين موهبته الوصفية الأكاديمية وعمق تعبيريته المأساوية الاعتراضية المأزومة.
فادي اليازجي والبارولييف المشوي
إذا كان هذا الفنان متمسكًا بمحترفه الدمشقي في حي القصاع فإن أغلب عروضه وعلاقاته خارجية أوروبية وخاصة باريسية. نجده يعرض مثلًا مع غاليري كلود لومان في باريس ومشاركًا بجناح خاص (قبل ثلاث دورات) في صالون شهير يدعى "آرت باريس - آرت فير" مما يؤكد أن حالته ميسورة ماديًا تجنبه مشاكل التسويق إلا في المزادات الكبرى مثل كريستيس ودروو وسواهما. وفي الصالون المذكور يعرض بمستوى بالغ الأصالة آخر منحوتاته البرونزية التي حصد بسببها جائزة النحت الكبرى 2017 مـ، هو إذًا اسم معروف في فرنسا أكثر من سورية، هو من أبرز مبدعي البارولييف الصلصالي من النحت البارز المشوي، يمارس عبثه البريء والتلقائي باستدعاء تفاصيل سيرة المسيحية المشرقية المحلية (السوريانية) وبخيال تشكيلي بالطين القدسي مادة الأرض، وبتعبير مباشر ملخص وبليغ وسردي مما يجعل قياسات هذه اللوحات ممتدة أفقيًا. هو فنان تعددي في الوسائط والمواد والأنواع، من السيراميك إلى التصوير على رقائق الخبز والرسم على القماش الشعبي وشتى أنواع النحت مما جعله أحد المعلمين الكبار في نحت ما بعد الحداثة.
"تخصص نحت ماهر البارودي بمجازية أضاحي الخراف البيضاء بالجص الأبيض. ينحرها قبل تقطيع أوصالها وأجزاء من جسدها المسالم، مع حرصه بدوره على الإبقاء على ملامح التنبه واليقظة والمراقبة المستكينة لفظائع تقطيع جثتها وسلخها" |
تسارعت نجاحات هذا الفنان مع تحوله المتدرج من التصوير (الذي درسه في كلية فنون دمشق قبل أن يستقر في باريس منذ عام 2000 مـ.) إلى النحت المتطرف في حدة تعبيره ومواده ما بعد الحداثية. تميزت لوحاته العملاقة بقزحية لونية تقطعها تبصيمات جنازير الدبابات بأوزانها الثقيلة. ثم انتقلت هذه الهمجية المثيرة إلى منحوتاته المعدنية الأخاذة، يلملم شظاياها (مثل سيزار وبيكاسو) باللحام الناري ويلصق شظاياها من بقايا المستودعات الآلية العامة، ثم تتمفصل لتشكل رؤوسًا وأقنعة متفحمة مشرذمة بأثلام وأدوات اغتصابية، قبل أن يعلقها في الفراغ مثل جيفة مشوهة بالكدمات والصدمات والصفعات والمحق والسحق، نتف وشظايا من رأس بشري تحول إلى خوذة حربية معدنية مثل أقنعة الساموراي وفرسان هولاكو. ناهيك عن حيواناته المتسارعة المتحولة في أثقالها المتمفصلة معدنيًا مثل الحصان وسواه.
يعمل في النحت والتصوير في محترفه الباريسي مخصصًا القاعة الرئيسية لتدريس الرسم عن موديل. يعمل بين باريس ومدينة آنجي التي تعتبره الرمز النموذجي للنحت خاصة وأنه احتكر عدة جوائز من صالونها الرسمي على شجاعة مواده النحتية ما بعد الحداثية. يعرض في المدينتين بما في ذلك معرضه الأخير في محترفه الباريسي منذ العاشر من حزيران/ يونيو.
رندة المداح وعمالقة خيال الظل
مولودة في مجدل عنجر في الجولان المحتل عام 1985 مـ. اعترفت فرنسا بموهبتها الاستثنائية وذلك بمكافئتها بتخصيص محترف لها في "المدينة العالمية للفنون". أقامت فيها منذ أشهر معرضًا لا ينسى.
تتميز استهلالات تجربتها بنبش هيئات نصبية لأوثان ما قبل الإسلام، مستلهمة ما بقي من منحوتات الآلهة القحطانية واليمنية المرافقة للمعابد الوثنية القديمة. ثم وهو الأهم تقمص هذه الأوثان لآلية تحريك عرائس خيال الظل التراثية، مستبدلة الخيطان بالحبال والعرائس بتماثيل عملاقة ومسرح الأراجوز بمسرح مترامي الأطراف يسمح لطقوسها بالمدى المكاني الرحب الذي تحتاجه. لعل نصبها هذه أِشد أصالة من نبش بعض الفنانين من سابقيها عن الأصول الكنعانية - الفينيقية، كرحم مجازي لترامي زمان الثقافة الفلسطينية.
تستكمل بحثها بمواد عملية للأسفار والنقل والعرض والإنجاز وهي دفاتر البورتفوليو التي تجرب نفس الأساطير في صفحاتها بطريقة أكثر شمولية وتحرر من أسلبة الموضوع السابق. كما هو معرضها المزدوج الأخير في المدينة العالمية للفنون وفي بوزار باريس.
"لا يناظر الموهبة الاستثنائية لرندة المداح في الداخل إلا تجربة صفاء الست، لولا معارضها في بيروت لما عرفناها، ابتداء من عام 2015 في غاليري أون 56 في الجميزة، تخرج من أتون المحنة المحلية وطزاجة ضحاياها المجهولي الهوية وغروب لغة الفن والسلام، لتعرض صدمة نحت المعادن والموضوعات الهمجية" |
لا يناظر الموهبة الاستثنائية لرندة المداح في الداخل إلا تجربة صفاء الست، لولا معارضها في بيروت لما عرفناها، ابتداء من عام 2015 في غاليري أون 56 في الجميزة، تخرج من أتون المحنة المحلية وطزاجة ضحاياها المجهولي الهوية وغروب لغة الفن والسلام، لتعرض صدمة نحت المعادن والموضوعات الهمجية إلى أن فجرت قنبلة معرضها البركاني عام 2017 مـ الذي اجتاحت به صالات فنون دار النمر للفن والثقافة في بيروت الحديثة مقابل "صالة عرض أيام". من محاسن الصدف أن المؤسسة هذه قدّمت في نفس التاريخ معرضًا تكريميًا لي بعد عشر سنوات من التعاون، وتوقف إثرها أي نشاط معهم. كنت مشغولًا بقرار قطع علاقتي مع عملي معهم وفوجئت بمعرضها المثير، حتى شغلني عن معرضي ولم أتمكن من الكتابة عنها، وها هي الفرصة اليوم لأعوض هذا التقصير. معرضها ببساطة محاولات لنحت الموت فعنوانه: "الموت يسكن قريبًا مني". يقال عن منحوتاتها المعدنية: نسمع فيها جنازير الدبابات وصليل السيوف وذبح مجهولي الهوية في مهب الحديد. خرجت هياكلها المعدنية من طزاجة القيامة الشامية ومنجل الحرب الأهلية التي لم تبق ولم تذر من بشر وحجر، استخدمت مجازًا نخبويًا ما يرجع بالمتفرج إلى خمسة وستين مليون عام إلى الوراء: تاريخ أول قيامة تشبه قيامة الشام، وذلك باصطدام الأستروييد الفلكي بالأرض، وإفناء كائنات الديناصور بأجمعها في العصر الجيراسي، ليشتمل المعرض على فظائع معدنية لهياكل كائنات هذه المصيبة الكوكبية العامة، ناهيك عن عرض رفات الموتى المغتالين في أكياس قيامية من الأقمشة، معرض لا ينسى، بعلو تقنيته من تلحيم وتلسين وتمفصل متوحش في المعادن، والصخب الروحي الذي يثيره ضجيج هذه الخردة والبقايا التي لا تنتسب إلا إلى زمن الحروب والانتحار الجماعي.
تنحت مؤخرًا عرائس معدنية تحمل بصمتها المتميزة نحتيًا أِشبه بروبوهات حرب مستقبلية تشي بتراث عرائس خيال الظل (الأراجوز). ثم حجبتها أحداث (الانفجار مثلًا) المشوشة في لبنان، ولا نطلع على أعمالها إلا في وسائط الاتصال الاجتماعي (الإنستغرام). ننتظر انتقال نشاطها إلى الأزمة الأوروبية لنشهد وحوشها المعدنية عن قرب.
علاء أبو شاهين وحمار الحكيم
أخص بالذكر في النهاية فنانًا موهوبًا هو المعلم النحات والمصور المعروف علاء أبو شاهين. عملنا سوية في غاليري صفير المحترفة في حي صالات العرض السان جرمان. عُرف في حينه بمنحوتاته البرونزية الصغيرة التي تمثل غالبًا موتيف الحمار الساخر، سميته حمار الحكيم إحالة إلى هزليات توفيق الحكيم. أما تصويره الراهن لبورتريهات طفولية فتعتمد على نحت الملصقات الورقية المقزحة باللون، والمشظاة بطريقة تهكمية ساخرة عدمية.
ريم يسوف والمشيمة المجهرية
حضرت خلال أمسية العاشر من حزيران/ يونيو افتتاح ثلاثة معارض سورية للنحت لأول مرة في باريس، منهل عيسى وخالد ضوا وريم يسوف. حضر معرض الأخيرة كل من محمد عمران وفادي يازجي (قادمًا من دمشق ولندن) أما معرض ماهر بارودي فهو بعيد عن باريس. هو معرض النحت الأول لريم يسوف فقد تحولت من التصوير إلى النحت لأول مرة وبصيغة تلقائية، عرضت على جدار كامل في صالون أر باري - أرفيير قبل أيام غاليري Arton 56 th تحولات تصويرية على وجه طفولي.
يحمل معرضها الراهن عنوان: "عبور" في غاليري "كونسيبت 27". توصلت بالتوليف بين التصوير والنحت في عرضها المتألق ما بعد الحداثي، إلى كائنات مشيمية صدفوية عضوية معلقة في الفراغ، مثبتة على منصات من التاريخ الطبيعي. ملصقات تبتدئ من لطخة صدفوية بالألوان الزيتية، وتنتهي إلى تراكم نافر من الملصقات المتراشحة الشفافة بما فيها رقائق الشبك المألوف لديها. خامات تناظر برهافة تماسكها أجنحة الفراشات المصبّرة. هو كل ما بقي من أسراب طيورها المهاجرة (من سنونو إلى نورس) وأطفالها النازحة المشيمية داخل فراغي ثلاثي الأبعاد مستلهم أساسًا من مسرح عرائس خيال الظل الشعبي.
* * *
"النحات والمصور زهير دباغ تحول نشاطه من مدينته المدمرة حلب إلى صالات بيروت وباريس. وتحول من النحت إلى التصوير ضمن شخصيته المتميزة الأصيلة" |
كما يحضرني معرض مدهش لجيل غض اجتمع في صالة النحات مصطفى علي (دمشق) تحت عنوان "المنحوتة الصغيرة".
وأحببت في الختام أن أتدارك اسمين مجيدين هما لطفي رمحين وقد تميّز بنصبه المعدنية المسلولة والنحيلة مثل السيف الدمشقي، لا أعرف إذا كان محترفه في سورية أو في فرنسا أو الاثنين معًا، وكذلك نور عسلية التي عرفت قبل سنوات باحترافها لتمفصل العناصر النحتية المجهزة بطريقة موهوبة، وكنت قد كتبت دراسة عن تجربتها نشرت في "ضفة ثالثة" بمناسبة بينالي النحت، ولكن ومنذ سنوات استبدلت واسطة النحت بوسائط مفاهيمية حرة، لا أدري هل لا زالت تعتبر عملها نحتًا أم مفاهيميًا؟
وثمة أسماء عديدة موهوبة غضة الأدوات، تعكس تراجيدية الأحوال العامة، ولكني لا أعرفها كفاية بسبب إقامتي البعيدة منذ عقود. وعذرا للأسماء الخارجية التي سقطت من الذاكرة.