مجلات مغربيّة سبعينية: من الثقافي إلى السياسي
أشرف الحسانياستعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
لعبت المجلّات الثقافيّة دورًا بارزًا في تاريخ الثقافة العربيّة المعاصرة، من خلال عشرات المفاهيم والنظريات والمشاريع والصُوَر والأفكار، التي يمكن القول إنه تحكّمت في ظهورها مجلات عربيّة بامتياز. فقد شكّلت منذ مطالع ستينيات القرن الـ 20 مُختبرًا للحداثة الثقافيّة العربيّة، وطالما اعتبرت من مظاهر تقدّم ثقافة معيّنة، سيما وأنّ هذه المجلات على تعدّد أشكالها وأنواعها وألوانها، تأخذ بُعدًا آخر على مُستوى الكتابة. فإذا كانت مجلّة "الآداب" البيروتية التي تأسّست عام 1953 على يد الروائي اللبناني سهيل إدريس، قد حرّرت فعل الكتابة داخل العالم العربي، فإنّ نظيرتها "شعر" (1957) التي أسّسها الشاعر يوسف الخال، قد وضعت الأدب العربي في معترك الحداثة الغربيّة، من خلال ما كان يُنشر داخلها من نصوصٍ شعريّة مُغايرة، ظلّت بمثابة بوادر أولى لظهور الحداثة الشعريّة العربيّة. والعائد لهذه المجلات يتكشّف لديه ذلك السحر الذي مارسته هذه الكتابات على تاريخ الأدب. إذْ إنّ نصوصها النقديّة المُثقلة بالتحليل والنقد، تُعدّ اليوم مرجعًا كبيرًا لكبار الباحثين العرب، بحكم ما يجدونه في طيّاتها من أفكار بلّورية صادقة في تحليلاتها للواقع وتشريح دقيق للعمل الأدبي، شعرًا وقصّة ورواية. ولقد امتلكت بعض المجلّات العربيّة كلّ المقوّمات الفكريّة التي جعلتها مصدرًا هامًّا لبعض القضايا الأدبيّة، لكونها كانت سبّاقة إلى التقاط بعض تفاصيل وقضايا وإشكالات، ما تزال تحظى باهتمامٍ كبير من لدن الباحثين العرب، باعتبارها تدخل ضمن سيرورة النسق الأدبي العربي، وإنْ بدت اليوم داخل الثقافة الغربيّة بعيدة عن مشاغل الباحث المعاصرة، أمام ظهور إشكالاتٍ جديدة لم تنتبه إليها الثقافة العربيّة.
لا توجد معرفةٌ كونية تبقى على حالها، دون أنْ يتم تحريرها من قبضة التدوير داخل سياقاتٍ معرفية تقليديةٍ معيّنة. ذلك أنّ نظرتنا إلى الأدب تتغيّر بين الفينة والأخرى، لأنّ طبيعة الكتابة الإبداعية تتغيّر وتنسج صداقات جديدة وتبحث لنفسها عن مواطنٍ أخرى لإعادة الانبعاث من جديد. بهذا المفهوم تغدو الكتابة مُنتمية إلى نفسها وإلى كينونتها، كأنّها تعيش قدرها على مُستوى الراهن، بدل الحكم عليها بأدواتٍ نقديّة ماضوية تُعدّ ذات نجاعةٍ في تحليل النصّ الأدبي، أمام بروز مفاهيم فكريّة ومناهج معاصرة تُعطي للإبداع زخمًا أصيلًا وقيمة كبيرة داخل وجدان القارئ عمومًا والمُبدع بشكلٍ خاصّ. على هذا الأساس، ينبغي التعامل بشكلٍ علميّ حذر مع المجلّات القديمة، لأنّ أغلب مَعارفها مُرتبطة بسياقٍ تاريخيّ مُحدّد، رغم أنّ الباحث المعاصر يظلّ في حاجةٍ إليها على مُستوى التوثيق أو معرفة مفهوم ما أو الاطلاع على طبيعة التحليلات التي رافقت ظاهرة أدبيّة. ما يعني أنّها ما زالت حيّة ومُفيدة، لكنّ مُحاولة تجديدها ومزجها بالمعرفة المعاصرة، هو الذي يجعلها حيّة باقية تأبى الاندثار، حيث يتمّ تثمين الجهود المعرفية التي راكمها العديد من الكُتّاب والشعراء والروائيون والباحثون والمُفكّرون من العالم العربيّ ككلّ. على الرغم من أنّ ما يعتمل اليوم داخل الثقافة العربيّة المعاصرة، هو قلبٌ لهذه الرؤية، إذْ يعثر القارئ على عشرات المؤلفات الأدبيّة التي يحتكم كُتّابها في تحليلاتهم إلى أدواتٍ تقليدية لم تُعد تقوى على تشريح النصّ الأدبي. فكيف يجوز مقاربة شعراء الحداثة العربيّة وفق رؤية ضيقة، لا تتعامل مع النصّ الشعري، باعتباره وجودًا مُنفصلًا عن الشاعر؟ حيث يُصبح النقد كتابة فكريّة، لا تقف عند حدود السياقات التاريخية والجانب السير ذاتي للشاعر، بقدر ما تُفكّك النصّ الأدبي من الداخل وتفتح له أفقًا جماليًا مُغايرًا، حيث تختلط المعرفة الأدبيّة بنظيرتها الفكريّة ويُشكّلان معا صرحًا معماريًا قويًا لهذه التجارب الشعريّة المعاصرة.
ومن جهةٍ أخرى، نعثر على الكثير من الترجمات التي عرفتها تلك المجلات الستينية والسبعينية والثمانينية في المغرب، لكلّ من نصوص جاك دريدا ولوسيان غولدمان وكلود ليفي ستراوس وفرناند بروديل، وما تزال إلى حدود الآن بارزة داخل العديد من مراجع المؤلّفات المغربيّة، لكونها فتحت الأدب المغربيّ على قضايا أدبيّة وإشكالاتٍ جديدة، كانت تختمر داخل الثقافة الغربيّة، فوجدت صدى كبيرًا عند بعض المفكرين المغاربة الذين ساهموا في خلق جدل معرفي مع بعض المثقفين الفرنسيين، كما هي الحال مع عبد الكبير الخطيبي في معاركه الشهيرة مع سارتر والمقدّمة الثرّة والغنية التي كتبها رولان بارت لكتابه "الاسم العربي الجريح" (ترجمة محمد بنيس) حيث يعترف بارت شخصيًا بما يتعلّمه من الخطيبي على مُستوى الممارسات الثقافية الشعبية مثل الرموز والوشم والعلامات.
وتُمثّل المجلات الثقافية في مغرب السبعينيات قاطرة صوب تحديث ثقافي اكتسح مجمل الممارسات الثقافية والسياسية داخل الجامعات والمعاهد ودور الشباب وصالات السينما والمسارح ومقّرات الأحزاب والمجتمع المدني. فهذه المجلاّت، رغم تواضع إمكاناتها المادّية، كانت مُؤثّرة ولها قدرة منفردة على مُستوى التوزيع الذي شعبيًا لا علاقة له بأيّ مؤسّسة، لكنّها مع ذلك كانت تصل إلى مختلف المدن المغربيّة وتجدها داخل المكتبات والمحلات التجارية وأكشاك التبغ، بسبب دوها التحديثي الذي فرضته داخل اجتماع مغربيّ تتأرجح معالمه بين "حداثة" تبنّاها الشعراء والفنانون والسينمائيون بمُختلف مشاربهم الإبداعية، وبين "تقليد" راهنت عليه حركات الإسلام السياسيّ وحاولت تكريسه داخل الجامعات المغربيّة.
إنّ ما قامت به هذه المجلات عمومًا من تحديث للمجتمع، يستحيل العثور عليه داخل مجال السياسات العمومية، لكونّها استطاعت التجذّر في بنية اللاوعي المغربي والدفع بالناس صوب إحداث تغييرات جذرية في مجالات تتعلّق بالثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد. ورغم الطابع الثقافي البيّن في ثنايا هذه المجلات، إلاّ أنّ البُعد اليساري الماركسيّ يطبع مختلف هذه المجلات مثل "أنفاس" و"الثقافة الجديدة" و"المقدمة" و"آفاق" و"البديل" و"الجسور" وغيرها. كلّها مجلاتٌ سبعينية وثمانينية، وقد حرصت على تحديث الثقافة المغربيّة وإخراجها من الاجترار، بوضعها في مُختبر الحداثة الغربيّة، حيث ترأس وكتب وساهم في إعدادها كُتّاب ومفكرون وأدباء مغاربة من مختلف الأجيال، وجعلوها مختبرًا حقيقيًا للتفكير وتسليط الضوء على إشكالاتٍ ثقافية لم تستطع المجلاّت المعاصرة على قلّتها أنْ تُفكّر فيها وتُحاول على منوالها طرح قضايا جديدة تستبدّ اليوم بالثقافة العربيّة المعاصرة على ضوء التحوّلات الإبستمولوجية والتقنية التي ألمّت بها. لذلك، تصلح اليوم المجلات السبعينية أنْ تكون مدار بحثٍ مُستفيض لمُختلف المُنطلقات الفكريّة والسياسية والثقافيّة والفنّية التي رافقت سيرتها منذ صدور أعدادها الأولى، بل توجد الكثير من الأطاريح داخل جامعات غربيّة، اشتغلت على بعض قضايا الأدب المغربي من خلال هذه المجلات، لا سيما "أنفاس" التي كان يُديرها الشاعر عبد اللطيف اللعبي، ثمّ "الثقافة الجديدة" التي كان يترأس تحريرها الشاعر محمّد بنيس، حيث قامت تلك الأطاريح الجامعية بتشريح خطابها الأدبي ومُحاولة معرفة الأسباب الحقيقية، التي كانت تقف عند حداثة الثقافة المغربيّة في تلك الفترة، انطلاقًا ممّا كان يُنشر داخلها من موادٍ نقديّة ومقالاتٍ فكريّة ونصوص أدبيّة، المكتوبة والمُترجمة منها.
لقد برّرت بعض الدراسات سبب هذه القوّة في التأصيل والانتشار التي طبعت المجلاّت المغربيّة، في كونها راهنت في طوبوغرافيتها بين الثقافي والسياسي، على خلفية ما سُمّي آنذاك بميلاد اليسار الجديد الذي آمن بالفعل الثقافي كركيزة قويّة في التأصيل السياسي. وبقدر ما جدّد اليسار الجديد (ألتوسير) منابع الثقافة المغربيّة وتجلّياتها داخل الحقل الإبداعي، لعب دورًا كبيرًا على المُستوى الأيديولوجي من خلال تحرير اليسار من ربقة ماركسية عمياء تعاملت مع اليسار باعتباره عقيدة لا مفّر منها. لكن بعض الترجمات داخل هذه المجلات وقدوم رياح التغيير من فرنسا خلال ثورة الطلاب، قد فتحا قارة مجهولة داخل المجال السياسيّ الذي لم يعُد حكرًا على السياسيين، حيث سيقود المثقفون هذا اليسار الجديد ويُعرّفون به داخل المجلات والجامعة والأحزاب، حتّى أصبح مثار نقاشٍ مجتمعي بين الناس وتطلّعهم صوب الانخراط في اليسار عن طريق الأحزاب أو على الأقلّ التضامن المُستنير الذي جعل مثقفين لا ينخرطون في أحزابه وخلاياه، لكنّهم آمنوا به كقوّة سياسيّة تحرّرية قادرة على استئصال الجهل والتخلّف. وقد تمثلت ملامح هذا اليسار من خلال الحزب الاشتراكي، الذي يجد معالمه المصدرية من خلال الحزب الشيوعي، ثمّ حركات التحرّر الوطني بالعالم العربي من خلال نماذجه العالمية. وبغض النّظر عن أطياف وألوان هذا اليسار، فقد آمنت المجلاّت السبعينية بضرورة انفصال الثقافي عن السياسي، حتّى لا تظلّ تبعية الثقافي للسياسي قائمة، باعتبارها يقينية فكريّة ينبغي تكريسها. لكنّ أغلب هذه المجلاّت الثقافيّة بقيت تشتغل بنفس الوتيرة بين الثقافي والسياسي، خاصّة وأنّ نماذج أدبيّة كثيرة، قد وطّدت علاقتها بالسياسة، بحكم ما نشرته من قصائد أولى ذات نفسٍ أيديولوجي، إمّا من أجل تبرير وتكريس سُلطة الأحزاب التقدمية أو إعادة تخييل الجسد اليساري وأفكاره داخل القصيدة.
أشرف الحسانياستعادات
شارك هذا المقال
حجم الخط
لعبت المجلّات الثقافيّة دورًا بارزًا في تاريخ الثقافة العربيّة المعاصرة، من خلال عشرات المفاهيم والنظريات والمشاريع والصُوَر والأفكار، التي يمكن القول إنه تحكّمت في ظهورها مجلات عربيّة بامتياز. فقد شكّلت منذ مطالع ستينيات القرن الـ 20 مُختبرًا للحداثة الثقافيّة العربيّة، وطالما اعتبرت من مظاهر تقدّم ثقافة معيّنة، سيما وأنّ هذه المجلات على تعدّد أشكالها وأنواعها وألوانها، تأخذ بُعدًا آخر على مُستوى الكتابة. فإذا كانت مجلّة "الآداب" البيروتية التي تأسّست عام 1953 على يد الروائي اللبناني سهيل إدريس، قد حرّرت فعل الكتابة داخل العالم العربي، فإنّ نظيرتها "شعر" (1957) التي أسّسها الشاعر يوسف الخال، قد وضعت الأدب العربي في معترك الحداثة الغربيّة، من خلال ما كان يُنشر داخلها من نصوصٍ شعريّة مُغايرة، ظلّت بمثابة بوادر أولى لظهور الحداثة الشعريّة العربيّة. والعائد لهذه المجلات يتكشّف لديه ذلك السحر الذي مارسته هذه الكتابات على تاريخ الأدب. إذْ إنّ نصوصها النقديّة المُثقلة بالتحليل والنقد، تُعدّ اليوم مرجعًا كبيرًا لكبار الباحثين العرب، بحكم ما يجدونه في طيّاتها من أفكار بلّورية صادقة في تحليلاتها للواقع وتشريح دقيق للعمل الأدبي، شعرًا وقصّة ورواية. ولقد امتلكت بعض المجلّات العربيّة كلّ المقوّمات الفكريّة التي جعلتها مصدرًا هامًّا لبعض القضايا الأدبيّة، لكونها كانت سبّاقة إلى التقاط بعض تفاصيل وقضايا وإشكالات، ما تزال تحظى باهتمامٍ كبير من لدن الباحثين العرب، باعتبارها تدخل ضمن سيرورة النسق الأدبي العربي، وإنْ بدت اليوم داخل الثقافة الغربيّة بعيدة عن مشاغل الباحث المعاصرة، أمام ظهور إشكالاتٍ جديدة لم تنتبه إليها الثقافة العربيّة.
"بعض المفكرين المغاربة ساهموا في خلق جدل معرفي مع بعض المثقفين الفرنسيين، كما هي الحال مع عبد الكبير الخطيبي في معاركه الشهيرة مع سارتر والمقدّمة الثرّة والغنية التي كتبها رولان بارت لكتابه "الاسم العربي الجريح"" |
ومن جهةٍ أخرى، نعثر على الكثير من الترجمات التي عرفتها تلك المجلات الستينية والسبعينية والثمانينية في المغرب، لكلّ من نصوص جاك دريدا ولوسيان غولدمان وكلود ليفي ستراوس وفرناند بروديل، وما تزال إلى حدود الآن بارزة داخل العديد من مراجع المؤلّفات المغربيّة، لكونها فتحت الأدب المغربيّ على قضايا أدبيّة وإشكالاتٍ جديدة، كانت تختمر داخل الثقافة الغربيّة، فوجدت صدى كبيرًا عند بعض المفكرين المغاربة الذين ساهموا في خلق جدل معرفي مع بعض المثقفين الفرنسيين، كما هي الحال مع عبد الكبير الخطيبي في معاركه الشهيرة مع سارتر والمقدّمة الثرّة والغنية التي كتبها رولان بارت لكتابه "الاسم العربي الجريح" (ترجمة محمد بنيس) حيث يعترف بارت شخصيًا بما يتعلّمه من الخطيبي على مُستوى الممارسات الثقافية الشعبية مثل الرموز والوشم والعلامات.
وتُمثّل المجلات الثقافية في مغرب السبعينيات قاطرة صوب تحديث ثقافي اكتسح مجمل الممارسات الثقافية والسياسية داخل الجامعات والمعاهد ودور الشباب وصالات السينما والمسارح ومقّرات الأحزاب والمجتمع المدني. فهذه المجلاّت، رغم تواضع إمكاناتها المادّية، كانت مُؤثّرة ولها قدرة منفردة على مُستوى التوزيع الذي شعبيًا لا علاقة له بأيّ مؤسّسة، لكنّها مع ذلك كانت تصل إلى مختلف المدن المغربيّة وتجدها داخل المكتبات والمحلات التجارية وأكشاك التبغ، بسبب دوها التحديثي الذي فرضته داخل اجتماع مغربيّ تتأرجح معالمه بين "حداثة" تبنّاها الشعراء والفنانون والسينمائيون بمُختلف مشاربهم الإبداعية، وبين "تقليد" راهنت عليه حركات الإسلام السياسيّ وحاولت تكريسه داخل الجامعات المغربيّة.
"بقدر ما جدّد اليسار الجديد (ألتوسير) منابع الثقافة المغربيّة وتجلّياتها داخل الحقل الإبداعي، لعب دورًا كبيرًا على المُستوى الأيديولوجي من خلال تحرير اليسار من ربقة ماركسية عمياء تعاملت مع اليسار باعتباره عقيدة لا مفّر منها" |
لقد برّرت بعض الدراسات سبب هذه القوّة في التأصيل والانتشار التي طبعت المجلاّت المغربيّة، في كونها راهنت في طوبوغرافيتها بين الثقافي والسياسي، على خلفية ما سُمّي آنذاك بميلاد اليسار الجديد الذي آمن بالفعل الثقافي كركيزة قويّة في التأصيل السياسي. وبقدر ما جدّد اليسار الجديد (ألتوسير) منابع الثقافة المغربيّة وتجلّياتها داخل الحقل الإبداعي، لعب دورًا كبيرًا على المُستوى الأيديولوجي من خلال تحرير اليسار من ربقة ماركسية عمياء تعاملت مع اليسار باعتباره عقيدة لا مفّر منها. لكن بعض الترجمات داخل هذه المجلات وقدوم رياح التغيير من فرنسا خلال ثورة الطلاب، قد فتحا قارة مجهولة داخل المجال السياسيّ الذي لم يعُد حكرًا على السياسيين، حيث سيقود المثقفون هذا اليسار الجديد ويُعرّفون به داخل المجلات والجامعة والأحزاب، حتّى أصبح مثار نقاشٍ مجتمعي بين الناس وتطلّعهم صوب الانخراط في اليسار عن طريق الأحزاب أو على الأقلّ التضامن المُستنير الذي جعل مثقفين لا ينخرطون في أحزابه وخلاياه، لكنّهم آمنوا به كقوّة سياسيّة تحرّرية قادرة على استئصال الجهل والتخلّف. وقد تمثلت ملامح هذا اليسار من خلال الحزب الاشتراكي، الذي يجد معالمه المصدرية من خلال الحزب الشيوعي، ثمّ حركات التحرّر الوطني بالعالم العربي من خلال نماذجه العالمية. وبغض النّظر عن أطياف وألوان هذا اليسار، فقد آمنت المجلاّت السبعينية بضرورة انفصال الثقافي عن السياسي، حتّى لا تظلّ تبعية الثقافي للسياسي قائمة، باعتبارها يقينية فكريّة ينبغي تكريسها. لكنّ أغلب هذه المجلاّت الثقافيّة بقيت تشتغل بنفس الوتيرة بين الثقافي والسياسي، خاصّة وأنّ نماذج أدبيّة كثيرة، قد وطّدت علاقتها بالسياسة، بحكم ما نشرته من قصائد أولى ذات نفسٍ أيديولوجي، إمّا من أجل تبرير وتكريس سُلطة الأحزاب التقدمية أو إعادة تخييل الجسد اليساري وأفكاره داخل القصيدة.