جدليَّةُ الأنغَامِ والمعاني
مقال:سامي الحاج حسين
لاشكَّ أنَّ الكلمةَ واللحنَ هما قطبا الإبداع في الأغاني العربيَّة الناجحة.
*لكن مامدى تأثُّر وتأثير كُلٍّ منهما بالآخَر في عمليَّة التأليف الغنائيِّ العربي. ؟!!
ثمَّة علاقةٌ جدليَّةٌ بين كلماتِ الأغنيةِولحنِها،فحين تتألَّق الكلمةُ ينبغي أنْ يتأجَّج اللحنُ،وحين تنحدر سويَّةُ الكلمة يُتوقعُ أن تهبُطَ وتيرةُ الإبداع لحنيَّاً، فمحتوى الكلمات -هو غالباً-مايوجه ويفترض شكل اللَّحنِ وأنغامِه وإيقاعِه.
-لكنْ قد يحدث أن يراهن الملحِّن على إبداعه؛ حين يضفي للمعاني أبعاداً عميقة ًعبر موسيقاه البليغةٍ، فيُخرِجُ لحنَ الأغنية أو القصيدة بشكل أقوى إبداعاً وأبرعَ ممَّا تحتمله الكلمات .
-أو ربَّما يحدث العكس؛ حين يكون اللَّحن شكليَّاً وسطحيَّاً،مقارنةً بتألُّق الكلمات،فيفرِّغها من معناها،ويبدو اللحنُ هزيلاً لايستأهل جزالة الكلمة.
-فكم من لحنٍ رديءٍ يُسيءُ لروعة المعنى،ويتنافر معها،ولايتطابق مع وجدانية الكلمات..؟
-وكم من لحنٍ فائقِ الجمالِ يؤلٍّق بروعته سذاجة المعنى..؟!
وكم من ألحانٍ هزيلةٍ في حاضرنا تنحدر مع تفاهة الكلمات..؟!!
والخطورة تكمن هنا،بأنَّنا بدأنا نأْلَفُ اقتراناتٍ شتَّى بين ألحانٍ متنافرةٍ مع معاني الكلمات؛سيَّما وأنَّ وسائل الإعلام تُصِرُّ على بثِّ هذه الاقترانات
المتناقضة مراراً وتكراراً عبر عدَّةِ محطَّاتٍ فضائيَّةٍ؛ لنسمعها جماعيَّاً؛ بل ونحفظها مع التكرار مرغمين رغم تفاهتها.
-وبالمقابل كم من لحنٍ بليغٍ راح يزاحم بعظمة موسيقاه جلالة المعنى ..؟!!
ويؤسفُنا أن تدثِّره المحطَّات ..؟!!
فمثل هذه الأعمال الرائعة المدهشة راحت تأخذ في عصرنا صفة التراث العتيق،أو صفة الامتداد إلى فنِّ الزمن الجميل،وتحاكمه المحطَّات باعترافها على أنَّه فنٌّ جادٌّ وأصيلٌ ومعبِّر،إلَّا أنَّها تتذرَّع بأنَّه لايصلُح للبث،وقد أصبح لوناً طربياً قديماً لايتماشى مع رُوح هذا الزمان،فتعمل- ومن ورائها تجَّار الفنِّ الرخيص-على تجاوز هذا النوع من الفنِّ الأصيل كالقصيدة،تحت مسمَّيات الأغنية الشبابيَّة،وعصر السرعة،والجمهور عايز كدة،والأغنية الفرحة الراقصة،وإيقاع الحياة السريع،والطقطوقة المدهشة بتصويرها،وهكذا لنجد أنفسنا وسطَ زِحامٍ من الأغاني التافهة المستهلكة وبوجدانٍ مشوَّهٍ زائف.
ولاشكَّ بأنَّ هناك مغالطةً في مفهوم الأصالة فهي لاتعني القِدَم بالضرورة، بقدر ماتعني الابتكار.
* لذلك كُلِّه يكون لِزاماً على الملحِّن الجادِّ الذي يتطلَّع السويَّة الفنيَّة العالية،أن يكون مثقَّفاً ومُرهَفاً،وأن يبحث عن مضمونٍ شعريٍّ جيِّدٍ من الشعر الغنائيِّ المضمَّخ بالمعاني أوَّلاً .
ثم إنَّ عليه أنْ يتعايشَ مع الكلمات إذ يتركُ لها فُرصةً كاملةً لاختمارها في لاوعيه،وبعد نضوجها تتَّضح لديه الرؤيةُ وتتشكَّل؛ ويمكنه حينئذٍ أن يُبدع الشكلَ المناسب لأغنيتة؛ عبر موسيقا مستوحاةٍ من المعنى ذاته.
ذلك لأنَّ المعنى هو الجوهرُ الذي يستثيرُ الملحِّنَ ويحفِّزُه ويوجِّهُ رُوحَ لحنِه للتَّحليقِ والإلهامِ إلى حيثُ لايدري مِنْ مَواطنِ العذوبةِ والبهاءِ والجمال .
كذلك لايمكننا إنكار ثقافة ورهافة وخبرة الملحن وبراعته في إحياء الكلمة وبثها الروح الشفيفة والألق والحياة،فجماليَّة الكلمة مهما عظمت لاتغني عن جمال اللحن في الأغنية إطلاقاً.
وهكذا فالعلاقة تفاعليَّة ومتبادلة الأثر والتأثير،وفي تآلفٍ غنائيٍّ مدهشٍ،إذ يمنح كل عنصرٍ إبداعيٍّ منهما للآخَرِ مزيداً من الجمالِ والأُلفةِ والتوافقِ والانسجام.
*مشاركة: Jehad Hasan / من ألمانيا