Mohammed Dunia
٢٢ سبتمبر ·
مقالات مترجمة لعلها تحمل فائدة
الإدمان على المخدرات ( 1 من 3 )
يؤكد عدد من الدراسات أن بعض الأشخاص أكثر تعرضاً للاعتماد ( ) من آخرين. ولا يعود سبب ذلك فقط إلى المواد التي يتعاطونها ولا إلى تاريخهم الشخصي وحده، بل أيضاً إلى كيمياء الدماغ الغريبة، المهيأة للإدمان.
يستمر المدخن في إدمانه على التبغ دون أن يأبه بنوبات السعال، ودبق الفم، وانقطاع النفس، والتهديد بإصابة قلبية، واحتمال التعرض للسرطان... . كيف نفسر، بعبارات الصحة، والمال، والوقت اليوم سلوكاً هو على هذا القدر من الكلفة والخطر؟ يبدو الاعتماد للوهلة الأولى مرتبطاً بكمية المادة المستهلكة أو بمدة التعرض لها. وتشير معطيات الهيئات الصحية " إلى أن نسبة من يدخنون منذ الاستيقاظ – وهو أحد معايير الإدمان - هي 2% إذا كانوا يستهلكون 5 سجائر في اليوم، لكنها ترتفع إلى 40% عند من يدخنون أكثر من 20 سيجارة يومياً. كما أن متعاطي الكحول أو متعاطي الهيروين المزمنين هم أيضاً أكثر اعتماداً من مستهلكيهما بشكل متقطع. وكلما كان تأثير الكمية المتناولة أقوى أحدث الإقلاعُ عنها ألماً بدنياً، كما هو الحال بالنسبة للهيروين. مع ذلك، لا يشمل هذا السلوك، المؤذي على الأقل، جميع متعاطي المخدرات، إذ يؤكد عدد من الاستقصاءات أن نصف المدخنين المنتظمين لا يقعون في فخ الإدمان، ومن هنا فإن البعض أكثر تعرضاً من آخرين للاعتماد. أما بالنسبة لبقية المخدرات، بما فيها " القاسية " ( )، فإن معدل انتشارها هو أقل أيضاً. وهناك كثير من الأمثلة بخصوص مستهلكين يتمكنون من الإقلاع نهائياً بين ليلة وضحاها، وآخرين ينتكسون مرة تلو أخرى... مما يؤكد أننا لسنا متماثلين من حيث الإدمان.
فترة جنينية حاسمة
وهكذا، تبين للباحثين اليوم، من خلال ملاحظات سريرية ودراسات مرتكزة إلى مقابلات، أن تعرض الفرد المبكر لأحد المخدرات يعزز اعتماده عليه، بل وعلى سواه منها، ولاسيما الكحول. وقد أثبتت مجموعة الأبحاث في جامعة بيكارديا / أميان – فرنسا، المنجزة حول الكحول والاعتماد على المستحضرات الصيدلانية pharmacodépendances، أن التشبع الجنيني بالكحول لدى الجرذ يحدث تغييراً في حساسيته إزاء تأثيرات بعض المخدرات، مما يؤكد أن التعرض المبكر للإثانول ( الكحول الأثيلي ) éthanol هو عامل خطر هام في الاستعداد للإدمان. الأمر نفسه بالنسبة للنيكوتين: يؤدي التعرّض قبل الولادي، لدى الجرذ ونسناس المكاك الريسوس، إلى إتلاف نظام النقل العصبي neurotransmission في المخ بصورة دائمة، وهو النظام الذي يستخدم " السيروتونين " ( )، إذ يعمل على زيادة عدد مستقبلات هذا الناقل العصبي. وأكدت معطيات فريق " ثيودور سلوتكين " الطبي البريطاني أن هذه الظاهرة تجعل هذه الحيوانات أكثر تعرضاً للتبعية للنيكوتين خلال الفترة التي تتوافق وفترة يفاعتها.
تأثير الاجتماعي والنفسي
تبدو هذه الفترة حاسمة جداً لأن الدماغ يكون خلالها في طور النمو، وبالتالي فهو بالغ التأثر بنتائج الأحداث المؤذية. وقد أثبتت أعمال فريق " ميشيل لو موال "، بوردو – فرنسا، أن الأحداث المكرِبة التي تتعرض لها الأم خلال الحمل، بل وفي بداية الحياة، تتمخض عند الجنين أو الرضيع لاحقاً عن شذوذات في نمو الخلايا العصبية الموجودة في " الحُصَيْن " hippocampe ( ناحية من الدماغ ضالعة في الذاكرة ) وعن اضطرابات في " المحور القشري الموجِّه " corticotrope ( الاستجابة للكرب ) وفي منظومات النقل العصبي.. وهذه كلها حالات خلل يمكن أن تبدو أنها تشجع الميل إلى الإدمان. كما لاحظت مجموعة " تيريزا و توماس كوستن "، هوستن - الولايات المتحدة، أن عزل فئران صغيرة عن أمها لمدة ساعة يومياً خلال أسبوع الحياة الأول يجعلها أكثر ميلاً إلى تعاطي الكوكايين ذاتياً عند البلوغ... .
" من المستحيل طبعاً أن ندرس لدى الحيوان التأثيرات المحتملة على سلوك أوضاع الكرب الناجمة مثلاً عن حِداد أو فقدان وظيفة. إلا أنها تمكننا بالمقابل من أن نحلل بدقة، من خلال عزل العوامل، التآثراتِ بين البيئة والجينات "، يقول " لورنس لنفومي – مونغريديان "، من المعهد الوطني للصحة والدراسات والأبحاث الطبية ( باريس – فرنسا ). إذاً، فللجينات دور، إذ يعتقد الباحثون أن الفروق الفردية في التعرض للمخدرات والإدمان لها جذور بيولوجية، ترتكز على الأرجح إلى الاختلافات الطبيعية في الجينات بين السكان: إنها " عوامل التأهُّب ".
سلسلة من حالات الخلل
ينظر الباحثون اليوم إلى الدوبامين dopamine، " ناقل المتعة العصبي "، على أنه العنصر الرئيس في عدم توازن المخ الذي يفضي إلى حالة الاعتماد. ذلك لأسباب وجيهة: تؤدي جميع المواد الإدمانية، في الطور الأول لتناولها على الأقل، إلى تحرير الدوبامين في " النواة المتكئة " noyau accumbens ( منطقة في الجملة الحوفية ( ) ) وفي قشرة مقدّم الجبهة المخية، انطلاقاً من باحةٍ تعتبر بمثابة الصفيحة الدوارة ( مركز التبادلات ) للإدمان، أي تلك المسماة " الباحة الغطائية البطنية " aire tegmentale ventrale. عندما تتنشط، تولِّد هذه المناطق، التي تنتمي إلى " دارة المكافأة " circuit de la récompense ( انظر " الجملة الحوفية " في الحاشية )، إحساساً بالارتياح البدني والنفسي الشديد جداً، الذي يسعى متعاطي المخدر إلى استعادته، ومن هنا الإدمان.
لكن الواقع يبدو أكثر تعقيداً، إذ تضطلع منظوماتُ ضبْطٍ أخرى في هذه العملية، من البداية وبالتآثر مع " دارة الدوبامين " في الدماغ، من بينها منظومة التوازن بين ناقلين عصبيين آخرين، أي " النورادرينالين " ( ) و" السيروتونين " ( ). تحدث المخدرات كلها، باستثناء النيكوتين، خللاً في هذا التوازن، حتى بعد عدة أشهر من آخر جرعة؛ وذلك إلى درجة " فك التقارن " بين هاتين المنظومتين، وبالتالي توليد فرط نشاط نورادريناليني الفعْل يتجلى في الإحساس بانعدام الراحة والمعاناة النفسية. ويبدو أن " الطريقة الوحيدة أمام متعاطي المخدر لتحمّل هذا الإحساس هي معاودة تناوله "، يشرح جان – بول تاسَّن "، من الكوليج دو فرانس.
دور الوراثة المثبَت...لدى الحيوان
لقد أثبتت أعمال حديثة وجود عوامل وراثية تؤهِّب لتعاطي المخدرات عند الحيوان. ولكن، يرتكز هذا الميل إلى ارتباط متبادل بين اختلافات وراثية لا تنتقل معاً من الكبار إلى الذرية وتكون فاعلة بالتآثر مع البيئة ( عوامل بدنية واجتماعية ). وأيدت عدة دراسات هذا الفهم الجديد للإدمان، مؤكدة وجود سلسلة تربط بين تكرار الأحداث المكرِبة stressants، وإنتاج " هرمونات قشرانية سكرية " h. glucocorticoïdes – العلامة البيولوجية على رد فعل الكرب – في الدماغ، ومضاعفة المستقبلات العصبونية لهذه الهرمونات وازدياد سعة تحرير الدوبامين. تتناول سلالات من الجرذان التي تتميز بفرط نشاط " المحور القشري الموجِّه "، وبالتالي الأكثر تأثراً من الناحية الوراثية بالأحداث المكرِبة، المستحضراتِ المحرِّكة نفسياً psychostimulants ( الكوكايين، والأمفيتامين ) والنيكوتين على نحو أسهل بالمقارنة مع سلالات قوارض ضعيفةِ ردّ الفعلِ معرَّضة لأوضاع الكرب نفسها. بعبارة أخرى، يعمل الكرب المتكرر، مع تضخيمه المستوى القاعدي للدوبامين، على جعل الجهاز العصبي أكثر نزوعاً نحو الإدمان.
نقطة أخيرة: ترتكز هذه التغيرية الفردية على الأرجح أيضاً إلى منظومات الضبط الذاتي الدماغية. " يمكن للفروق الفردية، التي تشمل " الجهاز الحشيشياني " système cannabinoïde، الذي يحافظ على التوازن الوظيفي بين منظومات النواقل العصبية، أن تساهم هي أيضاً في تغيّرية التعرض للإدمان "، وفقاً لتوضيح " مارسيلو سوليناس " من جامعة " بواتييه " - فرنسا؛ غير أن هذا الجانب ما يزال بحاجة إلى تحقق.
وكما نرى، لم يحط العلم بعد بكل تعقيد العوامل المتعددة التي تحث أو تكبح انجذاب بعض الأشخاص إلى المخدر. ذلك خصوصاً وأنه عدا الفروق بين الأفراد فإن كل مادة تؤثر على نحو نوعي وتضطلع بها منظوماتٌ دماغية مختلفة وتمنح إحساساتٍ متباينة. ليست المخدرات بعد على وشك أن تكشف لنا عن جميع أسرارها.
شروح:
- الاعتماد أو التبعية dépendance: حالة نفسانية تظهر بنتيجة التعاطي المتكرر للأدوية والمخدرات وتتميز بالحاجة إلى الاستمرار في التعاطي وزيادة الجرعات. " المترجم "
- يتحدث عدد من التصنيفات عن مخدرات " قاسية "، تلك التي تولّد تبعيةً بدنية ونفسانية سريعة، كالهيروين والكوكايين، و " خفيفة "، أي التي لا تولد بالضرورة تبعية بدنية، كالماريجوانا والحشيش، و" منعشة " ( مولِّدة للمرح والانشراح )، ومنبّهة [ ecstasy ]، ومُهْلِسة hallucinogène . " المترجم "
- السيروتونين sérotonine: مادة عضوية تفرزها بعض خلايا الجسم في الجهاز العصبي والطحال، فتعمل كناقل عصبي neurotransmetteur ينبه القلب والشرايين والعضلات وينظم انتقال التنبيه من خلية عصبية إلى أخرى. وللسيروتونين علاقة بالاضطرابات العصبية والنفسية المختلفة. " المترجم "
- الجملة الحوفية système limbique: دماغ الانفعالات cerveau des émotions، حيث تتولد استجاباتنا الدماغية الأكثر بدائية ومعظم رغباتنا وحاجاتنا الحيوية كالاغتذاء ورد الفعل على الاعتداءات والتوالد. ومن هنا، توجد في الدماغ دارات ( سُبُل ) يتمثل دورها في مكافأة هذه الوظائف الحيوية من خلال المتعة والأحاسيس المحببة. وتتألف هذه الجملة، فيما تتألف، من الوطاء والحصين واللوزة المخية." المترجم "
- النورادرينالين noradrénaline مركب يعمل كناقل عصبي في العصبونات الأدرينالية الفعل ويفرزه لب الكظر بنتيجة تنبيه حشوي أو بنقص الضغط. " المترجم "
- السيروتونين sérotonine: مادة عضوية تفرزها بعض خلايا الجسم في الجهاز الهضمي والطحال، فيعمل كناقل عصبي ينبه القلب والشرايين والعضلات وينظم انتقال التنبيه من عصبون ( خلية عصبية ) إلى آخر، وله علاقة بالاضطرابات العصبية والنفسية المختلفة.
" المترجم "
عن " العلم والحياة " الفرنسية Science & Vie
ترجمة محمد الدنيا