"ثقوب سوداء" مسرحية تونسية تدعونا إلى التأمل من فوق لغم
تراجيديا ساخرة تتحول فيها الذكريات والواقع والوطن والعشق إلى عدم.
الممثلون في لعبة الثبات والحركة
الانطلاق من نص مسرحي مكتوب سلفا مغامرة لكل مخرج مسرحي، خاصة في ما يتعلق بتطويع النص وتحويله إلى مشروع يناسب رؤية المخرج الجمالية والفكرية، ولعل نصوص المسرحي التونسي نورالدين الورغي الأكثر صعوبة في التعامل معها نظرا إلى اعتماده على شعرية خاصة وعلى سجع ومعجم معين، وقد جازف المخرج التونسي عماد المي بأخذ نص للورغي وتحويله لنراه بشكل مغاير على الخشبة.
تواصل مسرحية "ثقوب سوداء" للمخرج التونسي عماد المي عن نص “تراجيديا الديوك” لنورالدين الورغي تقديم عدد من العروض.
وكتب الورغي النص الأصلي للعمل تحت عنوان “تراجيديا الديوك” ضمن ما سماه مسرح الأرض الذي أسسه رفقة زوجته المسرحية ناجية الورغي، لكننا مع العنوان الجديد للعمل الذي يقدمه المي نجد أنفسنا أمام تصور آخر وأمام مفارقة بين مسرح الأرض شديد الصلة بالأرض وقضاياها وعنوان يحيل إلى أبرز ظاهرة فلكية ما تزال لغزا أمام علم الفضاء ألا وهي الثقوب السوداء، تلك التي تطفو في الكون مثل الرحى التي لا تترك شيئا ولا تذر.
ثقوب سوداء
المسرحية دعوة إلى أن نقف للحظة في فم الموت، لنعيد تقييم هذه الرحلة البشرية في العلاقات في ما بيننا
يقول المي “ثقوب سوداء، هو العنوان الرئيسي والأول للعرض أقول الأول لأنه ثمة عنوانا ثانيا للعرض وهو بالفرنسية Résistance Plus. لنعد إلى ثقوب سوداء ولماذا ثقوب سوداء، لمَ لا يكون العنوان ثقوب سوداء؟ وقد كثرت الثقوب وعم السواد في زماننا الحاضر فالثقوب السوداء عندنا تتقاطع مع الظاهرة الفيزيائية في الزمكان (الفضاء بأبعاده الأربعة وهي الأبعاد الثلاثة بالإضافة إلى الزمن) باعتبار أن الإنسان ذو أبعاد ثلاثة ويعيش عبر الزمن”.
ويضيف “نتقاطع أيضا مع رمزية الظاهرة الفيزيائية التي لم تفصح عن دقًتها العلمية فهذا الثقب الذي إذا ما ابتلع بشرا يتمدد جسمه داخله وبسرعة يبتلعه دون عودة. هذه الرمزية نستلهمها ونبني عليها طرحنا الفكري الذي نستند فيه على مقالة فلسفية فكرية للمفكر الفيلسوف فتحي المسكيني وهي مقالة نشرت ضمن كتاب ‘الهجرة إلى الإنسانية‘ وبعنوان ‘الثقوب السوداء‘، الذي يقول فيه: حيث يعم السواد عدة أشياء وقيما وحيوات. حيث تحول بعض الناس ليصبحوا كالثقوب السوداء، يمتصّون حياتك ولا يعطونك شيئا. ولأنّ الحياة ضرب من النور، فإنّه ليس أسهل من تبذير الحياة: يشربها ثقب أسود، ويجعل من روحك جدارا يمكن لأيّ كان أن يكتب عليه ما يشاء، ويمرّ”.
ويتابع المي مستشهدا بالمسكيني “الثقب الأسود قد يكون شارعا، بعض الشوارع أكلت حيوات كثيرة في يوم واحد، بعض الأيّام أيضا ثقوب سوداء. تدخلها ولا تخرج منها حيّا. هذه الأيام المثقوبة بالسواد قد صارت كثيرة في البلد الأمين. الانتماء أيضا ثقب أسود. الهوية ثقب أسود. اليتم ثقب أسود. بعض الناس مجرّد أفكار مسبقة حول أنفسهم. المستقبل أيضا ثقب أسود. الزمن أيضا ثقب أسود. وحين يمر الزمان ويضيق المكان، يصبح المكان ثقبا أسود. والشعب ثقب أسود. وتعرف في آخر الأمر والعمر أنّك كنت فقط تربّي في قلبك دخانا اسمه ‘الوطن‘. يا لهذه ‘الأمّة‘ التي لا تملك من القلب غير أنّها تشبه ‘الأمّ‘ التي تكتري رحامها لمن يدفع أكثر. ولذلك نحن نكتري الوطن إلى وقت غير معلوم. عليك أن تدفع ثمن الرحم الذي يحملك. وكلّ رحم هو أيضا ثقب أسود، وهو سوف يحوّلك سريعا إلى متسوّغ نسقي لأمكنة تتعدد دون أن تنجح في صنع وطن مريح لجسدك المتعب من كل أنواع الوطن”.
إذن هي لعبة العنونة التي نفهم من خلالها إلى أي مدار سيحملنا العرض، وأي ثقوب سيفتحها في أذهاننا وأرواحنا، ونحن نتابع الممثلين يسقطون الواحد تلو الآخر في عتمات ذواتهم تحت ركام القنطرة.
حافظ المي على الأرض مكانا محوريا لعرضه، تلك المثبتة في مكانها تحت أقدام البشر الذين يصنعون بها وفيها المأساة، المكان قابل للتأويل، وهو عنصر محوري في العرض رغم جهلنا لاسمه أو موقعه أو تاريخه أو الزمن الذي يعبره.
الثبات والحركة
شخصيات تنقاد إلى مصير ساخر
من المكان الثابت ينطلق الممثلون في لعبة الثبات والتحرر، الموت والحياة، الانعتاق والسقوط في القيود، الطمع والكذب، الشجاعة والحنين، بينما يتحدى العرض الوضعيات والزمن عبر تقنية الفلاش باك، التي كانت موظفة بعناية ينفلت فيها من حالة الثبات (ممثلان واقفان على لغم) إلى حالة الحركة والعودة مجددا إلى الثبات، وكأنها رحلة قصيرة متخيلة بين الواقع أو الحقيقة (الموت) والخيال أو التذكر أو محاولة إصلاح ما كان.
أما السماء فهي خلافا للأرض مكان الصراع، فضاء الأفكار التي يحفرها العرض بدقة، مثل الحوار العميق بين الجندي الواقف على لغم والنسر الذي يحوم فوقه في انتظار أن ينفجر اللغم ويتحول المخاطب إلى لحم متناثر.
تبرز السينوغرافيا في الخلفية جسرا محطما هو ما كان يعرف باسم “قنطرة العشاق”، ولوحة عليها بعض الكتابات والرسومات البسيطة، وهي ربما مما تركه العشاق الذين كانوا يتواعدون تحتها، وحجارة منثورة تحت الجسر، تماما حيث يعبر الفارون من الحرب، بينما تتحول الأرض التي كانت ملتقى للمتحابين إلى أرض ألغام فيها ستعلق الشخصيات لتكون تراجيديا مؤلمة لمصائر إنسانية عبثية.
المسرحية تقوم على ثلاث شخصيات أولا الجندي الهارب من الحرب، والذي يدهس خطأ على لغم، فيما يلتحق به شخص آخر هو فنان هارب، مع تقدم الحوار بينهما يعلق بدوره على لغم، أما الشخصية الثالثة فهي المرأة التي تتجسد في شكل المنقذ الوحيد، لكنها تشترط على العالقين مساعدتها لإعادة بناء قنطرة العشاق، مقابل تحريرهما، ومن هناك تتدفق حكايات متقاطعة، لينتهي الأمر إلى مأساة مضحكة.
انطلق العرض متسارع الإيقاع ليتباطأ شيئا فشيئا بعد مشهد ملاحقة شخصيات متشحة بالسواد كالظلال لبعضها البعض، ويبدأ إثره مونولوج يخوضه الجندي “بلقاسم بوبياسة” ما أن يكتشف أنه وضع قدمه على لغم، بينما كان فارا من نار المعركة التي لا نعرف تحديدا بين من ومن، لكنها حرب أخرجت أسوأ ما في الإنسان. حتى هو نفسه يسرق قطعة خبز من جيب جثة جندي آخر، بينما رآه الشاب الذي يلاحقه.
الحوارات تتواصل ولعل أمتعها ذاك الذي كان بين الجندي العالق والنسر الذي يحوم فوقه، وكأنه ينتظره لينفجر ويتلاشى لحمه، لا نرى النسر ولكننا نسمع صوته، وكذلك بلقاسم الذي يحكي معه عسى أن يفهم ويبتعد، بينما تتجاذبه لحظات يأس يفكر فيها في أن يرفع قدمه ويتلاشى حرا خفيفا من كل عبء وهو المثقل بهموم حياته وضياعه ووطأة عالم قاس، عالم حوله من شاعر عاشق إلى آلة قتل لا تتوانى عن فعل أي شيء لأجل البقاء.
بدوره يعلق الشاب خلفه على لغم، شاب لا ندري إن كان حقا فنانا أو كاذبا أو مخادعا، لكنه كان في طريق الهروب من الحرب، ليجد نفسه مع شخص آخر لا يرى منه سوى ظهره، ويدور بينهما الحوار عن دواخل كل منهما، ورؤاهما، ورغبة النجاة من عدمها.
تفكيك النص
يبدو هذا العمل مختلفا عن أعمال المي السابقة، خاصة في الاشتغال على النص والممثل بشكل مغاير، نسأله هل يعود ذلك إلى اشتغاله على نص لكاتب مسرحي آخر هو نورالدين الورغي؟ ليجيبنا “نعم هذا العمل يختلف عن الأعمال السابقة لأنني في السابق كنت أعتمد على نصوص من تأليفي لكن في ‘ثقوب سوداء’ كان الانطلاق من نص مؤلف مسبقا هو ‘تراجيديا الديوك‘ للمسرحي التونسي الورغي”.
وقام المي بعمل دراماتورجيا في مرحلة أولى في علاقة بالنص وهيكلة الكتابة، حيث حوًله من نص، كتب في شكل قصيدة كاملة وطويلة إلى نص، مفكك إلى مشاهد، أحيانا مترابطة ويمكن بعثرتها وخلق ترتيب آخر لها لخلق زمن متداخل وعدم تحديد نسقها التسلسلي بشكل واقعي، بل كما يقول “بالاعتماد على تركيب عبثي أحيانا إضافة إلى العودة بالزمن للخلف وللذاكرة وأحيانا الدفع به للمجهول وللمستقبل لخلق سؤال حول الراهن أو اللحظة الراهنة في علاقة بالسابق (ماض) واللاحق القادم (مستقبل) وهذا بدوره يطرح مسألة وجود الحاضر فهل ثمة حاضر أم الحاضر نفسه ماض وما علينا إلا العيش في المستقبل”.
وقام بعمل آخر على مستوى الاشتغال على اللغة بصفتها لغة عاميًة خاصة وردت في شكل شعر وسجع، ومنها يستمد النص قوًته لذا كان السؤال كيف يطوًع هذا الملفوظ لخدمة الممثل رغم أن فكرة العرض تقوم على الأرض المزروعة ألغاما، والتي دفعتهم باختيارهم طبعا إلى وضع الممثل واقفا على لغم مما يتطلب منه العمل على الحركة بحذر شديد وخلق إيقاع وصور أخرى مينيمالية في التعبير الجسدي وهذا يجعلهم يشتغلون على التحمل والتحمل زيادة على اللزوم في عمل الممثل حتى يكون الخروج من فوق اللغم هو الحرية.
ويؤكد المي أن المرور من الثبات إلى الحرية في اللعب يخلق أسلوب لعب خاص لدى الممثلين من حيث الاشتغال على الجزئيات والدقة في اللعب وحسن الاقتصاد والتصرف في توزيع الطاقة فأحيانا التكثيف والاختزال وأحيانا التمادي مع الذات. فالممثل ليس حرا نظرا إلى أنه واقف على لغم لكن الشخصية حرة لتلعب بحذر لأنها إذا تجاوزت الحذر انفجرت وانتهت.
من المكان الثابت ينطلق الممثلون في لعبة ثنائيات مثل الثبات والتحرر، الموت والحياة، الانعتاق والسقوط في القيود
ويقر المخرج بأن هذا العمل يختلف عن الأعمال السابقة لأنه يندرج ضمن سياق كامل ومسار يشتغل داخله وهذا المسار يرتكز على المقاربة الفكرية والفنية والجمالية التي لا تستكين للطمأنينة والهدوء بل تعتمد على المجازفة والمغامرة والهدم والبناء، لأنه في اعتقاده أن الفعل الإبداعي يتطلب الشجاعة والمغامرة.
التعامل مع نص الورغي ليس سهلا، لكن يبدو أن عملية تفكيك واعية ودقيقة انتهجها المخرج لإعادة تمثله بتلك الطريقة، التي تحافظ على مساره وروحه ولكنها تجدد في بنائه، وهذا ما يقر به المي بأنه تعامل مع نص “تراجيديا الديوك” وكأنه يتعامل مع نص لشكسبير أو لغارسيا لوركا، فقرأ النص مرات عديدة وأدرك مناطقه المفتوحة والمغلقة وحدد الثقوب داخله ليتسلل منها وينطلق بكل هدوء في تطويع المادة والاقتراب منها والعيش داخل عوالمها ليعيد ترتيبها ومن ثمة تفكيكها بحب دون تمزيقها ليحافظ على تلك الروح المؤلفة للنص.
ويقول المي “رافقت روح الكاتب والشاعر الورغي داخل نص العمل وجعلت منها صديقا لي والتقيت بالورغي في الحياة وتسللت لما يكتبه من شعر وآراء على صفحته الافتراضية عبر الفيسبوك وانطلقت في الكتابة معه وضده. كنت معه في تناول الحرب لكنني لم أحددها أين ومتى وعمًمتها وجرًدتها. كنت معه في مسألة العشق والبناء لكن على طريقتي. لم أكن معه في الحدود المرسومة ففتحتها مع الحفاظ على رسمها محدودة. يعني كنت مع الورغي المؤلف صديقا ورفيقا داخل النص وخارجه حتى أقدم نصا وفيا لمؤلفه ومجددا لما سبق فكنت أنا وكان النص مفكًكا مبنيا هيكليا في شكل مشاهد”.
ويقول المسكيني في مقاله “ثقوب سوداء” “هل علينا أن نتحوّل إلى ثقوب سوداء حتى ننجو من العاصفة القادمة؟ أليس السواد هو آخر ما تتمناه كل الألوان؟ أثقب نارك أيها الواقف على حدود الوطن، ولا تبتئس. أنت ألَمٌ مؤقّت لكل الذين سيولدون منك. وكل ما ستقوله عن نفسك سوف يُحسب عليك كنوع من الانتظار. وأنت ستنتظر طويلا قبل أن تصبح وطن نفسك”.
إن هذا العرض على خطى مقولة المسكيني دعوة إلى أن نقف للحظة حتى في فم الموت، لنعيد تقييم هذه الرحلة البشرية في العلاقات في ما بيننا، وتساقط الحب، وانتشار الصراعات والمصالح الضيقة، دعوة إلى إعادة التفكير في كل المسار الذي مشيناه حتى وصلنا إلى هنا، هاربون في كل مكان، يعبرون الأماكن المحطمة، طمعا في أماكن مجهولة أفضل، تائهون باحثون عن حلم أو واقع فردي أفضل، وهذا بالمناسبة وضع الكثير من الأوطان العربية ومنها تونس التي تعيش تراجيديا الهجرات في المجهول بكل مآسيها، أليست الشواطئ والضفاف أيضا ثقوبا سوداء تبتلعنا وترمينا في ظلام الأعماق أو شواهد ممزقة على الرمال.
حين يتحول كل شيء إلى ثقب يبتلعنا ويمزقنا في النسيان والعدم، علينا أن نقف للحظة، وقفة الرجلين على اللغم، نقف لنفهم ونفكر وننير طريق الآتين، حتى لو مزقنا الوقوف. فقط لنقف للحظة واحدة، لحظة نكون فيها، وليسمح لنا المتنبي “كأننا في جفن الردى وهو نائم”، ولا نخشى أن يستيقظ، لأن الآتين سيأتون لا محالة.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي
تراجيديا ساخرة تتحول فيها الذكريات والواقع والوطن والعشق إلى عدم.
الممثلون في لعبة الثبات والحركة
الانطلاق من نص مسرحي مكتوب سلفا مغامرة لكل مخرج مسرحي، خاصة في ما يتعلق بتطويع النص وتحويله إلى مشروع يناسب رؤية المخرج الجمالية والفكرية، ولعل نصوص المسرحي التونسي نورالدين الورغي الأكثر صعوبة في التعامل معها نظرا إلى اعتماده على شعرية خاصة وعلى سجع ومعجم معين، وقد جازف المخرج التونسي عماد المي بأخذ نص للورغي وتحويله لنراه بشكل مغاير على الخشبة.
تواصل مسرحية "ثقوب سوداء" للمخرج التونسي عماد المي عن نص “تراجيديا الديوك” لنورالدين الورغي تقديم عدد من العروض.
وكتب الورغي النص الأصلي للعمل تحت عنوان “تراجيديا الديوك” ضمن ما سماه مسرح الأرض الذي أسسه رفقة زوجته المسرحية ناجية الورغي، لكننا مع العنوان الجديد للعمل الذي يقدمه المي نجد أنفسنا أمام تصور آخر وأمام مفارقة بين مسرح الأرض شديد الصلة بالأرض وقضاياها وعنوان يحيل إلى أبرز ظاهرة فلكية ما تزال لغزا أمام علم الفضاء ألا وهي الثقوب السوداء، تلك التي تطفو في الكون مثل الرحى التي لا تترك شيئا ولا تذر.
ثقوب سوداء
المسرحية دعوة إلى أن نقف للحظة في فم الموت، لنعيد تقييم هذه الرحلة البشرية في العلاقات في ما بيننا
يقول المي “ثقوب سوداء، هو العنوان الرئيسي والأول للعرض أقول الأول لأنه ثمة عنوانا ثانيا للعرض وهو بالفرنسية Résistance Plus. لنعد إلى ثقوب سوداء ولماذا ثقوب سوداء، لمَ لا يكون العنوان ثقوب سوداء؟ وقد كثرت الثقوب وعم السواد في زماننا الحاضر فالثقوب السوداء عندنا تتقاطع مع الظاهرة الفيزيائية في الزمكان (الفضاء بأبعاده الأربعة وهي الأبعاد الثلاثة بالإضافة إلى الزمن) باعتبار أن الإنسان ذو أبعاد ثلاثة ويعيش عبر الزمن”.
ويضيف “نتقاطع أيضا مع رمزية الظاهرة الفيزيائية التي لم تفصح عن دقًتها العلمية فهذا الثقب الذي إذا ما ابتلع بشرا يتمدد جسمه داخله وبسرعة يبتلعه دون عودة. هذه الرمزية نستلهمها ونبني عليها طرحنا الفكري الذي نستند فيه على مقالة فلسفية فكرية للمفكر الفيلسوف فتحي المسكيني وهي مقالة نشرت ضمن كتاب ‘الهجرة إلى الإنسانية‘ وبعنوان ‘الثقوب السوداء‘، الذي يقول فيه: حيث يعم السواد عدة أشياء وقيما وحيوات. حيث تحول بعض الناس ليصبحوا كالثقوب السوداء، يمتصّون حياتك ولا يعطونك شيئا. ولأنّ الحياة ضرب من النور، فإنّه ليس أسهل من تبذير الحياة: يشربها ثقب أسود، ويجعل من روحك جدارا يمكن لأيّ كان أن يكتب عليه ما يشاء، ويمرّ”.
ويتابع المي مستشهدا بالمسكيني “الثقب الأسود قد يكون شارعا، بعض الشوارع أكلت حيوات كثيرة في يوم واحد، بعض الأيّام أيضا ثقوب سوداء. تدخلها ولا تخرج منها حيّا. هذه الأيام المثقوبة بالسواد قد صارت كثيرة في البلد الأمين. الانتماء أيضا ثقب أسود. الهوية ثقب أسود. اليتم ثقب أسود. بعض الناس مجرّد أفكار مسبقة حول أنفسهم. المستقبل أيضا ثقب أسود. الزمن أيضا ثقب أسود. وحين يمر الزمان ويضيق المكان، يصبح المكان ثقبا أسود. والشعب ثقب أسود. وتعرف في آخر الأمر والعمر أنّك كنت فقط تربّي في قلبك دخانا اسمه ‘الوطن‘. يا لهذه ‘الأمّة‘ التي لا تملك من القلب غير أنّها تشبه ‘الأمّ‘ التي تكتري رحامها لمن يدفع أكثر. ولذلك نحن نكتري الوطن إلى وقت غير معلوم. عليك أن تدفع ثمن الرحم الذي يحملك. وكلّ رحم هو أيضا ثقب أسود، وهو سوف يحوّلك سريعا إلى متسوّغ نسقي لأمكنة تتعدد دون أن تنجح في صنع وطن مريح لجسدك المتعب من كل أنواع الوطن”.
إذن هي لعبة العنونة التي نفهم من خلالها إلى أي مدار سيحملنا العرض، وأي ثقوب سيفتحها في أذهاننا وأرواحنا، ونحن نتابع الممثلين يسقطون الواحد تلو الآخر في عتمات ذواتهم تحت ركام القنطرة.
حافظ المي على الأرض مكانا محوريا لعرضه، تلك المثبتة في مكانها تحت أقدام البشر الذين يصنعون بها وفيها المأساة، المكان قابل للتأويل، وهو عنصر محوري في العرض رغم جهلنا لاسمه أو موقعه أو تاريخه أو الزمن الذي يعبره.
الثبات والحركة
شخصيات تنقاد إلى مصير ساخر
من المكان الثابت ينطلق الممثلون في لعبة الثبات والتحرر، الموت والحياة، الانعتاق والسقوط في القيود، الطمع والكذب، الشجاعة والحنين، بينما يتحدى العرض الوضعيات والزمن عبر تقنية الفلاش باك، التي كانت موظفة بعناية ينفلت فيها من حالة الثبات (ممثلان واقفان على لغم) إلى حالة الحركة والعودة مجددا إلى الثبات، وكأنها رحلة قصيرة متخيلة بين الواقع أو الحقيقة (الموت) والخيال أو التذكر أو محاولة إصلاح ما كان.
أما السماء فهي خلافا للأرض مكان الصراع، فضاء الأفكار التي يحفرها العرض بدقة، مثل الحوار العميق بين الجندي الواقف على لغم والنسر الذي يحوم فوقه في انتظار أن ينفجر اللغم ويتحول المخاطب إلى لحم متناثر.
تبرز السينوغرافيا في الخلفية جسرا محطما هو ما كان يعرف باسم “قنطرة العشاق”، ولوحة عليها بعض الكتابات والرسومات البسيطة، وهي ربما مما تركه العشاق الذين كانوا يتواعدون تحتها، وحجارة منثورة تحت الجسر، تماما حيث يعبر الفارون من الحرب، بينما تتحول الأرض التي كانت ملتقى للمتحابين إلى أرض ألغام فيها ستعلق الشخصيات لتكون تراجيديا مؤلمة لمصائر إنسانية عبثية.
المسرحية تقوم على ثلاث شخصيات أولا الجندي الهارب من الحرب، والذي يدهس خطأ على لغم، فيما يلتحق به شخص آخر هو فنان هارب، مع تقدم الحوار بينهما يعلق بدوره على لغم، أما الشخصية الثالثة فهي المرأة التي تتجسد في شكل المنقذ الوحيد، لكنها تشترط على العالقين مساعدتها لإعادة بناء قنطرة العشاق، مقابل تحريرهما، ومن هناك تتدفق حكايات متقاطعة، لينتهي الأمر إلى مأساة مضحكة.
انطلق العرض متسارع الإيقاع ليتباطأ شيئا فشيئا بعد مشهد ملاحقة شخصيات متشحة بالسواد كالظلال لبعضها البعض، ويبدأ إثره مونولوج يخوضه الجندي “بلقاسم بوبياسة” ما أن يكتشف أنه وضع قدمه على لغم، بينما كان فارا من نار المعركة التي لا نعرف تحديدا بين من ومن، لكنها حرب أخرجت أسوأ ما في الإنسان. حتى هو نفسه يسرق قطعة خبز من جيب جثة جندي آخر، بينما رآه الشاب الذي يلاحقه.
الحوارات تتواصل ولعل أمتعها ذاك الذي كان بين الجندي العالق والنسر الذي يحوم فوقه، وكأنه ينتظره لينفجر ويتلاشى لحمه، لا نرى النسر ولكننا نسمع صوته، وكذلك بلقاسم الذي يحكي معه عسى أن يفهم ويبتعد، بينما تتجاذبه لحظات يأس يفكر فيها في أن يرفع قدمه ويتلاشى حرا خفيفا من كل عبء وهو المثقل بهموم حياته وضياعه ووطأة عالم قاس، عالم حوله من شاعر عاشق إلى آلة قتل لا تتوانى عن فعل أي شيء لأجل البقاء.
بدوره يعلق الشاب خلفه على لغم، شاب لا ندري إن كان حقا فنانا أو كاذبا أو مخادعا، لكنه كان في طريق الهروب من الحرب، ليجد نفسه مع شخص آخر لا يرى منه سوى ظهره، ويدور بينهما الحوار عن دواخل كل منهما، ورؤاهما، ورغبة النجاة من عدمها.
تفكيك النص
يبدو هذا العمل مختلفا عن أعمال المي السابقة، خاصة في الاشتغال على النص والممثل بشكل مغاير، نسأله هل يعود ذلك إلى اشتغاله على نص لكاتب مسرحي آخر هو نورالدين الورغي؟ ليجيبنا “نعم هذا العمل يختلف عن الأعمال السابقة لأنني في السابق كنت أعتمد على نصوص من تأليفي لكن في ‘ثقوب سوداء’ كان الانطلاق من نص مؤلف مسبقا هو ‘تراجيديا الديوك‘ للمسرحي التونسي الورغي”.
وقام المي بعمل دراماتورجيا في مرحلة أولى في علاقة بالنص وهيكلة الكتابة، حيث حوًله من نص، كتب في شكل قصيدة كاملة وطويلة إلى نص، مفكك إلى مشاهد، أحيانا مترابطة ويمكن بعثرتها وخلق ترتيب آخر لها لخلق زمن متداخل وعدم تحديد نسقها التسلسلي بشكل واقعي، بل كما يقول “بالاعتماد على تركيب عبثي أحيانا إضافة إلى العودة بالزمن للخلف وللذاكرة وأحيانا الدفع به للمجهول وللمستقبل لخلق سؤال حول الراهن أو اللحظة الراهنة في علاقة بالسابق (ماض) واللاحق القادم (مستقبل) وهذا بدوره يطرح مسألة وجود الحاضر فهل ثمة حاضر أم الحاضر نفسه ماض وما علينا إلا العيش في المستقبل”.
وقام بعمل آخر على مستوى الاشتغال على اللغة بصفتها لغة عاميًة خاصة وردت في شكل شعر وسجع، ومنها يستمد النص قوًته لذا كان السؤال كيف يطوًع هذا الملفوظ لخدمة الممثل رغم أن فكرة العرض تقوم على الأرض المزروعة ألغاما، والتي دفعتهم باختيارهم طبعا إلى وضع الممثل واقفا على لغم مما يتطلب منه العمل على الحركة بحذر شديد وخلق إيقاع وصور أخرى مينيمالية في التعبير الجسدي وهذا يجعلهم يشتغلون على التحمل والتحمل زيادة على اللزوم في عمل الممثل حتى يكون الخروج من فوق اللغم هو الحرية.
ويؤكد المي أن المرور من الثبات إلى الحرية في اللعب يخلق أسلوب لعب خاص لدى الممثلين من حيث الاشتغال على الجزئيات والدقة في اللعب وحسن الاقتصاد والتصرف في توزيع الطاقة فأحيانا التكثيف والاختزال وأحيانا التمادي مع الذات. فالممثل ليس حرا نظرا إلى أنه واقف على لغم لكن الشخصية حرة لتلعب بحذر لأنها إذا تجاوزت الحذر انفجرت وانتهت.
من المكان الثابت ينطلق الممثلون في لعبة ثنائيات مثل الثبات والتحرر، الموت والحياة، الانعتاق والسقوط في القيود
ويقر المخرج بأن هذا العمل يختلف عن الأعمال السابقة لأنه يندرج ضمن سياق كامل ومسار يشتغل داخله وهذا المسار يرتكز على المقاربة الفكرية والفنية والجمالية التي لا تستكين للطمأنينة والهدوء بل تعتمد على المجازفة والمغامرة والهدم والبناء، لأنه في اعتقاده أن الفعل الإبداعي يتطلب الشجاعة والمغامرة.
التعامل مع نص الورغي ليس سهلا، لكن يبدو أن عملية تفكيك واعية ودقيقة انتهجها المخرج لإعادة تمثله بتلك الطريقة، التي تحافظ على مساره وروحه ولكنها تجدد في بنائه، وهذا ما يقر به المي بأنه تعامل مع نص “تراجيديا الديوك” وكأنه يتعامل مع نص لشكسبير أو لغارسيا لوركا، فقرأ النص مرات عديدة وأدرك مناطقه المفتوحة والمغلقة وحدد الثقوب داخله ليتسلل منها وينطلق بكل هدوء في تطويع المادة والاقتراب منها والعيش داخل عوالمها ليعيد ترتيبها ومن ثمة تفكيكها بحب دون تمزيقها ليحافظ على تلك الروح المؤلفة للنص.
ويقول المي “رافقت روح الكاتب والشاعر الورغي داخل نص العمل وجعلت منها صديقا لي والتقيت بالورغي في الحياة وتسللت لما يكتبه من شعر وآراء على صفحته الافتراضية عبر الفيسبوك وانطلقت في الكتابة معه وضده. كنت معه في تناول الحرب لكنني لم أحددها أين ومتى وعمًمتها وجرًدتها. كنت معه في مسألة العشق والبناء لكن على طريقتي. لم أكن معه في الحدود المرسومة ففتحتها مع الحفاظ على رسمها محدودة. يعني كنت مع الورغي المؤلف صديقا ورفيقا داخل النص وخارجه حتى أقدم نصا وفيا لمؤلفه ومجددا لما سبق فكنت أنا وكان النص مفكًكا مبنيا هيكليا في شكل مشاهد”.
ويقول المسكيني في مقاله “ثقوب سوداء” “هل علينا أن نتحوّل إلى ثقوب سوداء حتى ننجو من العاصفة القادمة؟ أليس السواد هو آخر ما تتمناه كل الألوان؟ أثقب نارك أيها الواقف على حدود الوطن، ولا تبتئس. أنت ألَمٌ مؤقّت لكل الذين سيولدون منك. وكل ما ستقوله عن نفسك سوف يُحسب عليك كنوع من الانتظار. وأنت ستنتظر طويلا قبل أن تصبح وطن نفسك”.
إن هذا العرض على خطى مقولة المسكيني دعوة إلى أن نقف للحظة حتى في فم الموت، لنعيد تقييم هذه الرحلة البشرية في العلاقات في ما بيننا، وتساقط الحب، وانتشار الصراعات والمصالح الضيقة، دعوة إلى إعادة التفكير في كل المسار الذي مشيناه حتى وصلنا إلى هنا، هاربون في كل مكان، يعبرون الأماكن المحطمة، طمعا في أماكن مجهولة أفضل، تائهون باحثون عن حلم أو واقع فردي أفضل، وهذا بالمناسبة وضع الكثير من الأوطان العربية ومنها تونس التي تعيش تراجيديا الهجرات في المجهول بكل مآسيها، أليست الشواطئ والضفاف أيضا ثقوبا سوداء تبتلعنا وترمينا في ظلام الأعماق أو شواهد ممزقة على الرمال.
حين يتحول كل شيء إلى ثقب يبتلعنا ويمزقنا في النسيان والعدم، علينا أن نقف للحظة، وقفة الرجلين على اللغم، نقف لنفهم ونفكر وننير طريق الآتين، حتى لو مزقنا الوقوف. فقط لنقف للحظة واحدة، لحظة نكون فيها، وليسمح لنا المتنبي “كأننا في جفن الردى وهو نائم”، ولا نخشى أن يستيقظ، لأن الآتين سيأتون لا محالة.
محمد ناصر المولهي
كاتب تونسي