Muslim Al-ta'an
مسافات المدينة بين دم الوثيقة وجسر الحقيقة: قراءة مسافاتية في المجموعة الشعرية الموسومة ( دمٌ على جسر الزيتون) للشاعر رزاق الزيدي
قراءة: مسلم الطعان
الناصرية مدينة المدن وسيدة المسافات إذا ما عدنا لمهد أمها أوروك التي أنتجت الحروف الأولى، ونُسِجت بأصابع أديمها خيوط طفولة المخيال البشري.
إن القصيدة الأوروكيّة منذ صيرورتها وإشتعال جمرة انطلاقتها الأولى هي عبارة عن خطاب شعري ثائر بين مسافتين: مسافة الوثيقة ومسافة جسر الحقيقة، وذلك الخطاب الجماليّ الذي إنبجسَ من المعبد أو الحانة أصبح وثيقة موشومة بالدم، سواء كان ذلك الدم نافورة عاطفة جيّاشة، أو نافورة دم تاريخيّ يكون شاهداً واقعياً على حدث إستثنائي لم يزل ينّز طريّاً كلما إقتربنا من تخوم التأريخ السومريّ.
في مجموعته الشعرية الصادرة عن دار السامر للنشر والتوزيع ( 2022)، يشتغل الشاعر المبدع رزاق الزيدي على تقنية التوثيق الجماليّ Mechanism of Aesthetic Documentation لحدث تاريخيّ ومفصليّ معاصر، فتكون القصيدة وثيقة عابرة لجسر الحقيقة، حيث ثورة تشرين الشعبية التي تعمدت صفحاتها بدماء الشباب الثائرين من أجل نيل حقوقهم في الناصرية وبقية مدن العراق الثائرة. إن مهمة الشاعر هنا ليست مهمة من أجل التوثيق الجماليّ فحسب، وإنما هي مهمة عبور مسافاتي لجسر الحقيقة، فالشاعر ثائر ويكتب خطابه الشعري من قلب الحدث حيث يقول:
( إنطلقت هذه القصائد من رحم ساحات الإحتجاجات التشرينية، حيث أنني كتبت أغلبها في تلك الساحات، وكنت شاهداً على أحداث إنتفاضة تشرين العراقية في الناصرية و مشاركاً في أغلبها منذ اليوم الأول لإنطلاقتها).
إن الشاعر هنا يجسد مسافتين: مسافة الشاهد الجماليّ الذي يكتب القصيدة كوثيقة ومسافة الشاهد التاريخي الذي ينغمس في واقعية الحدث لكي ينقله إلى مسافة الجيل اللاحق أو مسافة الواقف على التل والذي رغم حياديته، لكن الشاعر يخاطبه بحنّو قائلاً:
( حنانيكَ
مر بالناصريةِ
وإستمع
إلى فتيةٍ
إذ ينشدونَ المراثيا
وما جزعٌ فيهم
ولكن رفاقهم
مضوا قبلَ هذا
شاطبينَ الأمانيا، ص5 الديوان)
في تلك المجموعة الشعرية، لم يكن هناك أي إنزياح جماليّ لخلق الصور الشعرية المنبجسة من مخيلة شعرية مسترخية، فأمام سطوة وسخونة دم الواقع لم يركن الشاعر لمسافات ترف المخيّلة التي اعتاد اللجوء إليها في أعماله السابقة من أجل تزويده بشحنات جماليّة تسهم في صياغة الصورة الشعرية الصادمة التي يحلم بها وتبقى محفورة في ذاكرة القراء والأصدقاء كتلك الصورة التي يصف فيها مدينة الناصرية بالقول:
( الناصريةُ
شعرةٌ بيضاء
في شارب التأريخ)
إن مدينة الناصرية كمكان جماليّ، أو كبؤرة مكانية لمفهوم المسافة الجماليّة Aesthetic Distance تشكل حضوراً مائزاً في المنجز الشعري للشاعر رزاق الزيدي.
من ناحية المسافة الإيقاعية في ( دم على جسر الزيتون) يميل الشاعر إلى ما أجترح على تسميته بالقصيدة العمودية المنفلتة من أسار الشكل العروضي ( مسافة الشطر والعجز)، ويوظف في كثير من الأحيان آلية التنويع الإيقاعي بإستخدام مقاصير إيقاعية وقوافٍ داخلية. ثمّةَ حدث ساخن، كما ذكرت سابقاً ، يبعد الشاعر عن اللجوء للترف الذي يصنع جماليّات الصورة، والإيقاع هنا يكاد يكون إيقاعاً منبريّاً يتماشى مع إيقاعات التفاصيل اليوميّة لحدثٍ مفصليّ وتاريخي كثورة تشرين الخالدة.
**************************
- ابوبهاء الزيدي
دام عطائكم وابداعكم ايها الاحبة