حنا آرنت : تفاهة الشر
يتناول هذا الفيلم ( Hannah Arendt ) جانباً من سيرة الكاتبة اليهودية " هانا آرنت " ( 1889 ــ 1975 ) ، و تحديداً الفترة التي كانت فيها أستاذة جامعية في أمريكا ، و ذهبت خلالها الى إسرائيل لتغطية محاكمة " أدولف إيخمان " لصالح صحيفة ( نيويوركر ) . إنه فيلمٌ سياسي ، في أحد جوانبه ، يتناول قضية المحاكمة التاريخية لأحد رموز النازية ، الضابط " أدولف آيخمان " ( 1906 ـ 1962 ) ، كما أنه ينطوي على الجانب القانوني حين يتطرق الى عدم شرعية هذه المحاكمة في إسرائيل ، التي جرت إثر اختطاف " آيخمان " من الأرجنتين على يد رجال الموساد ، و ثمة مَن يرى أن هذه المحاكمة كان يجب أن تتم في إطار دولي ، على غرار محكمة ( نورمبرغ ) التي تمت فيها محاكمة القادة النازيين ، و التي فلتَ من شباكها " آيخمان " ، و قد إتُهم الفاتيكان ـ حينها ـ بأنه منحه جواز الصليب الأحمر ليتمكن من السفر على ظهر سفينة إيطالية إنطلقت من ( جنوا ) الى الأرجنتين . . كما أن الفيلم ينطوي على جانب ثقافي يتعلق بالفلسفة في الجامعات الآلمانية ، ابان الفترة النازية ، و بالفيلسوف الآلماني المعاصر " مارتن هيدغر " الذي يعتبره البعض نازياً ، كونَهُ قبـِلَ منصبَ رئيسِ جامعة ( فرايبورغ ) في عهد " هتلر " ، و هو الذي كانت " هانا آرنت " ( 1906 ـ 1975 ) على علاقةٍ عاطفيةٍ عاصفة به ، عندما كانت تدرس الفلسفة في هذه الجامعة ، و كانت تلك مفارقة لم يجد أحدٌ تفسيراً لها ، ربما حتى لدى " هانا آرنت " نفسها : يهودية تعشق نازياً .
ولدت " هانا آرنت " في آلمانيا عام 1906 ، لعائلة يهودية علمانية ، و لهذه الخلفية العلمانية دورٌ أساسٌ في رسم المسار العلمي لـ " هانا " ، حيث درست الفلسفة بصورة تخصصية قبل أن تتحول الى السياسة عام 1933 ، خصوصاً بعد اعتقالها من قبل النازيين و من ثم إطلاق سراحها ، و هي تعتبر نفسها طريدة للنازيين ، الأمر الى قادها الى فرنسا ، و بعد أن احتلها النازيون عام 1942 ، هربت الى نيويورك ، و هناك عملت في الصحافة و في التدريس الجامعي و أصبحت إسماً ثقافياً لامعاً ، و يُحسبُ حسابٌ لآرائها النقدية الجريئة و اللاذعة . و " هانا آرنت " أبرز الذين أوجدوا أوجه التشابه بين ( النازية ) و ( الستالينية ) و ذلك في كتابها ( أصول الشمولية ) . و الحقيقة أن " هانا آرنت " يُنظر اليها كفيلسوفة ، شأنها شأن " ثيانو " ( القرن السادس قبل الميلاد ) ، و " ديوتيما " معلمة " سقراط " و " هيباتيا " المولودة عام 370 ميلادية في الإسكندرية ، و " سيمون دو بوفوار " ( 1908 ـ 1986 ) و " روزا لوكسمبورغ " ( 1871 ــ أغتيلت في 5 يناير 1919 ) ... ولكن " هانا آرنت " ترفض النظر اليها كفيلسوفة بل تعتبر نفسها ( منظّرة سياسية) .
يبدأ فيلمُ ( هانا آرنت ) ، المُتَج عام 2012 ، من لحظة إختطاف " إيخمان " و هو عائدٌ من عمله في الأرجنتين ليلاً عبر طريق زراعي ( و هو ذات المشهد الذي سيتكرر في فيلم " مهمة نهائية " 2018 ، من زاوية مختلفة ــ الذي عرضناه قبل يومين ) ، ليجد نفسه في إسرائيل ، حيث جرت محاكمته التاريخية الشهيرة . المحاكمة التي إنتُدبت " هانا آرنت " إليها من قِبل صحيفة ( نيويوركر ) الأمريكية لتغطية وقائعها . ولكن على عكس ما كان متوقعاً أن تقف " آرنت " اليهودية الى جانب المحاكمة التي أدانت النازي " إيخمان " فإنها أدانت المحاكمة ذاتها ، بل إنها ذهبت الى أبعد من ذلك حين فجرت قنبلتها أمام مجموعة من اليهود داخل إسرائيل بقولها أن " إيخمان " ليس معادياً للسامية . وهذا الفيلم هو توثيقٌ لهذه الواقعة التاريخية ، و كانت " هانا آرنت " قد خرجت من المحاكمة بنحو 2000 صفحة فإستخلصت منها كتابها المثير للجدل ( أيخمن في القدس ) الصادر لحساب صحيفة ( نيويوركر) .
ترى " هانا آرنت " أن المحاكمة الإسرائيلية تعاملت مع جريمة ليس لها وجود في كتب القانون ، و مع مجرم لم يرد ذكره في محكمة ( نورمبرغ ) الدولية التي حاكمت الضباط النازيين بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، و أن المحاكمة كانت محاكمة شخص و ليس محاكمة نظام نازي معادٍ للسامية ، وهذا الشخص ـ " إيخمان " ـ كان يصر على أنه لم يقم بأي فعل إجرامي بمبادرة شخصية منه ، و أنكر كل تهمة تدينه بهكذا مبادرات . إنه كان ينفذ الأوامر التي كان يتلقاها من رؤسائه النازيين ، بمبادرات شخصية منهم أو تأتيهم متسلسلة ً من مركز القرار ، و تتوقف " آرانت " عند ملاحظة مفادها أن جميع أعذار النازيين كانت تلتقي عند نقطة واحدة تفيد بأنهم لم يكونوا أصحاب نوايا شر أو خير . إنهم كانوا يطيعون الأوامر حسب ، و تستنجُ من ذلك أن أعظم الشرور في العالم إنما كان ينفذها أشخاصٌ هم نَكِرات بلا نوايا ، فتجترح " هانا آرنت " مصطلحاً جديداً هو ( تفاهة الشر ) ، تلخص فيه طبيعة و أسباب كل الشرور التي إرتُكبت بحق الغير على يد من لم يكونوا أشراراً في تكوينهم الشخصي ، بل أُعيد تركيبُهم و تكوينُهم بطرق شريرة ليتحولوا الى أشرار وفق خطط أشرار حقيقيين .. مثل " هتلر" .
ما طرحته " هانا آرنت " بخصوص محاكمة " إيخمان " لم يكن ــ بالتأكيد ــ تقريراً يسر اليهود و غير اليهود من قـراء صحيفة ( نيويوركر ) بل هو رؤية فلسفية من زاوية سياسية . و طروحات " آرنت " حول المحاكمة أو حول عموم سياسة إسرائيل أبعد عنها أصدقاءها ، خصوصاً اليهود ، و راحوا يتجنبون لقاءها و هُددت بالطرد من الجامعة ، بل أنها لقيت العَداء من قبل إسرائيل التي منعت كتبها . ولكن كل ذلك لم يثنها عن التمسك بآرائها التي صقلتها بنفسها و رفضت حتى الرمق الأخير من حياتها أن تكون ضمن القطيع .
نستنج من سيرة " هانا آرنت " اليهودية ، إنها لم تسمح ليهوديتها أن تضبب رؤيتها تجاه الحقائق . كان عقلـُـها الهاديء هو الذي يوجّه مسارَها الفكري و الحياتي و الشخصي .. و حتى العاطفي ، كما في علاقتها مع أستاذها ( النازي ) " مارتن هيدجر " أو مع زوجها . لذلك تركت توقيعَها في سجل شخصياتِ القرن العشرين كشخصيةٍ لا تشبه أحداً و لا يشبهها أحد .. و أيقونة من أيقونات ذلك القرن.
كانت المخرجة الآلمانية " مارغريت فون تروتا " مصيبة ً في إسناد دور " هانا آرنت " الى الممثلة الآلمانية القديرة " باربارا سوكوا " و قد أبدعت في أدائها . و تُعتبر هذه المخرجة ( رائدة الأفلام النسوية الأولى في العالم ) مع أنها تعارض تسمية ( الأفلام النسائية ) ، ولكنها تُعد رائدة في حركة السينما الآلمانية الجديدة ، و ثمة مقاربات في الإخراج بينها و بين المخرج السويدي الشهير " أنغمار بريغمان " ( 1918 ـ 2007) .
و " باربارا سوكوا " معروفة على مستوى عالمي كممثلة و كعضو لجان تحكيم سينمائية ، مثل مهرجان موسكو السينمائي الدولي و مهرجان برلين السينمائي الدولي ، و سبق و أن فازت بعدة جوائز ، منها جائزة مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1986 عن تمثيلها شخصية المنظرة الماركسية و فيلسوفة الإقتصاد الإشتراكي البولندية " روزا لوكسمبورغ " ( 1871 ـ 1919 ) في فيلم ( روزا لوكسمبورغ ) الذي هو من إخراج المخرجة ذاتها " مارغريت فون تروتا" .
و لم تستعن المخرجة بأي ممثل ليلعب دور " أدولف آيخمان " بل اعتمدت الجانب الوثائقي ، بإستخدامها الأشرطة التلفزيونية التي نقلت محاكمة " إيخمان " بصورة حية ، فكانت خطوة ذكية و حيوية من قبل المخرجة التي قدمت المتهمَ الى المشاهد بصورة مباشرة ، و يبدو أن إسرائيل لم تنتبه الى أن هذه الوقائع التلفزيونية الحية نقلت صورة شبه إيجابية عن " إيخمان " من حيث ملامح الوجه البعيدة عن الشراسة و القسوة التي قدم اليهود صورةً عنها ، و كان واثقاً من براءته و رصيناً في دفاعه عن نفسه حيال التهم التي وُجهت إليه ، و قد خاطب رئيس المحكمة بعبارة واثقة : ( السيد الرئيس ، أشعر و كأنني قطعة لحم تريد أن تطبخها هنا ) . و ثمة نقطة مهمة أخرى نلمسها في وقائع المحاكمة التي نقلها التلفزيون ، إذ بدا أن ثمة شهوداً قد زُجً بهم ليقدموا أدواراً تمثيلية هزيلة ، كمسح الدموع و سقوط أحدهم مغمياً عليه . و كانت كاميرا الفيلم تقرّب وجه " هانا آرنت " و قد انتبهت الى طبيعة شخصية " إيخمان " و الى حركات الشهود و بدت أنها غير مقتنعة بما يجري ، فكونت رأيها عن هذه المحاكمة ، و الذي على أثره إعتبرها اليهود ( معادية للسامية ) . فهي وجدت أن المحاكمة إنْ هي إلا مسرحيةٌ فقط عُرضت لصالح " بن غوريون " .. رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك .
ملاحظة : سنعرض لكم ــ لاحقاً ــ حلقة من البرنامج التلفزيوني ( الى الذات ) من تقديم " غونتر غاوس " ، عام 1964 ، و فيه نتعرف على أفكار و طروحات " هانا آرنت " في الفلسفة و السياسة .
https://youtu.be/rKu3Ayo2bW4
المصدر سينما العالم
يتناول هذا الفيلم ( Hannah Arendt ) جانباً من سيرة الكاتبة اليهودية " هانا آرنت " ( 1889 ــ 1975 ) ، و تحديداً الفترة التي كانت فيها أستاذة جامعية في أمريكا ، و ذهبت خلالها الى إسرائيل لتغطية محاكمة " أدولف إيخمان " لصالح صحيفة ( نيويوركر ) . إنه فيلمٌ سياسي ، في أحد جوانبه ، يتناول قضية المحاكمة التاريخية لأحد رموز النازية ، الضابط " أدولف آيخمان " ( 1906 ـ 1962 ) ، كما أنه ينطوي على الجانب القانوني حين يتطرق الى عدم شرعية هذه المحاكمة في إسرائيل ، التي جرت إثر اختطاف " آيخمان " من الأرجنتين على يد رجال الموساد ، و ثمة مَن يرى أن هذه المحاكمة كان يجب أن تتم في إطار دولي ، على غرار محكمة ( نورمبرغ ) التي تمت فيها محاكمة القادة النازيين ، و التي فلتَ من شباكها " آيخمان " ، و قد إتُهم الفاتيكان ـ حينها ـ بأنه منحه جواز الصليب الأحمر ليتمكن من السفر على ظهر سفينة إيطالية إنطلقت من ( جنوا ) الى الأرجنتين . . كما أن الفيلم ينطوي على جانب ثقافي يتعلق بالفلسفة في الجامعات الآلمانية ، ابان الفترة النازية ، و بالفيلسوف الآلماني المعاصر " مارتن هيدغر " الذي يعتبره البعض نازياً ، كونَهُ قبـِلَ منصبَ رئيسِ جامعة ( فرايبورغ ) في عهد " هتلر " ، و هو الذي كانت " هانا آرنت " ( 1906 ـ 1975 ) على علاقةٍ عاطفيةٍ عاصفة به ، عندما كانت تدرس الفلسفة في هذه الجامعة ، و كانت تلك مفارقة لم يجد أحدٌ تفسيراً لها ، ربما حتى لدى " هانا آرنت " نفسها : يهودية تعشق نازياً .
ولدت " هانا آرنت " في آلمانيا عام 1906 ، لعائلة يهودية علمانية ، و لهذه الخلفية العلمانية دورٌ أساسٌ في رسم المسار العلمي لـ " هانا " ، حيث درست الفلسفة بصورة تخصصية قبل أن تتحول الى السياسة عام 1933 ، خصوصاً بعد اعتقالها من قبل النازيين و من ثم إطلاق سراحها ، و هي تعتبر نفسها طريدة للنازيين ، الأمر الى قادها الى فرنسا ، و بعد أن احتلها النازيون عام 1942 ، هربت الى نيويورك ، و هناك عملت في الصحافة و في التدريس الجامعي و أصبحت إسماً ثقافياً لامعاً ، و يُحسبُ حسابٌ لآرائها النقدية الجريئة و اللاذعة . و " هانا آرنت " أبرز الذين أوجدوا أوجه التشابه بين ( النازية ) و ( الستالينية ) و ذلك في كتابها ( أصول الشمولية ) . و الحقيقة أن " هانا آرنت " يُنظر اليها كفيلسوفة ، شأنها شأن " ثيانو " ( القرن السادس قبل الميلاد ) ، و " ديوتيما " معلمة " سقراط " و " هيباتيا " المولودة عام 370 ميلادية في الإسكندرية ، و " سيمون دو بوفوار " ( 1908 ـ 1986 ) و " روزا لوكسمبورغ " ( 1871 ــ أغتيلت في 5 يناير 1919 ) ... ولكن " هانا آرنت " ترفض النظر اليها كفيلسوفة بل تعتبر نفسها ( منظّرة سياسية) .
يبدأ فيلمُ ( هانا آرنت ) ، المُتَج عام 2012 ، من لحظة إختطاف " إيخمان " و هو عائدٌ من عمله في الأرجنتين ليلاً عبر طريق زراعي ( و هو ذات المشهد الذي سيتكرر في فيلم " مهمة نهائية " 2018 ، من زاوية مختلفة ــ الذي عرضناه قبل يومين ) ، ليجد نفسه في إسرائيل ، حيث جرت محاكمته التاريخية الشهيرة . المحاكمة التي إنتُدبت " هانا آرنت " إليها من قِبل صحيفة ( نيويوركر ) الأمريكية لتغطية وقائعها . ولكن على عكس ما كان متوقعاً أن تقف " آرنت " اليهودية الى جانب المحاكمة التي أدانت النازي " إيخمان " فإنها أدانت المحاكمة ذاتها ، بل إنها ذهبت الى أبعد من ذلك حين فجرت قنبلتها أمام مجموعة من اليهود داخل إسرائيل بقولها أن " إيخمان " ليس معادياً للسامية . وهذا الفيلم هو توثيقٌ لهذه الواقعة التاريخية ، و كانت " هانا آرنت " قد خرجت من المحاكمة بنحو 2000 صفحة فإستخلصت منها كتابها المثير للجدل ( أيخمن في القدس ) الصادر لحساب صحيفة ( نيويوركر) .
ترى " هانا آرنت " أن المحاكمة الإسرائيلية تعاملت مع جريمة ليس لها وجود في كتب القانون ، و مع مجرم لم يرد ذكره في محكمة ( نورمبرغ ) الدولية التي حاكمت الضباط النازيين بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، و أن المحاكمة كانت محاكمة شخص و ليس محاكمة نظام نازي معادٍ للسامية ، وهذا الشخص ـ " إيخمان " ـ كان يصر على أنه لم يقم بأي فعل إجرامي بمبادرة شخصية منه ، و أنكر كل تهمة تدينه بهكذا مبادرات . إنه كان ينفذ الأوامر التي كان يتلقاها من رؤسائه النازيين ، بمبادرات شخصية منهم أو تأتيهم متسلسلة ً من مركز القرار ، و تتوقف " آرانت " عند ملاحظة مفادها أن جميع أعذار النازيين كانت تلتقي عند نقطة واحدة تفيد بأنهم لم يكونوا أصحاب نوايا شر أو خير . إنهم كانوا يطيعون الأوامر حسب ، و تستنجُ من ذلك أن أعظم الشرور في العالم إنما كان ينفذها أشخاصٌ هم نَكِرات بلا نوايا ، فتجترح " هانا آرنت " مصطلحاً جديداً هو ( تفاهة الشر ) ، تلخص فيه طبيعة و أسباب كل الشرور التي إرتُكبت بحق الغير على يد من لم يكونوا أشراراً في تكوينهم الشخصي ، بل أُعيد تركيبُهم و تكوينُهم بطرق شريرة ليتحولوا الى أشرار وفق خطط أشرار حقيقيين .. مثل " هتلر" .
ما طرحته " هانا آرنت " بخصوص محاكمة " إيخمان " لم يكن ــ بالتأكيد ــ تقريراً يسر اليهود و غير اليهود من قـراء صحيفة ( نيويوركر ) بل هو رؤية فلسفية من زاوية سياسية . و طروحات " آرنت " حول المحاكمة أو حول عموم سياسة إسرائيل أبعد عنها أصدقاءها ، خصوصاً اليهود ، و راحوا يتجنبون لقاءها و هُددت بالطرد من الجامعة ، بل أنها لقيت العَداء من قبل إسرائيل التي منعت كتبها . ولكن كل ذلك لم يثنها عن التمسك بآرائها التي صقلتها بنفسها و رفضت حتى الرمق الأخير من حياتها أن تكون ضمن القطيع .
نستنج من سيرة " هانا آرنت " اليهودية ، إنها لم تسمح ليهوديتها أن تضبب رؤيتها تجاه الحقائق . كان عقلـُـها الهاديء هو الذي يوجّه مسارَها الفكري و الحياتي و الشخصي .. و حتى العاطفي ، كما في علاقتها مع أستاذها ( النازي ) " مارتن هيدجر " أو مع زوجها . لذلك تركت توقيعَها في سجل شخصياتِ القرن العشرين كشخصيةٍ لا تشبه أحداً و لا يشبهها أحد .. و أيقونة من أيقونات ذلك القرن.
كانت المخرجة الآلمانية " مارغريت فون تروتا " مصيبة ً في إسناد دور " هانا آرنت " الى الممثلة الآلمانية القديرة " باربارا سوكوا " و قد أبدعت في أدائها . و تُعتبر هذه المخرجة ( رائدة الأفلام النسوية الأولى في العالم ) مع أنها تعارض تسمية ( الأفلام النسائية ) ، ولكنها تُعد رائدة في حركة السينما الآلمانية الجديدة ، و ثمة مقاربات في الإخراج بينها و بين المخرج السويدي الشهير " أنغمار بريغمان " ( 1918 ـ 2007) .
و " باربارا سوكوا " معروفة على مستوى عالمي كممثلة و كعضو لجان تحكيم سينمائية ، مثل مهرجان موسكو السينمائي الدولي و مهرجان برلين السينمائي الدولي ، و سبق و أن فازت بعدة جوائز ، منها جائزة مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1986 عن تمثيلها شخصية المنظرة الماركسية و فيلسوفة الإقتصاد الإشتراكي البولندية " روزا لوكسمبورغ " ( 1871 ـ 1919 ) في فيلم ( روزا لوكسمبورغ ) الذي هو من إخراج المخرجة ذاتها " مارغريت فون تروتا" .
و لم تستعن المخرجة بأي ممثل ليلعب دور " أدولف آيخمان " بل اعتمدت الجانب الوثائقي ، بإستخدامها الأشرطة التلفزيونية التي نقلت محاكمة " إيخمان " بصورة حية ، فكانت خطوة ذكية و حيوية من قبل المخرجة التي قدمت المتهمَ الى المشاهد بصورة مباشرة ، و يبدو أن إسرائيل لم تنتبه الى أن هذه الوقائع التلفزيونية الحية نقلت صورة شبه إيجابية عن " إيخمان " من حيث ملامح الوجه البعيدة عن الشراسة و القسوة التي قدم اليهود صورةً عنها ، و كان واثقاً من براءته و رصيناً في دفاعه عن نفسه حيال التهم التي وُجهت إليه ، و قد خاطب رئيس المحكمة بعبارة واثقة : ( السيد الرئيس ، أشعر و كأنني قطعة لحم تريد أن تطبخها هنا ) . و ثمة نقطة مهمة أخرى نلمسها في وقائع المحاكمة التي نقلها التلفزيون ، إذ بدا أن ثمة شهوداً قد زُجً بهم ليقدموا أدواراً تمثيلية هزيلة ، كمسح الدموع و سقوط أحدهم مغمياً عليه . و كانت كاميرا الفيلم تقرّب وجه " هانا آرنت " و قد انتبهت الى طبيعة شخصية " إيخمان " و الى حركات الشهود و بدت أنها غير مقتنعة بما يجري ، فكونت رأيها عن هذه المحاكمة ، و الذي على أثره إعتبرها اليهود ( معادية للسامية ) . فهي وجدت أن المحاكمة إنْ هي إلا مسرحيةٌ فقط عُرضت لصالح " بن غوريون " .. رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك .
ملاحظة : سنعرض لكم ــ لاحقاً ــ حلقة من البرنامج التلفزيوني ( الى الذات ) من تقديم " غونتر غاوس " ، عام 1964 ، و فيه نتعرف على أفكار و طروحات " هانا آرنت " في الفلسفة و السياسة .
https://youtu.be/rKu3Ayo2bW4
المصدر سينما العالم