الحداثة في التشكيل السوري
سعد القاسم
تتزامن هذه الحلقة مع احتفال الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري بجيل الحداثة فيه، انطلاقاٌ من مناسبتين بالغتي الأهمية: مئوية الفنان المعلم فاتح المدرس، ومرور سبعين سنة على فوز لوحته (كفر جنة) بالجائزة الأولى في المعرض السنوي عام 1952. كأول لوحة حداثية تنال جائزة رسمية. فاعتبر هذا الحدث بداية لتاريخ الحداثة في التشكيل السوري، خاصة أن اللجنة التي منحتها الجائزة كانت تتأثر إلى حد كبير برأي الرائد المعلم محمود جلال، المنحاز إلى الواقعية الدقيقة، وحتى الكلاسيكية. وهذا ما يضاعف أهمية الحدث – من جهة - ويشير – من جهة ثانية - الى رحابة المعلم جلال وأفقه المفتوح على المستقبل، وهو من كان له الفضل الأكبر على نهضة الفن السوري بإيفاده الشبان الموهوبين للدراسة في ايطاليا وفرنسا ومصر.
وإذ اُعتبر فوز (كفر جنة) تاريخاً للحداثة في الفن التشكيلي السوري، فلأن ذلك التاريخ يختلف عن تاريخها في الفن الأوربي، والذي يُربط بظهور الانطباعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ويُؤرخ لها بتأسيس نابليون الثالث لـ(صالون المرفوضين) عام 1863، وينسب اسمها إلى لوحة كلود مونيه الشهيرة (انطباع شروق الشمس) عام 1874 رغم وجود تجارب انطباعية أوربية سابقة لها زمنياً، أو ممهدة لها. وهذا ما ينطبق أيضاً على (كفر جنة) إذ لم يكن اعتبارها بداية للحداثة في الفن التشكيلي السوري ليعني بأي حال من الأحوال أنه لم تكن هناك تجارب حداثية سابقة لها. والأمر هذا لا يشمل التجارب الانطباعية السورية فالفنان المعلم ميشيل كرشة رائد الانطباعية في الفن التشكيلي السوري بدأ بعرض لوحاته الانطباعية في العشرينات، أي بعد نحو نصف قرن من ظهور الانطباعية في أوروبا. وقد أطلق مؤرخو الفن التشكيلي السوري على مجمل التجارب التي بدأت تُعرض للجمهور مع مطالع القرن العشرين تسمية (الفن التشكيلي السوري الحديث)، واعتمد أكثرهم وجهة نظر الناقد الراحل طارق الشريف الذي تحدث عن جيل الريادة وجيل الحداثة. لكن الخلاف ظل مستمراً بين من يرى أن الرائد في الفن التشكيلي السوري هو من بدأ زمنياً، حتى لو كان مُقلداً، أو تقليدياً، وبين من يرى أن الرائد هو من ابتكر أسلوباً أو نهجاً جديداً، تخطى القواعد الكلاسيكية. وبالتالي أضحى هناك ضرورة حديث عن جيل ثانٍ من الرواد، من أجل دقة التوصيف من جهة، ومن أجل تأكيد أهمية الدور الكبير الذي أداه فنانو الجيل الأول، وما تركوا من إرث فني يستحق التقدير، من جهة ثانية.
أطلق الناقد المرحوم طارق الشريف اسم (أو وصف) جيل الحداثة على الجيل الثاني من الفنانين التشكيليين السوريين، وقد شاعت هذه التسمية بعده، ذلك أن الجيل الذي ينتمي اليه نصير شورى ومحمود حماد وفاتح المدرس والأخوين أدهم ونعيم اسماعيل والياس زيات وبرهان كركوتلي ولؤي كيالي ونذير نبعة وسواهم.. هو من صنع هوية الفن التشكيلي السوري الحديث باستلهامه التراث الإبداعي السوري الثري، وانفتاحه في الآن ذاته على مفاهيم الفن في عصره، فأبدع فناً أصيلاً لا يتقوقع على ذاته، ولا يذوب في غيره. وإلى ذلك اتسم هذا الجيل بالعمق المعرفي، وبالحوارات العميقة في تجمعات سمتها الأساسية الثقافة والإبداع.
يمتلك طارق الشريف الحق بإطلاق الاسم الذي يختار، فقد ركز اهتمامه خلال سنوات طويلة من عمله النقدي التوثيقي حول الاتجاهات الراهنة في الفن التشكيلي السوري أواخر الستينات، وتجلى هذا في كتابه (عشرون فناناً من سورية) الذي أنجزه عام 1969 والصادر عن وزارة الثقافة عام1972 متضمناً مقالات عن عشرين فناناً كتبها بين عامي 1967و 1968. وفي الوقت ذاته تابع بحثه حول بدايات الفن التشكيلي السوري الذي أسس لمحاولته الرائدة لتأريخ هذا الفن، والتي نشرها في مطلع الثمانينات فكانت مستنداً لكثير من الأبحاث والدراسات التي جاءت بعده، ومنها كتاب (الفن التشكيلي المعاصر في سورية) الذي أصدرته (صالة أتاسي) عام1998 وأثار اهتماماً واسعاً في الوسط التشكيلي.
ومع ما سبق، وكل التقدير الذي احمله لطارق الشريف وانجازه، فإني (من جهتي) أفضل استخدام وصف جيل الرواد الثاني، لأن هذا يحدد دور هذا الجيل من جهة، وينصف الجيل الأول من جهة أخرى، فلا يجعل الثاني انفصالاً عنه وانما استمراراً له. ففي موجة الابتهاج بالحداثة يغيب احياناً الحديث المنصف عن جيل الرواد، الحديث الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الصعبة التي احاطت بهم، أو شجاعتهم في مواجهتها فحسب، وإنما أيضاً العمق الفكري والثقافي الذي تستند اليه (مغامرتهم التشكيلية) وهو ما يمكن التعرف عليه عن كثب من الدراسة العميقة للسير الحياتية والابداعية لتوفيق طارق ومنيب النقشبندي و غالب سالم وعبد الوهاب ابو السعود وسعيد تحسين ورشاد مصطفى وميشيل كرشة وخالد معاذ ورشاد قصيباتي و وهبي الحريري و إسماعيل حسني وسواهم.
مع أن ضرورة البحث تقتضي هذا التقسيم، سواء تحدثنا عن جيل الحداثة، أو جيل الرواد الثاني. فإن الفصل التام بين الجيلين غير ممكن، حتى لو اعتمدنا المقياس الزمني. ونسبنا كل من ولد قبل عام 1920 إلى جيل الرواد الذي التزم بالواقعية والانطباعية، وما يمكن وصفه بالواقعية الانطباعية. فالفنان الرائد صبحي شعيب المولود عام 1909 اتجه نحو التعبيرية. واتجه صلاح الناشف ((1914 إلى التجريد، فيما نجد بالمقابل أن رولان خوري (1930) الذي ينتمي إلى جيل الحداثة زمنياً، التزم بالأسلوب الواقعي، كما هو حال عاصم زكريا و عز الدين همت (1938) رحمهم الله، وزياد الرومي (1938) أمد الله بعمره، وكثيرون غيرهم. فيما يمكن اعتبار نصير شورى ((1920 نقطة تواصل بين جيلي الرواد، أو بين جيل الرواد وجيل الحداثة
سعد القاسم
تتزامن هذه الحلقة مع احتفال الموسم الخامس لأيام الفن التشكيلي السوري بجيل الحداثة فيه، انطلاقاٌ من مناسبتين بالغتي الأهمية: مئوية الفنان المعلم فاتح المدرس، ومرور سبعين سنة على فوز لوحته (كفر جنة) بالجائزة الأولى في المعرض السنوي عام 1952. كأول لوحة حداثية تنال جائزة رسمية. فاعتبر هذا الحدث بداية لتاريخ الحداثة في التشكيل السوري، خاصة أن اللجنة التي منحتها الجائزة كانت تتأثر إلى حد كبير برأي الرائد المعلم محمود جلال، المنحاز إلى الواقعية الدقيقة، وحتى الكلاسيكية. وهذا ما يضاعف أهمية الحدث – من جهة - ويشير – من جهة ثانية - الى رحابة المعلم جلال وأفقه المفتوح على المستقبل، وهو من كان له الفضل الأكبر على نهضة الفن السوري بإيفاده الشبان الموهوبين للدراسة في ايطاليا وفرنسا ومصر.
وإذ اُعتبر فوز (كفر جنة) تاريخاً للحداثة في الفن التشكيلي السوري، فلأن ذلك التاريخ يختلف عن تاريخها في الفن الأوربي، والذي يُربط بظهور الانطباعية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ويُؤرخ لها بتأسيس نابليون الثالث لـ(صالون المرفوضين) عام 1863، وينسب اسمها إلى لوحة كلود مونيه الشهيرة (انطباع شروق الشمس) عام 1874 رغم وجود تجارب انطباعية أوربية سابقة لها زمنياً، أو ممهدة لها. وهذا ما ينطبق أيضاً على (كفر جنة) إذ لم يكن اعتبارها بداية للحداثة في الفن التشكيلي السوري ليعني بأي حال من الأحوال أنه لم تكن هناك تجارب حداثية سابقة لها. والأمر هذا لا يشمل التجارب الانطباعية السورية فالفنان المعلم ميشيل كرشة رائد الانطباعية في الفن التشكيلي السوري بدأ بعرض لوحاته الانطباعية في العشرينات، أي بعد نحو نصف قرن من ظهور الانطباعية في أوروبا. وقد أطلق مؤرخو الفن التشكيلي السوري على مجمل التجارب التي بدأت تُعرض للجمهور مع مطالع القرن العشرين تسمية (الفن التشكيلي السوري الحديث)، واعتمد أكثرهم وجهة نظر الناقد الراحل طارق الشريف الذي تحدث عن جيل الريادة وجيل الحداثة. لكن الخلاف ظل مستمراً بين من يرى أن الرائد في الفن التشكيلي السوري هو من بدأ زمنياً، حتى لو كان مُقلداً، أو تقليدياً، وبين من يرى أن الرائد هو من ابتكر أسلوباً أو نهجاً جديداً، تخطى القواعد الكلاسيكية. وبالتالي أضحى هناك ضرورة حديث عن جيل ثانٍ من الرواد، من أجل دقة التوصيف من جهة، ومن أجل تأكيد أهمية الدور الكبير الذي أداه فنانو الجيل الأول، وما تركوا من إرث فني يستحق التقدير، من جهة ثانية.
أطلق الناقد المرحوم طارق الشريف اسم (أو وصف) جيل الحداثة على الجيل الثاني من الفنانين التشكيليين السوريين، وقد شاعت هذه التسمية بعده، ذلك أن الجيل الذي ينتمي اليه نصير شورى ومحمود حماد وفاتح المدرس والأخوين أدهم ونعيم اسماعيل والياس زيات وبرهان كركوتلي ولؤي كيالي ونذير نبعة وسواهم.. هو من صنع هوية الفن التشكيلي السوري الحديث باستلهامه التراث الإبداعي السوري الثري، وانفتاحه في الآن ذاته على مفاهيم الفن في عصره، فأبدع فناً أصيلاً لا يتقوقع على ذاته، ولا يذوب في غيره. وإلى ذلك اتسم هذا الجيل بالعمق المعرفي، وبالحوارات العميقة في تجمعات سمتها الأساسية الثقافة والإبداع.
يمتلك طارق الشريف الحق بإطلاق الاسم الذي يختار، فقد ركز اهتمامه خلال سنوات طويلة من عمله النقدي التوثيقي حول الاتجاهات الراهنة في الفن التشكيلي السوري أواخر الستينات، وتجلى هذا في كتابه (عشرون فناناً من سورية) الذي أنجزه عام 1969 والصادر عن وزارة الثقافة عام1972 متضمناً مقالات عن عشرين فناناً كتبها بين عامي 1967و 1968. وفي الوقت ذاته تابع بحثه حول بدايات الفن التشكيلي السوري الذي أسس لمحاولته الرائدة لتأريخ هذا الفن، والتي نشرها في مطلع الثمانينات فكانت مستنداً لكثير من الأبحاث والدراسات التي جاءت بعده، ومنها كتاب (الفن التشكيلي المعاصر في سورية) الذي أصدرته (صالة أتاسي) عام1998 وأثار اهتماماً واسعاً في الوسط التشكيلي.
ومع ما سبق، وكل التقدير الذي احمله لطارق الشريف وانجازه، فإني (من جهتي) أفضل استخدام وصف جيل الرواد الثاني، لأن هذا يحدد دور هذا الجيل من جهة، وينصف الجيل الأول من جهة أخرى، فلا يجعل الثاني انفصالاً عنه وانما استمراراً له. ففي موجة الابتهاج بالحداثة يغيب احياناً الحديث المنصف عن جيل الرواد، الحديث الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الظروف الصعبة التي احاطت بهم، أو شجاعتهم في مواجهتها فحسب، وإنما أيضاً العمق الفكري والثقافي الذي تستند اليه (مغامرتهم التشكيلية) وهو ما يمكن التعرف عليه عن كثب من الدراسة العميقة للسير الحياتية والابداعية لتوفيق طارق ومنيب النقشبندي و غالب سالم وعبد الوهاب ابو السعود وسعيد تحسين ورشاد مصطفى وميشيل كرشة وخالد معاذ ورشاد قصيباتي و وهبي الحريري و إسماعيل حسني وسواهم.
مع أن ضرورة البحث تقتضي هذا التقسيم، سواء تحدثنا عن جيل الحداثة، أو جيل الرواد الثاني. فإن الفصل التام بين الجيلين غير ممكن، حتى لو اعتمدنا المقياس الزمني. ونسبنا كل من ولد قبل عام 1920 إلى جيل الرواد الذي التزم بالواقعية والانطباعية، وما يمكن وصفه بالواقعية الانطباعية. فالفنان الرائد صبحي شعيب المولود عام 1909 اتجه نحو التعبيرية. واتجه صلاح الناشف ((1914 إلى التجريد، فيما نجد بالمقابل أن رولان خوري (1930) الذي ينتمي إلى جيل الحداثة زمنياً، التزم بالأسلوب الواقعي، كما هو حال عاصم زكريا و عز الدين همت (1938) رحمهم الله، وزياد الرومي (1938) أمد الله بعمره، وكثيرون غيرهم. فيما يمكن اعتبار نصير شورى ((1920 نقطة تواصل بين جيلي الرواد، أو بين جيل الرواد وجيل الحداثة