Mohammed Dunia
14 مايو ·
الدماغ البشري
الموضوع هو من ترجمتي لأبحاث حديثة بالكامل عن مراكز دراسات وأبحاث كمعهد الدماغ الباريسي، ومشفى " بيتييه – سالبتريير، " المدعوم من جامعة السوربون، والمركز الوطني للبحوث العلمية والمعهد الوطني للصحة والأبحاث والدراسات الطبية في فرنسا.
وكنت قد نشرت العديد من الملفات المترجمة في مجلات سورية وعربية حول هذا الموضوع منذ ثمانينيات القرن الماضي فضلاً عن كتابين بحدود ألف صفحة صدر أحدهما عام 2007 بعنوان " الدماغ والفكر " وسيصدر الأخر قريباً تحت عنوان " من العقل إلى الدماغ " وكلاهما عن وزارة الثقافة السورية
وفي آذار الماضي، انتهى " أسبوع الدماغ " في باريس وهو مؤتمر سنوي يحضره اختصاصيون من كل أنحاء العالم، وقد حصلت على ملفاته المؤلفة من حوالي 150 لأترجمها إلى العربية.
الدماغ مقر الوظائف العليا، الحواسية والمعرفية والاستجابات العصبية وإيقاعي القلب والتنفس واتخاذ القرارات والوعي.. وإن كان العلماء قد قسموه إلى باحات ومناطق ( الباحات المشترِكة في الذاكرة والوعي، وباحة اللغة... ) فإن أسراره لم تكتشف كلها بعد. فلسفياً، الدماغ هو العضو الذي يدرك، ويفكر، ويفعل. إذن، فهو الذي يتيح إعطاء معنى لوجودنا. سوسيولوجياً، هو قائد أوركسترا البدن، فيقوده ويقود نفسه، ومسؤول عن سلوكياتنا وتفاعلاتنا مع من نشكل معهم مجتمعاً. علمياً، الدماغ رهان رئيسي، إذ لم يعط أسراره كلها بعد، من حيث نموه وتطوره وعمله المعتاد، بل وأيضاً قدرات تكيفه وآليات تكوّن قدراتنا الفكرية، وعواطفنا وانفعالاتنا وسلوكياتنا الحركية التي تأتي تعبيراً عنها. طبياً وصحياً، التحدي اليوم هو فهم الدماغ المريض ضمن إطار الأمراض العصبية ( ألزايمر، بركنسون، الصرع... )، والنفسانية ( الاكتئاب، والفصام، والانطواء على الذات... ). وهكذا، يشكل الدماغ مع النخاع الشوكي الجهازَ العصبي المركزي القادر على دمج وتكامل المعلومات والتحكم بحركيتنا وتأمين وظائفنا الاستعرافية. وزنه وسطياً بين 1,3 و1,4 كغ ( 75% منه ماء ) ويستهلك بين 15 إلى 20% من طاقة أجسامنا. ويتشكل من نصفي كرة دماغية يحوي كل منهما باحات وفصوصاً هي مراكز للاستدلال واللغة وتنسيق الحركات الإرادية ووعي الجسد والوسط المحيط والسمع والذاكرة ومعالجة الألم والروائح والتذوق. ويتألف من 100 مليار عصبون ( خلية عصبية ). والفص الجبهي هو قائد أوركسترا الدماغ، إنه من يمكّننا من فهم كيفية إعداد وضبط بعض سلوكياتنا المعقدة كاتخاذ القرار والتفاعلات الاجتماعية والإبداع أيضاً. ومن شأن خلل وظيفة هذه المنطقة أن تفضي إلى أمراض عصبية ونفسية كألزايمر والخرف، والاكتئاب والاضطرابات الوسواسية الاستحواذية.
من وظائف الدماغ القدرة على اتخاذ القرار، أي إمكان القيام بخِيار وفق سلم تقييمات بحيث نختار الأفضل. يؤدي أيضاً وظيفة الإبداع، أي القدرة على إنتاج أو خلق شيء ما ( فكرة، منتج، خدمة، عمل ) أصلي وجديد، ومتناسب في الوقت نفسه مع السياق. والإبداع جوهري لنا من حيث أنه يمكننا من التكيف والتآلف مع أوضاعٍ ومشكلات جديدة، مع إيجاد حلول غير مسبوقة وفعالة في الوقت نفسه. ويشير باحثو " معهد الدماغ " إلى أن ميدان الإبداع قد يكون من مسؤولية قشرة مقدم الجبهة الدماغية لكن بالاشتراك مع منظومات عصبونية مختلفة.
ماذا يحدث في الدماغ عندما نحلم؟
الأحلام في بعض الأحيان طريفة، وأحياناً مخيفة. نتذكرها أحياناً وقد لا نتذكرها. فهل يخادعنا دماغنا؟ ما تزال آليات الحُلْم سراً تسعى العلوم العصبية إلى إماطة اللثام عنه دون كلل. من الناحية المنطقية، الدماغ خلال النوم في حالة راحة. وفي الواقع، يتبين لدى الأشخاص الغارقين في نوم عميق أن بعض الوظائف تنطفئ أو تتباطأ، كالقشرة الدماغية الإبصارية الأولية، التي تشكل جزءاً من سلسلة معالجة المعلومات الآتية من شبكية العين. والوضع هو كذلك بالنسبة لقشرة مقدم الجبهة بخصوص الاستدلال والمنطق. بالمقابل، يلاحظ وجود نشاط قوي في مناطق أخرى، خصوصاً النواحي الحسية، كالقشرة الإبصارية الترابطية التي تنتج صوراً، وفي اللوزة المخية التي تعالج الانفعالات أو أيضاً في الحصين المسؤول عن الذاكرة. من هنا ثراء أحلامنا بالصور والانفعالات، رغم انعدام معلومات الحواس التي تأتي مثلاً من العينين أوقات اليقظة: الدماغ وحده هو من يولِّد الأحلام.
كيمياء دماغية وانفعالات
الفرح، والغضب، والحزن وسواها من الانفعالات هي نتيجة توازن دقيق لمواد قائمة في أجزاء دماغنا المختلفة. والانفعالات ردودُ فعل جسدنا على منبهات أو مثيرات آتية من بيئتنا. وتجري معالجتها في جهاز دماغنا الطرفي، الاسمِ الذي يطلق على مجموعة من البنى الدماغية التي تؤدي دوراً هاماً جداً في السلوك ولاسيما على مستوى مختلف الانفعالات كالعدوانية، والألم المعنوي أو الأخلاقي، والخوف والمتعة وتشكيل الذاكرة أيضاً. ومن بين هذه البنى يذكر الحصين المسؤول عن تشكيل الذاكرة طويلة الأمد والاهتداء في المكان ( ذاكرة المكان ) واللوزة المخية المسؤولة عن العدوانية والخوف. أما الحب، فهو ليس انفعالاً، بل عاطفة معقدة، تشترك فيها مجموعة كاملة من المواد. في الحب من أول نظرة، يظهر ازدياد في إفراز الناقل العصبي والهرمون المسمى أدرينالين مما يفضي إلى صحوة عاطفية وتسارع في ضربات القلب؛ كما تبرز زيادة في الناقل العصبي المسمى الدوبامين الذي يولّد رغبة. وفي حال استمر الحب، يظهر نشاط متنام في ناحية دماغية ذات علاقة بعاطفة التعلق اسمها " الكرة الشاحبة " وفي بنى غنية بمستقبلات الجزيئة العصبية المسماة الأوسيتوسين، أو ما يعرف بهرمون التعلق. ( طبعاً الأمور أعقد من ذلك بكثير لكن التبسيط العلمي يقتضي ذلك ).
العينان مرآة الصحة العقلية ( وهذا اكتشاف حديث )
العينان مرآة النفس، إذ تعكسان انفعالاتنا وعواطفنا، لكن هما أيضاً مرآة الدماغ. كيف؟ يمكن أن تكون بعض المشكلات بمستوى أوعية العين الدموية مؤشراً على وجود أمراض وعائية، ذلك أن الدماغ في غاية الحساسية إزاء هذه الآفات. الدماغ عضو مركزي، وحسْن صحته أمر أساسي. ويمكن أن تكون الحوادث الوعائية الدماغية سبباً لانخفاض القدرات المعرفية. ومن شأن هذه الحوادث أن تحرم بعض العصبونات من واردات الدم الكافية، بسبب وجود شريان مسدود أو مثقوب أو متشنج، وهو ما يسمى بالإقفار ( نقص التروية ). وإذ لا يعود الأكسجين والمغذيات تصل إلى هذه الخلايا العصبية فإنها تموت ولا تعود قادرة على تأمين وظيفتها. والمشكلة أن الدماغ ليس العضو الذي يسهل الوصول إليه مغلقاً داخل الجمجمة الحامية، وبالتالي من العسير معاينته. إذاً، ما السبيل إلى تقدير حسن صحة الدماغ؟ وفقاً لأعمال باحثين أمريكيين فثمة رابط بين حالة الأوعية الدموية في شبكية العين والأوعية الدماغية. وبالنتيجة، تكفي معاينة الأذيات الوعائية في قاع العينين لتقدير مخاطر الإصابات من النوع نفسه في الدماغ. وهكذا، جاءت دراسات حديثة تؤكد أن اعتلالات شبكية العين يمكن أن تكون واسمات لتقييم مخاطر الأمراض الوعائية الدماغية. مع ذلك، ينبغي ألا نربِط منهجياً بين اعتلال يصيب شبكية العين وقصور معرفي، فالتقنيات هنا هدفها تقييم مخاطر وجود اضطرابات في دورة الدماغ الدموية ومن ثم تحديد ظهور تلك الاضطرابات. ويبقى سؤال يطرح نفسه: هل تصيب هذه الآفات الدماغ أولاً قبل أن تظهر بمستوى العينين، أم العكس؟ أم أن هذه الاضطرابات العينية عابرة؟ قد تأتي الدراسات المستقبلية بالإجابات الدقيقة.
دماغ أيمن، دماغ أيسر: ما الفوارق؟
ينطوي الدماغ على نصفي كرة دماغية / مخية، الأيمن والأيسر. فهل ثمة فوارق مهمة بين هذين القسمين من الدماغ؟ في الواقع، ليست فكرة أن بعض الأشخاص يستخدمون هذا النصف من الدماغ أكثر من الآخر سوى أسطورة. في بدايات دراسة الدماغ، تمكن باحثون من أن يظهروا وجود تخصص على مستوى الباحات الدماغية. وفي القرن التاسع عشر، وصف " بول بروكا " و" كارل فيرنيكه " نواحي من نصف الكرة الدماغية الأيسر ضالعةً في اللغة: باحةَ بروكا وباحة فيرنيكه. وبدأت هذه الاكتشافات تؤكد فكرة عدم تناظر الدماغ؛ بذلك، فإن تعرُّف الوجوه تتحكم به بالأحرى ناحيةٌ من النصف الأيمن؛ بينما الوظائف الحسية والحركية هي من مسؤولية نصفي كرة الدماغ كليهما؛ وعضلات القسم الأيسر من الجسم يتحكم بها النصف الأيمن من الدماغ، والعكس صحيح، وهذا ما من شأنه أن يترك انطباعاً بأن نصفي كرة الدماغ يعملان كل منهما على نحو مستقل عن الآخر. لكن الحقيقة هي أنهما يتواصلان ويعملان متعاونين من أجل إنجاز مهمات معقدة. غالباً ما صور الدماغ الأيسر على أنه مرتبط بالاستدلال المنطقي والعقلي، والدماغُ الأيمن على أنه حدسي وانفعالي. وهكذا، فهنالك أشخاص هم بالأحرى " دماغ أيسر " أو " دماغ أيمن "، ربما كانوا يستخدمون هذا النصف الدماغي أكثر من ذاك، بل إن هذا التصور نفسه يعزو في الغالب الدماغ الأيسر للرجال والأيمن للنساء، المعروفات على أنهن أكثر حدْسية... . كما أن الفنانين، من منطلق إبداعهم، ربما كانوا يستخدمون دماغهم الأيمن أكثر من الآخر! إلا أن ذلك كله لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وليس وليد معارف علمية موثوقة: ليس من الممكن تعريف شخصيات من خلال تخصص أحد نصفي الكرة الدماغية الذي يمكن أن يكون متفوقاً على الآخر. إننا نستخدم نصفي كرة دماغنا كليهما معاً أياً كانت شخصياتنا.
دماغنا يعتبر الموسيقى لغة
لقد بقيت الموسيقى وثيقة الارتباط بنوعنا البشري. ومن الواضح أن هذه العناصر المتناسقة، المختارة بنتيجة إيقاعها وتآلف أنغامها، تكلمنا وتلامس عواطفنا وانفعالاتنا بصورة مباشرة، حتى أن العديد من الاختصاصيين يعتقدون أن اللغة والموسيقى قد ظهرتا معاً، أو أنهما على الأقل مترابطتان بقوة. وقد جاءت دراستان حديثتان بحجج جديدة تؤيد هذا الطرح. تفيد الأولى بأن الموسيقى أقرب إلى الشعر منها إلى اللغة، بينما تكشف الثانية عن أن العمليات الدماغية التي تعالج الموسيقى واللغة هي نفسها، أي أن مناطق الدماغ المرتبطة بهاتين القدرتين، البشريتين نموذجياً، هي ذاتها. وهذا ما مالت إلى تأكيده " جمعية علم النفس البريطانية " في مؤتمرها السنوي مؤخراً.
ما الخيال، ما أسراره الخبيئة؟
صنْع أداة، أو حل إشكالية، أو رسم لوحة...ما كان لمثل هذه المهمات أن تغدو ممكنة لولا الخيال. الإنسان كائن فضولي ومبدع، يطرح تساؤلات باستمرار حول العالم المحيط به. وتطوره برهانٌ على ذلك. وعلى مر القرون، لم يكف عن التعلم كيف يعرف ويروض العالم حوله. وقد شعر أيضاً بالحاجة إلى تدوين مشاعره وانفعالاته في أعمال فنية، كي يتواصل بصورة أفضل مع معاصريه. مع ذلك، ما كان لهذه القدرات أن ترى النور لولا تحليقٌ في الخيال، الذي يشكل دعامة جوهرية في العمل العلمي والفني، ونقطة انطلاق لابتكار أفكار جديدة. وبفضل الخيال جزئياً، تجلت أعظم الاكتشافات العلمية وأروع الأعمال الفنية. لكن، من أين يأتي الخيال وكيف يصنع في الدماغ؟ أثارت هذه الأسئلة الشائكة اهتمام العلماء والفلاسفة منذ عصور قديمة. في الواقع، هنالك شبكة عصبونية تتيح التفاعل بين عدة مناطق دماغية وخلقِ الأفكار الخيالية. مع ذلك، لم يفلح أي فريق علمي حتى الآن في تأكيد هذه النظرية. إلا أن فريقاً بحثياً أمريكياً توصل إلى نتائج تؤيد فكرة أن عدة نواحي دماغية تنسق نشاطاتها بحيث تتيح مجالاً لعمل الخيال.
ماذا عن أمراض الدماغ؟
في الواقع، أمراضه عديدة. هناك الصرع، الذي هو مظهر من مظاهر فرط النشاط الدماغي الناجم عن فرط إثارة خلايا عصبية، ونعني بها عصبونات القشرة الدماغية. وأيضاً داء بركنسون المرتبط بتلف شامل بمستوى العصبونات المسماة دوبامينية الفعل، ويتجلى على شكل رعاش وتصلب عضلي وترافقه اضطرابات في المشي. وهناك جوانب أخرى كثيرة للغاية من عمل الدماغ ووظائفه ومرضياته يحتاج إيرادها إلى صفحات وصفحات.
ماذا عن الداء الذي بات يرعبنا جميعاً؟ ألزايمر
سمة داء ألزايمر هي تشكل لويحات ( صفيحات ) شيخوخية بين الخلايا العصبية. أما الأعراض التي نلاحظها في هذا الداء فهي ناشئة عن تنكُّس ( أي عن تغيرات وتبدلات في البنية العضوية ) يصيب خلايا الدماغ العصبية. لم يتوضح بعدُ لغز الآليات التي تتيح تشكل هذه اللويحات أو الرواسب المسماة النشوانية ( النشوانية أي ما يشبه النَّشا أو يتصف ببعض صفاته ) بين الخلايا العصبية وتسبب تشابكات وتداخلات عصبية ليفية داخل هذه العصبونات تؤدي إلى تخريب العصبونات من الداخل. ومؤخراً، كشف فريق دولي من الباحثين عن سر جديد في قلب اللويحات النشوانية، حيث وجدوا ترسبات قِوامها نحاس وحديد. إلا أن هذين العنصرين ليسا بشكلهما الأيوني الموجود في أنحاء الجسم البشري كلها، بل بشكلهما المعدني وهو اكتشاف غير مسبوق في النسُج البشرية. مع ذلك، في الحقيقة، لم تعط الأبحاث السريرية المستمرة منذ عشرين سنة مضت حول مرض ألزايمر أية نتيجة. وقوع هذا المرض في ازدياد على مستوى العالم، ولم يعثر له على علاج ولا إمكانية للحد من ظهور الأعراض على نحو دائم.
هل هناك عوامل تزيد من مخاطر الإصابة؟
يشكل داء ألزايمر السببَ الأول للخرف على مستوى العالم. ويوجد مثلاً في فرنسا وحدها اليوم 900000 مصاب، ومن المتوقع أن يطال المرض 2 مليون شخص فوق سن 65 سنة من الآن وحتى عام 2040. وقد حدد الباحثون عدة عوامل خطر قد يتيح تجنبها الحدَّ من وقوعات هذا الداء. ألزايمر، يعني فقدان ذاكرة، وصعوبات تخطيط، وتعثراً في تنفيذ مهمات عادية مألوفة، وتخليطاً في الزمان والمكان واضطرابات في المزاج. أعراض داء ألزايمر معيقة وعديدة، وعديدة أيضاً هي عوامل الوقوع فيه، بل يتحدث الباحثون عن أنه آفة متعددة كثيرة العوامل، إذْ تتدخل فيها تركيبة معقدة من العناصر؛ وللأسف، ليس ممكناً التأثير على بعض هذه العوامل. هنالك أولاً الوراثة، مثلاً. إلا أن ذلك يشمل حالات نادرة جداً من مرض ألزايمر؛ فهنالك بشكل خاص العمر، الذي يمس أقل من 2% من السكان بعمر يقل عن 65 سنة؛ والجنس، حيث ترتفع النسبة وراثياً إلى 60% لدى النساء. لكن يبقى من الممكن التأثير على عوامل أخرى محددة.
عوامل الخطر الوعائية القلبية
حسب رأي الباحثين أنه كلما كانت المخاطر القلبية الوعائية عاليةَ المستوى لدى الشخص ترتفع لديه مخاطر التعرض لمرض ألزايمر. وهكذا، فإن فرط ضغط الدم قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات استعرافية ( معرفية ). وكي يبقى هذا الضغط بمستوى سوي ينصح بمراقبة الوزن وضبطه، والحدِّ من تناول الملح، والابتعاد عن المشروبات الكحولية، وممارسة النشاطات البدنية. ويعتبر التبغ والنيكوتين من أعداء الدماغ، ومن شأن تحاشي التدخين أن يؤخر ظهور ألزايمر واضطرابات استعرافيةٍ أخرى. وتشير الدراسات الأحدث أيضاً إلى أن المستويات العالية من الكولستيرول LDL ( الضار ) والمستويات المتدنية من الكولستيرول HDL ( النافع ) في الدم تزيد من مخاطر تطوير هذا الداء. وليس ثمة ما هو أفضل من النظام الغذائي المتوازن والنشاط البدني المنتظم للحفاظ على معدلات كولستيرول صحيحة وسوية. ذلك خصوصاً وأن هذا الأمر يتيح أيضاً تجنب زيادة الوزن التي تعتبر أحد عوامل خطر الإصابة. وهنالك أيضاً عامل خطر آخر: الداء السكري من النمط 2، الذي يظهر عموماً بعد سن 45 سنة وينطوي على إشارة بحدوث تغير في طريقة التواصل بين الخلايا الدماغية. وللإبقاء على معدل سكر ثابت في الدم، من الأنسب أن يكون ذلك تحت إشراف طبي. ويمكن أن يكون إعطاء الأنسولين شأناً مساعداً في هذه الأحوال. لكن من الملاحظ أن داء ألزايمر يبدو على العكس أنه يعرقل قدرة جسمنا في الاستجابة للأنسولين.
هل لمستوى التعليم والنشاطات المعرفية دور ما ؟
أظهرت الدراسات على الدوام أنه كلما طورنا أدمغتنا وحرضناها عززنا الاتصالات الدماغية على الأداء الأمثل وقللنا من مخاطر تطوير شكل ما من أشكال الخرف. إذاً، يمكن أن ينظر إلى مستوى الثقافة الضعيف على أنه عامل خطر للإصابة بألزايمر. يبدو التحريض الذهني أنه يتيح التخفيف من تأثيرات هذا المرض. ذلك تقريباً كما لو أن الدماغ الأكثر تطوراً يغدو أكثر مقاومة لهجمات الخرف. كما يبدو أن لإصابات الجمجمة التي يكون قد تعرض لها الشخص سابقاً تأثيراً على تطوير حالات من الخرف في وقت لاحق من الحياة؛ لاسيما تلك الإصابات التي ترافقت بفقدان وعي دام أكثر من خمس دقائق، إذ من شأنها أن تكون قد ألحقت ضعفاً ما بمستوى الدماغ؛ أما الاكتئاب فينظر إليه أحياناً على أنه واحد من أعراض ألزايمر. في الواقع، يبدو أن الاكتئاب يشكل أحد عوامل خطر الإصابة بهذا الداء. إن للنوائب الاكتئابية تأثيراً يتمثل في ازدياد مستويات المواد الكيميائية الضارة في دماغنا. وبذلك فإن من شأنها أن تزيد من خطر التعرض لهذه الآفة. ولاضطرابات النوم والشدة أيضاً دور. وما هو معروف جيداً اليوم أن الدماغ يفيد من نومنا في طرح الفضلات التي تلوثه كما أن الضغط النفسي مؤذ للصحة مثلما بات معروفاً، وللكورتيزول، هرمون الضغط، تأثير سلبي على الذاكرة بشكل خاص. ومن سمات الضغط أو الشدة أيضاً أنه يؤذي صحتنا الوعائية القلبية ويضعف الدفاعات المناعية التي تساعدنا في مكافحة الخرف.
هل من علاقة بين قلة النوم والخرف؟
هل تهيئ قلة النوم، بدءاً من سن الخمسين، الأرضية المناسبة التي تحث على تنامي خطر الإصابة بالخرف؟ تشير خلاصة دراسة تابعت ما يقرب من 8000 شخص على مدى 25 عاماً إلى أن النوم أقل من ست ساعات في الليلة على نحو مستمر يفضي إلى ازدياد خطر التعرض للخرف بنسبة 30% ( والخرف هو حالة نقص شديد يعتري الوظائف العقلية إلى حد الاقتراب من فقدانها التام ). وتفيد دراسة نشرت في مجلة Nature العلمية البريطانية ( نيسان 2021 ) بأن من ينامون أقل من المطلوب، أي ست ساعات في الليلة أو أقل في سن 50 إلى 60 سنة، تزداد لديهم مخاطر التعرض بنسبة تتراوح بين 20 إلى 40% بالمقارنة مع من يتميزون بنوم ليال " سوية " يمتد إلى 7 ساعات. ووفقاً لمعطيات منظمة الصحة العالمية، تظهر في كل عام على المستوى العالمي نحو 10 ملايين حالة خرف جديدة، بما في ذلك داء ألزايمر. وكثيراً ما يكون النوم مضطرباً لدى هؤلاء المرضى. وقد تتمكن أبحاث مستقبلية من إيضاح ما إذا كان تحسين عادات النوم يساعد في الوقاية من الخرف، وفقاً لما ورد في مجلة Nature اللندنية العلمية. وبانتظار ذلك، " من شأن الابتعاد عن التدخين، وتجنب المشروبات الكحولية قدر الإمكان، مع ممارسة النشاط الذهني والبدني، والتمتع بنظام غذائي متوازن وضبط مستويات الكولستيرول وضغط الدم أن يبقي على دماغنا في حالة صحية مناسبة مع تقدمنا في العمر "، حسب قول الباحثين.
ترجمة محمد الدنيا
Mohammed Dunia
14 مايو ·
الدماغ البشري
الموضوع هو من ترجمتي لأبحاث حديثة بالكامل عن مراكز دراسات وأبحاث كمعهد الدماغ الباريسي، ومشفى " بيتييه – سالبتريير، " المدعوم من جامعة السوربون، والمركز الوطني للبحوث العلمية والمعهد الوطني للصحة والأبحاث والدراسات الطبية في فرنسا.
وكنت قد نشرت العديد من الملفات المترجمة في مجلات سورية وعربية حول هذا الموضوع منذ ثمانينيات القرن الماضي فضلاً عن كتابين بحدود ألف صفحة صدر أحدهما عام 2007 بعنوان " الدماغ والفكر " وسيصدر الأخر قريباً تحت عنوان " من العقل إلى الدماغ " وكلاهما عن وزارة الثقافة السورية
وفي آذار الماضي، انتهى " أسبوع الدماغ " في باريس وهو مؤتمر سنوي يحضره اختصاصيون من كل أنحاء العالم، وقد حصلت على ملفاته المؤلفة من حوالي 150 لأترجمها إلى العربية.
الدماغ مقر الوظائف العليا، الحواسية والمعرفية والاستجابات العصبية وإيقاعي القلب والتنفس واتخاذ القرارات والوعي.. وإن كان العلماء قد قسموه إلى باحات ومناطق ( الباحات المشترِكة في الذاكرة والوعي، وباحة اللغة... ) فإن أسراره لم تكتشف كلها بعد. فلسفياً، الدماغ هو العضو الذي يدرك، ويفكر، ويفعل. إذن، فهو الذي يتيح إعطاء معنى لوجودنا. سوسيولوجياً، هو قائد أوركسترا البدن، فيقوده ويقود نفسه، ومسؤول عن سلوكياتنا وتفاعلاتنا مع من نشكل معهم مجتمعاً. علمياً، الدماغ رهان رئيسي، إذ لم يعط أسراره كلها بعد، من حيث نموه وتطوره وعمله المعتاد، بل وأيضاً قدرات تكيفه وآليات تكوّن قدراتنا الفكرية، وعواطفنا وانفعالاتنا وسلوكياتنا الحركية التي تأتي تعبيراً عنها. طبياً وصحياً، التحدي اليوم هو فهم الدماغ المريض ضمن إطار الأمراض العصبية ( ألزايمر، بركنسون، الصرع... )، والنفسانية ( الاكتئاب، والفصام، والانطواء على الذات... ). وهكذا، يشكل الدماغ مع النخاع الشوكي الجهازَ العصبي المركزي القادر على دمج وتكامل المعلومات والتحكم بحركيتنا وتأمين وظائفنا الاستعرافية. وزنه وسطياً بين 1,3 و1,4 كغ ( 75% منه ماء ) ويستهلك بين 15 إلى 20% من طاقة أجسامنا. ويتشكل من نصفي كرة دماغية يحوي كل منهما باحات وفصوصاً هي مراكز للاستدلال واللغة وتنسيق الحركات الإرادية ووعي الجسد والوسط المحيط والسمع والذاكرة ومعالجة الألم والروائح والتذوق. ويتألف من 100 مليار عصبون ( خلية عصبية ). والفص الجبهي هو قائد أوركسترا الدماغ، إنه من يمكّننا من فهم كيفية إعداد وضبط بعض سلوكياتنا المعقدة كاتخاذ القرار والتفاعلات الاجتماعية والإبداع أيضاً. ومن شأن خلل وظيفة هذه المنطقة أن تفضي إلى أمراض عصبية ونفسية كألزايمر والخرف، والاكتئاب والاضطرابات الوسواسية الاستحواذية.
من وظائف الدماغ القدرة على اتخاذ القرار، أي إمكان القيام بخِيار وفق سلم تقييمات بحيث نختار الأفضل. يؤدي أيضاً وظيفة الإبداع، أي القدرة على إنتاج أو خلق شيء ما ( فكرة، منتج، خدمة، عمل ) أصلي وجديد، ومتناسب في الوقت نفسه مع السياق. والإبداع جوهري لنا من حيث أنه يمكننا من التكيف والتآلف مع أوضاعٍ ومشكلات جديدة، مع إيجاد حلول غير مسبوقة وفعالة في الوقت نفسه. ويشير باحثو " معهد الدماغ " إلى أن ميدان الإبداع قد يكون من مسؤولية قشرة مقدم الجبهة الدماغية لكن بالاشتراك مع منظومات عصبونية مختلفة.
ماذا يحدث في الدماغ عندما نحلم؟
الأحلام في بعض الأحيان طريفة، وأحياناً مخيفة. نتذكرها أحياناً وقد لا نتذكرها. فهل يخادعنا دماغنا؟ ما تزال آليات الحُلْم سراً تسعى العلوم العصبية إلى إماطة اللثام عنه دون كلل. من الناحية المنطقية، الدماغ خلال النوم في حالة راحة. وفي الواقع، يتبين لدى الأشخاص الغارقين في نوم عميق أن بعض الوظائف تنطفئ أو تتباطأ، كالقشرة الدماغية الإبصارية الأولية، التي تشكل جزءاً من سلسلة معالجة المعلومات الآتية من شبكية العين. والوضع هو كذلك بالنسبة لقشرة مقدم الجبهة بخصوص الاستدلال والمنطق. بالمقابل، يلاحظ وجود نشاط قوي في مناطق أخرى، خصوصاً النواحي الحسية، كالقشرة الإبصارية الترابطية التي تنتج صوراً، وفي اللوزة المخية التي تعالج الانفعالات أو أيضاً في الحصين المسؤول عن الذاكرة. من هنا ثراء أحلامنا بالصور والانفعالات، رغم انعدام معلومات الحواس التي تأتي مثلاً من العينين أوقات اليقظة: الدماغ وحده هو من يولِّد الأحلام.
كيمياء دماغية وانفعالات
الفرح، والغضب، والحزن وسواها من الانفعالات هي نتيجة توازن دقيق لمواد قائمة في أجزاء دماغنا المختلفة. والانفعالات ردودُ فعل جسدنا على منبهات أو مثيرات آتية من بيئتنا. وتجري معالجتها في جهاز دماغنا الطرفي، الاسمِ الذي يطلق على مجموعة من البنى الدماغية التي تؤدي دوراً هاماً جداً في السلوك ولاسيما على مستوى مختلف الانفعالات كالعدوانية، والألم المعنوي أو الأخلاقي، والخوف والمتعة وتشكيل الذاكرة أيضاً. ومن بين هذه البنى يذكر الحصين المسؤول عن تشكيل الذاكرة طويلة الأمد والاهتداء في المكان ( ذاكرة المكان ) واللوزة المخية المسؤولة عن العدوانية والخوف. أما الحب، فهو ليس انفعالاً، بل عاطفة معقدة، تشترك فيها مجموعة كاملة من المواد. في الحب من أول نظرة، يظهر ازدياد في إفراز الناقل العصبي والهرمون المسمى أدرينالين مما يفضي إلى صحوة عاطفية وتسارع في ضربات القلب؛ كما تبرز زيادة في الناقل العصبي المسمى الدوبامين الذي يولّد رغبة. وفي حال استمر الحب، يظهر نشاط متنام في ناحية دماغية ذات علاقة بعاطفة التعلق اسمها " الكرة الشاحبة " وفي بنى غنية بمستقبلات الجزيئة العصبية المسماة الأوسيتوسين، أو ما يعرف بهرمون التعلق. ( طبعاً الأمور أعقد من ذلك بكثير لكن التبسيط العلمي يقتضي ذلك ).
العينان مرآة الصحة العقلية ( وهذا اكتشاف حديث )
العينان مرآة النفس، إذ تعكسان انفعالاتنا وعواطفنا، لكن هما أيضاً مرآة الدماغ. كيف؟ يمكن أن تكون بعض المشكلات بمستوى أوعية العين الدموية مؤشراً على وجود أمراض وعائية، ذلك أن الدماغ في غاية الحساسية إزاء هذه الآفات. الدماغ عضو مركزي، وحسْن صحته أمر أساسي. ويمكن أن تكون الحوادث الوعائية الدماغية سبباً لانخفاض القدرات المعرفية. ومن شأن هذه الحوادث أن تحرم بعض العصبونات من واردات الدم الكافية، بسبب وجود شريان مسدود أو مثقوب أو متشنج، وهو ما يسمى بالإقفار ( نقص التروية ). وإذ لا يعود الأكسجين والمغذيات تصل إلى هذه الخلايا العصبية فإنها تموت ولا تعود قادرة على تأمين وظيفتها. والمشكلة أن الدماغ ليس العضو الذي يسهل الوصول إليه مغلقاً داخل الجمجمة الحامية، وبالتالي من العسير معاينته. إذاً، ما السبيل إلى تقدير حسن صحة الدماغ؟ وفقاً لأعمال باحثين أمريكيين فثمة رابط بين حالة الأوعية الدموية في شبكية العين والأوعية الدماغية. وبالنتيجة، تكفي معاينة الأذيات الوعائية في قاع العينين لتقدير مخاطر الإصابات من النوع نفسه في الدماغ. وهكذا، جاءت دراسات حديثة تؤكد أن اعتلالات شبكية العين يمكن أن تكون واسمات لتقييم مخاطر الأمراض الوعائية الدماغية. مع ذلك، ينبغي ألا نربِط منهجياً بين اعتلال يصيب شبكية العين وقصور معرفي، فالتقنيات هنا هدفها تقييم مخاطر وجود اضطرابات في دورة الدماغ الدموية ومن ثم تحديد ظهور تلك الاضطرابات. ويبقى سؤال يطرح نفسه: هل تصيب هذه الآفات الدماغ أولاً قبل أن تظهر بمستوى العينين، أم العكس؟ أم أن هذه الاضطرابات العينية عابرة؟ قد تأتي الدراسات المستقبلية بالإجابات الدقيقة.
دماغ أيمن، دماغ أيسر: ما الفوارق؟
ينطوي الدماغ على نصفي كرة دماغية / مخية، الأيمن والأيسر. فهل ثمة فوارق مهمة بين هذين القسمين من الدماغ؟ في الواقع، ليست فكرة أن بعض الأشخاص يستخدمون هذا النصف من الدماغ أكثر من الآخر سوى أسطورة. في بدايات دراسة الدماغ، تمكن باحثون من أن يظهروا وجود تخصص على مستوى الباحات الدماغية. وفي القرن التاسع عشر، وصف " بول بروكا " و" كارل فيرنيكه " نواحي من نصف الكرة الدماغية الأيسر ضالعةً في اللغة: باحةَ بروكا وباحة فيرنيكه. وبدأت هذه الاكتشافات تؤكد فكرة عدم تناظر الدماغ؛ بذلك، فإن تعرُّف الوجوه تتحكم به بالأحرى ناحيةٌ من النصف الأيمن؛ بينما الوظائف الحسية والحركية هي من مسؤولية نصفي كرة الدماغ كليهما؛ وعضلات القسم الأيسر من الجسم يتحكم بها النصف الأيمن من الدماغ، والعكس صحيح، وهذا ما من شأنه أن يترك انطباعاً بأن نصفي كرة الدماغ يعملان كل منهما على نحو مستقل عن الآخر. لكن الحقيقة هي أنهما يتواصلان ويعملان متعاونين من أجل إنجاز مهمات معقدة. غالباً ما صور الدماغ الأيسر على أنه مرتبط بالاستدلال المنطقي والعقلي، والدماغُ الأيمن على أنه حدسي وانفعالي. وهكذا، فهنالك أشخاص هم بالأحرى " دماغ أيسر " أو " دماغ أيمن "، ربما كانوا يستخدمون هذا النصف الدماغي أكثر من ذاك، بل إن هذا التصور نفسه يعزو في الغالب الدماغ الأيسر للرجال والأيمن للنساء، المعروفات على أنهن أكثر حدْسية... . كما أن الفنانين، من منطلق إبداعهم، ربما كانوا يستخدمون دماغهم الأيمن أكثر من الآخر! إلا أن ذلك كله لا يمت إلى الحقيقة بصلة، وليس وليد معارف علمية موثوقة: ليس من الممكن تعريف شخصيات من خلال تخصص أحد نصفي الكرة الدماغية الذي يمكن أن يكون متفوقاً على الآخر. إننا نستخدم نصفي كرة دماغنا كليهما معاً أياً كانت شخصياتنا.
دماغنا يعتبر الموسيقى لغة
لقد بقيت الموسيقى وثيقة الارتباط بنوعنا البشري. ومن الواضح أن هذه العناصر المتناسقة، المختارة بنتيجة إيقاعها وتآلف أنغامها، تكلمنا وتلامس عواطفنا وانفعالاتنا بصورة مباشرة، حتى أن العديد من الاختصاصيين يعتقدون أن اللغة والموسيقى قد ظهرتا معاً، أو أنهما على الأقل مترابطتان بقوة. وقد جاءت دراستان حديثتان بحجج جديدة تؤيد هذا الطرح. تفيد الأولى بأن الموسيقى أقرب إلى الشعر منها إلى اللغة، بينما تكشف الثانية عن أن العمليات الدماغية التي تعالج الموسيقى واللغة هي نفسها، أي أن مناطق الدماغ المرتبطة بهاتين القدرتين، البشريتين نموذجياً، هي ذاتها. وهذا ما مالت إلى تأكيده " جمعية علم النفس البريطانية " في مؤتمرها السنوي مؤخراً.
ما الخيال، ما أسراره الخبيئة؟
صنْع أداة، أو حل إشكالية، أو رسم لوحة...ما كان لمثل هذه المهمات أن تغدو ممكنة لولا الخيال. الإنسان كائن فضولي ومبدع، يطرح تساؤلات باستمرار حول العالم المحيط به. وتطوره برهانٌ على ذلك. وعلى مر القرون، لم يكف عن التعلم كيف يعرف ويروض العالم حوله. وقد شعر أيضاً بالحاجة إلى تدوين مشاعره وانفعالاته في أعمال فنية، كي يتواصل بصورة أفضل مع معاصريه. مع ذلك، ما كان لهذه القدرات أن ترى النور لولا تحليقٌ في الخيال، الذي يشكل دعامة جوهرية في العمل العلمي والفني، ونقطة انطلاق لابتكار أفكار جديدة. وبفضل الخيال جزئياً، تجلت أعظم الاكتشافات العلمية وأروع الأعمال الفنية. لكن، من أين يأتي الخيال وكيف يصنع في الدماغ؟ أثارت هذه الأسئلة الشائكة اهتمام العلماء والفلاسفة منذ عصور قديمة. في الواقع، هنالك شبكة عصبونية تتيح التفاعل بين عدة مناطق دماغية وخلقِ الأفكار الخيالية. مع ذلك، لم يفلح أي فريق علمي حتى الآن في تأكيد هذه النظرية. إلا أن فريقاً بحثياً أمريكياً توصل إلى نتائج تؤيد فكرة أن عدة نواحي دماغية تنسق نشاطاتها بحيث تتيح مجالاً لعمل الخيال.
ماذا عن أمراض الدماغ؟
في الواقع، أمراضه عديدة. هناك الصرع، الذي هو مظهر من مظاهر فرط النشاط الدماغي الناجم عن فرط إثارة خلايا عصبية، ونعني بها عصبونات القشرة الدماغية. وأيضاً داء بركنسون المرتبط بتلف شامل بمستوى العصبونات المسماة دوبامينية الفعل، ويتجلى على شكل رعاش وتصلب عضلي وترافقه اضطرابات في المشي. وهناك جوانب أخرى كثيرة للغاية من عمل الدماغ ووظائفه ومرضياته يحتاج إيرادها إلى صفحات وصفحات.
ماذا عن الداء الذي بات يرعبنا جميعاً؟ ألزايمر
سمة داء ألزايمر هي تشكل لويحات ( صفيحات ) شيخوخية بين الخلايا العصبية. أما الأعراض التي نلاحظها في هذا الداء فهي ناشئة عن تنكُّس ( أي عن تغيرات وتبدلات في البنية العضوية ) يصيب خلايا الدماغ العصبية. لم يتوضح بعدُ لغز الآليات التي تتيح تشكل هذه اللويحات أو الرواسب المسماة النشوانية ( النشوانية أي ما يشبه النَّشا أو يتصف ببعض صفاته ) بين الخلايا العصبية وتسبب تشابكات وتداخلات عصبية ليفية داخل هذه العصبونات تؤدي إلى تخريب العصبونات من الداخل. ومؤخراً، كشف فريق دولي من الباحثين عن سر جديد في قلب اللويحات النشوانية، حيث وجدوا ترسبات قِوامها نحاس وحديد. إلا أن هذين العنصرين ليسا بشكلهما الأيوني الموجود في أنحاء الجسم البشري كلها، بل بشكلهما المعدني وهو اكتشاف غير مسبوق في النسُج البشرية. مع ذلك، في الحقيقة، لم تعط الأبحاث السريرية المستمرة منذ عشرين سنة مضت حول مرض ألزايمر أية نتيجة. وقوع هذا المرض في ازدياد على مستوى العالم، ولم يعثر له على علاج ولا إمكانية للحد من ظهور الأعراض على نحو دائم.
هل هناك عوامل تزيد من مخاطر الإصابة؟
يشكل داء ألزايمر السببَ الأول للخرف على مستوى العالم. ويوجد مثلاً في فرنسا وحدها اليوم 900000 مصاب، ومن المتوقع أن يطال المرض 2 مليون شخص فوق سن 65 سنة من الآن وحتى عام 2040. وقد حدد الباحثون عدة عوامل خطر قد يتيح تجنبها الحدَّ من وقوعات هذا الداء. ألزايمر، يعني فقدان ذاكرة، وصعوبات تخطيط، وتعثراً في تنفيذ مهمات عادية مألوفة، وتخليطاً في الزمان والمكان واضطرابات في المزاج. أعراض داء ألزايمر معيقة وعديدة، وعديدة أيضاً هي عوامل الوقوع فيه، بل يتحدث الباحثون عن أنه آفة متعددة كثيرة العوامل، إذْ تتدخل فيها تركيبة معقدة من العناصر؛ وللأسف، ليس ممكناً التأثير على بعض هذه العوامل. هنالك أولاً الوراثة، مثلاً. إلا أن ذلك يشمل حالات نادرة جداً من مرض ألزايمر؛ فهنالك بشكل خاص العمر، الذي يمس أقل من 2% من السكان بعمر يقل عن 65 سنة؛ والجنس، حيث ترتفع النسبة وراثياً إلى 60% لدى النساء. لكن يبقى من الممكن التأثير على عوامل أخرى محددة.
عوامل الخطر الوعائية القلبية
حسب رأي الباحثين أنه كلما كانت المخاطر القلبية الوعائية عاليةَ المستوى لدى الشخص ترتفع لديه مخاطر التعرض لمرض ألزايمر. وهكذا، فإن فرط ضغط الدم قد يؤدي إلى ظهور اضطرابات استعرافية ( معرفية ). وكي يبقى هذا الضغط بمستوى سوي ينصح بمراقبة الوزن وضبطه، والحدِّ من تناول الملح، والابتعاد عن المشروبات الكحولية، وممارسة النشاطات البدنية. ويعتبر التبغ والنيكوتين من أعداء الدماغ، ومن شأن تحاشي التدخين أن يؤخر ظهور ألزايمر واضطرابات استعرافيةٍ أخرى. وتشير الدراسات الأحدث أيضاً إلى أن المستويات العالية من الكولستيرول LDL ( الضار ) والمستويات المتدنية من الكولستيرول HDL ( النافع ) في الدم تزيد من مخاطر تطوير هذا الداء. وليس ثمة ما هو أفضل من النظام الغذائي المتوازن والنشاط البدني المنتظم للحفاظ على معدلات كولستيرول صحيحة وسوية. ذلك خصوصاً وأن هذا الأمر يتيح أيضاً تجنب زيادة الوزن التي تعتبر أحد عوامل خطر الإصابة. وهنالك أيضاً عامل خطر آخر: الداء السكري من النمط 2، الذي يظهر عموماً بعد سن 45 سنة وينطوي على إشارة بحدوث تغير في طريقة التواصل بين الخلايا الدماغية. وللإبقاء على معدل سكر ثابت في الدم، من الأنسب أن يكون ذلك تحت إشراف طبي. ويمكن أن يكون إعطاء الأنسولين شأناً مساعداً في هذه الأحوال. لكن من الملاحظ أن داء ألزايمر يبدو على العكس أنه يعرقل قدرة جسمنا في الاستجابة للأنسولين.
هل لمستوى التعليم والنشاطات المعرفية دور ما ؟
أظهرت الدراسات على الدوام أنه كلما طورنا أدمغتنا وحرضناها عززنا الاتصالات الدماغية على الأداء الأمثل وقللنا من مخاطر تطوير شكل ما من أشكال الخرف. إذاً، يمكن أن ينظر إلى مستوى الثقافة الضعيف على أنه عامل خطر للإصابة بألزايمر. يبدو التحريض الذهني أنه يتيح التخفيف من تأثيرات هذا المرض. ذلك تقريباً كما لو أن الدماغ الأكثر تطوراً يغدو أكثر مقاومة لهجمات الخرف. كما يبدو أن لإصابات الجمجمة التي يكون قد تعرض لها الشخص سابقاً تأثيراً على تطوير حالات من الخرف في وقت لاحق من الحياة؛ لاسيما تلك الإصابات التي ترافقت بفقدان وعي دام أكثر من خمس دقائق، إذ من شأنها أن تكون قد ألحقت ضعفاً ما بمستوى الدماغ؛ أما الاكتئاب فينظر إليه أحياناً على أنه واحد من أعراض ألزايمر. في الواقع، يبدو أن الاكتئاب يشكل أحد عوامل خطر الإصابة بهذا الداء. إن للنوائب الاكتئابية تأثيراً يتمثل في ازدياد مستويات المواد الكيميائية الضارة في دماغنا. وبذلك فإن من شأنها أن تزيد من خطر التعرض لهذه الآفة. ولاضطرابات النوم والشدة أيضاً دور. وما هو معروف جيداً اليوم أن الدماغ يفيد من نومنا في طرح الفضلات التي تلوثه كما أن الضغط النفسي مؤذ للصحة مثلما بات معروفاً، وللكورتيزول، هرمون الضغط، تأثير سلبي على الذاكرة بشكل خاص. ومن سمات الضغط أو الشدة أيضاً أنه يؤذي صحتنا الوعائية القلبية ويضعف الدفاعات المناعية التي تساعدنا في مكافحة الخرف.
هل من علاقة بين قلة النوم والخرف؟
هل تهيئ قلة النوم، بدءاً من سن الخمسين، الأرضية المناسبة التي تحث على تنامي خطر الإصابة بالخرف؟ تشير خلاصة دراسة تابعت ما يقرب من 8000 شخص على مدى 25 عاماً إلى أن النوم أقل من ست ساعات في الليلة على نحو مستمر يفضي إلى ازدياد خطر التعرض للخرف بنسبة 30% ( والخرف هو حالة نقص شديد يعتري الوظائف العقلية إلى حد الاقتراب من فقدانها التام ). وتفيد دراسة نشرت في مجلة Nature العلمية البريطانية ( نيسان 2021 ) بأن من ينامون أقل من المطلوب، أي ست ساعات في الليلة أو أقل في سن 50 إلى 60 سنة، تزداد لديهم مخاطر التعرض بنسبة تتراوح بين 20 إلى 40% بالمقارنة مع من يتميزون بنوم ليال " سوية " يمتد إلى 7 ساعات. ووفقاً لمعطيات منظمة الصحة العالمية، تظهر في كل عام على المستوى العالمي نحو 10 ملايين حالة خرف جديدة، بما في ذلك داء ألزايمر. وكثيراً ما يكون النوم مضطرباً لدى هؤلاء المرضى. وقد تتمكن أبحاث مستقبلية من إيضاح ما إذا كان تحسين عادات النوم يساعد في الوقاية من الخرف، وفقاً لما ورد في مجلة Nature اللندنية العلمية. وبانتظار ذلك، " من شأن الابتعاد عن التدخين، وتجنب المشروبات الكحولية قدر الإمكان، مع ممارسة النشاط الذهني والبدني، والتمتع بنظام غذائي متوازن وضبط مستويات الكولستيرول وضغط الدم أن يبقي على دماغنا في حالة صحية مناسبة مع تقدمنا في العمر "، حسب قول الباحثين.
ترجمة محمد الدنيا