- بينا باوش سيدة الرقص التعبيري
عزيز الحاكم*
كان يحلو لها أن تكشف عن الأجساد من كل الزوايا، تستخرج منها القوة التراجيدية لكي تواسيها بمنتهى الدعابة، عروضها ليست مجرد مشاهد متتالية بل هي نسيج كوريغرافي محبوك بثيمات حديثة، وحالات نفسية عويصة، تجسدها مجموعة من الراقصات والراقصين، وسط ديكور غريب، برشاقة تعبيرية جذابة،،
قامة قصيرة وشعر رمادي طويل معقود على شكل ذيل فرس، قليلة الكلام، صعبة المراس، تسخر من الحديث عنها،حين كانت تأتي لتقدم التحية للجمهور، في ختام عروضها، لم يكن الجمهور يرى، وسط عشرات الراقصين من كل الجنسيات وبمختلف الأحجام، سواها، كان يميزها ببشرتها البيضاء وعينيها الشاردتين في الفراغ، ومظهرها الشفاف، وسروالها وقميصها الصيني، وهيئتها الصارمة .
لم يخطئ المخرج الإيطالي فدريكو فليني الاختيار حين جعل منها أميرة عمياء فاتنة في فيلمه “وتبحر السفينة” (1983) .هل كانت قوتها التراجيدية الهادئة نابعة من كونها عاشت طفولتها الأولى في ظل الحرب العالمية الثانية .
مسار حافل بالعطاء :
بينا باوش هي الابنة الثالثة لكل من أوغيست وأنيطا باوش مالكي فندق في مدينة سولينغن الألمانية، حيث ولدت سنة 1940. تلقت وهي طفلة دروسا أولية في الباليه وشاركت في بعض العروض والأوبريتات الموجهة للأطفال .ومنذ سن الرابعة عشرة أدركت أن جسدها، الذي مزقته الحرب وتعاقبت عليه المصائب، سيكون هو مادة فنها، وبموجب ذلك ينبغي عليه أن يتمرن على السلوان،وحينها التحقت بمدرسة فولكفانغ في إيسن مهد الرقص المسرحي التي كان يديرها كورت يوس. وفي عام 1958 حصلت على دبلوم الرقص المسرحي وبيداغوجيا الرقص بميزة أهلتها للحصول على منحة من مكتب التبادل البيداغوجي الألماني، للالتحاق بمدرسة جوليار المرموقة في نيويورك، وهكذا ذهبت وهي في سن التاسعة عشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة دراستها تحت إشراف العديد من أساتذة الكوريغرافيا الأمريكيين ومنهم خوسيه ليمون وأنطوني تودور، وبعدها تلقت تكوينها في كنف ” فرقة الرقص” تحت إشراف بول تايلور ودنيا فوير، وسنة 1961 وعينت من طرف المتروبوليتان أوبرا في نيويورك لتلتحق بالنيو أمريكان باليت .
عام 1962 عادت إلى ألمانيا بدعوة من كورت يوس وأصبحت راقصة انفرادية في الـ” فولك فانغ باليت” ومساعدة لأستاذها يوس في معظم عروضه الكوريغرافية، وشاركت برفقة هذه الفرقة في العديد من الجولات الفنية . وفي عام 1967 اشتغلت مع الراقص الكوريغراف جان شيبرون وشاركت في مهرجان سالتسبورغ . وابتداء من 1968 شرعت في تصميم عروضها الكوريغرافية وحلت محل يوس سنة 1969 حين أصبحت مديرة فنية في قطاع الرقص بمدرسة فولكفانغ حتى عام 1973،ثم عادت من جديد لتشغل نفس المنصب من 1983 إلى 1989، برفقة مجموعة من الراقصين الذين يتناوبون على تجسيد الحب والموت بفساتين رائعة تعود إلى فترة الثلاثينيات وبدلات سوداء، ويتوجهون إلى الجمهور باسمين بأسئلتهم الميتافزيقية. يتعاركون ويتراشقون بدلاء الماء أو يتحاضنون بحركات جنونية، وبعنف مثير للضحك، وبذلك أحدثت بينا باوش ثورة في المشهد الكوريغرافي لسنوات الثمانينيات، بإظهارها الجسد في كل تجلياته .
وفيما كان بوب ويلسون يجلب إلى الخشبة مفاهيم الفضاء والزمن كانت هي تكشف عن الأعماق اللانهائية للجسد – لدى الرجل ولدى المرأة – من خلال إبراز جراحه وندوبه . كانت تبرز بسخاء فائق حماقات العالم ووداعة الوجود، حتى قيل إنها تشيخ في ظلال الفرح والصفاء.
وبموازاة ذلك كانت بينا باوش تقدم دروسا في الرقص الحديث في مدينة فوبرتال وتستقدم بعض الراقصين من مدرسة الفولكفانج العليا، ومنهم دومينيك مرسي الذي كانت قد التقت به في الولايات المتحدة الأمريكية ودعته للانضمام إلى فرقتها في فوبرتال عام 1974، حيث أسندت إليه الأدوار الرئيسية، وبعد ذلك صار المركز الفني للرقص في فوبرتال يحمل اسمها ( الرقص المسرحي بينا باوش) . وفي سنة 1976،خلال أمسية خصصت لبرتولد بريخت وكورت فايل، قطعت بينا باوش كل صلة تربطها بأشكال الرقص المعهودة وانخرطت في تجريب أشكال جديدة، وبذلك أدخلت مفهوم “الرقص- المسرح” إلى الخشبة الألمانية والعالمية، مما أثار في بادئ الأمر العديد من الانتقادات. وفي عام 1979 دعيت من طرف جيرار فيوليت إلى مسرح المدينة في باريس الذي سيصبح من المسارح المفضلة لديها، وقدمت على خشبته أكثر من ثلاثين عملا كوريغرافيا والعديد من العروض العالمية. أما فرقة الرقص المسرحي في فوبرتال فقد ظلت، حتى منتصف الثمانينيات، هي زهرة الباليه الألماني، وتعتبر من الفرق الألمانية الأكثر حضورا على الساحة العالمية .
تمازج الكلمات والحركات :
لا تشتغل بينا باوش،خلافا لمعاصريها، على إعادة الأشكال والخطوات المتعارف عليها، بل تولي أهمية خاصة لتشريح جسد كل راقص على حدة، وللإمكانيات المتاحة للجسد، فهي لا تكف عن مساءلة راقصيها طوال فترة إعداد العرض، وتحفر عميقا في حياة كل واحد منهم وفي ماضيه، من أجل أن تمنح كلا منهم ما يساير مزاجه من رقصات، وهي ترفض رموز الإغراء، والعزلة النجومية، وتسعى إلى تحقيق تواصل خلاق بين الراقصين والراقصات.
عروضها تنم عن رؤيا تشاؤمية يتم التعبير عنها من خلال حركات خاطفة متكررة، أو بتجميع الراقصين فوق الخشبة، وغالبا ما نرى في عروضها امرأة وحيدة، هادئة الأعصاب، تتهيأ للانفصال عن المجموعة أو الانتقال إلى لوحة أخرى، والطواف الراقص لدى بينا باوش يتم عبر حركات خاطفة يتلقفها الرجال أو النساء أو هما معا،وهو بمثابة بصمة تتميز بها عروضها رغم أنها قللت من استعمالها في أعمالها الأخيرة .ومن السمات الأخرى التي تطبع عروضها ذلك الانسياب الذي تطوره على مستوى الجزء العلوي من الجسم، وتنجم عنه حركات كبيرة بالساعد،وليونة القوام واللعب بالشعرالطويل المنسدل الذي تتميز به معظم راقصاتها .
في أعمال بينا باوش يمتزج الكلام بالرقص، وهذا ما جعلها تحظى بإعجاب أهل المسرح، ولربما أكثر من عشاق الرقص، فقد جرى الحديث عن الأوبرا وعن الباليه قبل الحديث عن الرقص المسرحي لوصف عملها . في عرضها الكوريغرافي” مقهى مولر” تستحضر ماضيها وهي فتاة يافعة تقضي أيامها في حانة والديها تراقب الزبناء من تحت الطاولات، وكانت تلك تجربة ” رائعة وآسرة ” على حد تعبيرها. في هذا العمل الفني ترتطم رشاقة النصف العلوي من الجسم المقذوف بالتغير الذي يطرأ على العضلات المتوترة، وتظل الراقصة رابطة الجأش أمام ما يجري حولها، تواصل سيرها بهدوء وفق الخط المرسوم لها. الشخصيات تتقاطع بعضها ببعض، والذكريات تتداخل، ومن الخشبة ينبعث الشعور الحاد بالوحدة .
من خلال التفاصيل تعبر عروضها الكوريغرافية المصممة في قالب السينيت ( كوميديا إسبانية) عن مجموعة من المشاعر النابعة من علاقة الرجال بالنساء، بما لا يخلو من نكهة إيروتيكية خفيفة. وثمة ملمح مركزي في أعمالها يتمثل في بحث سينوغرافي باهر ( جبال من زهور- حقول من قرنفل – جدران نباتية – سفينة – صخور كثيفة – أنهار – شلالات) من توقيع السينوغراف بيتر بابست، تضاف إلى ذلك فساتين طويلة من حرير بالألوان بالنسبة للراقصات، وبدلات ضيقة أو أقمصة فضفاضة بالنسبة للرجال، من تصميم ماريون سيتو، أما الموسيقى فهي غالبا ما تكون من الربرتوار العالمي .
تجديد الرقص التعبيري :
بعد اشتغالها على مجموعة من الأعمال الكلاسيكية ك” أورفيوس” و”يوريديس”، و “تقديس الربيع”، و ” الخطايا السبع المميتة” انفتحت بينا باوش على أفق آخر وأصبحت عروضها تتسم بنوع من الإيروتيكية الفكاهية، أقرب ما تكون إلى فن الكاباريه المعاصر، تجمع بين الغناء واللوحات الكوريغرافية القصيرة، إذ لا وجود لدى هذه الكوريغراف الألمانية العنيدة للحركة من أجل الحركة فهي تختزلها إلى تعبير بسيط بغية استعادة المعنى وترسيخه في الجسد، والعمل من خلاله على ” ابتكار لغة خاصة للتعبير عما لا يمكن التعبير عنه بطريقة أخرى” . ففي عروضها يتناول الراقصون الكلمة ويخاطبون الجمهور مباشرة . يبالغون في اليأس الوجودي الذي يعكس قلق العصر والوعي الأوروبي المتحلل وعبء التاريخ الألماني.
ومن أبرز السمات التي تميز أعمال باوش تلك الإشارات الخاطفة، والحركات المتكررة إلى درجة الغثيان، والتنقلات التافهة التي تبرز العنف الكامن في التصرفات المقننة. فهي تعتمد على الفظاعة والسخرية التي تثيرها عبارة خارجة عن السياق المنطقي. في عروضها تتفتح الأدوار بمجرد ظهورها والحالات تتكرر من دون أن تنشأ أية قصة . وبذلك يقلب الرقص المسرح رأسا على عقب، بدمجه نوعا من السرد المفكك، وتحقيق الاستقلالية عن توليفة العرض، وبث الحياة في الحالات المعيشة عبر الوعي الجسدي الحاد. في عملها الذي يشدد على لا شعور الراقصين تعمل بينا باوش وفق مخطط متسلسل فهي تسألهم باستمرار عن ذكريات الطفولة وميولهم المهنية، تلاحق الوساوس ومحن الحياة والعجز عن التطور، من أجل تجاوز كل ذلك على الخشبة وفي معترك الحياة.
ولأن بينا باوش تكونت على يد كورت يوس، رائد التعبيرية الكوريغرافية الألمانية، فهي تعمل باستمرار على تعزيز خصوصية راقصيها كل على حدة وتعترف لهم بالدور الحاسم الذي ينهضون به في العملية الإبداعية. تقول عن ذلك : ” أنا أرغب دائما في أن يكون كل واحد منهم حاضرا بشكل فردي في العرض،وأن يتميز بوجوده، وطريقته ونوعية أدائه”. في العام 2001 خاضت تجربة فنية فريدة من نوعها حين اشتغلت مع نساء ورجال تتجاوز أعمارهم 65 سنة، حيث أسندت لكل واحد منهم الدور الذي يناسب إمكانياته البدنية . ومع أنها تولي للطريقة التي يتحرك بها الناس أهمية أكثر من اهتمامها بالدوافع التي تحركهم في العمق، إلا أن معظم عروضها تركزعلى الحركة، كما تؤكد ذلك راقصتها المفضلة ميتيكي كودو. إلى جانب ذلك يتميز أسلوب بينا باوش بليونة النصف العلوي من الجسم والانطلاق المديد للساعدين لحظة ميلاد الحركة . ولذلك تختار لراقصاتها فساتين طويلة تغطي سيقانهن وتكشف عن الرقبة والكتفين، مما يتيح للساعدين أن يتحركا بطلاقة وحرية.
بين أربعة جدران أو في أحضان الطبيعة :
يحتل الفضاء مكانة محورية في عروض بينا باوش، وديكوراتها تراوح بين الأمكنة المغلقة والفضاء النباتي .فعرضها الشهير “مقهى مولر” (1978) يستحضر أجواء الفندق/ المطعم الذي كان يديره والداها في سولينغن حيث كانت الصغيرة فيليبينا تنصت إلى المحادثات من تحت الموائد،وهي تتابع خفاف الراقصات وشعورهن المنسدلة، موظفا كل رموز الافتتان والإحساس بالعزلة والتوحد. وفي أعمال أخرى يعاد خلق ديكورات المقاهي بمجموعة من الكراسي والجدران العارية التي توحي بالبرودة ويصطدم بها الراقصون، يمسكون بها أو يتعلقون، كما هو الشأن في عرض” لحية زرقاء” أو ” باندونيون”، وفي كل الأحوال يظل الديكور مطابقا للحركة . والجانب الآخر من العمل الفني لبينا باوش يتخلى عن المقاهي المرتادة ذات الحيطان الوسخة لتحل محلها التربة الرطبة وجذوع الأشجار والطحالب والقمر المكتمل،، من خلال آلاف القرنفلات التي تجتاح عرض ” “قرنفل “، و الصخرة الضخمة في عرض ” اكتمال القمر ” والحضور المكثف للماء في عرضي ” مروج” و ” الماء”، وكلها أعمال تحقق نوعا من التكامل مع الطبيعة، وتتشبث بالأمل، وتحتفي بجمال الحياة، دون أن تغض الطرف عن النزاعات القائمة في العالم.
في ديكوراتها الفخمة لا شيء يوحي بالجمال. فهي تجمع بين المسرح الراقص والرقص الممسرح، في فضاءات مفرطة في السوريالية، يغلب عليها خيال جامح: بحر من القرنفل، امتداد مائي هائل، صخور،، بهذه الأحجام الخرقاء تضفي نوعا من الجلال على راقصين غريبي الأطوار، بوجوه غير مألوفة، كما لو أنهم مسحورون أو مأخوذون بقوى خارقة.
من السأم الجرماني إلى الانشراح الغرائبي :
ابتداء من سنة 1989 ستجدد باوش الصلة بالحركات الرخوة والرقصات الانفرادية والموسيقى البهيجة، ومنذ عملها” باليرمو، باليرمو” الذي أنجزته في صقلية وفيه نرى جدارا ينهار، قبل سقوط جدار برلين ببضعة أشهر، اعتادت هذه الكوريغراف الحالمة أن تهجر حدودها وتضاعف الإقامات الفنية في بعض العواصم الأجنبية، وبهذا التنوع الجغرافي ازدانت عروضها بألوان جديدة . في عملها” غاسل الزجاج ” الذي أعدته في هونج كونج يسود اللون الأحمر. فبعد أن اتسمت حقبتها السابقة بالتقشف صارت بينا باوش تضفي نظرة لاذعة لا تخلو من حنان على المدن التي تقيم فيها، كما يبدو ذلك من خلال عنوان عرضها ” القطع الصارم” المستوحى من أجواء مدينة سيول الكورية الجنوبية.
في فيلمه ” تحدث معها ” يمسك المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألدوموبار بالمفارقات العجيبة التي تكمن في أعمالها، فالفيلم يفتتح بمشهد المسرنمين الشاحبين في ” مقهى مولر” في حين أن المشهد الختامي المستلهم من عرض ” نار ماسوركا” ( الذي أنجزته خلال إقامتها في لشبونة) يحفل بارتجاجات الأوراك النشيطة التي تخلق بعض التجاعيد في فساتين الراقصات المزركشة بالزهور. ما الذي يمكن قوله عن عالم بينا باوش : هل هو عالم وردي أم كئيب ؟ إذا كانت، في بداية مشوارها الكوريغرافي، قد انساقت مع المأساة في مواجهة دائمة مع المعاناة، فقد حاولت بعد ذلك أن تفضل العاطفة الحادة والحماس المرح والسأم الجرماني البراق.
منذ انطلاقها في أسفارها عبر العالم، حرصت بينا باوش على العودة إلى الجذور، وترافقت علاقتها المستعادة بالطبيعة بصفاء يغوي الصور الخاطفة ويجدد لازمتها المعهودة، وكان ذلك بمثابة منعطف إستتيقي في إبداعها الحلمي المكابد الذي يجمع بين النشوة والأريحية، برفقة راقصين مبتدئين يستفيدون من تجارب زملائهم الناضجة، في مسيرة فنية جدية يطبعها الاحترام والمواظبة، والود المحروس بحنو يتجاوز الوصف تغمر به باوش مجموع الراقصين، لأن الجسد في اعتبارها يعبر عن صعوبة التواصل ويعمل على تخطيها في نفس الوقت.
لقد أثبتت بجرأة نادرة أن ” الرقص ليس مجرد تقنية فريدة ” وانطلاقا من هذا المبدأ شيدت عروضها من أجل الحديث عن كل شيء وعن لاشيء، عن عاداتنا المستهجنة وضحكاتنا المسترسلة وانهياراتنا العصبية، لتقول الكثير عن الوضع البشري.
” لم أكن أرتاح لنفسي كراقصة، ولم أتعود أبدا على قدمي فهما كبيرتان بحيث يستعصي علي أن أنجز بهما عملا يستحق التقدير” تقول ضاحكة، لتبرر اعتمادها في الحركات الكوريغرافية على النصف العلوي من الجسم وعلى الساعدين.
والحقيقة في نظرها تتجلى من خلال العلاقات القائمة بين الناس، وتقاس بمقياس الحب والكراهية، والتضحية والرغبة. وبذلك أكدت حضورها في فوبرتال بوضع التصاميم الكوريغرافية لأوبرا كريستوف غلوك ” إيفيجينا في طوريدا” و” أورفيوس” و” يوريديس” و” تقديس الربيع” وهذان العملان الأخيران مازالا حتى الآن يعتبران من ربرتوار باليه أوبرا باريس.
تقوم عروضها على سلوك الأفراد في المجتمع .تختار راقصيها بناء على التزاماتهم الشخصية ومواهبهم الفذة، فالذكور منهم يجتذبون النظر والإناث ذوات شعر طويل وجمال ساحر .
في إخراجها الذي يقطع الأنفاس كل شيء جائز حتى القسوة المطلقة : نساء ينتفن شعرهن، أو يغرقن أعناقهن في الأحواض المائية . رقصة طانغو سادية تؤديها الفتيات بكعوب طويلة والفتيان بأقدام عارية . ويتم تكرار هذه اللوحات عشرات المرات. والهدف من ذلك تحقيق التماهي وجعل أسنان المتفرج تصر لرؤية هذه المشاهد الفظة. كل ذلك من أجل مساعدتنا على عيش آلام الآخرين ” عملي يتيح الفرصة لفهم الغير . المتفرج يشارك، يشاهد ويفكر ويشعر بشيء ما” .
في أواخر التسعينيات، عادت بعد غياب طويل إلى الرقص، فتعالت صيحات النقاد وحكم على عروضها بأنها مفرطة في الليونة، وكان جوابها : ” لطالما اعتقدت أن دور الفنان يكمن في زعزعة الجمهور، واليوم أريد أن أقدم له على الخشبة ما لم يعد العالم، الذي أصبح قاسيا جدا، يوفره له من لحظات الحب الخالص”.
إغماء عابر ونباهة مطلوبة :
كانت بينا باوش من مصممات الرقصات اللواتي يبدعن بشراسة عملا متكاملا، لكنها في دواخلها كانت امرأة نبيلة ، تكن المحبة للجميع، وتحاول أن تبوح بما تختزنه ذاكرتها المكلومة لجمهورها. مما جعلها تولي أهمية قصوى لبطلات التراجيديا اليونانية من مثيلات إيفيجينيا وأنتيغونا وباقي المجنونات الرائعات اللواتي تركن بصماتهن راسخة في الأدب والرقص.
امرأة حديدية لا تعرف التنازل،تضحك أحيانا بصوت عال كطفلة،وتحتفي بالمغمورين : في عملها ” دانزون” تدعونا هذه الكوريغراف الجرمانية ” العاتية”، كما وصفها الناقد الفرنسي موريس بلانشو، لتأمل الموت الزاهي الذي يحدق بشخوص ينطلقون للبحث بكل براءة عن الفردوس المفقود، مدفوعين برغبة عنيفة في معرفة ما إذا كان من المستحب أن يكون المرء شابا شقيا أم عجوزا سعيدا . ومن هذا السؤال الملتبس تغترف باوش هذه الكوريغرافيا المكرسة للرقص الشعبي المكسيكي النابض بالحيوية والمرح، في فضاء مغمور بديكورات ومناظر طبيعية تشد الأنفاس بسعفات نخيل قريبة جدا من المتفرج، مما يغريه بالصعود إلى الخشبة والتجول في أرجائها كي يشعر، مثل الراقصين، بضآلة الوجود ويقدر خلود الجمال، لكنه حتما سيصاب بالحيرة أمام عرض تتأرجح فيه العبرة بين الاستمتاع بالحياة والتهيب من الموت .
ورغم أن فكرة العمل ليست جديدة إلا أن أسلوب المعالجة الكوريغرافية يضفي عليها جدة شاملة : يبدأ العرض بمشهد راقص في الخمسين من عمره يحبو على أربع مقمطا في حفاظات طفل وهو يلاعب صديقاته الصغيرات الملفوفات في ثياب بيضاء، متمددات وسيقانهن تتحرك في الهواء، مسمرات في الأرض بحجرتين، إحداهما بين الساقين والأخرى فوق البطن . هل يتعلق الأمر باستعارة تشير إلى الولادة المؤلمة أم إلى الرغبة في جرح المرأة في الموضع الذي يميزها عن الرجل ؟ وفي مشهد حافل بالإيحاءات والتلميحات يظهر راقص في هيئة الشاعر المسن غوته ( ما ينيف على 82 سنة) في زيارة لأحد مواقع الصيد التي كان يرتادها فيما مضى، وهناك يعثر على بضعة أشطر كتبت قبل خمسين سنة تتغنى بالطبيعة وتنتهي بهذه العبارة : ” حسنا، بإمكاننا الآن أن نرحل”.وبعد أن تتلو إحدى الراقصات مقاطع من هذا النشيد،الذي كتبه مؤلف ” فاوست” في شبابه، تغادر الخشبة في جنح الظلام،من دون أن يشعر المتفرج بالحزن أوالاستسلام للأمر الواقع . هذه هي سنة الحياة كما تتجلى في عرض ” دانزون”، لحظات مشبعة بالضحك والسخرية.
في ختام العرض يسلط الضوء على أكواريوم تسبح فيه أسماك عجيبة مرقطة بالأصفر والأزرق، وتدخل بينا باوش من اليسار بخطى وئيدة، ثم تمضي نحو اليمين لتريح ساقيها بجوار تمثال هندي . وتظل على هذا الوضع بلا حراك . بين الفينة والأخرى تتلوى برفقة التمثال لتبعث الحياة في الجزء العلوي من جسمها وفي الساعد والرأس، ثم تتراجع إلى الخلف . بعدها ترقص على طريقة الهنود الحمر، وخلفها سمكات بأذناب حمراء يصعدن ويهبطن داخل الأكواريوم، في تكرار يبعث على الاختناق والغثيان والإغماء العابر،،
مشاهد تلو أخرى وحوارات مقتضبة. راقص، في دور حمار الشهوة، يؤدي رقصة النار أو المعركة بساقين منشوبتين في الأرض كمقص، يدور حول نفسه ويتزحلق. يرقص رقصة الموت ويخط بقدميه الفارعتين وصاياه الغامضة . وراقصة تسامر أمها في إحدى الليالي المقمرة :
– من يملك هذا السبيل يا أمي ؟
– كل الغزالات الأخريات .
– لكني لا أرى سوانا .
ليس ثمة منطق سهل يحكم عروض بينا باوش، لأنها تتمسك بمبدأ أساسي يقضي بتجميع الأفكار بكيفية متناثرة . وعروضها ليست مجموعة من المشاهد المتتالية، بل هي نسيج كوريغرافي غامض تنعدم فيه الروابط، محبوك بثيمات حديثة، وحالات نفسية عويصة، تجسدها مجموعة من الراقصات والراقصين، وسط ديكور غريب، برشاقة تعبيرية جذابة،، ويبقى على المتفرج، كي لا يكون مستهلكا سلبيا، أن يوظف نباهته ليعقد بينها الصلات التي يراها أن أنسب …
نكهة كونية :
حرصت بينا باوش،في السنوات الأخيرة من مسارها الفني، على استيحاء عروضها من بعض المدن الكبرى أو البلدان التي تقيم فيها برفقة فرقتها خلال إقامة فنية، من أجل التأثر بأجواء المكان، ومنها : بودابشت ( هنغاريا) وباليرمو وصقلية وروما (إيطاليا) وإسطنبول ( تركيا) وطوكيو(اليابان) ولشبونة ( البرتغال) وهونج كونج، ومدريد ( إسبانيا) ولوس إنجلس وتكساس ( الولايات المتحدة) وسيول ( كوريا الجنوبية) وفيينا ( النمسا) والبرازيل، وكالكوتا ( الهند) وسانتياجو ( الشيلي ) التي كانت آخر محطة في مسيرتها الكوريغرافية قبل أن توافيها المنية في 30 يونيو 2009 مخلفة وراءها رصيدا إبداعيا يفوق أربعين عملا كوريغرافيا، يعد مرجعا لا غنى عنه في الرقص الحديث .