صباح الدين علي” .. خلافات حول الترجمة الأولى
بعيداً عن الخلاف حول أسبقية الترجمة، حاولتُ
الترجمتَين، ولاحظتُ أن الترجمة القديمة هي الأقرب لروح الرواية وأجوائها وأسلوب صباح الدين علي، رغم وقوع المترجِم في بعض الأخطاء اللغوية، بينما ابتعدت الترجمة الجديدة، على رصانتها اللغوية، عن أسلوب الكاتب
أحمد زكريا*
على قلَّة ما تُرجِم عن التركية وإليها خلال العقود السابقة، مقارنةً بلُغات أُخرى، إلّا أنّ أهمّ ما يُلاحظ على هذه الترجمات، بِغضّ النظر عن إشكالية الترجمة عبر لغةٍ وسيطةٍ، هو عشوائية اختيار الأعمال المترجَمة.
ومن المعروف أنّ الأسماء الأدبية التي وصلتنا من تركيا حتّى الآن قد وصلتنا لأسباب غير أدبية، إمّا عبر الأيديولوجيا أو لاعترافٍ غربي بهذه الأسماء. مثلاً، تُرجم بعض الكُتّاب اليساريّين من أمثال الشاعر ناظم حكمت والكاتب عزيز نيسين، خلال فترة المدِّ اليساري في الستينيات والسبعينيات. جميعنا يعرف ناظم حكمت المناضل الشيوعي الذي تضامن مع نضال الشعوب أكثر ممّا نعرف قصائده. ولا يخفى على أحد أن أورهان باموق لم يترّسخ اسمه في ذهن القارئ العربي إلّا بعد حصوله على “جائزة نوبل”. وحتّى كاتبة “بست سيلر” مثل إليف شفق لم تترجمها دور النشر العربية إلا بعد أن حقّقت رواياتُها السطحية مبيعات عالية في الغرب.
وبغض النظر عن أسباب الناشرين في السعي وراء ترجمة كتابٍ ما من الأدب التركي، فإنّ العشوائية تسيطر على عملية الترجمة من التركية وإليها، وهي ليست جديدة. فمثلاً، منذ أن ترجم الأردني صفوان الشلبي قصة لعزيز نيسين بعنوان “رِهان” في مجلة “العربي” الكويتية عام 1978، ولاقت استحسان القرّاء حتّى أقبلت دُور النشر، وخصوصاً السورية، على ترجمة أعماله، وصدرت العديد من الترجمات بتوقيع جمال دورموش ومحمد مولود فاقي وبكر صدقي وعبد القادر عبدللي، وبدأ ما تمكن تسميته بـ”موضة عزيز نيسين”.
الملاحَظ على تلك الترجمات أنها كانت عشوائيةً إلى درجة كبيرة، فنجد من يُترجِم مختاراتٍ قصصية لنيسين على أنها مجموعة قصصية واحدة، أو من يترجم نفس العمل المُترجَم من قبل، مثلما حدث مع رواية “يحيى يعيش ولا يحيى” التي أنجز بكر صدقي ترجمة بديعة لها صدرت عام 2002، ثم قام محمد مولود فاقي بإعادة ترجمتها بعد ذلك بثلاث سنوات، بترجمة أقلّ جودة بعنوان “يشار: الميّت الحي”. ولكن يبدو أنّ نجاح الرواية ورواج اسم نيسين أغريا بعض دُور النشر بطباعتها مرّة أُخرى، ولكن بترجماتٍ رديئة لمترجمين مجهولين. ولا يختلف الأمر كثيراً في الترجمة من العربية إلى التركية، حيث رُكّز على أسماء معينة، وصدرت ترجمات عديدة لنفس الكُتّاب، مثلما حدث في أكثر من كِتاب لجبران خليل جبران.
ما وصلنا من التركية إمّا بفضل الأيديولوجيا أو الجوائز
وبالطبع، ليس غريباً أن يشعر أحد المترجمين عن التركية أو إليها بنقص ما في ترجمة أحد الكتب فيقوم بإعادة ترجمته من جديد. وهذا حدثَ بالفعل حيث شهدت المكتبتان العربية والتركية ترجماتٍ جديدة أضافَت إلى الترجمات السابقة. مثلما أعاد المترجم السوري الراحل عبد القادر عبدللي ترجمة رواية “جودت بك وأبناؤه” لأورهان باموق، بعد الترجمة التي قام بها فاضل جتكر، ولاقت ترجمة عبدللي إعجاب القُرَّاء، حتى اقترن اسمه باسم أورهان باموق. أو كما حدث في الترجمة من العربية إلى التركية، حيث أعاد المترجم والأكاديمي التركي محمد حقي صوتشين ترجمة بعض المجموعات الشعرية لمحمود درويش، بعد أن ترجمها متين فندقجي، موضّحاً أسباب ضعف ترجمات الأخير.
لكن الغريب أن يتجاوز الأمرُ ما حدث منذ عقود مع ترجمات عزيز نيسين. فلم تعد المشكلة في السؤال
حول جدوى إعادة ترجمة العمل الواحد أكثر من مرّة، دون أن تترك لنا دارُ النشر مجرّد حقّ التفكير فيما قدَّمته هذه الترجمة الجديدة أو دوافع المترجِم وراء إعادة الترجمة، فقط، ولكن أخذت المشكلة بُعداً آخر، وصارت بعض دور النشر تعيد ترجمة أعمال مُترجَمة من قبل، مع ادّعاء أنها “الترجمة الأولى”.
عام 2020 قامت دار “المُقدِّمة”، وهي دار نشر تركية حديثة، بإصدار أوّل كتاب لها، وهو ترجمة عربية لإحدى الروايات الجميلة والشهيرة لصباح الدين علي، بعنوان “مادونا ذات معطف الفراء” بتوقيع مروة داغستاني، وتقديم عارف حجّاوي، الذي قام أيضاً بعمليَّتي تحرير وتدقيق الرواية لغوياً. وقد ذكر حجّاوي في مقدّمته أنها الترجمة الأولى للرواية. ومنذ أن صدرت هذه الترجمة لم تتوقّف الخلافات والنقاشات حولها حتى الآن، ووصلت إلى وسائل التواصل الاجتماعي. إذ سرعان ما أشار بعض القُرّاء إلى أن هذه الرواية قد تُرجمت بالفعل عن دار “أثر” بعنوان “مادونا صاحبة معطف الفرو” عام 2014، بتوقيع المترجِم السعودي جهاد الأماسي، وأنها حظيت بإقبال القرّاء وصدرت في أربع طبعات.
بعيداً عن الخلاف حول أسبقية الترجمة، حاولتُ مقارنة الترجمتَين، ولاحظتُ أن الترجمة القديمة هي الأقرب لروح الرواية وأجوائها وأسلوب صباح الدين علي، رغم وقوع المترجِم في بعض الأخطاء اللغوية، بينما ابتعدت الترجمة الجديدة، على رصانتها اللغوية، عن أسلوب الكاتب، وخصوصاً الجُمل الطويلة التي يُعرف بها صباح الدين علي، والتي قُسّمت في الترجمة الثانية إلى جُمل صغيرة. ويمكن القول إنّ الترجمة الجديدة قد محَت أسلوب صباح الدين علي تماماً، وظهر فيها صوت عارف حجّاوي أعلى من صوت المترجمة، بل ومن صباح الدين علي نفسه.
دُور نشرٍ عربية تترجم الأعمال التركية عن لغة وسيطة
قد تكون هذه مجرّد آراء، يُختَلف عليها ما بين شخص أحبَّ هذه الترجمة أو تلك، لكن المشكلة الحقيقية أن ناشرة الترجمة الثانية ما زالت تُهاجِم على مواقع التواصل الاجتماعي حتى الآن كلّ من يتحدّث في الأمر، وتتّهمه بأنه من “زملاء المترجِم” الأوّل، متجاهلةً أن المشكلة الرئيسية التي يعترض بعض القرّاء عليها هي ادّعاء “الترجمة الأولى”، وليس الحقّ في إعادة الترجمة من عدمه أو حتّى النقاش حول جودتها.
وقد وصل الخلاف حول الترجمتين لحجّاوي، الذي اعتذر من خلال برنامجه على “التلفزيون العربي”، عمّا ذكره في مقدّمة الترجمة الثانية، مشيراً إلى أنه لم يكن يعرف بترجمة الأماسي الأولى. لكن ناشرة الترجمة الثانية ما زالت تصرّ على نقاش أمر آخر، وهو أحقيَّة ترجمة العمل مرّة أُخرى. وفي ظل الخلاف حول الترجمة الأولى والثانية لرواية صباح الدين علي، الذي ساعد على انتشار الرواية، قامت دار نشر عراقية حديثة تُدعى “مقبرة الكتب” بإصدار ترجمة ثالثة لنفس الرواية، بعنوان “مادونا ذات معطف فراء” بتوقيع منار تحسين العزواي، لكنها أضعف بكثير من الترجمتين السابقتين.
يبدو أنّ الخلاف حول ترجمة أُولى وثانية يبدو عبثياً في ظلّ غياب ببليوغرافيا للترجمات عن التركية وإليها. والمفارقة أنني أثناء البحث حول ترجمات صباح الدين علي إلى العربية تبيّن لي أن الرواية المُختلف عليها قد تُرجمت بالفعل منذ عام 2009 بدعم من “مؤسّسة تيدا” التركية، وصدرت عن دار “سفنكس” في القاهرة، بتوقيع محمد مرسي. وربما كانت هناك ترجمات سابقة للرواية نفسها، ولم تعد متوفّرة، مثل طبعة القاهرة التي نفدت ولم تعد متوفّرة حتّى على شبكة الإنترنت
نستطيع أن نتحدّث عن مدى جودتها أو مقارنتها بالترجمات اللّاحقة. وليس من الواضح إذا كانت هذه الترجمة قد تمّت عن التركية مباشرةً أم لا، وهذه إشكالية أُخرى، حيث تقوم بعض دور النشر العربية بترجمة أعمال تركية عن لغة وسيطة – الإنكليزية غالباً – رغم حصولها على منحة دعم من وزارة الثقافة التركية، التي من المفترض أن تسأل عن اللغة التي تُترجَم عنها الأعمال المدعومة.
بالتأكيد، سيستمرّ الأمر هكذا في ظل عدم الاحتكام إلى مبادئ المهنية في الترجمة، وغياب التنسيق بين المؤسّسات والدُور حول خطط النشر المستقبلية ما يؤدّي إلى تبديد جهود المترجِمين المحترِفين، وغياب معايير اختيار الأعمال التي تعبّر بالفعل عن الأدب التركي على اختلاف مدارسه وأجياله بدلاً من الركض خلف الكتب الرائجة، وإلا فسيظل المعيار الوحيد