فلوبير رجل العصـــر”
.
غوستاف فلوبير
تعتبر جزيلا سيجنجر Gisèl séginger) (من قدماء طلبة المدرسة العليا للأساتذة، وهي أستاذة الأدب بجامعة غوستاف إيفل Gustave – Eiffel) (وعضو بالمعهد الجامعي لفرنسا. متخصصة كبيرة في غوستاف فلوبير، خصصت له العديد من المنشورات، ولاسيما أنها عملت على نشر أعماله الكاملة، التي ظهرت بدار لابلياد. أصدرت في الربيع الأخير كتاب شرق فلوبير في صور (دار نشر (Citadelle et Mazenod) كما أصدرت طبعة جديدة لرواية تجربة القديس أنطونيوس (غارنييه فلاماريون). في الوقت الذي يتم فيه الاحتفال بذكرى مرور مئتي عام على ميلاد مؤلف مدام بوفاري، قدمت لنا شرحا بخصوص أهميته في تاريخنا الأدبي.
حوار مع جزيلا سجينجر
ترجمة: الحسن علاجوقّع غوستاف فلوبير إحدى رسائله الأخيرة قبل وفاته، “غوستاف فلوبير التسكع الرومنسي الأخير”. ماذا كان يقصد بذلك بالضبط؟
ـ لم يرغب فلوبير في أي وقت من الأوقات ربطه بالواقعية ، لكن لأسفه الشديد، بعد ظهور [رواية] مدام بوفاري، فإن هذه السمة لطالما اقترنت به. كتب سانت بوف Sainte- Beuve) ( ( 1804 ـ 1869) على عجل مقالا تقريظيا، وفيه اعترف لفلوبير، ابن وأخ لطبيب، بقيادته لجيل جديد من الكُتاب. فحتى وإن لم يتلفظ سانت بوف بعبارة “واقعية”، فقد فهم فلوبير بأن الناقد قد ألحقه بالمدرسة الوليدة التي دافع عنها الروائيان: شامفلوري Champfleury) ( ( 1821 ـ 1889 )، ولوي إدموند دورانتي Louis Edmond Duranty) ( ( 1833 ـ 1880)، وكذلك الرسام غوستاف كوربيه Gustave Courbet) ( ( 1819 ـ 1877). أجابه في الحال بأنه رومنطيقي ساخط وسوف لن يتوقف، كما يشير التوقيع إلى ذلك ، عن التعلق بالرومنطيقية. سوف يرفض على الدوام مصطلحي الواقعية والطبيعية، حتى وإن كان زولا، الذي أعجب كثيرا برواية مدام بوفاري وإلى حد كبير التربية العاطفية يعتبره طلائعيا. وبالتأكيد، فقد أحب فلوبير بعض أعمال زولا، [رواية] نانا Nana) (مثلا، وبالمقابل، فقد انتقد لديه “تصنعا معكوسا” يكمن في تقديم وصف للأوضاع المزرية للمجتمع فقط.لم يكن فلوبير أيضا متفقا مع التزام إميل زولا ، لأنه كان يرفض الاشتراكية…
ـ سواء أتعلق الأمر بوجهة نظر سياسية أم أدبية، فإن مواقف فلوبير غالبا ما كانت متوازنة . لقد فند الواقعية لكن أيضا جزءا كبيرا من الرومنطيقية، رومنطيقية موسيه Musset) (ولمارتين Lamartine) (ابتداء من سنة 1850، احتفظ بإعجاب كبير لفيكتور هوغو وجيل ميشليه Gules Michelet) (وهذا حتى نهاية حياته، إلا أنه استبعد المثالية وعواطفيةsentimentalisme) (لمارتين وموسيه ، اللتين استهوتاه في طفولته. وقد كان في السياسة متوازنا أيضا تمام التوازن. لقد نشأ في ظل عائلة متحررة، مع والد كان يرأس قسم الجراحة بمستشفى روان، تمت تسميته أثناء فترة أيام نابوليون المائة. في الرابعة عشرة من عمره، عام 1835، عرف نفسه كشاب جمهوري في الرسائل التي أرسلها إلى أصدقائه حيث ثارت ثائرته ضد تمديد العمل بالرقابة على الصحف والمسارح في ظل ملكية يوليوز ، بين 1830 و 1848، والتي كان يعتلي عرشها آنذاك العاهل لوي فليب (Louis Philippe)، ملاحظا: ” سيشرع الشعب في الثورة الثالثة وحذار من رؤوس الملوك ” … وبعد وفاة والده، سنة 1846 ، وتحت تأثير صديقيه ماكسيم دي كامب (Maxime Du Camp) وخصوصا لوي دو كورمونان Louis de Cormenin) (أصبح فلوبير محافظا، معجبا بالعصور القديمة وبالأباطرة المستبدين مثل هليوغابال Héliogabale) ( أو نيرون . وفي عام 1847، نأى بنفسه عن الأفكار الجمهورية، في رسالة إلى لويزا كوليه Louise Colet) ( ، فقد روى بنبرة لاذعة وساخطة عن مأدبة إصلاحية حضرها بروان Rouen) ( ، مهرجان حقيقي للابتذال والسطحية ، بحسبه. وفي عام 1848 ، فقد كان شاهدا، من دون اتخاذ أي موقف، على ثورة فبراير التي سوف تفضي إلى تنحي لوي فليب وإلى نهاية النظام الملكي.
وبعد تفكير عميق ، فتنه لوي نابوليون بونبارت لأنه أعاد استتباب النظام ووضع حدا للخصومات السياسية، إلا أن إرادة الإمبراطور القادم للمراهنة على التطور الاقتصادي أقلق فورا فلوبير الذي لا يثق إلا في الفنون… في ظل الإمبراطورية الثانية، سوغت مساندة سانت بوف، الأمير نابوليون، ابن عم الإمبراطور، أثناء رفع الدعوى القضائية ضد مدام بوفاري ثم ظهور [رواية] سلامبو، التغلغل في الدوائر الثقافية والأدبية في ذلك العهد. تمت دعوة فلوبير إلى تويلري Tuileries) (بقصر كومبياني Compiègne) (في شهر نونبر 1864، وحيث كان المدعوون يخالطون الزوج الإمبراطوري لمدة أسبوع ، حضر الاستقبال الباريسي الكبير ، الذي أقيم على شرف الرؤوس المتوجة بمناسبة العرض العالمي سنة 1867 ، ليحوز على وسام جوقة الشرف . لم ينخرط في الإمبراطورية الثانية ، لكنه ثمّن تماما التكريمات التي أغدقت عليه بفضل رعاية الشخصيات التي يكن لها الاحترام ، مثل الأميرة ماتيلدا Mathilde) (أو المؤرخ فيكتور دوروا Victor Duruy) ( …
في فترة ثالثة من حياته ، بعد حرب 1870 ، واجتياح جزء من التراب الفرنسي من قبل البروسيين وكمونة باريس ، يتحول فلوبير إلى جمهوري معتدل ، ساخرا من حلم الاقتراع العام . ينافح عن فكرة حكومة من المثقفين ، مكونة من نخبة من الشخصيات المقتدرة ، بدون إيديلوجيا حقيقية .وفي نهاية السبعينات (1870 ) ،عرف نفسه ك ” جمهوري أكثر رشاقة ” ، قطعا ليس تقدميا وأقل اشتراكية أيضا . ومع ذلك ، فقد هاجم بعنف في مراسلته المحافظين المتشددين ، الممثلين في شخص الماريشال ماك ماهون Mac Mahon) ( ( 1808 ـ 1893) ، رئيس الجمهورية الجديدة ، الذي كان يأمل في وقت من الأوقات إصلاح النظام الملكي والذي أصبح يشكل أحد كوابيسه ، على غرار اليسوعيين ، القساوسة والاشتراكيين …كيف تمكن ، بشكل مفاجئ من ربط صداقة عميقة جدا مع أحدهم مثل جورج صاند George sand) (التي كانت على النقيض منه تماما؟
ـ إن فلوبير شخص مثير للاهتمام ، لأنه يجيد النقاش ، الإصغاء وربط علاقات ودية حتى مع كُتاب يختلفون عنه أشد الاختلاف . لقد كانت تستهويه الكتابة ،على سبيل المثال ، والإجابة ،بين 1846 و 1848 ، إلى لويزا كوليه ، التي ـ فتنتها الرومنطيقية ، الوجدان والعشق ـ لن تشاطره مواقفه الجمالية ، الشيء الذي نجم عنه مراسلة رائعة كان يعرض عبرها إيثيقاه المغايرة للفن . فمع جورج صاند التي لم يكن معجبا بها إطلاقا في فترة شبابه ، شُيدت روابط بعد المقالات التي كتبتها ، تزامنا مع ظهور مدام بوفاري وسلامبو . فقد شرعا في التعرف على بعضهما البعض . إن فشل ثورة 1848 التي ظلت جمهورية ، والمحافظ الذي تلفظ بفكرة الاشتراكية قد عثرا على نقاط مشتركة مثلا ، بخصوص فكرة معينة للرومنسية . أثناء تحرير رواية التربية العاطفية شُيد حوار مدهش . شرحت صاند إلى فلوبير أنه لو كان يعاني من صعوبات في الكتابة فلأنه يمتنع عن تقديم وجهة نظره حول الأحداث أو السياسة . وبالنسبة لفلوبير ، فإنه لا ينبغي على الرواية أن تترك أي شيء يتم تخمينه من قبل القارئ عن أفكاره الدينية ، السياسية أو عن حياته الشخصية . أي بوح . أي وجهة نظر . لقد شكل المحافظون ، الجمهوريون ، الملكيون والاشتراكيون هدفا لسخريته في التربية العاطفية . ثمة أعمال فاضحة ، حماقات وأفكار نمطية لدى كيهما . وبالنسبة لصاند فإنها تعتقد العكس تماما … لن يمنعهما هذا البتة من أن يشكلا أفضل الأصدقاء في العالم ثم إقامة أمسيات في منزل صاند ، بمقاطعة نوهانت Nohant) ( ذات تواطؤ عميق .هل مارس بالزاك ـ شيخه الشهير ـ على فلوبير تأثيرا ما؟
ـ لطالما قرأ فلوبير وأعجب ببالزاك . يعتبر العنوان الفرعي لروايته مدام بوفاري ، عادات الإقليم ، بالتأكيد بمثابة تحية لمؤلف الكوميديا البشرية . نظرة خاطفة أخرى : فكما هو الحال في رواية بالزاك ، يعتبر لوي لمبير Louis Lambert) ( راويا كان حاضرا أثناء الأحداث ( والذي يقول ” نحن ” ) يقوم بسرد وصول الصبي شارل بوفاري ، إلى قاعة الدرس الجديدة حيث سيتابع بها دراسته … ومع ذلك ، فقد اختفى هذا الراوي ال” بالزاكي ” على وجه السرعة من المحكي ، كمالو أن فلوبير كان يرغب في التخلص منه لصالح راو خارج أحداث الرواية ، راو خارج حكائي كما يقول جيرار جونيت Gerard Genette) (
اهتم فلوبير، شأنه في ذلك شأن بالزاك، بالمجتمع وبالسياسة، وبالمقابل، فقد كان يعتبر أن الكاتب ما كان عليه الالتزام ولا ينبغي عليه الترشح للانتخابات . ففي توطئة الكوميديا البشرية، سجل بالزاك: “إني أكتب على ضوء حقيقتين، الملكية والدين.” وبالنسبة لفلوبير، فإنه ينبغي على الكاتب أن يتحاشى الكتابة على ضوء أي حقيقة مهما كانت . يعتبر مؤلف التربية العاطفية متشككا وقد نأى بنفسه عن بالزاك بشكل متزايد . ففي مدام بوفاري ، لم يصدر حكما لصالح الراهب ولا لصالح الصيدلاني الوضعاني ، الذي يعتقد أنه ينافح عن العلوم لكنه لا يتحدث إلا عن علوم تفتقد إلى الأصالة وأفكار نمطية . إن إرادة أن يكون مجهولا ، ألا يفصح عن أفكاره ، قد ساهم في تشييد سمعة المحبط ، بدون أخلاق ، لفلوبير . لم يكتف فقط ، بأن يقدم في مدام بوفاري خيانة زوجية ، فضلا عن ذلك ، بحسب مغتابيه ، فهو لم يسمح للقارئ بإدراك مكان تواجد الأخلاق بالتدقيق . الشيء الذي ترتب عنه رفع دعوى قضائية بعد صدور روايته … لدى زولا ، ينتصر الفهم وشرح الواقع ، كما أن إدانة الإمبراطورية الثانية لا شك فيها . إن ما يكتسي أهمية أكبر ، بالنسبة لفلوبير ، هو الأسلوب : تحويل الموضوعات الهزيلة إلى فن ، ابتكار عمل استثنائي مع أشياء مبتذلة ، إقامة حوارات مبتذلة مع إجادة صياغة كتابتها وجعلها تتسامى عبر السخرية …انتهى به المطاف إلى الانزعاج من خلال التقريب الذي تمت إقامته بين رواياته الحديثة وروايات بالزاك . وفي نهاية المطاف ، فهو يستند دائما إلى نوع من الرومنسية . إنه يعشق قوة الشكيمة ، الرفعة في الأدب مثلما في الحياة . وقّع فلوبير في بعض رسائله ” المفرط ” . فهو لا يجتر الكلام حينما يصدر أحكاما في رسائله . إنه يعشق في الأدب الجرأة ، القوة ، سعة نظر هوميروس ، رابليه Rabelais) ( ، شكسبير أو بيرون وأسطورة العصور لفيكتور هوغو . إن الجمال يرتكز ، بحسبه ، على قوته ولا أهمية للأخلاق ، والفضيلة . ” رومنسي ساخط ” ، تبعا لعباراته ، إنه يعشق التناقضات والاتقاد ، ثم إنه يستحضر أحيانا بفظاظة اللحظات القوية لرواياته ـ ” مضاجعة ” ، ” شواء الصبية ” ( سلامبو ) ـ ، في مخطوطاته أو في المراسلة . لقد كان ينتابه حنق شديد بخصوص البورجوازيين ، من ماك ماهون الذي لا يريد أن يأخذ في حسبانه التطور الجمهوري لفرنسا ( ” تبّا لماك ماهون ! ” ) .هذه الطاقة التي تنعش على الدوام كتابته .تشددون في عملكم شرق فلوبير، على أهمية النظرة بالنسبة لفلوبير، والحدقة كما يؤكد على ذلك، حيث تبدو أوصافه وكأنها تنفلت غالبا من لوحة دولاكروا Delacroix) (أو جيروم Gérome) (؟
ـ إن الكاتب هو رسام ، عين ، ينظر . ” كن عينا مبصرة ” ، ينصح فلوبير أحد أصدقائه . لابد أحيانا من معرفة إدراك أسرار ، عبر ما نراه ، من دون إصدار أحكام أخلاقية ، دون التوفر على أفكار فلسفية أو دينية كبرى . فأثناء رحلته الكبرى إلى الشرق ، من 1849 إلى 1851 ، والتي تعلم فلوبير خلالها النظر بقوة إلى سماء ، غروب شمس ،الألوان والتأثيرات غير المألوفة للأضواء التي تمتزج ؛ ينسحب على ذلك الأوصاف التجريدية في رسائله وملاحظاته على هامش الرحلة . لذلك فهو يتصرف وفق دولاكروا في اللوحات المائية حيث كان يرسم ألوان السماء . إن الشرق ، بالنسبة لفلوبير ، هو الألوان والتباينات في ذات الوقت …
” إني أرغب في كتابة رواية أرجوانية ” ، يشرح للأخوين غونكور أثناء تحريره لرواية سلامبو . منذ الصفحات الأولى ، هيمن الأحمر والأسود ، لونا الدم ، لونا الحب والموت … لقد ارتبطت هذه الرواية بأسفاره في الشرق ، بتناقضاته حينما يكون بمقدور اللون الأسود ، تحت ضوء ساطع ، أن يصبح أبيض والعكس بالعكس . كما أنه فُتن ، من وجهة نظر جمالية ، بالتركيب المتنافر للأشياء الذي لاحظه هناك . وهو لقاؤه ب[مدينة]إسنا ، بكوتشوك ، وهي مومس وراقصة ، ” إمبراطورة متسامحة ” أدت لفائدته ” رقصة نحلة ” قبل استقباله في غرفتها ، التي يجتاح حيطانها البق الذي أمضى الليل في سحقه ، وقد منحته رائحة تلك الحشرات نشوة جمالية حقيقية …سوف تعثرون على التناقض ذاته في مدام بوفاري ، أثناء مشهد جمعية المزارعين ، حيث باح ردولف بحبه لإيما ، في اللحظة التي تم فيها منح جائزة أفضل سماد … بدت النساء اللواتي يرافقن جيش البرابرة في رواية سلامبو ، في نظافة وملبس سيئين ، لكنهن عملن على تزيين صدورهن بأحجار كريمة ، التي كانت تسمح بشراء إمبراطورية …
لا يحب فلوبير حقبته ، القرن التاسع عشر ، حيث تنتصر الصناعة والبورجوازية بمعاطف سوداء . إنه يحلم بالشرق ، فهو ، بالنسبة إليه ، وطن يرمز إلى الجميل ، لأنه يشعر أن القليل من العصور القديمة قد نجت هناك . فقد عثر هناك على الأزمنة التوراتية .
لطالما رفض فلوبير الزواج ، الشيء الذي لم يمنعه من مراكمة علاقات طيلة حياته …
رفض فلوبير الزواج ، لأنه لا يرغب في تحمل وزر البورجوازي . فلكي يكون المرء كاتبا ، ينبغي عليه أن يكون عازبا ، لأنه ينبغي أن يكرس نفسه لفنه تماما . يكتب فلوبير ببطء شديد ، يقوم بالشطب إلى ما لانهاية ، يعيد الكتابة ، وهو بحاجة إذن إلى سنوات عديدة من أجل إنهاء رواية ما . فمن المستحيل ، في ظل هذه الظروف أن تكون له أسرة ، أطفال ووضع في المجتمع … وحدها والدته عاشت إلى جانبه بقرية كرواسيه Croisset) ( إلى حدود وفاته ، وكذلك كارولينا Caroline) ( ابنة أخته التي كان مسؤولا عن جزء كبير من تربيتها . لم يكن الأمر متعلقا بالنسبة إليه بأن تكون له زوجة أو عشيقة فخرية . وهذا هو السبب الذي جعله يقطع علاقته ، في غضون بضع سنوات مع لويزا كوليه ، التي كانت ترغب في أن تكون زوجة له ، أو على الأقل عشيقته الرسمية ، على أنه لم يتم على الإطلاق تقديمها إلى أمه ناهيك عن استضافتها بكرواسيه .
لاشك أنه ابتداء من الخمسينات (1850 ) ، قد عاش فلوبير صداقة غرامية مستدامة لكنها كانت عن بعد ، مع جوليا هربرت (Julie Herbert) ، وهي مدرسة إنجليزية ، كانت تهتم بتدريس ابنة أخته كارولينا ؛ على أنها كانت تقيم بأنجلترا ، وقد قام بزيارتها بلندن . لقد كانت امرأة مثقفة و كان له معها بالتأكيد تبادلات ثرية ، ولسوء الحظ لم يبق شيء من مراسلتهما . كان هذا النوع من العلاقة مثاليا بالنسبة إليه ، لأنه لم يتطفل على حياته اليومية ولم يعرض موهبته كأديب للخطر .
يقدم فلوبير نفسه مثل ناسك بقرية كرواسيه . وهو ما لم يمنعه من ارتياد الصالونات الباريسية إبان جزء كبير من حياته …
ـ لقد كان يحلو له جدا تقديم نفسه كشهيد للفن ، قديس معتزل ، مبشر بعبادة الفن . إلا أن ذلك كان على الخصوص في الرسائل التي تم توجيهها إلى لويزا كوليه ، التي طالبت برؤيته في معظم الأحيان . أجاب محتميا بها: ” نمارس عشقنا في الفن ” ، مع تحاشي الذهاب إلى باريس في أغلب الأوقات . وفي ما تبقى من مراسلته ، يُلاحظ جدا عشقه لباريس، لاسيما حينما أصبح له فيها موطئ قدم قبل نشر رواية مدام بوفاري ، ثم رواية سلامبو . لم يكن يتردد فقط على صالونات الأميرة ماتيلدا Mathilde) (والأميرة جوليا بونبارت Julie Bonaparte) ( لكنه كان يحضر أيضا العشاءات التي كان ينظمها سانت بوف، كما كان يخالط الأخوين غونكور ، رينان Renan) ( ، زولا ، غوتييه Gautier) ( ، وكان يذهب بانتظام إلى المسرح . قام كذلك بزيارة مدام سباتييه (Madame sabatier)، وهي امرأة تعيش على نفقة زوجها ، وقد كانت تستقبل في صالونها كتابا و شخصيات ، وهناك كان يتم قضاء حياة سعيدة . هناك يتنكر المرء وهناك لقّب فلوبير بفوفريلار Vaufrilard) (( ظهر هذا الاسم في مدام بوفاري : يتعلق الأمر بالمصور الذي اختار إلى جانب هومي Homais) ( قبر إيما بروان)، ولقب صديقه بلوي بوييه Louis Bouilhet) (بمونسنيور. كان فلوبير رجلا مرحا، شرها ، محبا للمناقشة والتبادلات الخليعة في الغالب الأعم ، مع البعض من ممثلات عصره .عاشر فلوبير في شبابه النحات برادييه Pradier) (المصور غليري Gleyre) (وفي وقت لاحق، وبفضل الأميرة ماتيلدا، وهي نفسها مصورة ، فقد أنجزت بعد وفاة فلوبير بورتريها محركا للمشاعر لسلامبو)، احتك في صالونها بالمصور والكاتب الفرنسي أوجين فرومنتان (Eugène Fromentin) الذي أعجب به، جان ليون جيروم Jean-Léon Gérome) ( ومصورين شرقيين آخرين . ومهما يُقال فإن فلوبير أحب العالم أحيانا …
كانت الصداقة تحتل، بالنسبة لفلوبير، مكانة مرموقة…
ـ تماما، كنت سأقول أن الصداقة أهم من الحب بالنسبة لديه. فعندما تكون لديه علاقات غرامية مع نساء، فإنه كان سيفضل أن تظل في إطار الصداقة الرومانسية، بلا حسد، مع التباعد، الشيء الذي لم تفهمه كوليه، وبالمقابل، فإن جولييت هربرت (Juliet Herbert) فهمت ذلك جيدا. مع جورج صاند، التي كانت امرأة مسنة فعلا، أثناء لقائهما، فإن السؤال لم يكن ليُطرح فربط معها صداقة رائعة. ستكون له صداقة طويلة الأمد مع ماريا صوفي لورواييه ( Marie-Sophie Leroyer) من شانتوبي، وهي الكاتبة التي سوف لن يلتقي بها أبدا، كما أن مراسلتهما كانت ذات قيمة كبيرة من أجل فهم قوة إبداعها وعملها.
عديدة هي الصداقات الذكورية المتينة التي رافقته طيلة حياته. ثمة بادئ ذي بدء إرنست شوفالييه (Ernest Chevalier)، الذي فكر، إلى جانبه ، منذ التاسعة من عمره، في الكتابة (سيقوم فلوبير بتأليف مسرحيات هزلية سيتحدث إرنست عن أحلامه)، ثم ألفرد لوبواتوفان(Alfred Le Poittevin) الذي لقنه أسرار الشعر، الرومنسية، الفلسفة وقاده إلى قراءة سبينوزا … وابتداء من 1846، ربط علاقة صداقة مع لوي بوييه، الذي كان يدرس الطب مع الدكتور فلوبير قبل أن ينطلق بنجاح في مهنته ككاتب مسرحي. كانا يمتلكان ذات التصور للأدب واعتادا قراءة مخطوطاتهما بشكل متبادل وتقديم المشورة لبعضهما البعض. سوف يتوقف هذا التعاون الضيق في عام 1869 ، قُبيل إنهاء كتابة رواية التربية العاطفية، عند وفاة لوي بوييه التي سيعاني منها فلوبير عميقا. إن الصداقة مع ماكسيم دي كامب، الذي انطلق معه إلى الشرق من عام 1849 إلى 1851 والذي سيقوم بنشر مدام بوفاري على صفحات مجلة باريس (مع العمل على إزالة المشهد الشيطاني للعربة)، كانت صداقة متينة، بالرغم من أن الطموحات الباريسية للشاب الوصولي تزعج الكاتب . وسوف يكون هو من سيكلفه فلوبير على إعادة قراءة التربية العاطفية، من دون الأخذ بعين الاعتبار بكل ملاحظاته .
لقد كرست جهودك لسنوات عديدة لفلوبير، كمدرسة بالجامعة أو كمشتغلة على طبع مراسلاته في لابلياد أو العمل على كتابة العديد من الكتب حوله؟
ـ قرأت مدام بوفاري وسلامبو وأنا في الثالثة عشرة من عمري . ولو أنني في ذلك العهد، لم يكن بمقدوري إيجاد تفسير حول ما الذي يجعل أن هاتين الروايتين قد تركتا لدي انطباعا عميقا. وفي ذلك الوقت بالذات ، قمت بقراءة بؤساء فيكتور هوغو، ثم إن الجانب العاطفي لبعض الفقرات أزعجني . اكتشفت ، فيما بعد، أن فلوبير لم يعشق هذا الكتاب والذي كان يضايقه فيه هو أسلوبه المثير للشفقة المبالغ فيها. فضلا عن ذلك ، فقد تلقى فيه فكرا اشتراكيا، سيعجل بالسخرية منه في الرواية التي كان يشرع في كتابتها ، التربية العاطفية .
لطالما حلمت بالشرق، بفضل سلامبو… بعد ذلك مباشرة، أحببت عمله برمته حتى آخر عمل، بوفار وبيكوشيه، “الموسوعة النقدية في مزحة ” الذي استعرض معارف ذلك العهد ، ثم إني كتبت أطروحة حول تجربة القديس أونطونيوس التي تستوحي تاريخ الأديان في عصره ( 1849 ـ 1856 ـ 1874 ). إن فلوبير، بالنسبة لي ، هو رجل العصر. انطلاقا من أعماله لكن أيضا من خلال مراسلاته ، بإمكان المرء الاقتراب من مجموع حياة وتاريخ القرن التاسع عشر . لقد كرس نفسه لكل شيء على الإطلاق ، سواء أتعلق الأمر بالأدب، فن التصوير، العلوم، تاريخ الأديان أم بالسياسة . لقد كان رجلا من زمانه كما أنه فكر في كل الأسئلة العظيمة لتلك الفترة . وبالتأكيد ، فقد كان يكره التصنيع الناشئ، إلا أن ذلك لم يكن ليمنعه من كتابة رواياته استجابة لتساؤلات عصره وتاريخه المضطرب، دون أخذ موقف في أعماله لفائدة هذه الفلسفة أو تلك، لفائدة هذا التوجه السياسي أو ذاك . أقول ، أنه بفضل فلوبير، اقتربت من القرن التاسع عشر برمته …
على أنه أيضا ثمة أسلوب فلوبير ، إيقاع جمله ، اشتغاله على النغميات، اهتمامه بالألوان، طريقته في تقطيع المشاهد الملفتة للنظر في الواقع أو رسم لوحات تشكيلية… حتى أنه سمح لنفسه في رواية سلامبو، بإعادة رسم جزء من لوحة أوجين دولاكروا، “موت ساردنابال Sardanapale) ( ” . قدم وصفا للمتاريس التي هاجمها المرتزقة البرابرة ، نساء بيضاوات عاريات ، وهو أمر غير محتمل إطلاقا. لماذا هذه الجزئية ؟ في المستوى الأول للوحة دولاكروا ، يُلاحظ المرء امرأة مجردة من ملابسها تم طعنها من قبل عبد لكنه أبيض . إن نساء فلوبير العاريات، قد تم طعنهن من قبل مرتزقة سود . يراهن فلوبير على التناقض التصويري. إنه أشبه ما يكون بتكريم خفي لدولاكروا . لكل تلك الأسباب فإنه يستمر في جذب انتباهي .
ــ
مصدر النص: مجلة Le Monde) (الفرنسية في عدد ممتاز (دجنبر 2021) خصص لغوستاف فلوبير تحت عنوان: غوستاف فلوبير الرومنسي الساخط .