إعراب الجملة البَصًرية
تَقْويضُ الضوء للحصول عليه !
قواعد جمل المصور “رسول بابًل”
Rasool Jamal
• خليل الطيار
مبتدأ المبتدئ وخبر الخبير
يتميز نتاج المصورينَ (الخبراء -المحترفون) عنْ (الهواة - المبتدئون) في إمكانيةِ ترويضِ كاميراتهمْ، وتحجيم عشوائية التقاطها لكلِ شاردةٍ وواردةٍ، وإنَ توفرتْ لها فرصُ تحقيقِ صورٍ متميزةٍ.
هذهِ الخصيصةِ، وبعد مراسٍ طويلٍ يتجاوزها المصور المحترف متنقلاً منْ "هيامْ الالتقاطِ" نحوَ مرحلةِ "الاختيارِ والتأسيسِ". فهوَ يُريح كاميرتهُ منْ مشقةِ مواجهةِ مساحاتِ الأضواءِ المنتشرةِ في كلِ مكانٍ، ويعملَ على تقويضِ سلطتها بدافعِ الحصولِ على الضوءِ "النوعيِ" الذي يحتاج لعدستهِ أنْ تتماهى معهُ، وإن كانتْ نسبتهُ قليلةً. كونَ مساحاتِ الضوءِ النادرةِ، تشكل عناصر أساسية في وظيفةِ المصورِ المحترفِ. فهوَ يختزل استثماره في صوره ولا يفرطُ في أيِ جزءٍ منْ "بلوراتهِ" الثمينةِ. لانه مبتكرا وصانع "فواعل بَصًرية " وليسَ مساحا، يسجل بكاميرتهِ مشاهد يسرف في استخدام أضوائها ليحققَ لها صورا!
هذهِ الميزة سيكتسبها المصورُ المبتدئُ تدريجيا لتتحول الكاميرا في يديهِ بعدَ ذلكَ إلى موشورْ حبس وتمرير فاعل للضوءِ. وليستْ أداة يعتمدُ على تقنيتها في تأسيساتِ صورهِ. إذْ إنَ الكاميرا لدى المحترفِ تخضعُ لرؤيتهِ، لا أنْ يصبح خاضعا لإغراءاتها. وتكون منصاعةٍ لتحملِ مقبوضاتهْ البَصًريةَ التي يريد تشكيلها مرئيا، وليسَ المصنعُ الذي يعتمدُ عليهِ المبتدئُ في إنتاجِ صوره.
الفاعل في الجملةِ البَصًريةِ
هذا المبتدأِ، يجعلنا نقف عند أحدِ أبرزِ مؤشراتِ الاهتمامِ بقيمةٍ (الفاعل البَصًري - المصور) كمبتكرٍ جماليٍ وليسَ (مسجل ألواحٍ - عرضًحالجي ) يكتب بالنورِ كلَ ما يعرضهُ الواقع. فالمصور (المحترفَ - الخبيرِ) ينتجُ صوره في رحمِ الأفعالِ المرئيةِ. والكاميرا بيدهِ، تساعدهُ لتحجزَ مساحةَ الأضواءِ الكافيةِ لفواعلهِ، وابتكاراتهُ المتأتيةُ منْ رؤاهُ البصريةِ. وتستلزمَ منهُ اتخاذِ قرارِ التقاطٍ حاسمٍ للقبضِ على جمل لا يمكنُ تأجيل كتابتها. ولا يتركُ للكاميرا حسمَ مسألتها، بلْ يلزمهُ التفكير المعمق والصائب ليحققَ فيهِ منجزا بَصًريا ثريا، وليسَ فعلاً آليا ترسمُ الكاميرا قرارَ تكييفهِ. فتكون الصورة، نتاجُ الآلةِ، لا متحقق الرؤيا.
المصور المضاف والصورة المضاف إليها
بذلكَ اقتربنا منْ "إضافةٍ" معرفيةٍ نحاولُ فيها تسليطُ الضوء على (المضاف على الواقعِ - المصور) كمؤسسٍ جماليٍ يسهمُ بزيادةِ قيمةٍ (المضاف إليهِ - الصورة) ويكون متحققه البَصًريِ نتاج "الاختيارِ والتأسيسِ" لا نتاج اجتهاد الكاميرا.
تثبيتُ قواعد إعرابنا لهذا المفهومِ يحتاج الإلمام والإحاطة بجملِ بَصًريةٍ يكتبها مصورونَ يعرفونَ عنْ ثقافةِ ولغةِ الصورةِ المرئيةِ الفاعلةِ، أكثرَ ما تعرفهُ الصورةُ الطبيعيةُ عنْ قواعدها. وهمْ كثرٌ في مساحةِ مشهدنا الفوتوغرافيِ العراقيِ، سواء بالداخلِ أوْ بالخارجِ، يعملونَ بجدِ لتثبيتِ أسمائهمْ كمصورينَ محترفينَ (فاعلينَ). وضعنا في مشغلنا تسلسلاً لإعرابِ جملهمْ تباعا اخترنا منْ بينهمْ كخطوةٍ أولى، قراءة أعرابية لمنجزٍ "رسول بابل". هكذا شاعَ اسمهُ في الوسطِ الفنيِ تاركا فيهِ عنوانا لمصورٍ فاعلٍ (مضافا) على مشهدِ الفوتوغرافيا العراقيةِ .
"رسول بابل" عراب محترف، كثير ما يترك جملهُ هائمة في واقعها لا يتهافت على صياغاتها ولا يلاحق تشكلاتها الضوئية العفوية. لكنه يقترب منها في لحظاتٍ استثنائيةٍ عندما يرى حاجةً قصوى لاستدعائها كشاهدةِ إثباتٍ على تحقيقِ علامةٍ بَصًريةٍ متميزةٍ. ويكتبَ قواعدها على وفقِ لغةٍ جماليةٍ يقدمُ فيها جملاً بَصًريةً كاملةً غيرَ منقوصةٍ، وتعطي معنى شاملاً وخاليةً منْ الأخطاءِ (النحوية - التكوينية) و (البلاغة - الاحتوائية). وأحيانا يعمدُ على تشكيلِ حروفِ مفرداتها حتى لا يُساء تأويل المعنى في قراءتها.
أضواء الجمل الاسمية، والمبنيةَ للمجهول
"رسول بابل" لا يبدو مكترثا بهوسِ البحثِ عنْ أيِ أضواءٍ عشوائيةٍ ليكتبَ فيها أسماء جملهِ الضوئيةِ، سواء كانتْ مخبأةً بينَ شتاتِ الأنوارِ الطبيعيةِ، أوْ في الإضاءةِ المصطنعةِ والمتاحةِ أمامهُ، أوْ تلكَ الغائرةِ في مناطقِ العتمةِ. وكذلكَ وجدناهُ مقلا أيضا بفهرستِ ونشرِ ما يسميهُ إلا حينَ يجدُ أنَ صورتهُ تكاملتْ، ولمْ يبقَ سوى أنْ تخرجَ للعلنِ مفصحةً عنْ جملتها المتكاملةِ والمضبوطةِ في إملائها.
وكثيرا ما نجدُ عدستهُ حاضرةً في البقعِ والزوايا والمرئياتِ الاستثنائيةِ، التي تحتاج إلى تأسيسِ التقاطي لجملٍ مبنيةٍ منْ مصادرَ ضوئيةٍ مجهولةٍ! ويصعبُ صياغاتها كصورٍ فوتوغرافيةٍ. ولا يمكنُ القبضُ على مفرداتها بسهولةٍ، فتأتي مهمتهُ لينهيَ جدليتها بمرئياتٍ عميقةٍ في تعبيراتها. وأحيانا يبتعدُ كليا عنْ التصويرِ ليراقب مراس الآخرينَ يسجلَ عنها ملاحظات في مدونتهِ ويرد عليها بجملِ اسميةٍ استثنائيةٍ، تستكملُ ما نقص من مفرداتِ أعمالٍ كثيرةٍ تسوق في المشهدِ البَصًريِ، لكنها لمْ تحافظْ على سلامةِ فقهِ ولغةِ الفوتوغرافيا المستوفيةِ لقواعدها.
توظيف المصدر الضوئي
ملاحقة سريعة لبعضِ جملهِ الضوئيةِ، تكشفَ لنا تجربةُ "رسول بابل" دأبهُ وبحثهُ المستمرَ على جذاذاتْ الضوء، وإنْ كانتْ متشكلةً منْ أنوارِ شمعةٍ، أوْ منْ نزولِ أشعةٍ متسللةٍ، أوْ منْ أمواجٍ ضوئيةٍ منعكسةٍ على السطوحِ، يفعلَ اشتغالهُ المرئيُ ليحتويَ مصادرها، ويسحب خاماتها منْ حواضنها الطبيعةُ ليمررها في حواضنه المرئيةِ. فهوَ لا يتقبلُ إبقاءَ أيِ مصادرَ للضوءِ تسترسلُ منسابةً بعفويةٍ وتبقى مجهولةً الأثرِ. بلْ يعملُ على تقويضِ مساراتها، ليبنيَ لمجاهلها الضوئيةِ، معارف جماليةٍ تمنحها هوية بَصًرية واضحةٌ المعالمِ، تتكاملُ فيها سرديًاتهِ وفقَ معادلة (القبض والتوظيف).
فهوَ يقبضُ على مناخاتٍ ضوئيةٍ منْ مصادر خاصة، يتأملَ في توظيفها مرئيا. وعندما يعثرُ فيها على إمكانيةِ كتابةِ جملةٍ بصريةٍ نافعةٍ، يشرعَ بعمليةِ استدعائها لمساحةِ موضوعهْ ولا يذهب نحوها مجبرا، وإنْ كانتْ مستوياتها ضئيلةً وصعبةً المسك.
جزم ونفي وتوكيد الأضواء في الجملةِ البَصًريةِ
الأضواء العائمة في الواقعِ كثيرا ما تجزمُ الكاميرا، لتصبح أسيرة سلطتها وتؤثرَ بانطباعاتِ المصور، وتغريه بالهرولةِ نحوها ليشكلَ صورتهُ بمتاهاتها الواسعة. لكنَ هذهِ الإتاحةِ ما لمْ يتمْ إخضاعها للفاعلِ المرئيِ، فأنها ستحققُ صورا واضحةً التركيزِ لكنها منفية القيمة.
مهمةُ هذا التوظيفِ للضوءِ تختلفُ عندَ المصورِ "رسول بابل"، فهوَ لا يلهث وراءَ الأضواءِ المتاحةِ، بلْ ينفي المشتت والعائمَ وغير الفاعل منها، ويعملَ على توكيدِ الضوءِ "النوعيِ" ليقبضَ على قاعدةٍ رصينةٍ لكتابةِ مفرداتِ جملتهِ البصريةِ. وبرهن على ذلك في واحدةٍ منْ أكثرِ أعمالهِ دلالةً في هذا المضمارِ البصريِ. والتي تضعنا أمامَ مهمةٍ شاقةٍ لتفكيكِ قواعدها التي تدخلُ في خانةِ الممنوعاتِ منْ الصرفِ وتحتاج إلى أدواتِ توكيدٍ لإعرابِ مفرداتها الجماليةِ.
حروف ضوئية ممتنعة من الصرف
للوهلةِ الأولى لا تبدو الحروفُ الضوئيةُ في هذا العملِ، قابلة لمطاوعةِ تلقيها بسهولة. بحيث يترك موضوعها صدمةً خاطفة لكشفٍ ببياناتِ محتواهُ. كما يتيسر ذلكَ في الصورةِ السهلةِ والمكشوفةِ البناءِ. لكنْ في الأعمالِ ذاتِ التراكيبِ الصعبةِ في تشكيلِ مناخاتها الضوئيةِ، فإنها تفرضُ حالةَ إستيقاف قسريٍ لتأملِ بنائها ومراقبةِ دقيقةٍ لخصوصياتها الجماليةِ.
وهوَ ما وجدناهُ في هذا العملِ الذي كتبتْ حروفهُ بتنظيمٍ متقنٍ لهندسته البصريةِ. وتحتاج مقايسةٌ دقيقةٌ لإعرابها. بعد أنْ قبضَ فيها على واقعةٍ استثنائيةٍ في مناخاتها الضوئيةِ، وصعبة التراكيبِ كانتْ تستلزمُ تحييدَ بعضِ المناطقِ وتجاوزها والذهابِ إلى تأكيدِ مساحاتٍ مضاءةٍ يمكنُ التماهي معها بيسر. وكانَ بإمكان "رسول بابل" قسرَ عدستهِ بمدِ لسانها لتصلَ إلى مساحةٍ تكون فيها الأضواء كافيةً لتعينهُ على بناءِ موضوع مكشوف، متجاوزا بعضَ حروفٍ ضوئيةٍ ممتنعةٍ منْ الصرفِ في جملتهِ .
الإشارات والفوارز والنقاط في دهليز اغترابِ الطفولةِ
هذهِ التركيبةِ الضوئيةِ المعقدةِ أصرَ "رسول بابل" أنَ لا يفرط فيها بأيِ حرفٍ ضوئيٍ، قادر على صنعِ تأثيرٍ في مرئيتهِ، ويسهمَ في إكمالِ بناءِ جملتهِ ويكون له موقع مؤثر يؤديه في صياغةِ معناها، وإنْ كانَ بحجمِ إشارةٍ، أوْ فأرزةٍ، أوْ نقطةٍ ضوئيةٍ. لتساعدهُ على بناءٍ سرديًته المثالية في تراتبيتها الضوئيةَ. وهيَ تتأسس في دهليزِ اغترابٍ قهريٍ. شهدنا فيهِ صبيا جلسَ محاصرا بينَ مواطنِ العتمةِ والضوءِ بقسوةٍ مفرطةٍ، أجبرتهُ أنْ يجلسَ القرفصاءَ بهذا الحصارِ الموجعِ!
"رسول بابل" أرادَ لهذا الاحتواءِ في مضمونِ جملتهِ، أنَ لا يمر تأثيرهُ عبرَ مناخٍ عاطفيٍ، دون تبرير جمالي يُحصنه بتركيبٍ ضوئيٍ يساعده في إحياءِ قيمةِ هذا الاغترابِ والعزلةِ. فاختارَ زاويةً شكلتْ سرَ نجاحِ هذا العملِ حيثُ بدأَ يسيطرُ فيها على مجملِ مآثرِ واقعتهِ. حبس فيها مناطق الضوءِ والعتمةِ بترانيمَ ومقاديرَ مدروسةٍ بعنايةٍ فائقةٍ، لتهيمن فيهِ دلالةُ مساحةِ السوادِ على مناخِ جملتهِ، فارضة حصارا واغترابا مميتا للإنسانِ!
صياغة خبر الجملة البَصًرية
إذا كانَ "الخبرُ" كما يعرفهُ أحد أئمة اللغة "ابنُ فارسِ" هوَ "أصلُ الكلامِ". تصبح بهِ هذهِ السوداويةِ الحاكمةِ على مرئيةٍ "رسول بابل" غيرِ مستقيمةٍ معَ "خبرِ" جملتهِ. خاصةً وهوَ يحاكي فيها قهريةٌ إنسانيةٌ تمثلتْ بعنوانٍ (الطفولة - البراءة). وقدْ يُسقطُ إعرابَ جملتهِ البصريةِ بضعف بلاغتها. فذهبَ يقاربُ قيمةَ مساحاتِ "الضوءِ" كدالةٍ عنْ (التَوطنُ- الإتساعُ- الإنضمامُ) رديفا لهيمنةِ فكرةِ العتمةِ المعبرةِ عنْ (الاغترابُ - المحاصرةُ - العزلةُ).
ولتحقيقَ هذهِ المعادلةِ، كانَ منْ السهولةِ على "رسول بابل" سواء أثناء الالتقاطِ، أو ما بعده، أنَ يعطي فرصة لإزاحةِ الكثيرِ منْ البقعِ المجهولةِ الأثر في سرديتًه. لنْ يُضعفَ محتوى شيئيتها لو عمل على تجاوزها أو حذفها بالمعالجةِ. لكنهُ أصرَ على أن يدخلَ في مواجهةٍ غيرِ متكافئةٍ في كفتيْ جدليةِ تقويضِ المساحاتِ الضوئيةِ لواقعتهِ، وهوَ يرى هيمنةً واتساعا للضمائرِ السوداءِ في جملتهِ. فسعى قبالها يوظف كل الضمائر البيضاء، المتصلةَ والمنفصلةِ.
فعمل بكلِ قوةٍ على استدعاءِ معاقلَ وحزمِ الأضواءِ المتوفرةِ في مساحةِ مشهدهِ، وإنْ كانتْ بحجمِ حباتِ الخيوطِ الحاضرةِ بخجلٍ. نجحَ أنْ يعززَ ضعفها، لتبسط إشاراتها وتوقف نفوذ واستشراء مساحة السوادِ المتسلطةِ! وتمكن منْ ردمها بإنشاءِ دعاماتٍ ضوئيةٍ مقابلةٍ ليعلنَ فيها: إنَ المساحاتِ البيضاءَ في حياتنا مهما كانتْ صغيرة، وضعيفة الأثرِ ومتفرقة، لكنْ بالإمكانِ تجميعها وتوظيفها في حياتنا، لتصبح قادرة على مقاومةِ الانكساراتِ وإعادةِ الأملِ لاستمرارِ العيشِ مهما كنا محاصرينَ في دهاليزِ الحياةِ !
خبر كان في الجملةِ البَصًرية
"رسول بابل" لمْ يك راغبا في إعرابِ مصيرٍ (كان - الصبي ) بخبرٍ ناقص المعنى. فذهبَ يكملُ موازنةَ حجمِ إشراقةٍ (الأمل)، الذي لا تحكمهُ معادلةٌ (القوة والكثرة)، بل (الفاعلية والتأثير) فعمل على تركِ صبيهِ تحتَ أقوى هبةٍ ضوئيةٍ قادمةٍ من السماءِ تضيء قهريتهْ، وتزيحَ عنهُ عتمة المكانِ، وينجحَ في تسويقهِ لنا بكاملِ معالمِ هويتهِ.
وحتى يختمَ "خبر" جملتهِ بأسماءٍ، وأفعال، وضمائر مكتوبةٌ ببلاغةٍ وخاليةٍ منْ الأخطاءِ لفهمِ معناها التامِ. قدمَ لنا في نهايةِ إعرابها مقاربة لتدليلِ عنْ هذا الاغترابِ بإنشائهِ علاقة بينَ قهريةٍ انتظار الصبي، وبينَ آخر حلمِ التوسلِ ببقعةِ الضوءِ الساقطةِ على إقفالِ دكانة العيشِ! فجاءتْ تراتبية حزمهُ الضوئيةُ القادمةُ منْ دلالةِ السقفِ السماويِ لتصنعٍ للصبيِ كرسيَ انتظارهِ وتواصلَ مرورها فوقَ رأسهِ، كاشفةً عنْ استغراقٍ طويلٍ لأمل فتحِ الأبوابِ المغلقةِ في حياتنا منذُ بواكيرها. هوَ خبر موجع لجملةٍ حياتيةٍ محيرةٍ، ننتظر فيها مخلصا غائبا وخيارا صعبا لحلمٍ مجهولٍ!
إن وأخواتها البَصًرية
هذهِ الجملة الإعرابية المتوهجة في إشراقةِ "إنتها"، لا تبدو حالة عابرة في تجسيرِ فواعلَ "رسول بابل" البَصًريةِ معَ قهريةٍ الطفولةِ. بلْ كشفت لنا عنْ امتداداتٍ سابقةٍ لأرثَ "أخواتها" في منجزةٍ. إذْ عثرنا لهُ على أعمالٍ، كانتْ فيهما قهريةٌ الطفولةِ هيَ العلامةُ الأبرزُ في إعرابِ جملها.
وجدنا في إحداها مفهوما آخرا لأوجاعِ الانعزالِ والحصارِ، عبرَ عنهُ بالقبضِ على مجموعةِ أطفالِ فقراءِ حصرهمْ بزاويةٍ حادةٍ تعبيرا عنْ حرمانهمْ. وأرادَ أنْ يظهرهمْ مرصوصينْ على جدارٍ قديمٍ في تاريخهِ اتضح في صلابة آجرهِ المتآكلِ. ليمنحهمْ آخر مساحاتِ التصبر ليتكئوا عليها في حياتهمْ. فالحاضر ببياضهِ راحَ يبتعدُ في زاويتهِ ولمْ يعدْ نافعا وهوَ يتوارى ضعيفا في جملتهِ. لتصبح ابتساماتِ هذا الجيلِ المتعبِ أحلاما تكتبها هذهِ الجدرانِ، وكأنها آخر مدوناتِ العتبِ الإنسانيِ. "رسول بابل" في هذا العملِ ترك لامتداداتِ الألوانِ الذهبيةِ تفرضُ نفسها في معادلةِ صورته وهيَ تبدو مشرقةً بنشوةِ وجوه الأطفالِ رغمَ بؤسهم.
بينما راحَ في جملةٍ أخرى يوظف بلاغة الإيجاز في لغة الكتابة البَصًريةِ. ليحصر لنا في إحدى جملهِ، صبيا تقرفص وجلاً على جدارٍ طينيٍ توشكُ هيئتهُ أنْ تعلنَ سؤالَ قهريتهْ وهوَ يواسي بنظراتهِ الحائرةِ أبا بدتْ نظراتهِ هوَ الآخر تحاولُ ردمَ فجوةِ عجزهِ لتلبيةِ إجابةِ أسئلةِ الأبناءِ! "رسول بابل" عمل على تشديدٍ قهريةٍ الوجعِ والحرمانِ في مناخِ جملتهِ، ليسمعنا كلماتِ معاتبة ظهرت مفرداتها المؤلمة في حوارٍ تجسد في ثنائيةٍ النظراتِ المتقابلةِ !
أقسام الكلام في الجملةِ البَصًريةِ
يسعى "رسول بابل" في أغلبِ جملهِ البصريةِ أنْ يحافظَ فيها على أقسامِ كلامهِ. ولا يترك نقصا في ضبطِ تكوينِ معانيها. فهناكَ في كلِ أسماءِ جمله "ما يدلُ على معنى في اسمهِ ويقترنُ بزمنِ" فوجدنا لهُ نحتا بصريا لأفعالٍ كتبتْ بطاقةً هندسيةً، توازنتْ فيها "شيئًياتها" بتكويناتٍ بذلَ جهدا كبيرا لصياغةٍ نسبها. ومكتوبة بمقبوضات ضوئيةٍ كشف فيها عن شوارعِ ساكنة وأمكنةِ منسيةِ. أو عبرَ ذؤاباتٍ ضوئيةٍ، تسللتْ منْ تكتلاتِ الغيومِ. أوْ عبرَ إطلالاتِ الشبابيكِ والأبوابِ، أوْ من أشعةِ نازلةٍ على الجدرانِ، أوْ منعكسةٍ على السطوحِ. وظفَ فيها تباينات الظلِ والضوءِ بمهارةٍ عاليةٍ، ليفصح صمتها عنْ كتابةِ جملٍ بصريةٍ حافظتْ على تركِ أثرٍ للإنسانِ الغائبِ! فجاءتْ هندستها لتدللَ عنْ قوةِ وجودهِ.
كما عثرنا لهُ عنْ جملةِ سُبكَ كلامها بعنايةٍ. طَوقت فيها مساحةُ الظلمةِ مربع مكان واقعي. لكنَ "رسول بابل" آثرَ أنْ يجدَ لها أداة شرطٍ جازمةٍ لحتميةِ خلاصها. فعثرَ على شرخٍ ضوئيٍ وظفهُ بحضورِ فاعلٍ ليكسرَ إيقاعَ هذا الحصار، مانحا عوالمهُ الشعبيةَ أملاً في تبديدِ مساحةِ تعاستها. وفي جملةٍ أخرى كتبَ فيها ترنيمة ضوئية حاكى فيها علامة مكانية ظهرَ فيها بيت عتيق آيِل للسقوطِ، لكن "رسول بابل" عمد أن يمنح جسدها المتهالك قدرة العطاء وهي تمنح أضواءها النازلة من السقف لتحتضنَ مصفوفةَ عرباتٍ، تراصتْ متوحدةً تشكو غربة العملِ في رابعةٍ النهارَ!
كما وجدنا لهُ جملاً أخرى تشكلتْ من "حروفٍ" بسيطةٍ " تدللُ على معنى في غيرها "كما يعرفها أهلُ اللغةِ" شاهدناه يوظف حروف مفردة "الدبوس" انغرزتْ إحدى أذرعهِ في الأرضِ، بينما انحنى رأسهُ مضحيا ليعطيَ لذراعهِ الأخرى عزما في تشكلِ مقصلةٍ بزاويةِ مثلثٍ متساوي الأضلاعِ! وظُفتْ فيها الإضاءة بعنايةٍ فائقةٍ لصياغةِ جملتها الصعبةِ الكتابةِ.
الظاهر والمقدر في ختامِ إعراب الجمل البَصًرية
" ابنْ هشامْ " منْ النحاةِ القائلينَ : (إنَ الإعرابَ يكمنُ بالأثرِ الظاهرِ، أوْ المقدرِ الذي جلبهُ العاملُ في آخرٍ الكلمةِ المعربةِ). وبهذا التعريفِ فإنَ الكثيرَ من جملِ "رسول بابل" تشكلتْ عبرَ آثارِ ظاهرةٍ أوْ مقدرةٍ، اختيرتْ كلماتها وتشكلتْ حروفها من تقويضاتٍ ضوئيةٍ، قبضتْ فواعل "رسول بابل" المرئيةِ على قيمة تشكلاتها.
وإذا كانَ الإعرابُ في تعريفاتِ أهلِ اللغةِ وأساطينها هوَ (الإفصاحُ عما في النفسِ، وإظهار المعاني المقصودةِ بوضوحٍ) فإنَ جملَ رسولِ البَصًريةِ، باعتبار "شيئيًاتْ" صوره أفعالاً لغويةً ساردةً بأدوات الضوء. تكون بذلكَ مهام إعراب جمله قدْ حققتْ لنا معانيا ظاهرةً في جملها المقبوضةِ بتقويضْ ضوئي بليغ. أوْ تلكَ التي كتبها بآثارِ مقدرةٍ أفصحتْ في مجملها عما في نفسهِ لنقدِ ظواهرَ مجتمعيةٍ، فرضتْ "قهريتها" على سلطةِ الإنسانِ. وأظهرَ معانيها المقصودةَ بجمالياتٍ واضحةٍ الدلالةِ، مكنتهُ أنْ يكونَ عرابٌ بصريٌ دللَ على اسمهِ كمصورٍ محترفٍ وكفءٍ. قدمَ في منجزةٍ جملاً مُعربة بدقةِ حققت لوحاتٍ نافية لجنسها البَصًريِ في مساحةِ المشهدِ الفوتوغرافيِ العراقيِ.
تَقْويضُ الضوء للحصول عليه !
قواعد جمل المصور “رسول بابًل”
Rasool Jamal
• خليل الطيار
مبتدأ المبتدئ وخبر الخبير
يتميز نتاج المصورينَ (الخبراء -المحترفون) عنْ (الهواة - المبتدئون) في إمكانيةِ ترويضِ كاميراتهمْ، وتحجيم عشوائية التقاطها لكلِ شاردةٍ وواردةٍ، وإنَ توفرتْ لها فرصُ تحقيقِ صورٍ متميزةٍ.
هذهِ الخصيصةِ، وبعد مراسٍ طويلٍ يتجاوزها المصور المحترف متنقلاً منْ "هيامْ الالتقاطِ" نحوَ مرحلةِ "الاختيارِ والتأسيسِ". فهوَ يُريح كاميرتهُ منْ مشقةِ مواجهةِ مساحاتِ الأضواءِ المنتشرةِ في كلِ مكانٍ، ويعملَ على تقويضِ سلطتها بدافعِ الحصولِ على الضوءِ "النوعيِ" الذي يحتاج لعدستهِ أنْ تتماهى معهُ، وإن كانتْ نسبتهُ قليلةً. كونَ مساحاتِ الضوءِ النادرةِ، تشكل عناصر أساسية في وظيفةِ المصورِ المحترفِ. فهوَ يختزل استثماره في صوره ولا يفرطُ في أيِ جزءٍ منْ "بلوراتهِ" الثمينةِ. لانه مبتكرا وصانع "فواعل بَصًرية " وليسَ مساحا، يسجل بكاميرتهِ مشاهد يسرف في استخدام أضوائها ليحققَ لها صورا!
هذهِ الميزة سيكتسبها المصورُ المبتدئُ تدريجيا لتتحول الكاميرا في يديهِ بعدَ ذلكَ إلى موشورْ حبس وتمرير فاعل للضوءِ. وليستْ أداة يعتمدُ على تقنيتها في تأسيساتِ صورهِ. إذْ إنَ الكاميرا لدى المحترفِ تخضعُ لرؤيتهِ، لا أنْ يصبح خاضعا لإغراءاتها. وتكون منصاعةٍ لتحملِ مقبوضاتهْ البَصًريةَ التي يريد تشكيلها مرئيا، وليسَ المصنعُ الذي يعتمدُ عليهِ المبتدئُ في إنتاجِ صوره.
الفاعل في الجملةِ البَصًريةِ
هذا المبتدأِ، يجعلنا نقف عند أحدِ أبرزِ مؤشراتِ الاهتمامِ بقيمةٍ (الفاعل البَصًري - المصور) كمبتكرٍ جماليٍ وليسَ (مسجل ألواحٍ - عرضًحالجي ) يكتب بالنورِ كلَ ما يعرضهُ الواقع. فالمصور (المحترفَ - الخبيرِ) ينتجُ صوره في رحمِ الأفعالِ المرئيةِ. والكاميرا بيدهِ، تساعدهُ لتحجزَ مساحةَ الأضواءِ الكافيةِ لفواعلهِ، وابتكاراتهُ المتأتيةُ منْ رؤاهُ البصريةِ. وتستلزمَ منهُ اتخاذِ قرارِ التقاطٍ حاسمٍ للقبضِ على جمل لا يمكنُ تأجيل كتابتها. ولا يتركُ للكاميرا حسمَ مسألتها، بلْ يلزمهُ التفكير المعمق والصائب ليحققَ فيهِ منجزا بَصًريا ثريا، وليسَ فعلاً آليا ترسمُ الكاميرا قرارَ تكييفهِ. فتكون الصورة، نتاجُ الآلةِ، لا متحقق الرؤيا.
المصور المضاف والصورة المضاف إليها
بذلكَ اقتربنا منْ "إضافةٍ" معرفيةٍ نحاولُ فيها تسليطُ الضوء على (المضاف على الواقعِ - المصور) كمؤسسٍ جماليٍ يسهمُ بزيادةِ قيمةٍ (المضاف إليهِ - الصورة) ويكون متحققه البَصًريِ نتاج "الاختيارِ والتأسيسِ" لا نتاج اجتهاد الكاميرا.
تثبيتُ قواعد إعرابنا لهذا المفهومِ يحتاج الإلمام والإحاطة بجملِ بَصًريةٍ يكتبها مصورونَ يعرفونَ عنْ ثقافةِ ولغةِ الصورةِ المرئيةِ الفاعلةِ، أكثرَ ما تعرفهُ الصورةُ الطبيعيةُ عنْ قواعدها. وهمْ كثرٌ في مساحةِ مشهدنا الفوتوغرافيِ العراقيِ، سواء بالداخلِ أوْ بالخارجِ، يعملونَ بجدِ لتثبيتِ أسمائهمْ كمصورينَ محترفينَ (فاعلينَ). وضعنا في مشغلنا تسلسلاً لإعرابِ جملهمْ تباعا اخترنا منْ بينهمْ كخطوةٍ أولى، قراءة أعرابية لمنجزٍ "رسول بابل". هكذا شاعَ اسمهُ في الوسطِ الفنيِ تاركا فيهِ عنوانا لمصورٍ فاعلٍ (مضافا) على مشهدِ الفوتوغرافيا العراقيةِ .
"رسول بابل" عراب محترف، كثير ما يترك جملهُ هائمة في واقعها لا يتهافت على صياغاتها ولا يلاحق تشكلاتها الضوئية العفوية. لكنه يقترب منها في لحظاتٍ استثنائيةٍ عندما يرى حاجةً قصوى لاستدعائها كشاهدةِ إثباتٍ على تحقيقِ علامةٍ بَصًريةٍ متميزةٍ. ويكتبَ قواعدها على وفقِ لغةٍ جماليةٍ يقدمُ فيها جملاً بَصًريةً كاملةً غيرَ منقوصةٍ، وتعطي معنى شاملاً وخاليةً منْ الأخطاءِ (النحوية - التكوينية) و (البلاغة - الاحتوائية). وأحيانا يعمدُ على تشكيلِ حروفِ مفرداتها حتى لا يُساء تأويل المعنى في قراءتها.
أضواء الجمل الاسمية، والمبنيةَ للمجهول
"رسول بابل" لا يبدو مكترثا بهوسِ البحثِ عنْ أيِ أضواءٍ عشوائيةٍ ليكتبَ فيها أسماء جملهِ الضوئيةِ، سواء كانتْ مخبأةً بينَ شتاتِ الأنوارِ الطبيعيةِ، أوْ في الإضاءةِ المصطنعةِ والمتاحةِ أمامهُ، أوْ تلكَ الغائرةِ في مناطقِ العتمةِ. وكذلكَ وجدناهُ مقلا أيضا بفهرستِ ونشرِ ما يسميهُ إلا حينَ يجدُ أنَ صورتهُ تكاملتْ، ولمْ يبقَ سوى أنْ تخرجَ للعلنِ مفصحةً عنْ جملتها المتكاملةِ والمضبوطةِ في إملائها.
وكثيرا ما نجدُ عدستهُ حاضرةً في البقعِ والزوايا والمرئياتِ الاستثنائيةِ، التي تحتاج إلى تأسيسِ التقاطي لجملٍ مبنيةٍ منْ مصادرَ ضوئيةٍ مجهولةٍ! ويصعبُ صياغاتها كصورٍ فوتوغرافيةٍ. ولا يمكنُ القبضُ على مفرداتها بسهولةٍ، فتأتي مهمتهُ لينهيَ جدليتها بمرئياتٍ عميقةٍ في تعبيراتها. وأحيانا يبتعدُ كليا عنْ التصويرِ ليراقب مراس الآخرينَ يسجلَ عنها ملاحظات في مدونتهِ ويرد عليها بجملِ اسميةٍ استثنائيةٍ، تستكملُ ما نقص من مفرداتِ أعمالٍ كثيرةٍ تسوق في المشهدِ البَصًريِ، لكنها لمْ تحافظْ على سلامةِ فقهِ ولغةِ الفوتوغرافيا المستوفيةِ لقواعدها.
توظيف المصدر الضوئي
ملاحقة سريعة لبعضِ جملهِ الضوئيةِ، تكشفَ لنا تجربةُ "رسول بابل" دأبهُ وبحثهُ المستمرَ على جذاذاتْ الضوء، وإنْ كانتْ متشكلةً منْ أنوارِ شمعةٍ، أوْ منْ نزولِ أشعةٍ متسللةٍ، أوْ منْ أمواجٍ ضوئيةٍ منعكسةٍ على السطوحِ، يفعلَ اشتغالهُ المرئيُ ليحتويَ مصادرها، ويسحب خاماتها منْ حواضنها الطبيعةُ ليمررها في حواضنه المرئيةِ. فهوَ لا يتقبلُ إبقاءَ أيِ مصادرَ للضوءِ تسترسلُ منسابةً بعفويةٍ وتبقى مجهولةً الأثرِ. بلْ يعملُ على تقويضِ مساراتها، ليبنيَ لمجاهلها الضوئيةِ، معارف جماليةٍ تمنحها هوية بَصًرية واضحةٌ المعالمِ، تتكاملُ فيها سرديًاتهِ وفقَ معادلة (القبض والتوظيف).
فهوَ يقبضُ على مناخاتٍ ضوئيةٍ منْ مصادر خاصة، يتأملَ في توظيفها مرئيا. وعندما يعثرُ فيها على إمكانيةِ كتابةِ جملةٍ بصريةٍ نافعةٍ، يشرعَ بعمليةِ استدعائها لمساحةِ موضوعهْ ولا يذهب نحوها مجبرا، وإنْ كانتْ مستوياتها ضئيلةً وصعبةً المسك.
جزم ونفي وتوكيد الأضواء في الجملةِ البَصًريةِ
الأضواء العائمة في الواقعِ كثيرا ما تجزمُ الكاميرا، لتصبح أسيرة سلطتها وتؤثرَ بانطباعاتِ المصور، وتغريه بالهرولةِ نحوها ليشكلَ صورتهُ بمتاهاتها الواسعة. لكنَ هذهِ الإتاحةِ ما لمْ يتمْ إخضاعها للفاعلِ المرئيِ، فأنها ستحققُ صورا واضحةً التركيزِ لكنها منفية القيمة.
مهمةُ هذا التوظيفِ للضوءِ تختلفُ عندَ المصورِ "رسول بابل"، فهوَ لا يلهث وراءَ الأضواءِ المتاحةِ، بلْ ينفي المشتت والعائمَ وغير الفاعل منها، ويعملَ على توكيدِ الضوءِ "النوعيِ" ليقبضَ على قاعدةٍ رصينةٍ لكتابةِ مفرداتِ جملتهِ البصريةِ. وبرهن على ذلك في واحدةٍ منْ أكثرِ أعمالهِ دلالةً في هذا المضمارِ البصريِ. والتي تضعنا أمامَ مهمةٍ شاقةٍ لتفكيكِ قواعدها التي تدخلُ في خانةِ الممنوعاتِ منْ الصرفِ وتحتاج إلى أدواتِ توكيدٍ لإعرابِ مفرداتها الجماليةِ.
حروف ضوئية ممتنعة من الصرف
للوهلةِ الأولى لا تبدو الحروفُ الضوئيةُ في هذا العملِ، قابلة لمطاوعةِ تلقيها بسهولة. بحيث يترك موضوعها صدمةً خاطفة لكشفٍ ببياناتِ محتواهُ. كما يتيسر ذلكَ في الصورةِ السهلةِ والمكشوفةِ البناءِ. لكنْ في الأعمالِ ذاتِ التراكيبِ الصعبةِ في تشكيلِ مناخاتها الضوئيةِ، فإنها تفرضُ حالةَ إستيقاف قسريٍ لتأملِ بنائها ومراقبةِ دقيقةٍ لخصوصياتها الجماليةِ.
وهوَ ما وجدناهُ في هذا العملِ الذي كتبتْ حروفهُ بتنظيمٍ متقنٍ لهندسته البصريةِ. وتحتاج مقايسةٌ دقيقةٌ لإعرابها. بعد أنْ قبضَ فيها على واقعةٍ استثنائيةٍ في مناخاتها الضوئيةِ، وصعبة التراكيبِ كانتْ تستلزمُ تحييدَ بعضِ المناطقِ وتجاوزها والذهابِ إلى تأكيدِ مساحاتٍ مضاءةٍ يمكنُ التماهي معها بيسر. وكانَ بإمكان "رسول بابل" قسرَ عدستهِ بمدِ لسانها لتصلَ إلى مساحةٍ تكون فيها الأضواء كافيةً لتعينهُ على بناءِ موضوع مكشوف، متجاوزا بعضَ حروفٍ ضوئيةٍ ممتنعةٍ منْ الصرفِ في جملتهِ .
الإشارات والفوارز والنقاط في دهليز اغترابِ الطفولةِ
هذهِ التركيبةِ الضوئيةِ المعقدةِ أصرَ "رسول بابل" أنَ لا يفرط فيها بأيِ حرفٍ ضوئيٍ، قادر على صنعِ تأثيرٍ في مرئيتهِ، ويسهمَ في إكمالِ بناءِ جملتهِ ويكون له موقع مؤثر يؤديه في صياغةِ معناها، وإنْ كانَ بحجمِ إشارةٍ، أوْ فأرزةٍ، أوْ نقطةٍ ضوئيةٍ. لتساعدهُ على بناءٍ سرديًته المثالية في تراتبيتها الضوئيةَ. وهيَ تتأسس في دهليزِ اغترابٍ قهريٍ. شهدنا فيهِ صبيا جلسَ محاصرا بينَ مواطنِ العتمةِ والضوءِ بقسوةٍ مفرطةٍ، أجبرتهُ أنْ يجلسَ القرفصاءَ بهذا الحصارِ الموجعِ!
"رسول بابل" أرادَ لهذا الاحتواءِ في مضمونِ جملتهِ، أنَ لا يمر تأثيرهُ عبرَ مناخٍ عاطفيٍ، دون تبرير جمالي يُحصنه بتركيبٍ ضوئيٍ يساعده في إحياءِ قيمةِ هذا الاغترابِ والعزلةِ. فاختارَ زاويةً شكلتْ سرَ نجاحِ هذا العملِ حيثُ بدأَ يسيطرُ فيها على مجملِ مآثرِ واقعتهِ. حبس فيها مناطق الضوءِ والعتمةِ بترانيمَ ومقاديرَ مدروسةٍ بعنايةٍ فائقةٍ، لتهيمن فيهِ دلالةُ مساحةِ السوادِ على مناخِ جملتهِ، فارضة حصارا واغترابا مميتا للإنسانِ!
صياغة خبر الجملة البَصًرية
إذا كانَ "الخبرُ" كما يعرفهُ أحد أئمة اللغة "ابنُ فارسِ" هوَ "أصلُ الكلامِ". تصبح بهِ هذهِ السوداويةِ الحاكمةِ على مرئيةٍ "رسول بابل" غيرِ مستقيمةٍ معَ "خبرِ" جملتهِ. خاصةً وهوَ يحاكي فيها قهريةٌ إنسانيةٌ تمثلتْ بعنوانٍ (الطفولة - البراءة). وقدْ يُسقطُ إعرابَ جملتهِ البصريةِ بضعف بلاغتها. فذهبَ يقاربُ قيمةَ مساحاتِ "الضوءِ" كدالةٍ عنْ (التَوطنُ- الإتساعُ- الإنضمامُ) رديفا لهيمنةِ فكرةِ العتمةِ المعبرةِ عنْ (الاغترابُ - المحاصرةُ - العزلةُ).
ولتحقيقَ هذهِ المعادلةِ، كانَ منْ السهولةِ على "رسول بابل" سواء أثناء الالتقاطِ، أو ما بعده، أنَ يعطي فرصة لإزاحةِ الكثيرِ منْ البقعِ المجهولةِ الأثر في سرديتًه. لنْ يُضعفَ محتوى شيئيتها لو عمل على تجاوزها أو حذفها بالمعالجةِ. لكنهُ أصرَ على أن يدخلَ في مواجهةٍ غيرِ متكافئةٍ في كفتيْ جدليةِ تقويضِ المساحاتِ الضوئيةِ لواقعتهِ، وهوَ يرى هيمنةً واتساعا للضمائرِ السوداءِ في جملتهِ. فسعى قبالها يوظف كل الضمائر البيضاء، المتصلةَ والمنفصلةِ.
فعمل بكلِ قوةٍ على استدعاءِ معاقلَ وحزمِ الأضواءِ المتوفرةِ في مساحةِ مشهدهِ، وإنْ كانتْ بحجمِ حباتِ الخيوطِ الحاضرةِ بخجلٍ. نجحَ أنْ يعززَ ضعفها، لتبسط إشاراتها وتوقف نفوذ واستشراء مساحة السوادِ المتسلطةِ! وتمكن منْ ردمها بإنشاءِ دعاماتٍ ضوئيةٍ مقابلةٍ ليعلنَ فيها: إنَ المساحاتِ البيضاءَ في حياتنا مهما كانتْ صغيرة، وضعيفة الأثرِ ومتفرقة، لكنْ بالإمكانِ تجميعها وتوظيفها في حياتنا، لتصبح قادرة على مقاومةِ الانكساراتِ وإعادةِ الأملِ لاستمرارِ العيشِ مهما كنا محاصرينَ في دهاليزِ الحياةِ !
خبر كان في الجملةِ البَصًرية
"رسول بابل" لمْ يك راغبا في إعرابِ مصيرٍ (كان - الصبي ) بخبرٍ ناقص المعنى. فذهبَ يكملُ موازنةَ حجمِ إشراقةٍ (الأمل)، الذي لا تحكمهُ معادلةٌ (القوة والكثرة)، بل (الفاعلية والتأثير) فعمل على تركِ صبيهِ تحتَ أقوى هبةٍ ضوئيةٍ قادمةٍ من السماءِ تضيء قهريتهْ، وتزيحَ عنهُ عتمة المكانِ، وينجحَ في تسويقهِ لنا بكاملِ معالمِ هويتهِ.
وحتى يختمَ "خبر" جملتهِ بأسماءٍ، وأفعال، وضمائر مكتوبةٌ ببلاغةٍ وخاليةٍ منْ الأخطاءِ لفهمِ معناها التامِ. قدمَ لنا في نهايةِ إعرابها مقاربة لتدليلِ عنْ هذا الاغترابِ بإنشائهِ علاقة بينَ قهريةٍ انتظار الصبي، وبينَ آخر حلمِ التوسلِ ببقعةِ الضوءِ الساقطةِ على إقفالِ دكانة العيشِ! فجاءتْ تراتبية حزمهُ الضوئيةُ القادمةُ منْ دلالةِ السقفِ السماويِ لتصنعٍ للصبيِ كرسيَ انتظارهِ وتواصلَ مرورها فوقَ رأسهِ، كاشفةً عنْ استغراقٍ طويلٍ لأمل فتحِ الأبوابِ المغلقةِ في حياتنا منذُ بواكيرها. هوَ خبر موجع لجملةٍ حياتيةٍ محيرةٍ، ننتظر فيها مخلصا غائبا وخيارا صعبا لحلمٍ مجهولٍ!
إن وأخواتها البَصًرية
هذهِ الجملة الإعرابية المتوهجة في إشراقةِ "إنتها"، لا تبدو حالة عابرة في تجسيرِ فواعلَ "رسول بابل" البَصًريةِ معَ قهريةٍ الطفولةِ. بلْ كشفت لنا عنْ امتداداتٍ سابقةٍ لأرثَ "أخواتها" في منجزةٍ. إذْ عثرنا لهُ على أعمالٍ، كانتْ فيهما قهريةٌ الطفولةِ هيَ العلامةُ الأبرزُ في إعرابِ جملها.
وجدنا في إحداها مفهوما آخرا لأوجاعِ الانعزالِ والحصارِ، عبرَ عنهُ بالقبضِ على مجموعةِ أطفالِ فقراءِ حصرهمْ بزاويةٍ حادةٍ تعبيرا عنْ حرمانهمْ. وأرادَ أنْ يظهرهمْ مرصوصينْ على جدارٍ قديمٍ في تاريخهِ اتضح في صلابة آجرهِ المتآكلِ. ليمنحهمْ آخر مساحاتِ التصبر ليتكئوا عليها في حياتهمْ. فالحاضر ببياضهِ راحَ يبتعدُ في زاويتهِ ولمْ يعدْ نافعا وهوَ يتوارى ضعيفا في جملتهِ. لتصبح ابتساماتِ هذا الجيلِ المتعبِ أحلاما تكتبها هذهِ الجدرانِ، وكأنها آخر مدوناتِ العتبِ الإنسانيِ. "رسول بابل" في هذا العملِ ترك لامتداداتِ الألوانِ الذهبيةِ تفرضُ نفسها في معادلةِ صورته وهيَ تبدو مشرقةً بنشوةِ وجوه الأطفالِ رغمَ بؤسهم.
بينما راحَ في جملةٍ أخرى يوظف بلاغة الإيجاز في لغة الكتابة البَصًريةِ. ليحصر لنا في إحدى جملهِ، صبيا تقرفص وجلاً على جدارٍ طينيٍ توشكُ هيئتهُ أنْ تعلنَ سؤالَ قهريتهْ وهوَ يواسي بنظراتهِ الحائرةِ أبا بدتْ نظراتهِ هوَ الآخر تحاولُ ردمَ فجوةِ عجزهِ لتلبيةِ إجابةِ أسئلةِ الأبناءِ! "رسول بابل" عمل على تشديدٍ قهريةٍ الوجعِ والحرمانِ في مناخِ جملتهِ، ليسمعنا كلماتِ معاتبة ظهرت مفرداتها المؤلمة في حوارٍ تجسد في ثنائيةٍ النظراتِ المتقابلةِ !
أقسام الكلام في الجملةِ البَصًريةِ
يسعى "رسول بابل" في أغلبِ جملهِ البصريةِ أنْ يحافظَ فيها على أقسامِ كلامهِ. ولا يترك نقصا في ضبطِ تكوينِ معانيها. فهناكَ في كلِ أسماءِ جمله "ما يدلُ على معنى في اسمهِ ويقترنُ بزمنِ" فوجدنا لهُ نحتا بصريا لأفعالٍ كتبتْ بطاقةً هندسيةً، توازنتْ فيها "شيئًياتها" بتكويناتٍ بذلَ جهدا كبيرا لصياغةٍ نسبها. ومكتوبة بمقبوضات ضوئيةٍ كشف فيها عن شوارعِ ساكنة وأمكنةِ منسيةِ. أو عبرَ ذؤاباتٍ ضوئيةٍ، تسللتْ منْ تكتلاتِ الغيومِ. أوْ عبرَ إطلالاتِ الشبابيكِ والأبوابِ، أوْ من أشعةِ نازلةٍ على الجدرانِ، أوْ منعكسةٍ على السطوحِ. وظفَ فيها تباينات الظلِ والضوءِ بمهارةٍ عاليةٍ، ليفصح صمتها عنْ كتابةِ جملٍ بصريةٍ حافظتْ على تركِ أثرٍ للإنسانِ الغائبِ! فجاءتْ هندستها لتدللَ عنْ قوةِ وجودهِ.
كما عثرنا لهُ عنْ جملةِ سُبكَ كلامها بعنايةٍ. طَوقت فيها مساحةُ الظلمةِ مربع مكان واقعي. لكنَ "رسول بابل" آثرَ أنْ يجدَ لها أداة شرطٍ جازمةٍ لحتميةِ خلاصها. فعثرَ على شرخٍ ضوئيٍ وظفهُ بحضورِ فاعلٍ ليكسرَ إيقاعَ هذا الحصار، مانحا عوالمهُ الشعبيةَ أملاً في تبديدِ مساحةِ تعاستها. وفي جملةٍ أخرى كتبَ فيها ترنيمة ضوئية حاكى فيها علامة مكانية ظهرَ فيها بيت عتيق آيِل للسقوطِ، لكن "رسول بابل" عمد أن يمنح جسدها المتهالك قدرة العطاء وهي تمنح أضواءها النازلة من السقف لتحتضنَ مصفوفةَ عرباتٍ، تراصتْ متوحدةً تشكو غربة العملِ في رابعةٍ النهارَ!
كما وجدنا لهُ جملاً أخرى تشكلتْ من "حروفٍ" بسيطةٍ " تدللُ على معنى في غيرها "كما يعرفها أهلُ اللغةِ" شاهدناه يوظف حروف مفردة "الدبوس" انغرزتْ إحدى أذرعهِ في الأرضِ، بينما انحنى رأسهُ مضحيا ليعطيَ لذراعهِ الأخرى عزما في تشكلِ مقصلةٍ بزاويةِ مثلثٍ متساوي الأضلاعِ! وظُفتْ فيها الإضاءة بعنايةٍ فائقةٍ لصياغةِ جملتها الصعبةِ الكتابةِ.
الظاهر والمقدر في ختامِ إعراب الجمل البَصًرية
" ابنْ هشامْ " منْ النحاةِ القائلينَ : (إنَ الإعرابَ يكمنُ بالأثرِ الظاهرِ، أوْ المقدرِ الذي جلبهُ العاملُ في آخرٍ الكلمةِ المعربةِ). وبهذا التعريفِ فإنَ الكثيرَ من جملِ "رسول بابل" تشكلتْ عبرَ آثارِ ظاهرةٍ أوْ مقدرةٍ، اختيرتْ كلماتها وتشكلتْ حروفها من تقويضاتٍ ضوئيةٍ، قبضتْ فواعل "رسول بابل" المرئيةِ على قيمة تشكلاتها.
وإذا كانَ الإعرابُ في تعريفاتِ أهلِ اللغةِ وأساطينها هوَ (الإفصاحُ عما في النفسِ، وإظهار المعاني المقصودةِ بوضوحٍ) فإنَ جملَ رسولِ البَصًريةِ، باعتبار "شيئيًاتْ" صوره أفعالاً لغويةً ساردةً بأدوات الضوء. تكون بذلكَ مهام إعراب جمله قدْ حققتْ لنا معانيا ظاهرةً في جملها المقبوضةِ بتقويضْ ضوئي بليغ. أوْ تلكَ التي كتبها بآثارِ مقدرةٍ أفصحتْ في مجملها عما في نفسهِ لنقدِ ظواهرَ مجتمعيةٍ، فرضتْ "قهريتها" على سلطةِ الإنسانِ. وأظهرَ معانيها المقصودةَ بجمالياتٍ واضحةٍ الدلالةِ، مكنتهُ أنْ يكونَ عرابٌ بصريٌ دللَ على اسمهِ كمصورٍ محترفٍ وكفءٍ. قدمَ في منجزةٍ جملاً مُعربة بدقةِ حققت لوحاتٍ نافية لجنسها البَصًريِ في مساحةِ المشهدِ الفوتوغرافيِ العراقيِ.