الوجود بين الإحتمالية و الحتمية .

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الوجود بين الإحتمالية و الحتمية .

    الوجود بين الإحتمالية و الحتمية .

    فلسفيا قد ذهب البعض إلى أن الوجود وهم . فأنا مثلا لا أستطيع أن أثبت منطقيا أن كل ما حولي موجود حقا و ليس من اختراع عقلي كما يحدث لي في المنام . و بالتالي يكون عقلي مخترع الكون و مخترع السعادة أو الشقاء اللذين يتراوح بينهما وجودي . و هذا يعني أنني حين أموت لن أعلم إذا بقي الكون بعد موتي إلا إذا كان الموتى قادرين على رؤية الحياة الدنيا . لكن هذا يقتضي أنني موجود إلى حين إذ لا يمكن تصور وجود وهم دون وجود المتوهم . و حينها يطرح سؤال آخر نفسه بإلحاح : لماذا أكون أنا موجودا و لا يكون غيري موجودا ؟ فلا حاجة تؤهلني لكي أكون مختلفا عن غيري ! و إذا كان الآخرون موجودين مثلي فهل نحن نعيش وهما مشتركا كبشر ؟ قد يكون الناس كما قيل قديما نياما فإذا ماتوا انتبهوا ( من حلم الدنيا ؟ ) . و حينها ما مصير الكائنات الحية الأخرى التي يبدو أنها تحس بالوجود مثلنا ؟ هل تشاركنا نفس الوهم ؟
    و لذلك يبدو مما سبق أن الفلسفة لا تستطيع تفسير عبارة المنشور بوضوح . و ربما كان العلم أكثر حظا في القدرة على تفسيرها .
    مما تؤكده التجارب في إطار فيزياء الكم بالنسبة للجسيمات التحت-ذرية أنها احتمالية الوجود ما دامت لم تخضع للملاحظة . فهي موجودة و غير موجودة في نفس الوقت و لا يمكن تحديد موقعها و معرفة قيمة سرعتها في نفس الوقت طبقا لمبدأ الارتياب لهيزنبرغ الذي يحكم عالم الجسيمات . فالإيلكترون مثلا لا يظهر كجسيم و لكن يتجلى كموجة عبر سحابة من احتمالات وجوده حسب معادلة رياضية صاغها الفيزيائي النمساوي شرودينغر . و بالتالي فإن هذا يعني أن وجود الجسيمات في موقع محدد بسرعة معينة هو وجود احتمالي و ليس وجودا حتميا . و الملاحظة وحدها هي التي تحدد وجودها . لكنها تؤثر في حقيقتها : فإذا عرف موقعها تغيرت سرعتها و حتى مسارها . و إذا تم تحديد سرعتها تعذر تعيين موقعها و حتى مسارها . و لتوضيح ذلك ابتكر العالم شرودينغر تجربة فكرية اشتهرت بتجربة قطة شرودينغر الحية-الميتة في نفس الوقت لا يتسع هذا المجال لشرحها . و هذا ليس افتراضا و إنما هو واقع تؤكده التجربة و يحسب عبر المعادلات الرياضية .
    و من جهة أخرى يؤكد العلماء أن للكون ثوابت دقيقة حكمت نشأته منذ اللحظة التي انطلقت فيها . و لو اختلف واحد منها قليلا عما كان عليه لما كان للكون وجود على الأقل بالشكل الذي هو عليه . و قد اختلف العلماء أمام هذا الأمر المحير .
    فمنهم من يرى أن هذا دليل على وجود مصمم ذكي (الله) قام بضبط هذه الثوابت أول مرة بهذه الدقة . لكن هذه النظرة المقبولة دينيا و فلسفيا لا يحبذها العلماء كثيرا لأنها تخرجهم عن دائرة العلم إلى ميدان الميتافيزيقا التي لا يمكن إخضاعها للملاحظة و التجربة اللتين يقوم عليهما المنهج العلمي .
    و منهم من يرى أن الكون بهذه الثوابت الدقيقة كان احتمالا كموميا ( لأن الكون كان في بدايته متجمعا في أبعاد أقل من أبعاد الذرة) من بين عدد هائل من الإحتمالات ( سحابة من الإحتمالات) منها ما لم ينتج عنها أي كون و منها ما نتج عنها أكوان متعددة مختلفة عن كوننا . و هذه الفرضية المسماة بفرضية الأكوان المتعددة (multivers ) تقتضي أن هذه الإحتمالات لم تكن في البداية فحسب بل بقيت قائمة في كل لحظة من الزمن حيث يتفرع كل كون إلى أكوان جديدة يتبع كل كون منها في مساره احتمالا من بين عدد لا يحصى من الإحتمالات التي تعترضه كل لحظة و هكذا تتشكل الأكوان في الزمن دون انقطاع . و يعني هذا أن ما نعتبره مجرد احتمالات لم تتحقق في كوننا هي أحداث "واقعية" تحققت في أكوان أخرى. و قد تكون قطة شرودينغر الحية-الميتة بعد الملاحظة حية في أكوان و ميتة في أكوان أخرى . و هذه الفرضية رغم عدم تأكيدها عن طريق التجربة و الملاحظة تفسر الكثير من الأسئلة المطروحة علميا من بينها محاولة القضاء على التناقض الموجود بين نظريتي الكم و النسبية و كذا حل بعض المفارقات المتعلقة بالسفر عبر الزمن . و هي مرة أخرى فرضية علمية بعيدة عن الخيال و حتى عن الفلسفة رغم أن من قال بها أول مرة في إطار آخر هو الفيلسوف اليوناني أناكسيماندر (Anaximandre) في القرن السادس قبل الميلاد .
    و بين هؤلاء و أولئك يبقى الوجود لغزا غامضا يستعصي على قدرات الفهم عند البشر . فالإنسان بالنسبة للكون يمثل نملة داخل طية من طيات إزار على رف خزانة داخل غرفة في شقة في طابق من عمارة داخل حي بمدينة لا تمثل إلا نقطة من سطح كوكب مساحته أكثر من حمسمائة مليون كيلومتر مربع يغطي الماء أكبر نسبة منها . فكيف لهذه النملة أن تعلم كل هذا فضلا عن علمها بالمجموعة الشمسية داخل مجرة درب التبانة أو اللبانة ( حسب الثقافات البشرية) التي استغرق الإنسان عشرات الآلاف من السنين قبل أن يرسم صورة شبه واقعية لها ؟ و على ذكر اسم المجرة فإن البشر كانوا يعتقدون أنها طريق مرسومة بالتبن أو باللبن في كبد السماء تركت آثارهما هناك كما يترك حاملو اللبن أو التبن فوق الأرض آثارا منهما على الطرق التي يمرون بها .
    و لذلك يبدو أنه من العبث على الأقل في الوقت الراهن الإعتقاد بأن العقل البشري مصمم لفهم هذا الكون الذي قد تخفيه عليه أبعاد أخرى معقدة لا يدركها و ذلك مثلما يكون من العبث الإعتقاد بأن عقل النملة المذكورة آنفا مصمم لتحديد موقعها على سطح الكرة الأرضية . و إمكانية حدوث ذلك لا تتعدى إمكانية قدرة حيوان ما على إدراك قوانين الجاذبية أو الكهرومعناطيسية كما يدركها العقل البشري بطريقته الخاصة التي لا يمكن أن تكون هي الحقيقة المطلقة بالنسبة لهاتين الظاهرتين . فالوجود كان في الأصل احتمالا قبل أن يصبح واقعا . و حتى و إن لم يكن كذلك فإن كل ما فيه يؤكد أن حقيقته تتجسد في كل لحظة عبر عدد لا يحصى من الإحتمالات .

    بقلم بلقاسم مسعودي .
يعمل...
X