حول مدينةالفلسفة
د.علي مرهج
الفلسفة تقترن بالمدينة، وكل تأمل فلسفي منذ نشأة الفلسفة بوصفها تفكير عقلاني نقدي تأملي إنما يرتبط في المدينة، ولنا في أثينا مثالًل نقتدي به، فقد كانت أثينا إلى حد ما ما مدينة تحترم الحريات وتؤسس لدولة المواطنة والديموقراطية الناشئة، وقد يكون إفلاطون الرافض لليديموقراطية قد أسس فكره بوعي مدني لدولة مثالية، لا تخرج عن تنشأته الاجتماعية في مدينة تقبل التعدد في الرؤى.
كان سقراط فيلسوف مدينة أثينا، يسير في شوارعها، ليؤسس لفلسفته الأخلاقية التي تربط بين الفضيلة والعلم، وقيل عنه أنه أفسد عقول الشباب، فكانت المعارضة نتاج مديني، على قاعدة لكل (فعل رد فعل)، والفلسفة لا تُزهر لوحدها، إنما الآخر المختلف هو الذي يستفز العقل فيها، فيُنتج فلاسفتها أفكارًا مغايرة، فكانوا السفسطائيون ساسة المدينة وقادتها، هم المعرضون وهم الآباء المؤسسون لفلسفة الضد النوعي، لأن مقولاتهم تتضاد مع فلسفة سقراط.
أنشأ افلاطون (المدينة المثلى) وهي نتاج مديني يعرض فيها تصوره للفكر والتفلسف العقلاني برؤية تأملية مثالية تغادر كل توهمات السفسطائيين بحسب وجهة نظره لتتجاوز العلم المعاش في هذه المدينة، وتبني تصورًا عن عالم مثالي هو العالم الحقيقي، لأن كل ما يعيشه الأثنيون في مدينتهم إنما هو عالم زائف.
يأتي أرسطور ليُعرف الإنسان على أنه "مدني بالطبع".
حاول افلاطون بناء مدينته المثالية، خارج تحديات الواقع المعاش، بينما عمل أرسطو على فهم المدنية على أنها العيش في الوسط الاجتماعي، ليُنتج لنا تصورًا مدنيًا عن الحياة الواقعية يحكمها الصراع.
لم يظهر لنا فلاسفة نظّروا في الفلسفة النظرية بكل أقسامها، والفلسفة العملية بكل تنوعاتها وهم يعيشون في الجبال أو في الصحراء.
الفلسفة النظرية نتاج مديني لأنها تبحث في أصل الوجود بالقياس لما هو موجود، وهي رؤية نظرية ذات بنية استدلالية برهانية لا يقدر على مجاراتها العقل البدائي الباحث عن سبل العيش وتحديات الحياة الصعبة.
وفي الفلسفسة العملية، قيم ومنطق وتدبير منزلي وساسة مدينة، لا تتحقق في هذه المجتمعات.
العلاقة بين الفلسفة والمدينة علاقة تبادلية، لأن الفلسفة ابنة المدينة وهي تكمل بناء المدينة في استكمال شروط تحققها في الحرية والمواطنة والمساواة.
غير ذلك في حال غياب هذه الشروط، قد تساعد الفلسفة في انتاج حضارة مدنية، كما الحال في الحضارة الإسلامية، التي قد لم تتحقق بها شروط تحقق الفلسفة في الحرية والمساواة والمواطنة، ولكنها قد تنشأ على سبيل (التقليد)، ولم معرفة تبدأ تقليداًـ ولكن ترسيخ قيم الفلسفة لا يُزهر إلا بقبول التعايش، ولذلك كانت الحضارة العربية والإسلامية في العصر العباسي أيام بروز التفكير الفلسفي، قد نشأ وتبلور بمقبولية التعايش، الذي تأسس على وفقه بيت الحكمة الذي أسسه المأمون بالاعتماد على السريان من المسيحيين العرب، الذين أسسوا بيت الحكمة، فكان الشرارة الأولى في نشوء (مدرسة بغداد الفلسفية) بكل تنوعها الديني والفكري.
كانت المدينة الإسلامية مدينة لفلاسفة وعلماء اليونان من جهة، ولمترجمي ومفكري السريان من جهة أخرى، ولكن الحضارة الأقوى تُقبل على الآخر المحتلف ولا تخشاه، لأنه سيسير حتمًا على مسارات صاغها صاعوا القرار لبناء مدينة، كان خليفتها من قبل يُخاطب الغمامة بالقول: "أينما تمطري فإن خراجك يعود إلي".
هكذا مدنية تصنع حضارة، وتستفيد من علوم الأمم المغايرة لها في الملّة أو الدين أو المعتقد، ولا تخشاها، لأنها تؤسس وتؤصل لحضارة جعلت من المدينة والفلسفة صنوان لا يفترقان، أو وجهان لعملة واحدة، ولم تخشى حضارة الإسلام بكل نزوعها الديني من الفلسفة، لأن شغل فلاسفة الإسلام الشاغل هو (التفيق بين الحكمة والشريعة)، وكما يقول ابن رشد (الشريعة حق، والحكمة حق، والحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له)، والشريعة نتاج سماوي، والحكمة نتاج مديني، ولكنهما قد يتعالقان ولا يتضادان وفق تصور حضاري متقدم صنعه الفلاسفة المسلمون وفي مقدمتهم الكندي، وفي خاتمهتم ابن رشد، وبين هذا وذاك هناك فلاسفة وعلماء أجادوا انتاج علومهم وفلسفتهم بفضل التطور المدني والحضاري الذي عاشوه في الشغف بعلوم (الغير) وفهمها، أو تأويلها وتقديم الجديد النافع منها.
د.علي مرهج
الفلسفة تقترن بالمدينة، وكل تأمل فلسفي منذ نشأة الفلسفة بوصفها تفكير عقلاني نقدي تأملي إنما يرتبط في المدينة، ولنا في أثينا مثالًل نقتدي به، فقد كانت أثينا إلى حد ما ما مدينة تحترم الحريات وتؤسس لدولة المواطنة والديموقراطية الناشئة، وقد يكون إفلاطون الرافض لليديموقراطية قد أسس فكره بوعي مدني لدولة مثالية، لا تخرج عن تنشأته الاجتماعية في مدينة تقبل التعدد في الرؤى.
كان سقراط فيلسوف مدينة أثينا، يسير في شوارعها، ليؤسس لفلسفته الأخلاقية التي تربط بين الفضيلة والعلم، وقيل عنه أنه أفسد عقول الشباب، فكانت المعارضة نتاج مديني، على قاعدة لكل (فعل رد فعل)، والفلسفة لا تُزهر لوحدها، إنما الآخر المختلف هو الذي يستفز العقل فيها، فيُنتج فلاسفتها أفكارًا مغايرة، فكانوا السفسطائيون ساسة المدينة وقادتها، هم المعرضون وهم الآباء المؤسسون لفلسفة الضد النوعي، لأن مقولاتهم تتضاد مع فلسفة سقراط.
أنشأ افلاطون (المدينة المثلى) وهي نتاج مديني يعرض فيها تصوره للفكر والتفلسف العقلاني برؤية تأملية مثالية تغادر كل توهمات السفسطائيين بحسب وجهة نظره لتتجاوز العلم المعاش في هذه المدينة، وتبني تصورًا عن عالم مثالي هو العالم الحقيقي، لأن كل ما يعيشه الأثنيون في مدينتهم إنما هو عالم زائف.
يأتي أرسطور ليُعرف الإنسان على أنه "مدني بالطبع".
حاول افلاطون بناء مدينته المثالية، خارج تحديات الواقع المعاش، بينما عمل أرسطو على فهم المدنية على أنها العيش في الوسط الاجتماعي، ليُنتج لنا تصورًا مدنيًا عن الحياة الواقعية يحكمها الصراع.
لم يظهر لنا فلاسفة نظّروا في الفلسفة النظرية بكل أقسامها، والفلسفة العملية بكل تنوعاتها وهم يعيشون في الجبال أو في الصحراء.
الفلسفة النظرية نتاج مديني لأنها تبحث في أصل الوجود بالقياس لما هو موجود، وهي رؤية نظرية ذات بنية استدلالية برهانية لا يقدر على مجاراتها العقل البدائي الباحث عن سبل العيش وتحديات الحياة الصعبة.
وفي الفلسفسة العملية، قيم ومنطق وتدبير منزلي وساسة مدينة، لا تتحقق في هذه المجتمعات.
العلاقة بين الفلسفة والمدينة علاقة تبادلية، لأن الفلسفة ابنة المدينة وهي تكمل بناء المدينة في استكمال شروط تحققها في الحرية والمواطنة والمساواة.
غير ذلك في حال غياب هذه الشروط، قد تساعد الفلسفة في انتاج حضارة مدنية، كما الحال في الحضارة الإسلامية، التي قد لم تتحقق بها شروط تحقق الفلسفة في الحرية والمساواة والمواطنة، ولكنها قد تنشأ على سبيل (التقليد)، ولم معرفة تبدأ تقليداًـ ولكن ترسيخ قيم الفلسفة لا يُزهر إلا بقبول التعايش، ولذلك كانت الحضارة العربية والإسلامية في العصر العباسي أيام بروز التفكير الفلسفي، قد نشأ وتبلور بمقبولية التعايش، الذي تأسس على وفقه بيت الحكمة الذي أسسه المأمون بالاعتماد على السريان من المسيحيين العرب، الذين أسسوا بيت الحكمة، فكان الشرارة الأولى في نشوء (مدرسة بغداد الفلسفية) بكل تنوعها الديني والفكري.
كانت المدينة الإسلامية مدينة لفلاسفة وعلماء اليونان من جهة، ولمترجمي ومفكري السريان من جهة أخرى، ولكن الحضارة الأقوى تُقبل على الآخر المحتلف ولا تخشاه، لأنه سيسير حتمًا على مسارات صاغها صاعوا القرار لبناء مدينة، كان خليفتها من قبل يُخاطب الغمامة بالقول: "أينما تمطري فإن خراجك يعود إلي".
هكذا مدنية تصنع حضارة، وتستفيد من علوم الأمم المغايرة لها في الملّة أو الدين أو المعتقد، ولا تخشاها، لأنها تؤسس وتؤصل لحضارة جعلت من المدينة والفلسفة صنوان لا يفترقان، أو وجهان لعملة واحدة، ولم تخشى حضارة الإسلام بكل نزوعها الديني من الفلسفة، لأن شغل فلاسفة الإسلام الشاغل هو (التفيق بين الحكمة والشريعة)، وكما يقول ابن رشد (الشريعة حق، والحكمة حق، والحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له)، والشريعة نتاج سماوي، والحكمة نتاج مديني، ولكنهما قد يتعالقان ولا يتضادان وفق تصور حضاري متقدم صنعه الفلاسفة المسلمون وفي مقدمتهم الكندي، وفي خاتمهتم ابن رشد، وبين هذا وذاك هناك فلاسفة وعلماء أجادوا انتاج علومهم وفلسفتهم بفضل التطور المدني والحضاري الذي عاشوه في الشغف بعلوم (الغير) وفهمها، أو تأويلها وتقديم الجديد النافع منها.