الحساسية الجديدة في الرواية الجزائرية
إعداد الأستاذة حفيظة بشارف
الحساسيــــة الجديــــدة في الروايـــة الجزائريـــة
“” جلسات الشمس “” تأليف بومدين جلّالي أنموذجا
إعدا د : حفيظة بشارف
جامعة سعيدة
– ملخص:
ظهر في الأدب العربي – خاصة في الرواية – مصطلح الحساسية الجديدة في مقابل الحساسية التقليدية، أملتها ظروف و معطيات إجتماعية و سياسية وأخرى ثقافية، وأول من عمل على هذا المفهوم إدوارد الخراط تنظيما وإبداعا، فجعل من كتاباته قلقا دائما يسعى من ورائها الى عملية التجاوز والخرق لكل مستمر و مألوف، وقد امتد هذا القلق والتجاوز إلى النص الإبداعي الجزائري الذي تمكن بفضل الحساسية الجديدة أن يلامس التخوم بين الأنواع الأدبية المعروفة من قصص و شعر و رواية و تأملات و نجوى. و بدا هذا جليا من خلال جلسات الشمس لصاحبها بومدين جلالي، وتقوم دراسة مثل هذه الأنواع الأدبية على أطر توظيف التراث السردي، خصوصية الزمان و المكان، شاعرية اللغة و تموج الخيال، إلا أننا لم نتعرض في هذا النص لكل مظاهر الحساسية الجديدة كما أن هذه الرواية لا تمثل النموذج الكامل و الأوحد لكتاب تيار الوعي، بل هناك روايات أخرى في الأدب الجزائري.
الكلمات المفتاحية:
رواية، حساسية جديدة، تيار الوعي، أدب جزائري، التراث السردي ، العجائبية، الاشتغال على اللغة….
Abstrect :
the term of the new sensitibilityemerged in the arabicliteratureagainst the traditionalsensibilityspecifically in the novel .the termwassustained by social,political and cultural factors.the first whoused the concept wasEDWARD AL KHARATtheoritically and practically.thereforehehaddemonstrated a greatanxietytroughhis books’ linesseeking to overcome and break every constant as well as usual.hencethis extension wasinvolved on level of the algerian(artistic, imaginative) textwhichcouldrealize due to the new sensibility to coordinatebetween the differentliterary genres such as stories,poetrie,novels,contemplation and the najwa.it appearedcrystalclear in thenovel “جلسات الشمس” by DJELLALI BOUMEDIENE the study of theseliterary genres isbased on the frame of narration particularly place and time,languagesubtlety and the fictiongenre.
However zedidnt tackle and refer to all forms of the new sensibility besides this novel doesn’t illustrate the perfect prototype of the current of awarnessbook.but there are several novels in the Algerian literature.
ماهية الحساسية الجديدة:
بعد مضي قرن من الزمان علي ظهور الرواية بوصفها جنسا غربيا أضحت تمثل منظومة الثقافة العربية الأدبية المعاصرة إذ هي المعبّر الحقيقي عن الواقع العام والخاص كما لها دور فكري وروحي و جمالي في التعبير عن قضايا الأمة ورؤاها، ومنها التعبير عن القلق السائد المنهزم بعد حرب 1967″ إذ لم تعد الرواية التقليدية قادرة على التعبير عن هذا الواقع المحبط المقموع لذلك كان لابد من تجاوزها إلى الرواية الجديدة التي تنهل من أعمال كافكا 1924 وبروست 1922 ” (1).
وفي الستينيات والسبعينيات نبغ البحث عن طريقة أخرى للنظر إلى الواقع بدرجة عالية من الإلحاح واليقين فالتصورات التي كانت تروج من لدن الأنظمة غالبا ما تصطدم بما كان يلمسه الروائي والقاص مع الناس في حياتهم اليومية ، وبدا الواقع الاجتماعي أرض معركة يمثل فيها الناس الجانب المتفرج فقط.
ومن ثمة أصبحت الأجزاء الصغيرة المكتسبة في يد البيروقراطيين والمقاولين كما تعكس ذلك (نجمة أغسطس) لصنع الله إبراهيم في ذروة بناء السد العالي المصورة للقمع كالأخطبوط يقبض على كل شيء، كان من الطبيعي أن يطرح الروائي والقاص أسئلته للأنظمة الفكرية والسياسية السائدة . ومع ذلك لم يصل الروائيون إلى فهم ذاتي بشكله الكامل ، فالرؤية التي انكشفت تعلقت بخصوصية الآداب و علاقتها بالسياسية والفكر الاجتماعي على مستوى الشكل و المضمون لتخلص في النهاية إلى طابع ذاتي وجداني، فأدى ذلك إلى إحداث ثقوب وفجوات وفراغات في النموذج التقليدي كان لابد من ملئها بشيء آخر، ورغم ذلك لم تحدث قطيعة جازمة بين الحساسيتين إلا في حالات قليلة “ومن أبرز مميزات هذه الرواية الجديدة هو تحررها من أسر الشكل التقليدي الذي يلتزم بالحبكة التي تتعقد بالتدريج ثم تنحل بحيث توهمنا بصدقها واتفاقها مع طبائع الأمور في الحياة” (2)
كما اعتمدت الحساسية التقليدية على مبدأ محاكاة الواقع، أ كان هذا الواقع حقيقيا أم من صنع خيال الكاتب، وقد ازدهرت مع انتشار تيار الواقعية في الرواية العربية “كما برز لهذه الحساسية أفقان رئيسان مهيمنان على أفق انتظار القارئ في تلك المرحلة : أفق انتظار رومانسي مثلته روايات التسلية والترفيه وروايات جرجي زيدان التاريخية وزينب لحسنين هيكل والأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وأفق انتظار واقعي مثلته روايات نجيب محفوظ الواقعية على وجه الخصوص” (3) .
وبتعدد الروائيين وتباين وجهات النظر تعددت الأشكال الروائية فبرزت الرواية ذات الأصوات المتعددة (البوليفونية) ورواية تيار الوعي والرواية الدرامية … ونستطيع أن نرى حضورا قويا لهذه الأشكال في نتاجنا الأدبي العربي خاصة في أعمال صنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان اللذين تركا بصمات واضحة في الرواية الجديدة التي مثلت نقلة في الكتابة الإبداعية أطلق عليها إدوار الخراط مصطلح “الحساسية الجديدة”.
وللإحاطة أكثر بمفهوم الحساسية الجديدة نورد رأي صبري حافظ في ذلك إذ يقول ” إن الحساسية ليست مستقاة من كلمة (sensitivity) التي تشير إلى الجوانب الحسية أو إلى كل ما له علاقة بالمشاعر الرقيقة أو الانفعالات المتقلبة أو بعبارة أخرى كل ما يتصل بالجوانب المادية أو الاستعارية لحاسة اللمس ولكنها مستمدة من كلمة (sensibility) التي تدل فيها الحساسية على الوعي والإدراك لاعلى الانفعالات المتقلبة سواء أكان هذا الإدراك عن طريق العقل أم الحس أو عن طريقهما معا، والتي تنطوي لربطها بين الإحساس (sense) والقدرة (ability) على المقدرة الحدسية المتصلة لكل من الوعي والإدراك في مجال المعرفة”(4).
و الحساسية الجديدة تحمل استشرافا لنظام قيمي جديد على المستوى الفني والثقافي والاجتماعي، وتحوي تيارات عديدة منها : تيار التشيّئ أو التغريب، التيار الداخلي، تيار استيحاء التراث العربي، تيار الواقعية السحرية وتيار الواقعية الجديدة، ويعترف الخراط بأن هذه التصنيفات هي مجرد تأمل .(5)
وعلى هذا الأساس؛ فإن الحساسية الجديدة تمثل البحث القلق عن الحقيقة . فهي قلق دائب وعملية تجاوز وخرق مستمر للسائد والمعروف ، ومن العوامل التي ساهمت في ظهور هذا النوع من الكتابة الإبداعية هو الطبيعة الحوارية والاستيعابية التي مكنتها من مد جسور التواصل مع مختلف الأنواع والأجناس الأدبية “إنها الكتابة التي تقع على التخوم بين الأنواع الأدبية المعروفة من قصص وشعر ورواية وتأملات ونجوى … وتعبر الحدود وتسقطها بين الأجناس المألوفة والمطروقة ، تتخطاها وتشتمل عليها وتستحدث لنفسها جدة تتجاوز مأثورات التاريخ الأدبي وتتحدى عمقها الآن”(6)
تجليات الحساسية الجديدة في رواية جلسات الشمس :
أصدر بومدين جلالي عام 2012 روايته جلسات الشمس(7)التي تمثل نقلة نوعية في تجربته الإبداعية التي تضاف إلى التجربة الروائية في الجزائر، حيث أبان فيها عن وعي بالطروحات الفكرية والجمالية الجديدة للرواية عموما مثل الحساسية الجديدة والنص المفتوح… لأنه – كما سنرى لاحقا – قدم تجربة فنية جديدة على مستوى الموقف والأداة، وليس معنى تناولنا لهذه الرواية في إطار الحساسية الجديدة أنها تعد عينة نموذجية خالصة لهذا الاتجاه ، فلا وجود لمثل نقي خالص لتيار ما إنما الملاحظ أنه غلب على هذا النص تقنيات تيار الحساسية الجديدة الذي جاء تلبية لمطالب مرحلة انتفضت جماليا وروحيا وفكريا.
توظيف التراث السردي :
يعتبر التراث ذلك الخزان الفكري و الروحي و المادي الذي تبلور عند أمة من الأمم بفعل التراكمات الاجتماعية والثقافية،وهو اليوم موظف فنيا، ولعل من أبرز الأسباب التي دعت إلى توظيفه الفني الحالي هو تشكيل نصوص تتجاوز الحداثة الغربية و إرساء معالم كتابة تشكل الهوية الثقافية الأصيلة ، كما كان للبواعث الفنية أثرها والمتمثلة في توظيف الرواية الغربية للتراث المحلي وبذلك نالت الشهرة والعالمية . وتمثل “مائة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز نموذجا لذلك ، إضافة إلى الحركة الثقافية التي اهتمت بمسألة التراث و الرجوع إلى النصوص القديمة، وكذا عامل المقاومة الاستعمارية ومحاولة التميز والاستقلالية. كل تلك الأسباب أدت إلى الالتفاف إلى التراث وتوظيفه في النص السردي .
وكانت البداية العربية في هذا المضمار مع إبراهيم اليازجي (مجمع البحرين) و)ليالي سطيح( لحافظ إبراهيم و)حديث عيسى بن هشام (لمحمد المويلحي ، وأحمد فارس الشدياق (الساق على الساق ) وسليم البستاني (الهيام في جنان الشام ) … وبدأ توظيف التراث في الرواية بشكل أوضح في النصف الأول من القرن العشرين على يد طه حسين في القصرالمسحو، وليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ و بدر زمانه لمبارك ربيع، التراث الديني مع محمود المسعدي ( حدث أبو هريرة قال )(8).
وهنا سقطت الحواجز بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، فأضحت المزاوجة بين المادة التراثية والمادة الإبداعية طريقا للوصول إلى عمل تحديثي، إلا أن توظيف التراث في الأدب الجزائري غدا سلاحا ضد الثقافة الدخيلة، يقول مخلوف عامر ” في هذه الظروف لعب الأدب الشعبي عامة والقصص منه خاصة دورا تعبويا وتحريضيا مقتديا برموز مستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي موظفا القصص القديم بإسقاطات واقعية يمليها الوضع الذي كان يعيشه الجزائريون “(9) . فكيف تجلى ذلك في جلسات الشمس ؟
تضم هذه الرواية خمسة وعشرين بابا أومشهدا، تتراوح بين الطول والقصر، تحكي مغامرات ومقابلات وتطرح أسئلة وجودية مصيرية، بطلتها الشمس والراوي المتضمن في الحكاية مما يجعله طرفا في اللعبة السردية التي توحي بنوع من الواقعية الممتزجة بالعجائبية في تواتر مستمر للحكايات يذكرنا بفكرة التوالد الحكائي الذي تتميز به حكايات ألف ليلة وليلة، ففي قوله :” وفي السنة التاسعة بعد المائة الثالثة سكتت الشمس عن الكلام المباح و غير المباح… ” (10) مقطع يوحي بالتماثل مع شهرزاد فكأن الشمس شهرزاد تحكي والراوي شهريار المتتبع في صمت، المنبهر بها و بما ترويه وتذكره من أسماء كدون كيشوت وشكسبير وقابيل وهابيل وابن المقفع وهوميروس وغيرهم … في قالب متنوع من الدلالات العالمية دينية وفنية وأدبية، ولعل هذا التداخل في توظيف المعاني والرموز ليتقاطع الواقعي مع الأسطوري والغرائبي ليتماهى بشكل كبير مع حكايات ألف ليلة و ليلة . إلا أننا نلاحظ ذكر الأماكن والتواريخ بشكل واقعي ممزوج بالخرافة مما يعكس ثقافة الراوي التراثية الواسعة و إلمامه بالتاريخ . ويعد توسله لهذه التقنية محاولة للخروج بالكتابة الروائية عن شكلها النمطي المألوف، وفي ذات الوقت يضعنا أمام تساؤل : لم يستعين الروائي بمقاطع تكاد تكون تسجيلية في عمل ينبني في الأساس على إطلاق العنان للخيال؟
لعل الجواب يكون في ثنايا المتن الروائي إذ يسعى الراوي إلى توثيق وتسجيل بعض المآسي التي شهدها التاريخ و لا يمكن امحاؤها كقوله :”ومرة نسبهم إلى أقوام ينحدرون من التافنة أين جرت المعاهدة التي لم يلتزم بها إلا المغلوبون ….”(11) وقوله أيضا : ” ….. ومرة قال بأنهم من مثقفي الدرجة العاشرة …..”(12)إشارة منه في المقطع الأول إلى تاريخ الجزائر والمعاهدة التي كانت بين الأمير عبد القادر والجيش الفرنسي، وفي المقطع الثاني إشارة إلى الواقع الثقافي المتردي الذي نعيشه اليوم أين أصبح المثقفون أنصاف متعلمين لا يقدرون سوى على التكرار و التقليد دونما أي إبداع أو تنوير للمجتمعات .
ومن خلال ما سبق نرى أن هذه الرواية عبارة عن خلاصة لما لا يحصى من النصوص وتعالقها مع نصوص أخرى مما يقوي علاقة الاتصال والتجاوب بين الكاتب والقارئ الواعي الذي يستطيع تحديد حقل الموضوع الذي تعالجه الكتابة مما يجعل رغبة الكشف والتجوال في أروقة المشاهد مشتركة بين الكاتب والقارئ . وبهذا الصنيع الفني المتميز يوقعنا الكاتب في ورطة ابداعية ذات طابع إشكالي، فالمنجز النصي عادة ما يحيل على مرجعية جنسية تجد تحققها في الرواية ” إلا أن هناك العديد من المؤشرات الخطابية التي توحي بتعدد الأنساق التعبيرية المحاثية والموزعة في الفضاء النصي، والمتراوحة بين فن كتابة الرسائل والمذكرات والأقصوصة”(13).
يجب الإقرار أن هذا الفعل الروائي لم يعد مجرد خطابات عادية بل هي كتابات مطعمة بالأدب، يتحاور فيها العالمان الداخلي و الخارجي للكاتب لتضفي تأملات خلقت انزياحات جمالية كالانقطاع والنهاية المفتوحة كما يتجلى ذلك في المشهد الثالث إذ يقول ” و لما بدأت زخات المطر تتكاثر قطعت الشمس استحمامها وصعدت واجمة إلى كبد السماء … فكتمت أنفاسي كي لا أزعجها ونمت واقفا ” ينتهي هذا المشهد بهذا المقطع المفتوح أو المتوقف إلى حين. فالنوم هنا لم يكن أزليا و كأن بالروائي يترك للقارئ فرصة للراحة والتأمل وإعادة النظر فيما قرأه سابقا كي يستطيع الاستمرار فيما سيـأتي فكما يكون النوم فرصة لراحة الجسم فهو في هذا المشهد هنيهة للتفكير الواعي لانطلاقة جديدة .
وبهذا التناول الجديد و المغاير للتراث السردي عبر مساحات نصية متقطعة من خلال إعمال آليات التقديم والتأخير أو القطع والتضمين حيث غدت الرواية شتاتا خطابيا متفرقا متحققا على طول الفصول الخمس والعشرين بدون تتابع سببي أو زمني ظاهر ومسترسل، فقد يذكر السندباد من العصر القديم ليحيل مباشرة إلى ستالين الرمز السياسي الثوري من العصر الحديث، أو يذكر حيزيا من الموروث الجزائري ليقابلها بديانا من الموروث الإنجليزي كما يقول : ” لما ولدت حيزيا كانت تعشق سعيدا… ولما ماتت كانت تعشق سعيدا … كانت ديانا تعشق أميرها فيليب …..”(15)
وما على القارئ إلا إيجاد الخيط الرفيع الجامع بين هذه المقاطع المشتتة بين الأنا والآخر، في جدلية تقوم على المفارقة والبحث المستفيض الذي لبسته الرواية الجديدة وأصبح الكتّاب لايرضون لأنفسهم بالقارئ العادي البسيط الساذج .
الاشتغال على اللغة :
تمتزج لغة ( جلسات الشمس ) ببعض التراث فيفوح منها عطر أسلوب المقامات أحيانا وسخرية الجاحظ وحكايات ألف ليلة وليلة أحيانا أخرى، إذ يبدو ذلك في العديد من المقاطع، ومثل هذه اللغة التي يتوسل بها لتصوير العالم الداخلي المتدفق، المتراقص بظلاله المتعتمة التي تضيئها الشمس بين الفينة والأخرى، تجعل رواية الحساسية الجديدة قريبة من الشعر في تصويره للوحات فنية خيالية بلغة شاعرية فذة يتجاوز فيها كتاب هذا الإتجاه مقولة الجنس الأدبي النقي الخالص عبر الإنفتاح على بقية الأجناس الأدبية، ونجد الكاتب على امتداد هذه التجربة مشغولا باللغة وتكثيفها والتسامي بها وشحنها ” بدرجة عالية من الإيحائية والشدة العاطفية المنجزة بأقل الوسائل”(16)
و يبلغ هذا الاتجاه مداه في بعض المقاطع التي استوحى فيها التراث الصوفي، و لا نعني بالتصوف كما يقول الخرّاط ” النسك أو الزهد أو الدروشة أو التجرد من متاع الحياة، بل نعني بها نوعا نجد مصداقه لدى أعظم الصوفيين أو غيرهم من النشوة والعشق ونشدان الإلهي واستحالة الحسية إلى تسام خاص دون أن تفقد أيا من لذاذاتها أو عذاباتها ” (17).
ففي المقطع التاسع يتكئ كثيرا على التراث الصوفي ومعجمه التعبيري والتصويري مما يسمو بالألفاظ لتتجاوز دلالاتها الإشارية أو المعجمية كقوله : “وحين وقفنا هنيهة بحي الموشحات بمدينة ولّادة قالت عروس البحر بعد أن عزفت مقاما شجيا و غنت أغصانا مقطعة من نص لوشّاح مجهول : هذه الترانيم جاءت من لحظة عشق كانت الشمس شاهدها الوحيد …نورانية ساقي بلقيس الأولى كانت من عشق الشمس لها ….النورانية ذاتها ورثتها بلقيس الثانية و أهدتها للقصائد …” (18)ويضيف ” … أغمضت عيني قليلا لأستنشق ذلك البخور العجيب بحب وعمق، وما إن فتحتهما حتى رأيت ذلك المعشر الصافي من الشفافين والشفافات … أثوابهم ناصعة البياض ووجوههم شموس وهم في ذهاب وإياب وجلوس ووقوف وألسنة بعضهم ترتل وأخرى تنشد وثالثة تدعو ورابعة تذكر وأيديهم تعرض علينا اللبن مرة وباقات الزهر مرة والشاي مرة وعطر الورد مرة …” (19).
ففي هذا النموذج وغيره الكثير يتجاوز الكاتب الحسي والمعنوي، الغيبي والحقيقي وهذا ما أشاع لغة التضاد والمفارقة في جل ثنايا النص . وينبغي أن نشير أن هذا التضاد لم يأت مجرد حلية تلبسها الرواية بل تقوم التجربة الفنية كلها على تلك الثنائية التي نهضت بدور مهم في تجسيد رؤية الكاتب وفي تصوير عالم الشخصية المستلبة المقهورة إذ يقول: ” قالوا : في السياق ذاته اجتمع الإنس بالجان والكاثوليك بالبروتستانت، والسنة بالشيعة، والهوتوبالتوستي وبكر بتغلب وأفواج الدفاع الذاتي بالجماعات المسلحة، والأفريكنار بالأزانيين” (20).
وتظل هذه الثنائية متسيدة للتجربة حتى تصل البطلة إلى قرار في أن السعادة هي في ترك الصراع و عودة زمن الأنبياء والشعراء والشهداء، عودة العشاق والصفاء والطهر والنقاء . ويستوقفنا في لغة النص شيوع تلك التراكمية التي يختلف توظيفها في الانتقال من مدينة إلى أخرى ففي المشهد الثالث و العشرين يقول: ” ثم راحت تتجول بين أحيائها طيلة زمن يضاهي الزمن الذي قضيناه في المدينة السالفة بدءا بحي عبد الحميد بن هدوقة ومرورا بأحياء رشيد بوجدرة و جيلالي خلاص و عبد المالك مرتاض و بشير مفتي والزاوي أمين وأحلام مستغانمي وانتهاءا عند أحياء الأعرج واسيني وفضيلة الفاروق والحبيب السايح وعيسى لحيلح…”(21) وهنا يستحيل التراكم إلى حدث يسجل رواد الرواية الجزائرية وكأني بالكاتب يشيرإلى أن خصوبة التجربة الروائية واكتمالها لا يتم إلا بالتتلمذ على يد هؤلاء، إذ جعل لكل اسم حي بأكمله يجب على دارس الرواية أن يمر به. وقد استخدم كتاب الحساسية الجديدة هذه التقنية المتمثلة في دمج اللغة التسجيلية لغة التقرير المباشر كما ذكرنا داخل السرد، وهي تقنية تستدعي الواقع استدعاء يفي بمتطلبات العمل الفني، ويحاول الكاتب هنا أن يدعم حقيقة مشاهداته أو يثبت صحة معلوماته من خلال التركيز على أماكن جغرافية وعلى أشخاص التقى بهم أو استمد ذكرهم من التاريخ . وعلى هذا النحو بدت اللغة مغامرة مستمرة ” يحاول تطويعها لتصبح أكثر ملائمة للتعبير عن زوال كل الحواجز بين الظاهر والباطن والحلم والصحو والواقع والخيال يعد هذا النوع من الانصهار أو الانفتاح بين هذه المستويات المختلفة، هو الأقدر والأقرب إلى صدق فني من نوع أعلى مستوى مما حققه القدامى ” (22) .
فقد لاحظنا في هذه التجربة الميل إلى التكثيف بشكل رمزي شاعري سواء على مستوى بنية حدث يصعب إيجاد مسيرة واضحة له، أم في مجال رسم شخصية تتأجج بين الواقع والرمز كما كانت الشمس وعروس البح، وبين الحقيقة والأسطورة عبر لغة اختلط نسيجها من عناصر تراث الأمة الديني والفني والأدبي والسياسي، بل الفصيح والشعبي أيضا، من هذا أضحت هذه البنية الفنية أسطورة متجددة العطاء، ثرية الدلالة خاصة إذا التفتنا إلى الحوار الذي اختفت فيه كل المعالم بين الواقع والفن الذي يصوره .
3- خلخلة النموذج السرّدي المطرّد ( النص المفتوح ):
لقد تجاوز كتاب الحساسية الجديدة ذلك التنسيق المعهود في العناصر المختلفة للشكل الروائي، فلم يعد كتابها ملتزمون باختيار السرد المطرد، والاختيار الموزون للحبكة التي تتعقد بالتدريج ثم تنحل حسب توظيف العناصر المختلفة من حكي ووصف وحوار، فالحبكة أصبحت مفككة مبعثرة، والأحداث فقدت لحمتها وتسلسلها وسببيتها تجسيدا لرؤية الكاتب للحياة وما فيها من غموض وتعقيد ” فلم يعد القارئ ينتظر حلا بل أصبح أمام تحولات يحاول تقديم تفسيرات ومبررات لها، فغدت الرواية الجديدة مشروعا أمام القارئ يستنطقه ويشارك فيه، ولا شك في أن أساليب السرد التقليدي لم تعد مقبولة لأن الواقع أصبح واقعا قلقا ومقلقا ويحمل تأويلات متعددة تشدد الرواية الجديدة عليها “(23) .
ويطلق الكاتب هنا روايته عن وعي بتقنيات الكتابة الحداثية التي تهدف إلى إبداع نص مفتوح يستثير القارئ من خلال تضليله وتشكيكه بما يحدث ولعل هذا وراء ما شاع في هذه التجربة من أحلام وهواجس داخلية وتأملات فلسفية أسهمت في تداعي الحبكة وعدم القبض عليها كما أسهمت في اختفاء الحدث بالمفهوم التقليدي “فلم يعد من المهم إطلاقا أن تكون هناك عقدة ثم حبكة ثم لحظة تنوير إذ يمكن أن يعتمد النص على لحظة الأزمة فقط وهذا يؤدي إلى أنه لم تعد الرسالات جاهزة، لم تعد المعرفة قائمة مسبقة … بل أصبحت الخبرة الفنية سعيا متصلا نحو المعرفة وهو ما يؤدي إلى النص المفتوح أو المتعدد الدلالات الذي هو أحد أهم سمات التغير الآن ” (24).
و عليه فإن الحبكة عند كتاب تيار الوعي * تبدو عندهم غامضة إن لم تكن خافية، فلن يقدر المتلقي البسيط الوقوف عليها وإدراكها بوضوح كما تجلى ذلك في روايتنا المعنية بالدراسة حيث لا تجري الوقائع بالترتيب أبدا لاعتماد الكاتب أسلوب تيار الوعي وتقنية المونولوج أعتمادا يظهر الكثير من التداخل والتقاطع بين الحوادث مما يضطر القارئ المعني بالحبكة لإعادة ترتيبها وبنائها في ذهنه . كما يحتاج القارئ في هذه الرواية بالتحديد إلى أمرين هما : الذكاء والذاكرة .
أما الذكاء فلكي يستطيع استيعاب الأحداث الكثيرة واكتناه العلاقات المتشابكة التي تربط بين حدث وآخر لاسيما في الروايات التي تعتمد على المفارقات الزمنية والمونولوج وتيار الوعي” وعلى القارئ في مثل هذه الروايات أن يشير إلى الحوادث ذات العلاقة بالعقدة على الهامش ليذكر نفسه بها من حين لآخر إن كان يريد القراءة التحليلية للنص “(25)
أما الذاكرة فهي الأداة الوحيدة التي تساعدنا على الربط بين الحوادث التي تروى من بداية النص إلى آخره، إذ أن نسيان بعض الحوادث يؤدي بانفراط عقد الرواية واقتفاء العلائق والعلل مما يؤدي إلى فقدان المتعة بالقراءة ” ولا ريب في أن الكاتب الجيد يبث في نسيج الرواية الكثير من الإشارات التي تساعد المتلقي على استخدام تقنية الحفظ والاسترجاع وفي ذلك ما فيه من دلائل الحرفية والحذق في الرواية ” (26)
ففي هذه الرواية على القارئ أن يتذكر دائما أن القائد الوحيد للراوي والقارئ هنا هو الشمس التي تمثل في إحدى وجوهها الراوي المتضمن في الحكاية، والتي تؤدي به على مدائن الرواة باحثة عن السعادة في قوله ليتك تدرين ما هي السعادة فمن مدنية الجمال مدينة بيكاسو إلى مدنية الشاعر الفصيح مفدي زكرياء إلى ابن خلدون ومالك بن نبي إلى مدينة محمد بلخير، إلى مدينة المحاكمين أمثال عمر المختار، العربي بن مهيدي، جمال الدين الأفغاني إلى مدينة البشير الإبراهيمي وما تتضمنه من مدن الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، أحلام مستغانمي إلى قوله : “أنا سعيد سعيد جدا، قالت وما السعادة عندك؟”
إذ هي رحلة بحث عن السعادة وعن الهجرة الطويلة بين تلك المدن في قوله : ” الرواة الآن منهمكون في إحياء ذكرى عودتي من المهجر ” ليخلص في آخر المطاف إلى التفاؤل بغد جديد في قوله ص 117 سيعود الأنبياء وسيعود الغرباء ويعود الشهداء … كما ظهرت تباشير عصر سيادة عشاق الشمس ” .
ومن هنا نرى أن من يريد القراءة الواعية المنفتحة عليه أن يتحلى بسلاح الوعي واليقظة للقبض على أغوار النص والربط بين أجزائه للوصول إلى لحمته وتفكيك شفراته والإلمام بمقاصده الفنية والفكرية . وترتبط الحبكة بالفضاء أو المكان ارتباكا وثيق الصلة لذلك سنعرج على خصوصية المكان في هذا النص .
في الكتابة الجديدة تتجلى أنماط من الأمكنة الافتراضية التي لا وجود لها في الواقع الملموس، فمدنية عشاق الشمس مثلا في إحدى المدن التي تدور فيها أحداث الرواية وهي مدينة لا تستطيع تحديد موقعها على الخارطة كونها ببساطة وليدة الخيال المحض، يرمز به المؤلف لمكان مرجعي لكنه لم يرد تحديده ليكون الدال له أكثر من المدلول، والدلالة غنية غير محددة .
فلا ريب في أن للمكان أثرا في التعبير عن هوية الكاتب الروائي والشخوص، فالحياة الإنسانية خلاصة الظروف والبيئة المحيطة والتاريخ والعادات والتقاليد والأعراف، لذلك نجد الكثير من الكتاب يحاولون من خلال المكان التعبير عن تمسكهم بهويتهم، فمدينة البشير الإبراهيمي أو مدينة الطاهر وطار أو مدينة ولادة أومدينة سيدي أحمد التيجاني تمثل للكاتب هوية عربية إسلامية ثقافية تاريخية يحاول من خلالها تحدي ما فعله الغرب والزمن من محاولة نسف ذاكرة المكان وتغيير هوية الفضاء العربي الإسلامي، إلا أن الكاتب يضفي عليها هالة من العجائبية تقوم على تشابك الكائنات بعضها ببعض من جماد ونبات وحيوان، فجميعها تتوحد في دورة الحياة، ولهذا فإن لوحات هذه الرواية للمكان ينبعث منها عبق الأسطورة ممزوجا بالواقعي والصوفي بالحكايات الغريبة والفنتازيا، ومما ساعده على ذلك اتخاذه لرمزية الشمس وعروس البحر التي لن تزول من واقع القارئ وخياله فهي ميدان لرؤاه السردية كما أن للفكر الأسطوري والعجائبي تأثيره العميق في نمط الحياة اليومية ” والمكان لا يقتصر دوره على تقديم الاستراحة للسارد أو الوقفة الوصفية التي تعدل بنا من الشعور بالزمن المتدحرج نحو الخاتمة إلى الشعور بالمكان، ولا هو شرائح جمالية، إنما هو فضلاعن ذلك كله علامة تتضمن مدلولا إيديولوجيا”(27) وهذا ما يتراءى لنا من خلال مدينة مفدي زكريا التي يقول فيها:”هي من المدن القلائل التي تجتمع بل تتعايش وتمتزج فيها كل المضادات … فجمالها تهدأ به الأغوال وتتجمل به البطلات والأبطال ” (28)كاشفا بذلك عن إيديولوجيته الثورية المقاومة للاستعمار .
فضاء العجائبية في النص :
لقد وصلت الرواية الجزائرية المعاصرة بعد مراحل كثيرة ومكابدات طويلة إلى تبني بنية سردية جديدة تنقلب على الأطر الثابتة وتكسر منطقها السكوني الرتيب لتتجسد بشكل حضور كتابي مختلف متعدد الإيحاءات لانهائي القراءات، ومن المظاهر اللافتة والمضامين المستبدة بأغلب فضاءات الرواية المعاصرة تأتي ظاهرة العجائبية لتشغل الحيز الأكبر من تلك الفضاءات، حيث لم يعد الروائي المعاصر مكتفيا بنقل حرفي لمرجعيات الواقع الخارجي، وهذا ما وقفنا عليه في هذه الرواية حيث لا وصف دقيق لشخوص هم نسخة مطابقة لشخوص الواقع، ولا لأمكنة وأزمنة هي نفسها أزمنة الحياة و أمكنتها بل غدا هذا الروائي مجنح الخيال جامحه، لا يكتفي بتجاوز الواقع فقط بل ينقلب على هذا الواقع بتصوير كل ما لايمكن أن يقع فيه، من أحداث عجائبية مثيرة وفسحات زمكانية غريبة، وهذا لكسر أفق التوقع لدى القارئ الذي يتوقع الامتثال لنسق سردي أو واقعي اعتاد عليه و ربما بدا هذا أوضح في هذه التجربة حيث يقول” وإثر هذا … سابحة كانت أو ماشية… تحرك عروس البحر خصرها العاجي وأطرافها البنفسجية راقصة رقصة الضباب، فيتضبب الجو على التو، ويدخل كلانا في غيبوبة صاحية، ثم نرتفع في الهواء لنضع أقدامنا وأرواحنا وأذواقنا بعد زمن غير مدرك في مدينة ليست كالمدن العادية … مدينة أين الصفاء يطهر أدران الصدر المختنق والترانيم تبعث الحياة في النفس المحتضرة، والجلال يرمم العظام ويكسوها لحما وابتسامات والتعابير التي لاتتراصف وتتجاوز كبقية التعابير بل تتعانق وتتخاصم وتتعاشق وتتحارب تحكي ما لم يحدث لكنه حدث وتصف ما لم يوجد لكنه وجد …” (29) فهذا ضرب من الفنتازيا التي تسعى إلى استبطان الواقع وكسر أفق توقع القارئ وخلخلة قناعاته إزاء ماهو واقعي وحقيقي وملموس لتخلق جدلا إشكاليا بين القارئ والنص أو البعد الفنتازي أو الاستيهامي(30) .
فاختراق الكاتب لبنية الحدث الواقعي وتفتيته في مثل هذه التجربة، حيث لم تعد الأحداث خاضعة لسياق منطقي، يجعل من القارئ منتجا للتجربة لا مجرد متلق سلبي استهلاكي، ويجعل من النص أفقا مفتوحا لاحتمالات دلالية ثرية، محرضة للتفكير والمشاركة. ويرى أحد الباحثين أن هذه سمة الفن الحديت” حيث أصبح العمل الفني الواحد يتعدد إدراكه بقدر تعدد متلقيه، ذلك لأنه أصبح أكثر اتصالا بعالم المشاعر الداخلية، وهو عالم أقل خضوعا لقوانين العقل وقواعد المنظور المتفق عليها، بحيث لا يفرض على المتلقي إدراكا محددا، بل يتيح له فرصة تذوق العمل الفني بوسائل تتجاوز مجرد الحواس الخارجية، وتتصل بدورها بالعالم الداخلي للمتلقي ” (31) . وهذا ما دفع اعتدال عثمان إلى القول بأن الحقيقة لدى كتاب الحساسية الجديدة لم تعد نهائية بل نسبية لاتتسم بالثبات بقدر اتسامها بالديناميكية، ولم تعد لهجتهم وثوقية قاطعة بل أصبحت لهجة تتسع لكثير من الاحتمالات (32) .
ولا يخفى أن تجاور الحلمي بالواقعي يعكس واقعا مأزوما ونفوسا محاصرة بالخوف ومسكونة بالقلق ومستهدفة بالشر والقمع : ” آه كلما تحتجب عني الشمس ولو احتجابا مؤقتا يسكنني حزن الشتاء وضياع الصيف …” (33)ويضيف : ” لا تحزن يا صديق الشمس سأخفف من هلعك قليلا، سأطـرب آهـاتك…”(34) ويضيف: “آه يا زمني لقد تشققت أفئدتي وألبابي وذواتي المنشقة عن ذاتي …” (35) وهذا يؤدي بالضرورة إلى زمن غرائبي لا يقيم فيه الكاتب وزنا لدورة الأرض حول الشمس، إنما هو زمن ذهني يتصوره كل من الكاتب والقارئ من خلال رصيدهما الثقافي والمعرفي، ففي هذا المتن الذي بين أيدينا استدعى الكاتب شخصية عروس البحر من زمن مجهول وجعل منها شخصية محركة لروايته، وفي ذلك إشارة تحيل القارئ إلى زمن ماض يختلف عن الزمن الذي استدعى فيه الكاتب نفسه شخصية ديك الجن أو رؤبة بن العجاج، وهنا استخدم تكنيك فني يخلط فيه الكاتب أزمنة مختلفة في زمن واحد، فالماضي يتخلل الحاضر، وكذلك الحاضر يتخلل الماضي وأوضح ما يظهر هذا النوع من الزمن في هذه الرواية حيث يزاوج في هذا المقتطف بين أزمنة متباعدة وما على القارئ إلا القبض على الزمن الذي يقصده الكاتب إذ يقول ” كان الجاحظ من جهابذة الرؤى التحليلية النقدية فارتقى بفكره العظيم إلى مكمن عيوبه فشرحها تشريحا في ما خفي من كتابه الحيوان، ومن عيوبه انتقل إلى عيوب بقية الذوات …فألم بها في كتابه البيان، ولما تسربت بعض أسرارها بين المدونتين اجتمع العرب والفرس والروم والهنود والأحباش والأقباط والبربر بأتباعهم من الشياطين الزرق وخدمهم من الروبوهات غير الإكترونية ومستشاريهم من كهنة أخذ المواعيد بالهاتف النقال، والربيين الذين استباحوا الإفطار الصباحي بدماء الأطفال، والقساوسة الذين ادعوا الزنا بالعذراء، وأئمة السلطة التي أسست ديمقراطية الدبابات في المغرب و المشرق العربيين ” (36)
خاتمة :
بعد هذه الإطلالة على مناح من الرواية الجديدة التي مثلتها جلسات الشمس نخلص إلى القول أن كتابات الحساسية الجديدة تدل على الوعي والإدراك وتحمل استشرافا لنظام قيمي جديد على المستوى الفني والاجتماعي. وتسعى إلى تجاوز وخرق المستمر والسائد، ومن الروايات الجزائرية التي تمثل ذلك رواية جلسات الشمس من خلال عدة معطيات كالعناية بتوظيف التراث السردي في شتى أشكاله ومستوياته، وكذا انزياحية اللغة وبإستراتيجية النص المفتوح الذي يثير القارئ بتضليله وتشكيكه، والاعتماد أيضا على الجانب الغرائبي في التشكيل السردي، إلا أنه لا زال من التحليل ما لم نتعرض له بالدراسة كحضور العنصر النسوي في النص، تمظهرات الشخصية، وعتبات العنوان وغيرها من المحطات التي لم نقف عندها، لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن فن الرواية مع الحساسية الجديدة قد واصل نقد فن المحاكاة، فبدلا من الطريقة الأسطورية أو الرمزية والترتيب وإعطاء التاريخ شكلا و دلالة، ثمة تأكيد وإصرار على أنه لا يوجد نظام ولا شكل ولا دلالة ثابتة في أي مكان، وبالتالي يقاوم السرد القراءة برفضه للاستقرار داخل نمط قار يمكن القبض عليه والتعرف إليه، وهذا لأننا صرنا في إطار ما بعد الحداثة التي تشارك الحداثة في رفض الطرق المفروضة على التجربة الروائية، المحاولة باستمرار تصور أجزاء من عالم يقاوم التسلط من جانب الوعي الإنساني لتفسيره، كما تصور مأزقا إنسانيا عبثيا في كثير من النصوص، وكل ذلك ماهو إلا عملية للانفلات من رقبة النمطي المعتاد، لتفتح بابا يتميز بالمرونة وعدم الخضوع لقواعد خانقة .
مراجع البحث :
1- صبحة أحمد علقم تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية الرواية الدرامية أنموذجا المؤسسة العربية للدراسات و النشر وزارة الثقافة عمان الأردن 2006ص91.
2- المرجع نفسها الصفحة نفسها .
3- عبد المالك أشهبون الحساسية الجديدة في الرواية العربية ص12.
4- صبري حافظ جماليات الحساسية و التغير الثقافي مجلة فصول المجلد السادس ع4 يوليو أغسطس سبتمبر 1986ص70.
5- إدوار الخراط الحساسية الجديدة ، مقالات في الظاهرة القصصية ط1 دار الآداب بيروت 1993 ص02.
6-إدوار الخراط الكتابة عبر النوعية مقالات في ظاهرة القصة القصيدة ط1 دار شرقيات الظاهرة 1994ص28 .
7- بومدين جلالي جلسات الشمس دار الحمراء 2012.ب ط ب ت أما الدكتور جلالي بومدين فهو شاعر وروائي من مواليد مدينة البيض ، يعمل بجامعة سعيدة أستاذ للأدب المقارن له عدة مؤلفات منها : حكاية سعيدة “”ملحمة شعرية/ قراءات ثقافية ، النقد الأدبي المقارن في الوطن العربي ”
8- حفيظة بشارف المقاربة الاجتماعية للرواية الجزائرية عند مخلوف عامر مخطوط ماجستير ص40 .
9- عامر مخلوف توظيف التراث في الرواية الجزائرية وهران 2005 ص17 .
10- جلسات الشمس ص06.
11- المصدر نفسه ص16
12 – الصفحة نفسها .
13- عبد الملك أشبهون الحساسية الجديدة في الرواية العربية ص 174.
14- جلسات الشمس ص11.
15- المصدر نفسه ص11-12.
16– سوزان لوهافر الاعتراف بالقصة القصيرة ترجمة محمد نجيب لفته وزارة الثقافة و الإعلام بغداد1990ص28.
17- إدوار الخراط آليات السرد في القصة القصيرة مجلة فصول مجلد 8ع4 – 1989ص129.
18- جلسات الشمس ص37 .
19- نفسه الصفحة 52
20- نفسه ص56 .
21- نفسه 112.
22- أحمد موسى الخطيب الحساسية الجديدة قراءات في القصة القصيرة ط1-2008 ص 40.
23- تداخل الأجناس الأدبية ص92.
24- إدوار الخراط الحساسية الجديدة ص 340- 342 .
25- إبراهيم خليل بنية النص الروائي منشورات الاختلاف ط1 – 2010 ص 235 .
26- المرجع نفسه الصفحة نفسها .
27- إبراهيم خليل بنية النص الروائي ص 140.
28- جلسات الشمس ص 70.
29- نفسه ص 68 .
30- فاضل ثامر القصة القصيرة في الأردن جدل الواقعي و الغرائبي وزارة الثقافة عمان 1994 ص108 .
31- يوسف الشاروني القصة تطورا أو تمردا الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 1995 ص 255.
32- ربيع الصبروت قضايا القصة الحديثة الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1993 ص 102.
33- جلسات الشمس ص 68
34 – نفسه الصفحة نفسها
35 – نفسه ص 107 .
36- المصدر نفسه ص 62
إعداد الأستاذة حفيظة بشارف
الحساسيــــة الجديــــدة في الروايـــة الجزائريـــة
“” جلسات الشمس “” تأليف بومدين جلّالي أنموذجا
إعدا د : حفيظة بشارف
جامعة سعيدة
– ملخص:
ظهر في الأدب العربي – خاصة في الرواية – مصطلح الحساسية الجديدة في مقابل الحساسية التقليدية، أملتها ظروف و معطيات إجتماعية و سياسية وأخرى ثقافية، وأول من عمل على هذا المفهوم إدوارد الخراط تنظيما وإبداعا، فجعل من كتاباته قلقا دائما يسعى من ورائها الى عملية التجاوز والخرق لكل مستمر و مألوف، وقد امتد هذا القلق والتجاوز إلى النص الإبداعي الجزائري الذي تمكن بفضل الحساسية الجديدة أن يلامس التخوم بين الأنواع الأدبية المعروفة من قصص و شعر و رواية و تأملات و نجوى. و بدا هذا جليا من خلال جلسات الشمس لصاحبها بومدين جلالي، وتقوم دراسة مثل هذه الأنواع الأدبية على أطر توظيف التراث السردي، خصوصية الزمان و المكان، شاعرية اللغة و تموج الخيال، إلا أننا لم نتعرض في هذا النص لكل مظاهر الحساسية الجديدة كما أن هذه الرواية لا تمثل النموذج الكامل و الأوحد لكتاب تيار الوعي، بل هناك روايات أخرى في الأدب الجزائري.
الكلمات المفتاحية:
رواية، حساسية جديدة، تيار الوعي، أدب جزائري، التراث السردي ، العجائبية، الاشتغال على اللغة….
Abstrect :
the term of the new sensitibilityemerged in the arabicliteratureagainst the traditionalsensibilityspecifically in the novel .the termwassustained by social,political and cultural factors.the first whoused the concept wasEDWARD AL KHARATtheoritically and practically.thereforehehaddemonstrated a greatanxietytroughhis books’ linesseeking to overcome and break every constant as well as usual.hencethis extension wasinvolved on level of the algerian(artistic, imaginative) textwhichcouldrealize due to the new sensibility to coordinatebetween the differentliterary genres such as stories,poetrie,novels,contemplation and the najwa.it appearedcrystalclear in thenovel “جلسات الشمس” by DJELLALI BOUMEDIENE the study of theseliterary genres isbased on the frame of narration particularly place and time,languagesubtlety and the fictiongenre.
However zedidnt tackle and refer to all forms of the new sensibility besides this novel doesn’t illustrate the perfect prototype of the current of awarnessbook.but there are several novels in the Algerian literature.
ماهية الحساسية الجديدة:
بعد مضي قرن من الزمان علي ظهور الرواية بوصفها جنسا غربيا أضحت تمثل منظومة الثقافة العربية الأدبية المعاصرة إذ هي المعبّر الحقيقي عن الواقع العام والخاص كما لها دور فكري وروحي و جمالي في التعبير عن قضايا الأمة ورؤاها، ومنها التعبير عن القلق السائد المنهزم بعد حرب 1967″ إذ لم تعد الرواية التقليدية قادرة على التعبير عن هذا الواقع المحبط المقموع لذلك كان لابد من تجاوزها إلى الرواية الجديدة التي تنهل من أعمال كافكا 1924 وبروست 1922 ” (1).
وفي الستينيات والسبعينيات نبغ البحث عن طريقة أخرى للنظر إلى الواقع بدرجة عالية من الإلحاح واليقين فالتصورات التي كانت تروج من لدن الأنظمة غالبا ما تصطدم بما كان يلمسه الروائي والقاص مع الناس في حياتهم اليومية ، وبدا الواقع الاجتماعي أرض معركة يمثل فيها الناس الجانب المتفرج فقط.
ومن ثمة أصبحت الأجزاء الصغيرة المكتسبة في يد البيروقراطيين والمقاولين كما تعكس ذلك (نجمة أغسطس) لصنع الله إبراهيم في ذروة بناء السد العالي المصورة للقمع كالأخطبوط يقبض على كل شيء، كان من الطبيعي أن يطرح الروائي والقاص أسئلته للأنظمة الفكرية والسياسية السائدة . ومع ذلك لم يصل الروائيون إلى فهم ذاتي بشكله الكامل ، فالرؤية التي انكشفت تعلقت بخصوصية الآداب و علاقتها بالسياسية والفكر الاجتماعي على مستوى الشكل و المضمون لتخلص في النهاية إلى طابع ذاتي وجداني، فأدى ذلك إلى إحداث ثقوب وفجوات وفراغات في النموذج التقليدي كان لابد من ملئها بشيء آخر، ورغم ذلك لم تحدث قطيعة جازمة بين الحساسيتين إلا في حالات قليلة “ومن أبرز مميزات هذه الرواية الجديدة هو تحررها من أسر الشكل التقليدي الذي يلتزم بالحبكة التي تتعقد بالتدريج ثم تنحل بحيث توهمنا بصدقها واتفاقها مع طبائع الأمور في الحياة” (2)
كما اعتمدت الحساسية التقليدية على مبدأ محاكاة الواقع، أ كان هذا الواقع حقيقيا أم من صنع خيال الكاتب، وقد ازدهرت مع انتشار تيار الواقعية في الرواية العربية “كما برز لهذه الحساسية أفقان رئيسان مهيمنان على أفق انتظار القارئ في تلك المرحلة : أفق انتظار رومانسي مثلته روايات التسلية والترفيه وروايات جرجي زيدان التاريخية وزينب لحسنين هيكل والأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، وأفق انتظار واقعي مثلته روايات نجيب محفوظ الواقعية على وجه الخصوص” (3) .
وبتعدد الروائيين وتباين وجهات النظر تعددت الأشكال الروائية فبرزت الرواية ذات الأصوات المتعددة (البوليفونية) ورواية تيار الوعي والرواية الدرامية … ونستطيع أن نرى حضورا قويا لهذه الأشكال في نتاجنا الأدبي العربي خاصة في أعمال صنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان اللذين تركا بصمات واضحة في الرواية الجديدة التي مثلت نقلة في الكتابة الإبداعية أطلق عليها إدوار الخراط مصطلح “الحساسية الجديدة”.
وللإحاطة أكثر بمفهوم الحساسية الجديدة نورد رأي صبري حافظ في ذلك إذ يقول ” إن الحساسية ليست مستقاة من كلمة (sensitivity) التي تشير إلى الجوانب الحسية أو إلى كل ما له علاقة بالمشاعر الرقيقة أو الانفعالات المتقلبة أو بعبارة أخرى كل ما يتصل بالجوانب المادية أو الاستعارية لحاسة اللمس ولكنها مستمدة من كلمة (sensibility) التي تدل فيها الحساسية على الوعي والإدراك لاعلى الانفعالات المتقلبة سواء أكان هذا الإدراك عن طريق العقل أم الحس أو عن طريقهما معا، والتي تنطوي لربطها بين الإحساس (sense) والقدرة (ability) على المقدرة الحدسية المتصلة لكل من الوعي والإدراك في مجال المعرفة”(4).
و الحساسية الجديدة تحمل استشرافا لنظام قيمي جديد على المستوى الفني والثقافي والاجتماعي، وتحوي تيارات عديدة منها : تيار التشيّئ أو التغريب، التيار الداخلي، تيار استيحاء التراث العربي، تيار الواقعية السحرية وتيار الواقعية الجديدة، ويعترف الخراط بأن هذه التصنيفات هي مجرد تأمل .(5)
وعلى هذا الأساس؛ فإن الحساسية الجديدة تمثل البحث القلق عن الحقيقة . فهي قلق دائب وعملية تجاوز وخرق مستمر للسائد والمعروف ، ومن العوامل التي ساهمت في ظهور هذا النوع من الكتابة الإبداعية هو الطبيعة الحوارية والاستيعابية التي مكنتها من مد جسور التواصل مع مختلف الأنواع والأجناس الأدبية “إنها الكتابة التي تقع على التخوم بين الأنواع الأدبية المعروفة من قصص وشعر ورواية وتأملات ونجوى … وتعبر الحدود وتسقطها بين الأجناس المألوفة والمطروقة ، تتخطاها وتشتمل عليها وتستحدث لنفسها جدة تتجاوز مأثورات التاريخ الأدبي وتتحدى عمقها الآن”(6)
تجليات الحساسية الجديدة في رواية جلسات الشمس :
أصدر بومدين جلالي عام 2012 روايته جلسات الشمس(7)التي تمثل نقلة نوعية في تجربته الإبداعية التي تضاف إلى التجربة الروائية في الجزائر، حيث أبان فيها عن وعي بالطروحات الفكرية والجمالية الجديدة للرواية عموما مثل الحساسية الجديدة والنص المفتوح… لأنه – كما سنرى لاحقا – قدم تجربة فنية جديدة على مستوى الموقف والأداة، وليس معنى تناولنا لهذه الرواية في إطار الحساسية الجديدة أنها تعد عينة نموذجية خالصة لهذا الاتجاه ، فلا وجود لمثل نقي خالص لتيار ما إنما الملاحظ أنه غلب على هذا النص تقنيات تيار الحساسية الجديدة الذي جاء تلبية لمطالب مرحلة انتفضت جماليا وروحيا وفكريا.
توظيف التراث السردي :
يعتبر التراث ذلك الخزان الفكري و الروحي و المادي الذي تبلور عند أمة من الأمم بفعل التراكمات الاجتماعية والثقافية،وهو اليوم موظف فنيا، ولعل من أبرز الأسباب التي دعت إلى توظيفه الفني الحالي هو تشكيل نصوص تتجاوز الحداثة الغربية و إرساء معالم كتابة تشكل الهوية الثقافية الأصيلة ، كما كان للبواعث الفنية أثرها والمتمثلة في توظيف الرواية الغربية للتراث المحلي وبذلك نالت الشهرة والعالمية . وتمثل “مائة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز نموذجا لذلك ، إضافة إلى الحركة الثقافية التي اهتمت بمسألة التراث و الرجوع إلى النصوص القديمة، وكذا عامل المقاومة الاستعمارية ومحاولة التميز والاستقلالية. كل تلك الأسباب أدت إلى الالتفاف إلى التراث وتوظيفه في النص السردي .
وكانت البداية العربية في هذا المضمار مع إبراهيم اليازجي (مجمع البحرين) و)ليالي سطيح( لحافظ إبراهيم و)حديث عيسى بن هشام (لمحمد المويلحي ، وأحمد فارس الشدياق (الساق على الساق ) وسليم البستاني (الهيام في جنان الشام ) … وبدأ توظيف التراث في الرواية بشكل أوضح في النصف الأول من القرن العشرين على يد طه حسين في القصرالمسحو، وليالي ألف ليلة وليلة لنجيب محفوظ و بدر زمانه لمبارك ربيع، التراث الديني مع محمود المسعدي ( حدث أبو هريرة قال )(8).
وهنا سقطت الحواجز بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، فأضحت المزاوجة بين المادة التراثية والمادة الإبداعية طريقا للوصول إلى عمل تحديثي، إلا أن توظيف التراث في الأدب الجزائري غدا سلاحا ضد الثقافة الدخيلة، يقول مخلوف عامر ” في هذه الظروف لعب الأدب الشعبي عامة والقصص منه خاصة دورا تعبويا وتحريضيا مقتديا برموز مستوحاة من التاريخ العربي الإسلامي موظفا القصص القديم بإسقاطات واقعية يمليها الوضع الذي كان يعيشه الجزائريون “(9) . فكيف تجلى ذلك في جلسات الشمس ؟
تضم هذه الرواية خمسة وعشرين بابا أومشهدا، تتراوح بين الطول والقصر، تحكي مغامرات ومقابلات وتطرح أسئلة وجودية مصيرية، بطلتها الشمس والراوي المتضمن في الحكاية مما يجعله طرفا في اللعبة السردية التي توحي بنوع من الواقعية الممتزجة بالعجائبية في تواتر مستمر للحكايات يذكرنا بفكرة التوالد الحكائي الذي تتميز به حكايات ألف ليلة وليلة، ففي قوله :” وفي السنة التاسعة بعد المائة الثالثة سكتت الشمس عن الكلام المباح و غير المباح… ” (10) مقطع يوحي بالتماثل مع شهرزاد فكأن الشمس شهرزاد تحكي والراوي شهريار المتتبع في صمت، المنبهر بها و بما ترويه وتذكره من أسماء كدون كيشوت وشكسبير وقابيل وهابيل وابن المقفع وهوميروس وغيرهم … في قالب متنوع من الدلالات العالمية دينية وفنية وأدبية، ولعل هذا التداخل في توظيف المعاني والرموز ليتقاطع الواقعي مع الأسطوري والغرائبي ليتماهى بشكل كبير مع حكايات ألف ليلة و ليلة . إلا أننا نلاحظ ذكر الأماكن والتواريخ بشكل واقعي ممزوج بالخرافة مما يعكس ثقافة الراوي التراثية الواسعة و إلمامه بالتاريخ . ويعد توسله لهذه التقنية محاولة للخروج بالكتابة الروائية عن شكلها النمطي المألوف، وفي ذات الوقت يضعنا أمام تساؤل : لم يستعين الروائي بمقاطع تكاد تكون تسجيلية في عمل ينبني في الأساس على إطلاق العنان للخيال؟
لعل الجواب يكون في ثنايا المتن الروائي إذ يسعى الراوي إلى توثيق وتسجيل بعض المآسي التي شهدها التاريخ و لا يمكن امحاؤها كقوله :”ومرة نسبهم إلى أقوام ينحدرون من التافنة أين جرت المعاهدة التي لم يلتزم بها إلا المغلوبون ….”(11) وقوله أيضا : ” ….. ومرة قال بأنهم من مثقفي الدرجة العاشرة …..”(12)إشارة منه في المقطع الأول إلى تاريخ الجزائر والمعاهدة التي كانت بين الأمير عبد القادر والجيش الفرنسي، وفي المقطع الثاني إشارة إلى الواقع الثقافي المتردي الذي نعيشه اليوم أين أصبح المثقفون أنصاف متعلمين لا يقدرون سوى على التكرار و التقليد دونما أي إبداع أو تنوير للمجتمعات .
ومن خلال ما سبق نرى أن هذه الرواية عبارة عن خلاصة لما لا يحصى من النصوص وتعالقها مع نصوص أخرى مما يقوي علاقة الاتصال والتجاوب بين الكاتب والقارئ الواعي الذي يستطيع تحديد حقل الموضوع الذي تعالجه الكتابة مما يجعل رغبة الكشف والتجوال في أروقة المشاهد مشتركة بين الكاتب والقارئ . وبهذا الصنيع الفني المتميز يوقعنا الكاتب في ورطة ابداعية ذات طابع إشكالي، فالمنجز النصي عادة ما يحيل على مرجعية جنسية تجد تحققها في الرواية ” إلا أن هناك العديد من المؤشرات الخطابية التي توحي بتعدد الأنساق التعبيرية المحاثية والموزعة في الفضاء النصي، والمتراوحة بين فن كتابة الرسائل والمذكرات والأقصوصة”(13).
يجب الإقرار أن هذا الفعل الروائي لم يعد مجرد خطابات عادية بل هي كتابات مطعمة بالأدب، يتحاور فيها العالمان الداخلي و الخارجي للكاتب لتضفي تأملات خلقت انزياحات جمالية كالانقطاع والنهاية المفتوحة كما يتجلى ذلك في المشهد الثالث إذ يقول ” و لما بدأت زخات المطر تتكاثر قطعت الشمس استحمامها وصعدت واجمة إلى كبد السماء … فكتمت أنفاسي كي لا أزعجها ونمت واقفا ” ينتهي هذا المشهد بهذا المقطع المفتوح أو المتوقف إلى حين. فالنوم هنا لم يكن أزليا و كأن بالروائي يترك للقارئ فرصة للراحة والتأمل وإعادة النظر فيما قرأه سابقا كي يستطيع الاستمرار فيما سيـأتي فكما يكون النوم فرصة لراحة الجسم فهو في هذا المشهد هنيهة للتفكير الواعي لانطلاقة جديدة .
وبهذا التناول الجديد و المغاير للتراث السردي عبر مساحات نصية متقطعة من خلال إعمال آليات التقديم والتأخير أو القطع والتضمين حيث غدت الرواية شتاتا خطابيا متفرقا متحققا على طول الفصول الخمس والعشرين بدون تتابع سببي أو زمني ظاهر ومسترسل، فقد يذكر السندباد من العصر القديم ليحيل مباشرة إلى ستالين الرمز السياسي الثوري من العصر الحديث، أو يذكر حيزيا من الموروث الجزائري ليقابلها بديانا من الموروث الإنجليزي كما يقول : ” لما ولدت حيزيا كانت تعشق سعيدا… ولما ماتت كانت تعشق سعيدا … كانت ديانا تعشق أميرها فيليب …..”(15)
وما على القارئ إلا إيجاد الخيط الرفيع الجامع بين هذه المقاطع المشتتة بين الأنا والآخر، في جدلية تقوم على المفارقة والبحث المستفيض الذي لبسته الرواية الجديدة وأصبح الكتّاب لايرضون لأنفسهم بالقارئ العادي البسيط الساذج .
الاشتغال على اللغة :
تمتزج لغة ( جلسات الشمس ) ببعض التراث فيفوح منها عطر أسلوب المقامات أحيانا وسخرية الجاحظ وحكايات ألف ليلة وليلة أحيانا أخرى، إذ يبدو ذلك في العديد من المقاطع، ومثل هذه اللغة التي يتوسل بها لتصوير العالم الداخلي المتدفق، المتراقص بظلاله المتعتمة التي تضيئها الشمس بين الفينة والأخرى، تجعل رواية الحساسية الجديدة قريبة من الشعر في تصويره للوحات فنية خيالية بلغة شاعرية فذة يتجاوز فيها كتاب هذا الإتجاه مقولة الجنس الأدبي النقي الخالص عبر الإنفتاح على بقية الأجناس الأدبية، ونجد الكاتب على امتداد هذه التجربة مشغولا باللغة وتكثيفها والتسامي بها وشحنها ” بدرجة عالية من الإيحائية والشدة العاطفية المنجزة بأقل الوسائل”(16)
و يبلغ هذا الاتجاه مداه في بعض المقاطع التي استوحى فيها التراث الصوفي، و لا نعني بالتصوف كما يقول الخرّاط ” النسك أو الزهد أو الدروشة أو التجرد من متاع الحياة، بل نعني بها نوعا نجد مصداقه لدى أعظم الصوفيين أو غيرهم من النشوة والعشق ونشدان الإلهي واستحالة الحسية إلى تسام خاص دون أن تفقد أيا من لذاذاتها أو عذاباتها ” (17).
ففي المقطع التاسع يتكئ كثيرا على التراث الصوفي ومعجمه التعبيري والتصويري مما يسمو بالألفاظ لتتجاوز دلالاتها الإشارية أو المعجمية كقوله : “وحين وقفنا هنيهة بحي الموشحات بمدينة ولّادة قالت عروس البحر بعد أن عزفت مقاما شجيا و غنت أغصانا مقطعة من نص لوشّاح مجهول : هذه الترانيم جاءت من لحظة عشق كانت الشمس شاهدها الوحيد …نورانية ساقي بلقيس الأولى كانت من عشق الشمس لها ….النورانية ذاتها ورثتها بلقيس الثانية و أهدتها للقصائد …” (18)ويضيف ” … أغمضت عيني قليلا لأستنشق ذلك البخور العجيب بحب وعمق، وما إن فتحتهما حتى رأيت ذلك المعشر الصافي من الشفافين والشفافات … أثوابهم ناصعة البياض ووجوههم شموس وهم في ذهاب وإياب وجلوس ووقوف وألسنة بعضهم ترتل وأخرى تنشد وثالثة تدعو ورابعة تذكر وأيديهم تعرض علينا اللبن مرة وباقات الزهر مرة والشاي مرة وعطر الورد مرة …” (19).
ففي هذا النموذج وغيره الكثير يتجاوز الكاتب الحسي والمعنوي، الغيبي والحقيقي وهذا ما أشاع لغة التضاد والمفارقة في جل ثنايا النص . وينبغي أن نشير أن هذا التضاد لم يأت مجرد حلية تلبسها الرواية بل تقوم التجربة الفنية كلها على تلك الثنائية التي نهضت بدور مهم في تجسيد رؤية الكاتب وفي تصوير عالم الشخصية المستلبة المقهورة إذ يقول: ” قالوا : في السياق ذاته اجتمع الإنس بالجان والكاثوليك بالبروتستانت، والسنة بالشيعة، والهوتوبالتوستي وبكر بتغلب وأفواج الدفاع الذاتي بالجماعات المسلحة، والأفريكنار بالأزانيين” (20).
وتظل هذه الثنائية متسيدة للتجربة حتى تصل البطلة إلى قرار في أن السعادة هي في ترك الصراع و عودة زمن الأنبياء والشعراء والشهداء، عودة العشاق والصفاء والطهر والنقاء . ويستوقفنا في لغة النص شيوع تلك التراكمية التي يختلف توظيفها في الانتقال من مدينة إلى أخرى ففي المشهد الثالث و العشرين يقول: ” ثم راحت تتجول بين أحيائها طيلة زمن يضاهي الزمن الذي قضيناه في المدينة السالفة بدءا بحي عبد الحميد بن هدوقة ومرورا بأحياء رشيد بوجدرة و جيلالي خلاص و عبد المالك مرتاض و بشير مفتي والزاوي أمين وأحلام مستغانمي وانتهاءا عند أحياء الأعرج واسيني وفضيلة الفاروق والحبيب السايح وعيسى لحيلح…”(21) وهنا يستحيل التراكم إلى حدث يسجل رواد الرواية الجزائرية وكأني بالكاتب يشيرإلى أن خصوبة التجربة الروائية واكتمالها لا يتم إلا بالتتلمذ على يد هؤلاء، إذ جعل لكل اسم حي بأكمله يجب على دارس الرواية أن يمر به. وقد استخدم كتاب الحساسية الجديدة هذه التقنية المتمثلة في دمج اللغة التسجيلية لغة التقرير المباشر كما ذكرنا داخل السرد، وهي تقنية تستدعي الواقع استدعاء يفي بمتطلبات العمل الفني، ويحاول الكاتب هنا أن يدعم حقيقة مشاهداته أو يثبت صحة معلوماته من خلال التركيز على أماكن جغرافية وعلى أشخاص التقى بهم أو استمد ذكرهم من التاريخ . وعلى هذا النحو بدت اللغة مغامرة مستمرة ” يحاول تطويعها لتصبح أكثر ملائمة للتعبير عن زوال كل الحواجز بين الظاهر والباطن والحلم والصحو والواقع والخيال يعد هذا النوع من الانصهار أو الانفتاح بين هذه المستويات المختلفة، هو الأقدر والأقرب إلى صدق فني من نوع أعلى مستوى مما حققه القدامى ” (22) .
فقد لاحظنا في هذه التجربة الميل إلى التكثيف بشكل رمزي شاعري سواء على مستوى بنية حدث يصعب إيجاد مسيرة واضحة له، أم في مجال رسم شخصية تتأجج بين الواقع والرمز كما كانت الشمس وعروس البح، وبين الحقيقة والأسطورة عبر لغة اختلط نسيجها من عناصر تراث الأمة الديني والفني والأدبي والسياسي، بل الفصيح والشعبي أيضا، من هذا أضحت هذه البنية الفنية أسطورة متجددة العطاء، ثرية الدلالة خاصة إذا التفتنا إلى الحوار الذي اختفت فيه كل المعالم بين الواقع والفن الذي يصوره .
3- خلخلة النموذج السرّدي المطرّد ( النص المفتوح ):
لقد تجاوز كتاب الحساسية الجديدة ذلك التنسيق المعهود في العناصر المختلفة للشكل الروائي، فلم يعد كتابها ملتزمون باختيار السرد المطرد، والاختيار الموزون للحبكة التي تتعقد بالتدريج ثم تنحل حسب توظيف العناصر المختلفة من حكي ووصف وحوار، فالحبكة أصبحت مفككة مبعثرة، والأحداث فقدت لحمتها وتسلسلها وسببيتها تجسيدا لرؤية الكاتب للحياة وما فيها من غموض وتعقيد ” فلم يعد القارئ ينتظر حلا بل أصبح أمام تحولات يحاول تقديم تفسيرات ومبررات لها، فغدت الرواية الجديدة مشروعا أمام القارئ يستنطقه ويشارك فيه، ولا شك في أن أساليب السرد التقليدي لم تعد مقبولة لأن الواقع أصبح واقعا قلقا ومقلقا ويحمل تأويلات متعددة تشدد الرواية الجديدة عليها “(23) .
ويطلق الكاتب هنا روايته عن وعي بتقنيات الكتابة الحداثية التي تهدف إلى إبداع نص مفتوح يستثير القارئ من خلال تضليله وتشكيكه بما يحدث ولعل هذا وراء ما شاع في هذه التجربة من أحلام وهواجس داخلية وتأملات فلسفية أسهمت في تداعي الحبكة وعدم القبض عليها كما أسهمت في اختفاء الحدث بالمفهوم التقليدي “فلم يعد من المهم إطلاقا أن تكون هناك عقدة ثم حبكة ثم لحظة تنوير إذ يمكن أن يعتمد النص على لحظة الأزمة فقط وهذا يؤدي إلى أنه لم تعد الرسالات جاهزة، لم تعد المعرفة قائمة مسبقة … بل أصبحت الخبرة الفنية سعيا متصلا نحو المعرفة وهو ما يؤدي إلى النص المفتوح أو المتعدد الدلالات الذي هو أحد أهم سمات التغير الآن ” (24).
و عليه فإن الحبكة عند كتاب تيار الوعي * تبدو عندهم غامضة إن لم تكن خافية، فلن يقدر المتلقي البسيط الوقوف عليها وإدراكها بوضوح كما تجلى ذلك في روايتنا المعنية بالدراسة حيث لا تجري الوقائع بالترتيب أبدا لاعتماد الكاتب أسلوب تيار الوعي وتقنية المونولوج أعتمادا يظهر الكثير من التداخل والتقاطع بين الحوادث مما يضطر القارئ المعني بالحبكة لإعادة ترتيبها وبنائها في ذهنه . كما يحتاج القارئ في هذه الرواية بالتحديد إلى أمرين هما : الذكاء والذاكرة .
أما الذكاء فلكي يستطيع استيعاب الأحداث الكثيرة واكتناه العلاقات المتشابكة التي تربط بين حدث وآخر لاسيما في الروايات التي تعتمد على المفارقات الزمنية والمونولوج وتيار الوعي” وعلى القارئ في مثل هذه الروايات أن يشير إلى الحوادث ذات العلاقة بالعقدة على الهامش ليذكر نفسه بها من حين لآخر إن كان يريد القراءة التحليلية للنص “(25)
أما الذاكرة فهي الأداة الوحيدة التي تساعدنا على الربط بين الحوادث التي تروى من بداية النص إلى آخره، إذ أن نسيان بعض الحوادث يؤدي بانفراط عقد الرواية واقتفاء العلائق والعلل مما يؤدي إلى فقدان المتعة بالقراءة ” ولا ريب في أن الكاتب الجيد يبث في نسيج الرواية الكثير من الإشارات التي تساعد المتلقي على استخدام تقنية الحفظ والاسترجاع وفي ذلك ما فيه من دلائل الحرفية والحذق في الرواية ” (26)
ففي هذه الرواية على القارئ أن يتذكر دائما أن القائد الوحيد للراوي والقارئ هنا هو الشمس التي تمثل في إحدى وجوهها الراوي المتضمن في الحكاية، والتي تؤدي به على مدائن الرواة باحثة عن السعادة في قوله ليتك تدرين ما هي السعادة فمن مدنية الجمال مدينة بيكاسو إلى مدنية الشاعر الفصيح مفدي زكرياء إلى ابن خلدون ومالك بن نبي إلى مدينة محمد بلخير، إلى مدينة المحاكمين أمثال عمر المختار، العربي بن مهيدي، جمال الدين الأفغاني إلى مدينة البشير الإبراهيمي وما تتضمنه من مدن الطاهر وطار، رشيد بوجدرة، أحلام مستغانمي إلى قوله : “أنا سعيد سعيد جدا، قالت وما السعادة عندك؟”
إذ هي رحلة بحث عن السعادة وعن الهجرة الطويلة بين تلك المدن في قوله : ” الرواة الآن منهمكون في إحياء ذكرى عودتي من المهجر ” ليخلص في آخر المطاف إلى التفاؤل بغد جديد في قوله ص 117 سيعود الأنبياء وسيعود الغرباء ويعود الشهداء … كما ظهرت تباشير عصر سيادة عشاق الشمس ” .
ومن هنا نرى أن من يريد القراءة الواعية المنفتحة عليه أن يتحلى بسلاح الوعي واليقظة للقبض على أغوار النص والربط بين أجزائه للوصول إلى لحمته وتفكيك شفراته والإلمام بمقاصده الفنية والفكرية . وترتبط الحبكة بالفضاء أو المكان ارتباكا وثيق الصلة لذلك سنعرج على خصوصية المكان في هذا النص .
في الكتابة الجديدة تتجلى أنماط من الأمكنة الافتراضية التي لا وجود لها في الواقع الملموس، فمدنية عشاق الشمس مثلا في إحدى المدن التي تدور فيها أحداث الرواية وهي مدينة لا تستطيع تحديد موقعها على الخارطة كونها ببساطة وليدة الخيال المحض، يرمز به المؤلف لمكان مرجعي لكنه لم يرد تحديده ليكون الدال له أكثر من المدلول، والدلالة غنية غير محددة .
فلا ريب في أن للمكان أثرا في التعبير عن هوية الكاتب الروائي والشخوص، فالحياة الإنسانية خلاصة الظروف والبيئة المحيطة والتاريخ والعادات والتقاليد والأعراف، لذلك نجد الكثير من الكتاب يحاولون من خلال المكان التعبير عن تمسكهم بهويتهم، فمدينة البشير الإبراهيمي أو مدينة الطاهر وطار أو مدينة ولادة أومدينة سيدي أحمد التيجاني تمثل للكاتب هوية عربية إسلامية ثقافية تاريخية يحاول من خلالها تحدي ما فعله الغرب والزمن من محاولة نسف ذاكرة المكان وتغيير هوية الفضاء العربي الإسلامي، إلا أن الكاتب يضفي عليها هالة من العجائبية تقوم على تشابك الكائنات بعضها ببعض من جماد ونبات وحيوان، فجميعها تتوحد في دورة الحياة، ولهذا فإن لوحات هذه الرواية للمكان ينبعث منها عبق الأسطورة ممزوجا بالواقعي والصوفي بالحكايات الغريبة والفنتازيا، ومما ساعده على ذلك اتخاذه لرمزية الشمس وعروس البحر التي لن تزول من واقع القارئ وخياله فهي ميدان لرؤاه السردية كما أن للفكر الأسطوري والعجائبي تأثيره العميق في نمط الحياة اليومية ” والمكان لا يقتصر دوره على تقديم الاستراحة للسارد أو الوقفة الوصفية التي تعدل بنا من الشعور بالزمن المتدحرج نحو الخاتمة إلى الشعور بالمكان، ولا هو شرائح جمالية، إنما هو فضلاعن ذلك كله علامة تتضمن مدلولا إيديولوجيا”(27) وهذا ما يتراءى لنا من خلال مدينة مفدي زكريا التي يقول فيها:”هي من المدن القلائل التي تجتمع بل تتعايش وتمتزج فيها كل المضادات … فجمالها تهدأ به الأغوال وتتجمل به البطلات والأبطال ” (28)كاشفا بذلك عن إيديولوجيته الثورية المقاومة للاستعمار .
فضاء العجائبية في النص :
لقد وصلت الرواية الجزائرية المعاصرة بعد مراحل كثيرة ومكابدات طويلة إلى تبني بنية سردية جديدة تنقلب على الأطر الثابتة وتكسر منطقها السكوني الرتيب لتتجسد بشكل حضور كتابي مختلف متعدد الإيحاءات لانهائي القراءات، ومن المظاهر اللافتة والمضامين المستبدة بأغلب فضاءات الرواية المعاصرة تأتي ظاهرة العجائبية لتشغل الحيز الأكبر من تلك الفضاءات، حيث لم يعد الروائي المعاصر مكتفيا بنقل حرفي لمرجعيات الواقع الخارجي، وهذا ما وقفنا عليه في هذه الرواية حيث لا وصف دقيق لشخوص هم نسخة مطابقة لشخوص الواقع، ولا لأمكنة وأزمنة هي نفسها أزمنة الحياة و أمكنتها بل غدا هذا الروائي مجنح الخيال جامحه، لا يكتفي بتجاوز الواقع فقط بل ينقلب على هذا الواقع بتصوير كل ما لايمكن أن يقع فيه، من أحداث عجائبية مثيرة وفسحات زمكانية غريبة، وهذا لكسر أفق التوقع لدى القارئ الذي يتوقع الامتثال لنسق سردي أو واقعي اعتاد عليه و ربما بدا هذا أوضح في هذه التجربة حيث يقول” وإثر هذا … سابحة كانت أو ماشية… تحرك عروس البحر خصرها العاجي وأطرافها البنفسجية راقصة رقصة الضباب، فيتضبب الجو على التو، ويدخل كلانا في غيبوبة صاحية، ثم نرتفع في الهواء لنضع أقدامنا وأرواحنا وأذواقنا بعد زمن غير مدرك في مدينة ليست كالمدن العادية … مدينة أين الصفاء يطهر أدران الصدر المختنق والترانيم تبعث الحياة في النفس المحتضرة، والجلال يرمم العظام ويكسوها لحما وابتسامات والتعابير التي لاتتراصف وتتجاوز كبقية التعابير بل تتعانق وتتخاصم وتتعاشق وتتحارب تحكي ما لم يحدث لكنه حدث وتصف ما لم يوجد لكنه وجد …” (29) فهذا ضرب من الفنتازيا التي تسعى إلى استبطان الواقع وكسر أفق توقع القارئ وخلخلة قناعاته إزاء ماهو واقعي وحقيقي وملموس لتخلق جدلا إشكاليا بين القارئ والنص أو البعد الفنتازي أو الاستيهامي(30) .
فاختراق الكاتب لبنية الحدث الواقعي وتفتيته في مثل هذه التجربة، حيث لم تعد الأحداث خاضعة لسياق منطقي، يجعل من القارئ منتجا للتجربة لا مجرد متلق سلبي استهلاكي، ويجعل من النص أفقا مفتوحا لاحتمالات دلالية ثرية، محرضة للتفكير والمشاركة. ويرى أحد الباحثين أن هذه سمة الفن الحديت” حيث أصبح العمل الفني الواحد يتعدد إدراكه بقدر تعدد متلقيه، ذلك لأنه أصبح أكثر اتصالا بعالم المشاعر الداخلية، وهو عالم أقل خضوعا لقوانين العقل وقواعد المنظور المتفق عليها، بحيث لا يفرض على المتلقي إدراكا محددا، بل يتيح له فرصة تذوق العمل الفني بوسائل تتجاوز مجرد الحواس الخارجية، وتتصل بدورها بالعالم الداخلي للمتلقي ” (31) . وهذا ما دفع اعتدال عثمان إلى القول بأن الحقيقة لدى كتاب الحساسية الجديدة لم تعد نهائية بل نسبية لاتتسم بالثبات بقدر اتسامها بالديناميكية، ولم تعد لهجتهم وثوقية قاطعة بل أصبحت لهجة تتسع لكثير من الاحتمالات (32) .
ولا يخفى أن تجاور الحلمي بالواقعي يعكس واقعا مأزوما ونفوسا محاصرة بالخوف ومسكونة بالقلق ومستهدفة بالشر والقمع : ” آه كلما تحتجب عني الشمس ولو احتجابا مؤقتا يسكنني حزن الشتاء وضياع الصيف …” (33)ويضيف : ” لا تحزن يا صديق الشمس سأخفف من هلعك قليلا، سأطـرب آهـاتك…”(34) ويضيف: “آه يا زمني لقد تشققت أفئدتي وألبابي وذواتي المنشقة عن ذاتي …” (35) وهذا يؤدي بالضرورة إلى زمن غرائبي لا يقيم فيه الكاتب وزنا لدورة الأرض حول الشمس، إنما هو زمن ذهني يتصوره كل من الكاتب والقارئ من خلال رصيدهما الثقافي والمعرفي، ففي هذا المتن الذي بين أيدينا استدعى الكاتب شخصية عروس البحر من زمن مجهول وجعل منها شخصية محركة لروايته، وفي ذلك إشارة تحيل القارئ إلى زمن ماض يختلف عن الزمن الذي استدعى فيه الكاتب نفسه شخصية ديك الجن أو رؤبة بن العجاج، وهنا استخدم تكنيك فني يخلط فيه الكاتب أزمنة مختلفة في زمن واحد، فالماضي يتخلل الحاضر، وكذلك الحاضر يتخلل الماضي وأوضح ما يظهر هذا النوع من الزمن في هذه الرواية حيث يزاوج في هذا المقتطف بين أزمنة متباعدة وما على القارئ إلا القبض على الزمن الذي يقصده الكاتب إذ يقول ” كان الجاحظ من جهابذة الرؤى التحليلية النقدية فارتقى بفكره العظيم إلى مكمن عيوبه فشرحها تشريحا في ما خفي من كتابه الحيوان، ومن عيوبه انتقل إلى عيوب بقية الذوات …فألم بها في كتابه البيان، ولما تسربت بعض أسرارها بين المدونتين اجتمع العرب والفرس والروم والهنود والأحباش والأقباط والبربر بأتباعهم من الشياطين الزرق وخدمهم من الروبوهات غير الإكترونية ومستشاريهم من كهنة أخذ المواعيد بالهاتف النقال، والربيين الذين استباحوا الإفطار الصباحي بدماء الأطفال، والقساوسة الذين ادعوا الزنا بالعذراء، وأئمة السلطة التي أسست ديمقراطية الدبابات في المغرب و المشرق العربيين ” (36)
خاتمة :
بعد هذه الإطلالة على مناح من الرواية الجديدة التي مثلتها جلسات الشمس نخلص إلى القول أن كتابات الحساسية الجديدة تدل على الوعي والإدراك وتحمل استشرافا لنظام قيمي جديد على المستوى الفني والاجتماعي. وتسعى إلى تجاوز وخرق المستمر والسائد، ومن الروايات الجزائرية التي تمثل ذلك رواية جلسات الشمس من خلال عدة معطيات كالعناية بتوظيف التراث السردي في شتى أشكاله ومستوياته، وكذا انزياحية اللغة وبإستراتيجية النص المفتوح الذي يثير القارئ بتضليله وتشكيكه، والاعتماد أيضا على الجانب الغرائبي في التشكيل السردي، إلا أنه لا زال من التحليل ما لم نتعرض له بالدراسة كحضور العنصر النسوي في النص، تمظهرات الشخصية، وعتبات العنوان وغيرها من المحطات التي لم نقف عندها، لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن فن الرواية مع الحساسية الجديدة قد واصل نقد فن المحاكاة، فبدلا من الطريقة الأسطورية أو الرمزية والترتيب وإعطاء التاريخ شكلا و دلالة، ثمة تأكيد وإصرار على أنه لا يوجد نظام ولا شكل ولا دلالة ثابتة في أي مكان، وبالتالي يقاوم السرد القراءة برفضه للاستقرار داخل نمط قار يمكن القبض عليه والتعرف إليه، وهذا لأننا صرنا في إطار ما بعد الحداثة التي تشارك الحداثة في رفض الطرق المفروضة على التجربة الروائية، المحاولة باستمرار تصور أجزاء من عالم يقاوم التسلط من جانب الوعي الإنساني لتفسيره، كما تصور مأزقا إنسانيا عبثيا في كثير من النصوص، وكل ذلك ماهو إلا عملية للانفلات من رقبة النمطي المعتاد، لتفتح بابا يتميز بالمرونة وعدم الخضوع لقواعد خانقة .
مراجع البحث :
1- صبحة أحمد علقم تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية الرواية الدرامية أنموذجا المؤسسة العربية للدراسات و النشر وزارة الثقافة عمان الأردن 2006ص91.
2- المرجع نفسها الصفحة نفسها .
3- عبد المالك أشهبون الحساسية الجديدة في الرواية العربية ص12.
4- صبري حافظ جماليات الحساسية و التغير الثقافي مجلة فصول المجلد السادس ع4 يوليو أغسطس سبتمبر 1986ص70.
5- إدوار الخراط الحساسية الجديدة ، مقالات في الظاهرة القصصية ط1 دار الآداب بيروت 1993 ص02.
6-إدوار الخراط الكتابة عبر النوعية مقالات في ظاهرة القصة القصيدة ط1 دار شرقيات الظاهرة 1994ص28 .
7- بومدين جلالي جلسات الشمس دار الحمراء 2012.ب ط ب ت أما الدكتور جلالي بومدين فهو شاعر وروائي من مواليد مدينة البيض ، يعمل بجامعة سعيدة أستاذ للأدب المقارن له عدة مؤلفات منها : حكاية سعيدة “”ملحمة شعرية/ قراءات ثقافية ، النقد الأدبي المقارن في الوطن العربي ”
8- حفيظة بشارف المقاربة الاجتماعية للرواية الجزائرية عند مخلوف عامر مخطوط ماجستير ص40 .
9- عامر مخلوف توظيف التراث في الرواية الجزائرية وهران 2005 ص17 .
10- جلسات الشمس ص06.
11- المصدر نفسه ص16
12 – الصفحة نفسها .
13- عبد الملك أشبهون الحساسية الجديدة في الرواية العربية ص 174.
14- جلسات الشمس ص11.
15- المصدر نفسه ص11-12.
16– سوزان لوهافر الاعتراف بالقصة القصيرة ترجمة محمد نجيب لفته وزارة الثقافة و الإعلام بغداد1990ص28.
17- إدوار الخراط آليات السرد في القصة القصيرة مجلة فصول مجلد 8ع4 – 1989ص129.
18- جلسات الشمس ص37 .
19- نفسه الصفحة 52
20- نفسه ص56 .
21- نفسه 112.
22- أحمد موسى الخطيب الحساسية الجديدة قراءات في القصة القصيرة ط1-2008 ص 40.
23- تداخل الأجناس الأدبية ص92.
24- إدوار الخراط الحساسية الجديدة ص 340- 342 .
25- إبراهيم خليل بنية النص الروائي منشورات الاختلاف ط1 – 2010 ص 235 .
26- المرجع نفسه الصفحة نفسها .
27- إبراهيم خليل بنية النص الروائي ص 140.
28- جلسات الشمس ص 70.
29- نفسه ص 68 .
30- فاضل ثامر القصة القصيرة في الأردن جدل الواقعي و الغرائبي وزارة الثقافة عمان 1994 ص108 .
31- يوسف الشاروني القصة تطورا أو تمردا الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 1995 ص 255.
32- ربيع الصبروت قضايا القصة الحديثة الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1993 ص 102.
33- جلسات الشمس ص 68
34 – نفسه الصفحة نفسها
35 – نفسه ص 107 .
36- المصدر نفسه ص 62