من دعم غزوهم ممالك الأندلس إلى الدعاء عليهم... علاقة أبو حامد الغزالي بالمرابطين
عاصر أبو حامد الغزالي نشوء دولتين قامت كل واحدة منها على حركة دينية في المغرب الأقصى، هما دولتيْ المرابطين والموحدين. وبالرغم من سلبيته إزاء أحداث هجمات الصليبيين على المسلمين في عصره، وموقفه الهادئ من الحروب الصليبية، إلا أنه لم يكن بعيداً عن الحياة السياسية، بل كانت له مواقف سياسية عديدة مع مؤسسي الدولتين المذكورتين.
فقد كثرت الكتابات والمراسلات بين الغزالي ويوسف ابن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، والذي كان يستشيره في حربه وسلمه وسياسته، حتى شرع الغزالي في الارتحال إليه من بغداد، ولكن المنية عاجلت ابن تاشفين، فصرف الغزالي التفكير في الذهاب إلى المغرب.
وتصوِّر بعض المصادر علاقة محمد بن تومرت، مؤسس دولة الموحدين والأب الروحي لها، مع الغزالي على أنها كانت علاقة المريد مع الشيخ، إذ تقول إنه تعلّم وتربى على يديه لمدة ثلاث سنوات، كما ساهم في نشر المذهب الأشعري الذي تعلم أصوله من الغزالي داخل المغرب. ولكن مصادر كثيرة فاحصة للروايات التاريخية تنفي فكرة وقوع اللقاء بينهما من الأساس.
الغزالي وابن تاشفين
بدأت علاقة الغزالي بيوسف بن تاشفين عقب تحرك ألفونسو السادس لاسترداد ممالك الأندلس من المسلمين، وسقوط مدينة طليطلة بيده عام 478هـ/ 1085م، ثم حصاره لمدينة سرقسطة. عندها، رأى ملوك الطوائف في الأندلس ضرورة الاستنجاد ببن تاشفين، بسبب تهديد ممالكهم، وكتبوا له يسنتصرونه ليخلصهم من ألفونسو السادس.
واستجاب بن تاشفين لطلب النجدة، واستطاع تحقيق نصر عسكري ضد جيوش ألفونسو السادس في معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479 هـ/ 1086م، ثم ترك ملوك الطوائف لممالكهم، ورحل إلى المغرب. ويبدو أن هذا الموقف نال إعجاب الغزالي، لدرجة أنه لقّبه في إحدى رسائله بأمير المؤمنين. ويصف الغزالي ابن تاشفين، فيقول عنه: "أجاز البحر بنفسه ورجاله وماله، وجاهد في الله حق جهاده، ومنحه الله استئصال شأفة المشركين، والإفراج عن حوزة المسلمين، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين، وأمده بالنصر والتمكين… نسأل الله أن يخلد ملك الأمير ويؤيده تخليداً لا ينقطع أبد الدهر"، بحسب الوثائق التي أوردها محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس/ عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس".
تكاثرت بعدها الكتب والوفود من علماء وبعض وجهاء الأندلس إلى ابن تاشفين بسبب فساد ملوكهم وطغيانهم، وجنوحهم إلى ممالأة القشتاليين، واستنزاف بعضهم البعض في الحروب والمؤامرات على حساب عامة الناس، فأراد مؤسس دولة المرابطين أن يحصل على سند شرعي يُبرر تصرفه نحو ملوك الطوائف، فجمع العلماء من مراكش يستفتيهم في الأمر، كما أرسل عدة رسائل إلى علماء المشرق، وقد أفتى الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بوجوب انتزاع الأمر من أيدي ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب، وسارت إلى ابن تاشفين بذلك فتاوي أهل المغرب، وأهل المشرق الأعلام، مثل أبي حامد الغزالي، والطرطوشي،
وغيرهما، بحسب ما روى ابن خلدون.
وحسب الرواية التي أوردها المؤرخ ابن الكردبوس في كتابه "تاريخ الأندلس"، لم يكن ابن تاشفين مرتاحاً لفكرة خلع ملوك الطوائف، وخرق الاتفاق الذي عقده معهم، وحين اجتمع مع الفقهاء، قال لهم: "كيف يجوز لي خلعهم وقد عاهدتهم، وارتبطت معهم على إبقائهم؟"، فأجابه الفقهاء بالقول: "إنْ كانوا عاهدوك فهاهم قد ناقضوك، وأرسلوا إلى ألفونسو أن يكونوا معه عليك حتى يوقعوك بين يديه ويعود أمرهم إليه، فبادرهم بخلعهم بجمعهم، ونحن بين يدي الله المحاسَبون، فإن أذنبنا فنحن لا أنت المعاقبون، فإنك إنْ تركتهم وأنت قادر عليهم أعادوا بقية بلاد المسلمين إلى الروم، وكنت أنت المحاسب بين يدي الله تعالى".
ويبدو أن ابن تاشفين لم يقتنع بعد بما قاله فقهاء مراكش، ولذلك أرسل إلى علماء المشرق، ومن ضمنهم الغزالي الذي جاء جوابه في فتوى طويلة، محفوظة في خزانة الرباط، وأوردها محمد عبد الله عنان في كتابه المذكور، دعم فيها موقف ابن تاشفين في صراعه تجاه ملوك الطوائف، وأحقيته بضم سائر الممالك الإسلامية المتفرقة في الأندلس، ولم يتحرك ابن تاشفين إلى الأندلس إلا بعد أن جاءته فتوى الغزالي، والتي قال فيها: "إن يوسف على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر… وإذا نادى الملكُ المشمولُ بشعار الخلافة العباسية وجبت طاعته، وكل مَن تمرد واستعصى فحكمه حكم الباغي، ومن حق الأمير أن يردّه بالسيف وأن يقاتل القوة المتمردة على طاعته".
عبر ابن تاشفين الأندلس بجيش للمرة الثالثة عام 490 هـ، وتنادى ملوك الطوائف لمواجهته واستنجدوا عليه بممالك المسيحيين، إلا أنه هزمهم، وقتل منهم عمر بن الأفطس وولديه بسبب موالاتهم للقشتاليين، كما قتل المستعين بن هود، وأسر عبد الله وتميم بن بلكين، والمعتمد بن عباد. وكان من المفترض أن يقتل الأخير لأنه استعان بجيش ألفونسو لقتاله، لكن مقولته الشهيرة التي قالها حين نصحه البعض بألا يستدعي ابن تاشفين ورجاله من المرابطين خوفاً من استيلائهم على الأندلس، وهي: "رَعيُ الجِمال خَيرٌ من رَعيِ الخَنازِير"، حفظت رأسه، فقرر ابن تاشفين نفيه إلى أغمات في المغرب ليرعى الجمال.
ضم ابن تاشفين 13 عرشاً من ممالك الأندلس ووحدها مع المغرب تحت راية واحدة، ولما وصل الخبر بذلك إلى الغزالي، توطدت علاقة بابن تاشفين، وزاد إعجابه به، وأرسل إليه عدة رسائل يؤازره فيها، ويدعم حكمه في الأندلس، كما حضه على العدل والتمسك بالخير، ووصل الأمر أن سعى له عند خلفاء بني العباس كي يعترفوا بشرعية حكمه، وبشرعية ما فعله بملوك الطوائف، وبالفعل وصله تقليد الولاية من الخليفة العباسي، تسمى ابن تاشفين فيه بأمير المسلمين، وهو أول مَن لُقّب بذلك من ملوك الإسلام، بحسب ما أوضح محمد المنتصر في دراسته عن الغزالي والمغرب، المنشورة ضمن كتاب "أبو حامد الغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده".
ويبدو أن شخصية ابن تاشفين حظيت بإعجاب العزالي، ولذلك أطنب عليه في بعض رسائله، وفي الدور الذي قام به، وآزره في كل خطواته. ويحكي ابن خلكان، في "وفيات الأعيان"، أن الغزالي ارتحل إلي الإسكندرية قاصداً الركوب في البحر إلى بلاد المغرب كي يلتقي بيوسف بن تاشفين الذي طالما تمنى أن يراه ويرى دولته الجديدة التي سمع عنها العجائب، ولكن بينما هو في السفر علم بوفاة الأمير، فعدل عن رحلته، وعاد إلى وطنه في طوس.
احمد سيف النصر
عاصر أبو حامد الغزالي نشوء دولتين قامت كل واحدة منها على حركة دينية في المغرب الأقصى، هما دولتيْ المرابطين والموحدين. وبالرغم من سلبيته إزاء أحداث هجمات الصليبيين على المسلمين في عصره، وموقفه الهادئ من الحروب الصليبية، إلا أنه لم يكن بعيداً عن الحياة السياسية، بل كانت له مواقف سياسية عديدة مع مؤسسي الدولتين المذكورتين.
فقد كثرت الكتابات والمراسلات بين الغزالي ويوسف ابن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، والذي كان يستشيره في حربه وسلمه وسياسته، حتى شرع الغزالي في الارتحال إليه من بغداد، ولكن المنية عاجلت ابن تاشفين، فصرف الغزالي التفكير في الذهاب إلى المغرب.
وتصوِّر بعض المصادر علاقة محمد بن تومرت، مؤسس دولة الموحدين والأب الروحي لها، مع الغزالي على أنها كانت علاقة المريد مع الشيخ، إذ تقول إنه تعلّم وتربى على يديه لمدة ثلاث سنوات، كما ساهم في نشر المذهب الأشعري الذي تعلم أصوله من الغزالي داخل المغرب. ولكن مصادر كثيرة فاحصة للروايات التاريخية تنفي فكرة وقوع اللقاء بينهما من الأساس.
الغزالي وابن تاشفين
بدأت علاقة الغزالي بيوسف بن تاشفين عقب تحرك ألفونسو السادس لاسترداد ممالك الأندلس من المسلمين، وسقوط مدينة طليطلة بيده عام 478هـ/ 1085م، ثم حصاره لمدينة سرقسطة. عندها، رأى ملوك الطوائف في الأندلس ضرورة الاستنجاد ببن تاشفين، بسبب تهديد ممالكهم، وكتبوا له يسنتصرونه ليخلصهم من ألفونسو السادس.
واستجاب بن تاشفين لطلب النجدة، واستطاع تحقيق نصر عسكري ضد جيوش ألفونسو السادس في معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479 هـ/ 1086م، ثم ترك ملوك الطوائف لممالكهم، ورحل إلى المغرب. ويبدو أن هذا الموقف نال إعجاب الغزالي، لدرجة أنه لقّبه في إحدى رسائله بأمير المؤمنين. ويصف الغزالي ابن تاشفين، فيقول عنه: "أجاز البحر بنفسه ورجاله وماله، وجاهد في الله حق جهاده، ومنحه الله استئصال شأفة المشركين، والإفراج عن حوزة المسلمين، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين، وأمده بالنصر والتمكين… نسأل الله أن يخلد ملك الأمير ويؤيده تخليداً لا ينقطع أبد الدهر"، بحسب الوثائق التي أوردها محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس/ عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس".
تكاثرت بعدها الكتب والوفود من علماء وبعض وجهاء الأندلس إلى ابن تاشفين بسبب فساد ملوكهم وطغيانهم، وجنوحهم إلى ممالأة القشتاليين، واستنزاف بعضهم البعض في الحروب والمؤامرات على حساب عامة الناس، فأراد مؤسس دولة المرابطين أن يحصل على سند شرعي يُبرر تصرفه نحو ملوك الطوائف، فجمع العلماء من مراكش يستفتيهم في الأمر، كما أرسل عدة رسائل إلى علماء المشرق، وقد أفتى الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بوجوب انتزاع الأمر من أيدي ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب، وسارت إلى ابن تاشفين بذلك فتاوي أهل المغرب، وأهل المشرق الأعلام، مثل أبي حامد الغزالي، والطرطوشي،
وغيرهما، بحسب ما روى ابن خلدون.
وحسب الرواية التي أوردها المؤرخ ابن الكردبوس في كتابه "تاريخ الأندلس"، لم يكن ابن تاشفين مرتاحاً لفكرة خلع ملوك الطوائف، وخرق الاتفاق الذي عقده معهم، وحين اجتمع مع الفقهاء، قال لهم: "كيف يجوز لي خلعهم وقد عاهدتهم، وارتبطت معهم على إبقائهم؟"، فأجابه الفقهاء بالقول: "إنْ كانوا عاهدوك فهاهم قد ناقضوك، وأرسلوا إلى ألفونسو أن يكونوا معه عليك حتى يوقعوك بين يديه ويعود أمرهم إليه، فبادرهم بخلعهم بجمعهم، ونحن بين يدي الله المحاسَبون، فإن أذنبنا فنحن لا أنت المعاقبون، فإنك إنْ تركتهم وأنت قادر عليهم أعادوا بقية بلاد المسلمين إلى الروم، وكنت أنت المحاسب بين يدي الله تعالى".
ويبدو أن ابن تاشفين لم يقتنع بعد بما قاله فقهاء مراكش، ولذلك أرسل إلى علماء المشرق، ومن ضمنهم الغزالي الذي جاء جوابه في فتوى طويلة، محفوظة في خزانة الرباط، وأوردها محمد عبد الله عنان في كتابه المذكور، دعم فيها موقف ابن تاشفين في صراعه تجاه ملوك الطوائف، وأحقيته بضم سائر الممالك الإسلامية المتفرقة في الأندلس، ولم يتحرك ابن تاشفين إلى الأندلس إلا بعد أن جاءته فتوى الغزالي، والتي قال فيها: "إن يوسف على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر… وإذا نادى الملكُ المشمولُ بشعار الخلافة العباسية وجبت طاعته، وكل مَن تمرد واستعصى فحكمه حكم الباغي، ومن حق الأمير أن يردّه بالسيف وأن يقاتل القوة المتمردة على طاعته".
عبر ابن تاشفين الأندلس بجيش للمرة الثالثة عام 490 هـ، وتنادى ملوك الطوائف لمواجهته واستنجدوا عليه بممالك المسيحيين، إلا أنه هزمهم، وقتل منهم عمر بن الأفطس وولديه بسبب موالاتهم للقشتاليين، كما قتل المستعين بن هود، وأسر عبد الله وتميم بن بلكين، والمعتمد بن عباد. وكان من المفترض أن يقتل الأخير لأنه استعان بجيش ألفونسو لقتاله، لكن مقولته الشهيرة التي قالها حين نصحه البعض بألا يستدعي ابن تاشفين ورجاله من المرابطين خوفاً من استيلائهم على الأندلس، وهي: "رَعيُ الجِمال خَيرٌ من رَعيِ الخَنازِير"، حفظت رأسه، فقرر ابن تاشفين نفيه إلى أغمات في المغرب ليرعى الجمال.
ضم ابن تاشفين 13 عرشاً من ممالك الأندلس ووحدها مع المغرب تحت راية واحدة، ولما وصل الخبر بذلك إلى الغزالي، توطدت علاقة بابن تاشفين، وزاد إعجابه به، وأرسل إليه عدة رسائل يؤازره فيها، ويدعم حكمه في الأندلس، كما حضه على العدل والتمسك بالخير، ووصل الأمر أن سعى له عند خلفاء بني العباس كي يعترفوا بشرعية حكمه، وبشرعية ما فعله بملوك الطوائف، وبالفعل وصله تقليد الولاية من الخليفة العباسي، تسمى ابن تاشفين فيه بأمير المسلمين، وهو أول مَن لُقّب بذلك من ملوك الإسلام، بحسب ما أوضح محمد المنتصر في دراسته عن الغزالي والمغرب، المنشورة ضمن كتاب "أبو حامد الغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده".
ويبدو أن شخصية ابن تاشفين حظيت بإعجاب العزالي، ولذلك أطنب عليه في بعض رسائله، وفي الدور الذي قام به، وآزره في كل خطواته. ويحكي ابن خلكان، في "وفيات الأعيان"، أن الغزالي ارتحل إلي الإسكندرية قاصداً الركوب في البحر إلى بلاد المغرب كي يلتقي بيوسف بن تاشفين الذي طالما تمنى أن يراه ويرى دولته الجديدة التي سمع عنها العجائب، ولكن بينما هو في السفر علم بوفاة الأمير، فعدل عن رحلته، وعاد إلى وطنه في طوس.
احمد سيف النصر