المسرح والشعر..
حصانان من دم جنيّة
ـ جان كوكتو
المخيلة الأولى التي استمدها الأسلاف من الطبيعة لينفصلوا عنها مقدار خطوة، لحظة الوعي البدائية هذه، تحفل باللاوعي بل إنها امتدادٌ له يأخذ شكل النفي من أحد وجوهه، وشكل التأكيد من باقي الوجوه. من هذه اللحظة بالذات ارتجل الحوار وولد الطّقس فكان الشعر وكان المسرح توأم هذا التحول الذي أنجز ابتعاده العبقري عن الأنماط الأولى والبحث عن تسمية للأشياء وبالتالي اكتشاف الذات.. طفل يحدق في مرايا الماء.. بدائيّ يحاور شجرةً أو غيمة... عبر هذا الطقس الممعن في الأولي اُرتجلت الآلهة والمخاوف والشّهوات واستعارت عبوراً من ليل الكهف إلى فضاءٍ له قدرة التجسّد عبر الطقس ـ الشعيرة ـ وبالتالي اهتدت للشعر لتبقى، أو اهتدى إليها الشعر لينقلها إلى فضاءٍ يجعلها حاضرة فكان المسرح..
بدايات:
(آبيجين السيسوني) في القرن السادس قبل الميلاد جسد دور الإله باخوس على منصة مع جوقة منشدين فاصلاً بين طقوس الإنشاد بعروض تحكي عن منجزات باخوس.. في هذا الطقس المؤسس والاستعادي لما كان يفعله كهنة مصر في الألف الثالثة قبل الميلاد والمختلف بانفصاله عن الكهنوت، وتحوله لحالة مدينية ثقافية مستقلة تمَّ اعتباره مسرحاً...
(هيرودوت) بين في تاريخه أن الإغريق استعاروا النحت والمسرح من الحضارتين السورية والمصرية"
فالمسرح إنجاز بشري لكن لحظة وعيه لنفسه وانفصاله عن الديني نمت في بلاد الإغريق
أول ممثل: (آبيجين السيسوني)
أول مسرح: (ديونيزوس) ـ أول مخرج (ثيسوس)
أول صانع حوار (آسخيلوس)...
المسرح والشعر حالتان ثقافيتان متحولتان، ونزوعهما الدائم للتمرّد يمثل التوق الإنساني بأحلامه، أوهامه، ضعفه وقوته. في البداية الإغريقية المؤسِّسة تلمح هذه التحولات عبر الأبطال، أبطال المآسي الإغريقية الذين يملكون أنفسهم (لحظة امتلاك الإنسان لذاته هي لحظة وعي وصراع).. فأبطال تلك المآسي لا يخضعون للظلم سواء كان مصدره إلهياً أو بشرياً..
هرقل: يحارب الأعداد بجسده في كل مكان
أنيتغون: يحارب داخل المدينة
أوديب: يحارب داخل نفسه
-وأرسطو استنبط القواعد المسرحية، وكذلك فن الشعر من حواره مع مسرحيات عصره، وشعره *ومن بعده فترة ركود استمرت حوالي أربعة عشر قرناً تمت عملية بناء أساسات لمسرح أوروبي اعتماداً على أصول الفن اليوناني ضمن شروط مختلفة لزمن مختلف..
هذا الانتقال الزمني في التعامل مع المسرح مارس أثره باتجاه الانتقال من المشكلة الإلهية إلى المشكلة الإنسانية بداية من إسبانيا مع (دي فيجا وكالديرون) ثم مع (بيلي وغرين وشكسبير) في انجلترا.. ثم في القرن السابع عشر مع (كورناي وموليير) في فرنسا.. أما أول من خرج عن القواعد الأرسطية من الميثولوجيا إلى الإنسان فكان (فيكتور هوجو) في هرفاني..
في القرن التاسع عشر وتبطوير دخول العنصر الجديد (المخرج) أصبح الفن مرتبطاً بمقومات وآليات وطرائق تعبير جديدة، فمارس الانفصال عن المؤلف. فبعد أن كان مرتبطاً بـ "شكسبير وراسين وموليير) صار مرتبطاً بـ(انطوان آرتو. بسكاتور. برخت وستانسلافكي).
كانت المسارح مراكز تجمع للحياة الجماعية والمفاهيم الكاملة لثقافة العصر خاصة في الكلاسيكية الأولى ممثلة بـ (سوفوكليس) والثانية ممثلة بـ (شكسبير) وصولاً إلى مسرح الباروك عند (راسين وكورني) حيث نجد تمجيد العقل وكونه قيمة وحيدة تطاع، ففي بولوكيت لـ (كورني) نجد إيمانين مختلفين يصلان لنتائج واحدة عقلياً وفي بيرينيس لـ (راسين) نجد تماسك الشكل والصدق بحيث يبتدى الصراع المسرحي عقلانياً وينتهي كذلك..
مع (فاغنر) ابتدأت الثورة ضد العقلانية والمجتمع المغلق ففي ـ تريستان وإيزولد ـ تجاوز بالموسيقا والإلهام الروحي القيم العادية واليومية، وأيقظ الحلم.. ولو قارناه مع (راسين وكورني) لوجدناهم يشتركون في إرجاعهم الذات إلى لحظة مؤسسة العقل عند (كورني وراسين) والنفس عند (فاغنر) وبهذا يختلفون مع (دانتي وسوفوكليس وشكسبير)
اشتباكاً مع مسرح الواقعية الجديدة الممثلة بـ (إبسن وتشيخوف) وانطلاقاً من مناخات (جويس) ولوحات (بيكاسو) وموسيقا (سترافينسكي) واجتهادات (دياغلييف) في الباليه انطلقت جهود إعادة الشاعرية إلى المسرح وأسهم فيها (إليوت ـ لوركا ـ يتيس و.. كوكتو)
اعتبر (إليوت) أن مسرح الواقعية الجديدة صحراء من التشابهات مضبوطة مع الواقع العادي فدعا إلى الموضوعي بدل الواقعي موقظاً الأسطورة والأقنعة الدرامية وقال أن للشعر ثلاثة أصوات إلى نفسه /إلى لا أحد/ إلى جمهور ـ وحقق ذلك في /جريمة قتل في الكاتدرائية/ لَم شمل العائلة/ /الكاتب المؤتمن/ ومن خلال كتبه/ أصوات الشعر الثلاثة/ الشعر والدراما/ حوار في الشعر الدرامي/ بحيث لم ينج أحد من كتاب المسرح من تأثيره..
(فإليوت) في "جريمة قتل في الكاتدرائية"، وعبر مونولوج داخلي صيغ مشخّصاً بمصطلحات كنسية مستمدة من الفترة /القروسطية/ وفي لَم شمل العائلة أعاد للمأساة والجوقة والقوى الميثيولوجية بعداً سيكولوجياً مقتبساً العقدة ومطوراً الحوار مضيفاً إلى المسرح الغنى، والتنوع. لكن هذه الإضافة لم تؤثر في المسرح كما أثرت نظرياته في الشعر والنقد ـ ونختلف مع (إليوت) في إشاراته السابقة أن المسرح الواقعي الممثل بـ (إبسن وتشيخوف) يخلو من الشاعرية.. فالشاعرية الجديدة في المسرح الواقعي هي شعرية المسرح، وليس شعرية الكلمات.
وفي المحصلة لا يمكن أن نرى الشعرية إلاّ تجسيداً أو تخييلاً، إنّها حركات تتجمع على شكل صور، وتتراكب في أنساقٍ كالموسيقا ثم تقطع لإفساح الفرصة للتأمل راجعة إلى آليّتها في كسر لآلية التوقع ضمن شروط جديدة نلمسها في مسرحية الأشباح لـ (إبسن) ونلمس هذا التقاطع نفسه عند (تشيخوف) في "بستان الكرز" كقصيدة مسرحية عن ألم التحولات. فكل الشخصيات تعاني من ضياع ملكية بستان الكرز، وكلٌ على طريقته يريد إنقاذه لأسباب عاطفية ـ اجتماعية.. اقتصادية وثقافية أي لكلٍ بستانه وجميع هذه الإرادات لإنقاذ البستان انتهت إلى الضياع.. فمسرحية بستان الكرز قصيدة تعرض منتهية بالحيرة مثلما بدأت بها.
(صموئيل بيكيت) تكلم عن ضياع الكاتب في غابة العمل وعن الحبل الحافل بالوهم والملتصق بالحياة مستمداً استعارات شعرية لا تكترث لتقاليد الشعر، تستمدّ أصالتها من تكونها، وتخلقها من ممكنا تهافي لحظة التكوّن التالية للولادة. (آرشيبالد ماكليش) في ج. ب و(ماكسويل آندرسون) في ونتريست حاولا إحاطة الحدث بالنسيج الشّعري.. ومن أهم التجارب المسرحية التي تعاملت مع الشعر كلحظة مؤسسة وأساسية في نسيج العمل المسرحي مسرح (آبي) الذي أسّسه (هـ.ب. يتيس) والليدي (إيزابيل أوغست غريغوري).. إذ كانت الكتابة عن التجربة مستمدّة من الواقع، وليس في اللغة بمعنى استعارة اللغة والتشابيه الشّعرية للاقتراب من الذات في تجسيد لواقعية الروّح وليس واقعية الشّكل والحادثة.
إن لحظة التقاء الشعر مع المسرح لحظة خاصة يتخلى فيها كل منهما عن بعض سماته ليتجاوزا حدودهما الموروثة في التعريف فيتخلى النص الدرامي عن كثافته، وانشغاله بالخارج متيحاً للأوهام والتخيلات مغادرة ظلامها إلى نهار النصّ الحافل بالرعب والحياة مستعيراً أوهاماً، لها قوّة التجسيد، وواقعاً جديداً مليئاً بالشراسة والمفاجآت المستعارة من الشعر..
من النادر أن نجد مبدعاً اشتبك مع فنون عصره وأبدع فيها دافعاً إياها من مواقعها الثابتة إلى الأمام لتخرج مغلّفة بالجدة والابتكار والتجريب وجعلها تنتمي إلى المستقبل كما اشتبك (جان كوكتو).
من هو (جان كوكتو) \\\Je Suis Jean Cocteau \\\
إنه الشاعر، الرسام، النحات، الموسيقي، مصمم الرقصات، الروائي، الناقد، السينمائي، المخرج والممثل.. قال عنه (أندريه بروتون) إن (جان كوكتو) كالحرباء.. بألف لون ولون.. \\\
-ولد جان كوكتو في 5/7/1889 في حي سوللي في تيرون لافيت ـ
-درس البيانو على يد والدته،والرسم على يد والده الذي توفي وهو في العاشرة فانتقل مع أمه، وأخيه، وأخته إلى باريس حيث درس في (ليسيه كوندورسيه) ثم ترك المدرسة، ومضى إلى الريف، عشق المسرح والشعر، ونظم قصائده الأولى ـ التي تنكر لها فيما بعد ـ
-1906 في السابعة عشرة قدّمه المسرحي (ادوارد دوماكس) زميل (سارة بيرنارد) من خلال أمسية شعرية على المسرح، وقال أنه (ادمون روستان) الجديد، وقارنه الشاعر (رولان تاياد) بـ (رامبو).
-1909 في العشرين من عمره، طبع ديوانه الأول ـ مصباح علاء الدين ـ
-1912 التقى (سيرغي دياغيلييف) قائد فرقة الباليه الروسي، ثم (ايفورسترافينسكي)، وتحت تأثيرهما تنكر للشعر الاصطلاحي..
-1913 كتب رواية /بوتوماك.
-914 خطبة النوم الكبير، وقصائد رأس الرجاء الصالح الذي أهداه إلى (رولان غاروس).
-1916تعرف إلى (بابلو بيكاسو) و(ماكس جاكوب) ووقع رسومه الأولى باسم كلبه جيم.
-1917 تمثيلية "عرض" التي أثارت المحافظين، وتلقى بعدها تهديدات كثيرة.
-1918 كتاب الديك وأرليكان الذي أثار خصومة بينه، وبين (سترافينسكي).
-1920 مسرحية "الثور فوق السّطح".
-1921 تنروجو "برج إيفل" وكتاب السر المهني ـ نقد ـ
-1922 رواية البعد الأكبر ـ توما المخادع ومجموعة تسبيح.
-1924 باليه "القطار الأزرق" ـ وأصيب فترة من الزمن بانهيار عصبي وأدمن الأفيون.\
إليزابيث Maurin (Perlouse) ونيكولا لو ريش (للشباب وسيم) في باس دي دوكس من Bronislava Nijinska في "القطار الأزرق" (1924). سيناريو: جان كوكتو، الموسيقى داريوس Milhaud، المرحلة الستار: بابلو بيكاسو، ازياء: غابرييل شانيل
\\\http://youtu.be/7wEFYT6Y39g\\\
-1925 علاج من المخدرات ـ قصائد أوبرا ـ الملاك هرتبيز ـ أوروفيوس تصالح مع (سترافيتسكي)، واختلف مع السورياليين.
-1926عرض أورفيوس ـ رواية الأطفال المخيفون /أخرجت فيلماً.
-1929 مسرحية الصوت الإنساني، وعرضت في الكوميدي فرانسيز/ كتاب أفيون كتابات ورسوم.\\وعرض الصوف الذهبي مرحلة سريالية وموسيقا\\\http://youtu.be/9qQ-nvLbcD4\\\
-1930 مسرحية الأولاد الرهيبون.
-1931 بدأ كتابة فيلم "دم الشاعر" وأصابه مرضٌ عضال.\\\http://youtu.be/WRshAkidAiw\\\
-1932 مسرحية الآلة الجهنمية /أخرجت للتلفزيون. مسودة فرسان الطاولة المستديرة رسوم وأناشيد وكتاب محاولة نقد لا مباشر.
-1934 كتاب صور وذكريات والعرض الأول للآلة الجهنمية.
-1936 جولة مسرحية إلى الشرق برفقة فرقة مسرحية.
-1937 كتب أوديب
-1938 الأهل الرهيبون التي اعتبرت إساءة للأخلاق العامة.
-1939 نهاية بوتوماك ـ المسوخ المقدسة.
-1940 الآلة الكاتبة.
-1941 منع مسرحية الآلة الكاتبة والأهل الرهيبون من العرض.
-1942 فيلم العودة الأبدية وأدى شهادة لمصلحة (جان جينيه) في المحكمة ـ مسرحية شعرية رينو آرميد.
-1943 حوار فيلم سيدات في غابة بولونيا.
-1944 ديوان ليونا.
-1945 فيلم الحسناء والوحش.\\\http://youtu.be/jvWm9r4i6mo\\\
-1946 كتاب صعوبة الكينونة ـ نشيد الصلب ـ النسر ذو الرأسين /مسرحية وفيلم.
-1947 فيلم أورفيوس. الوصية \\\ ويعد نواة لكل ماعمله من مسرح وسينما وشعر \\\Le Testament d'Orphée - O Testamento de Orfeu \\\
-1948 عرض جوديت وهولوفيرن.
-1949 صمم ديكور فيللا سانتو سوسبير.\\\http://youtu.be/PVDI7SBv9RI\\\
-1951 باخوس آخر ما كتب للمسرح عرضت على باخرة، وأدت إلى فضيحة وخلاف مع (فرانسوا مورياك).
-1952 قصيدة الرقم 7 ـ يوميات مجهول، وهو أغرب كتبه (باراسيكولوجي) استخدم فيه مواضيع المسرح الكلاسيكي بمساعدة علم البصريات والسيكولوجيات بلغة مختلفة.
-1954 ديوان بين الظلمة والنور ـ إثر أزمة قلبية ـ حلبة الثيران في أول أيار.
-1955 عضو المجمع الفرنسي العلمي رشحه (اندريه موروا).
-1958 عضو المجمع الملكي البلجيكي ـ
-1959 وصية أورفيوس ـ فيلم أورفيوس.\\\LE TESTAMENT D'ORPHEE - Jean Cocteau (1960) extrait\\\
-1960 أمير الشعراء ووسام جوقة الشرف
-1962 قُداس من أجل الموتى.
-1963 صرّح في برنامج تلفزيوني "أنا لا أخاف الموت إنه ولادة مقلوبة".
توفي في 1963/11/11 ودفن في ميلي لافوريه في حديقة كنيسة سان بليزدوسامبل ـ التي زخرفها بيديه..\\\http://youtu.be/cn-KUncMfb4\\\
مع هذا الكم الهائل من العمل الذي يتسم بالإبداع والفرادة لا بد من التوقف عند بعض أعماله المؤثرة في كافة المجالات، ونبدأ بالمسرح..
الآله الجهنمية:
بحث خلف الأضواء عن التفاصيل النائمة في الظل حيث الحياة المعاشة في الواجهة تخفي الأسطورة والاستخدام المقصود للشاعرية لا كوسيلة إدهاش بل للالتقاء على شروط خاصة مع المتلقي إنها أسطورة مركزية حضارية ـ أوديب معاصر ـ يعبر عن انقسام الحياة وقولبتها بسبب الفكر ويجسّد الموت وما بعده في قدرية تخصّ الإلهام، والإلهام الشعري تحديداً. في البداية كانت المسرحية مقتصرة على لقاء أوديب وأبو الهول لكنها أصبحت فضلاً من أربعة فصول تم تقسيم هذه الفصول إلى ما يلي:
-جوكاستا على حصون طيبة ليلاً ـ انتصار أوديب المزعوم على أبو الهول ـ عرس جوكاستا وأوديب ـ عقاب أوديب حيث نراه أعمى تقوده آنتيغون ونرى شبح جوكاستا المطهرة بالموت وقد استرّدت عاطفة الأمومة. ما يحدث في الآلة الجهنمية أن أبو الهول قد أتعبته طاعة الآلهة العمياء فأدّعى أن أوديب غلبه مما أوقع أوديب في شرك الآلهة.
*اخوس:
تعالج مسألة الحرية والرجل الحر وصولاً إلى مفهوم ذاتي للحرية ذاتها لا عن طريق العقل، لا بل الحدس، والشعر ثم الشعر/ عادة طقسيّة /شعيرة/ الكرَّام، يتسلم السلطة لمدّة معينة في تعارض بين شكلين من الدين / وثني ـ مسيحي/ ينتهي عبر التعارضات إلى الإنساني.
الآلة الكاتبة:
مأساة طبقة ريفية بورجوازية تموت بخيوط من صناعتها مسرحية لا تكاد تستقر على حال بوليسية أحياناً، وأخرى نماذج بشرية وتارة توائم ثم امرأة عجوز تعشق صديق ابنها /اضطراب في الحوادث ـ شاعرية في الحوار/ ملل تحيكه امرأة وكأنها تحيك مصيرها، رسائل تثير فضيحة.. حدث عابر يكشف انحلال وسط ما، وشبابٌ يضيق بالريف والتقاليد والبطالة..
* رينو وآرماد:
امرأة خالدة أغوتها الأرض وحكيم أرضي زائل حرره الحب.. عندما عانقته آرماد فقدت خلودها مستهلكةً قدرها في ثانية.. لم يعد يذكرها إلاّ كبخارٍ على سطح الماء، عابرةً ومبددة، إنها مأساة شعرية..
* أورفيوس:
ملاكٌ متشح بشكل زجَّاج شاب أسماه هارتبيز ـ جرّده من مظهره الجسدي، وصيره قوةٌ صافية، ناراً سماوية.. النجاح الذي حققه النص باحتقاره الموت، وتجاوزه للطبيعة جعله يرقى إلى مراقي نصوص كبار المتصوفة ـ والجدير بالذكر أن أول تجارب عبقري المسرح (بروتوفسكي) كان عرض أورفيوس.
الصوت الإنساني:
مونودراما بانتوميم ـ امرأة هجرها عشيقٌ مهذب إلى غيرها.. اتصل بها هاتفياً لآخر مرة ـ حوار مشوش في غرفة المرأة المهجورة، وكأنها تحاور الغيب ـ جسدتها الممثلة (بيرت بوفي)\\\http://youtu.be/UkRM-opS32\\\ وقد مثلت على يد اشهر ممثلات المسرح في العالم ولاتزال
النسر ذو الرأسين:
شاعر يشبه أخو زوج ملكة قتل زوجها.. يتحابان فيصبح الحب دليل موت ينتحر ليعيدها ملكة، وتستعين به لتلقّي الضربة القاضية وهو يحتضر.. إنه مسرح ضد المسرح وضد الكلام..
باليه القطار الأزرق:
ترك جان كوكتو مصباح علاء الدين للباحثين عن السهولة، وأشعل على ضوء موسيقا سترافينسكي مصباحاً من مصابيح عمال المناجم، ونزل إلى ذاته بحثاً عن الماس مع (دياغلييف) وفرقة المسرح الروسي.
ملامح مسرح جان كوكتو:
- الشعرية: الاتكاء على المخيلة.. الانطلاقات إلى فضاءات غير محددة وبكر انطلاقاً من النص المنجز لأسطورة أو تيمة ثم إعادة ربطها بالحياة الواقعية بحيث تبدو كخلفية.. وفي الواجهة تعمل الحياة عملها.. ابتكار مخلوقات تمثّل تجسيداً لفكرة أو بارقة مثل: هارتبيز وليونا..
- الانحياز للنية الحسنة ومحاربة الذكاء: بعد أن يتم استخدامه ضد نفسه كذلك استخدام اللغة في عودة إلى ما قبل اللغة، ثم استخدامها بطريقة أخرى بما يمكن تسميته ما بعد اللغة..
- الجرأة في مواجهة النفس والآخرين: لدرجة أن معظم أعماله تسببت في صدمات للذوق العام ومنعت من العرض..
- التوالد الذاتي: فأدويب وفرسان المائدة المستديرة هما مشتقان من الآلة الجهنمية.. وكذلك الملاك هارتابيز نراه موزعاً بين المسرح والمقالة والموسيقا والسينما يرتدي روحاً تمتلك شفافية البللور ودهشة الشعر..
-استخدام الشعر كجذر للمسرح والرسم والتشكيل إضافة للفوتوغراف والسينما كجذر ثانٍ مستعيراً من التأثيرية الضوء والتقطيع ومن الوحشية الديكور والحيز المكاني ومن التعبيرية الغوص الداخلي ومن المستقبلية الحركة ومن التكعيبية تفتيت المنظور ومن السوريالية الحلم والهذيان ومن التجريدية التحرر من الشكل..
-إخفاء الفواصل بين الأنواع الأدبية والتشكيك في المرجعيات والسرديات الكبرى
-التحرر من إكراهات الحضارة والتصالح مع الجسد واستعماله كدالٍ ومدلول فما هو خفي، وكامن في الجسد واللغة أكثر مما هو واضح فيهما.. يمكن القول أن سمات مسرح كوكتو هي سمات شعره. فغالباً ما كانت الفكرة تبدأ من قصيدة لتذهب إلى المسرح أو من مسرحية لتذهب إلى قصيدة..
شعر جان كوكتو:
كان يردد أنه شاعرٌ رجيمٌ من نوعٍ حديث.. ويرى أن التقليد نزعة ورثها الإنسان عن أسلافه وأن للعادة آلية عملاقة فابتعد عن النمذجة، وبحث عن اللامألوف في المألوف منتسباً إلى اللامكان وممارساً الشعر كأنه يمارس ديناً بلا أمل حالماً دونما نوم ومبحراً في ليل الجسد وهو يتلفع معطفاً من الأساطير واضعاً إحدى رجليه في الموت والأخرى في الحياة كلما استقر في موضع غادره هارباً من الوحشة..
رأس الرجاء الصالح:
استمده من تجربته في الطيران مع (رولان غاروس) حيث نلمح أثر التحليق ومعاينة الأشياء من الأعالي والتهويمات والانشداد العميق إلى الأرض التي ما إن تطأها قدماه حتى يحلم بالطيران من جديد، وقد طبع الديوان بترتيب أحرفي خاص يفرز قوة التنويم المغناطيسي في الكلمات:
= فوق أشباه جزر تنأى
اعتقلتني كلمة تخص الأرض
على ارتفاع أربعة آلاف قدم في عمق لانهائيّ
حررت طائرة الورق من خيطان طفولتي..
أنت المتربع بيدك التي تشبه يد الدب ياغاروس
تقول: صف لي ما تراه
وأنت منحنياً على الهاوية
باريس الأرضية تنكمش على شساعتها
تقفر من الكائنات
واهنة ومفردة على زمرّد السّين
كلما هبطنا إليها
كلما اقتربت من حبي الحزين
..........
........
تتهاوى الأكوان في التماعات الليل الأخضر
يتجرّع الغريق موتاً صافياً
ليستقرّ في قاع السّفينة
كقطعة سماءٍ باردة
تلتبس الجغرافيا بكحلٍ مخادع
مرّةً يصبح البيت كبيراً وبأسرع من ذلك.. يصغر
عشَّاب الفراغ
هل علينا أن نهبط من جديد.. ؟؟
الملاك هارتبيز:
في هذا الكتاب المتفرد الذي أضافه إلى مجموعة أوبرا نلاحظ قدرة الشاعر على الخلق عبر عوالم مؤطرة بالشعر الصافي في عملية سطو على ينابيع المطلق والارتقاء المستمر، ففي مرحلة أولى يتم التحضير ذهنياً للقاء الملاك هارتبيز عبر الاتصال المباشر مع الصاعقة وبعد أن يزيل عنه القشرة البراقة السريعة العطب التي تبهر الأنظار السطحية يتقدم الشاعر وحيداً وعارياً باتجاه السرّ.
= هارتبيز الملاك في شارع آنجو يوم الأحد
يقفز بقدمه العسراء على الأسطحة.. كالأطفال
يفرفر كدوريّ.. كسمان بخدين لوحتهما النار
هارتبيز يا جميلي الأكتع
جاؤوا عن يمينك فاخفِ جواهرَك
لا ينبغي لهم أن يقتلوك
إن قتلوك كل شهرٍ.. أموت أنا.. لا أنت
سواء كنت من نورٍ أو من نار.. فات الأوان
تناوشك جنود المطلق
موتك سرٌّ من أسرار التبادل
آسٌ ينقص ورق اللعب
جريمة ترتطم بسقف دالية.. جذع قمر
نشيدٌ يعضّ بمنقار بطة
هارتبيز غادر.. مخبأك ليس آمناً
كرمةُ على نفسٍ أمّارة
أعمدك باسم اللوفر /رغماً عن أميريكا
لا تبعد عني هارتبيز وأفعل ما تشاء
أيها الجمال.. ما أقبح سعادتك الهاربة
وما أجمل شقائي.. المقيم...
خطاب النوم الكبير:
في هذا الديوان كثافة الكوارتز حيث يتخذ الماء شكلاً جارحاً.. كثافة مستمدّة من صمت الأعماق.. صمت الخنادق في خطوط النار حيث كان الشاعر موفداً من الحياة وشاهداً لصالحها ضد صمت الموت المتحفّز.. كتب: إن القصائد مترجمة عن اللغة الميتة في البلد الميت حيث مات أصدقائي.. كان قد نظم في أثناء الحرب موكب سيارات مزينة للإسعاف حين وصل الجبهة هرب، واختفى عند البحارة، وعاش حياة الجنود معهم ولما كشف وضعه اللاشرعي وصلت سيارة رئاسية أخذت الشاعر وبعد الظهر تماماً قضي على كامل البحارة في إحدى الهجمات
= ريشاريو صديقي التعس ما الذي فعلوه بك
دمك يفرَّ منك والموت يتسلّل من ثقوبك الأربعة
حملتُ القطبان والسيارة تتهاوى
على الدروب التي حفرتها القذائف
أمسكت ذراعه.. حتى لو أنه ميت
فإن ساعته حيةٌ في يده
بيليز.. صادروا لك يدك اليمنى
فحملتها باليسرى كالحجر المصاب.. عدة أميال
يشذبونك لتزدهر القصائد الملونة.. من جديد...
تسبيح:
في هذه المجموعة ميلٌ إلى الغنائية واستحضار حالات هاربة وميلٌ إلى الظلال قال إن سيداً مخيفاً غامضاً أملاها عليّ، أخفاني بشخصه واستعارني كي أقولها عنه كخادم له أو تابع..
= كيف لي أن أنام ووجهك مسنودٌ على عنقي
أفكر بموتٍ سريع
سأموت.. ستحييني
ثمة خوفً آخر..
غياب نبض وتنفس العصفور.. هل سيهجر غفوته
حيث جسدنا المتمدد من رأسين وأربع أقدام
أكلّ هذا الفرح يصادره الصّباح؟
خفيفٌ أنا.. خفيف تحت هذا الرأس الصامت الأعمى.. الأصم
رغم هواجسي رغم صياح الديك
هذا الرأس المسافر في العوالم والنواميس الأخرى
ضارباً في جذور النوم
بعيداً عني.. وقريباً
ووجهك على عنقي.. أصغي لفمك النائم
من تكورات ثدييك.. أصغي.. لموتي..
ملامح شعر كوكتو:
سبق وقلنا أن ملامح شعر كوكتو هي تقريباً ملامح مسرحه.. ونضيف إلى ما سبق: التأرجح بين المكتوب والمرئي في كلمات مغمسة بالحبر لتخرج قصائده ملونة كريش الطيور.
- تجاوز دور الشاعر المتفق عليه ذاتياً من دون صراعات:
- صنع علامات وتفكيك ألغاز وحساسية شديدة تلتقط ما يماثلها من الواقع الآلي والمكرر يدخلها مخبره لتخرج مشعة بالفرادة في محاكاة، وإعادة خلق لا علاقة لها بموضوعاتها ولا بالطبيعة..
- تحرير المتلقي من حيزه الخاص، وإدخاله حيزاً يخصه ضمن مسار العمل الشعري أي توريطه..
- إعادة خلق هويات لا أصل لها تنتمي إلى واقع متعالٍ، وهي في تعاليها أشد واقعيةً من الواقع نفسه..
- خلخلة واحدية النص وجعلها مركبة، وتحميل دلالاتها بلغة خاصة تحولها إلى أداة إيصال قابلة للتبدل والإسقاط كالموشور..
- انتماؤه إلى الليل والسرّ لا بالمعنى السوريالي فليله ليس ليل اللاوعي ولا الحواس إنه ليل الأنا العصي على المعرفة والإمساك.. الليل الذي يختبئ في اللغز وكهوف الجسد ويحرس بواباته كائنٌ خرافي كأبي الهول الذي يتجلى في الكثير من أعماله على اختلافها وصولاً إلى ذاته..
اللامنظورية:
يرى كوكتو أن مفهوم الزمن بني على كيفيات حدسية لا براهين لها وأنّ ما نملكه من أدوات ومعارف لا يكفي للوصول إلى المناطق المحظورة بحكم العادة والحواس فالزمن والمسافة، البعد والقرب مبتكرات بشرية وأن الكيميائيين والرياضيين وعلماء الفلك والفلاسفة وضعونا ضمن سجن الاشتراعات والقوانين وعلمونا أن نخضع لها حتى أن مفهوم العدم والحياة ـ الفراغ والامتلاء مفاهيم ساذجة..
هناك بعدٌ غائب أسماه اللاشيء، بعيداً عن إدراكنا.. وكلما حاولنا الوصول إليه نصطدم بجدران مغطاة بجمل مكتوبة لا سبيل إلى تلمّس غيابه إلاّ ونحن حالمون.. والحلم يأخذ طابع اليقظة لعبور جدراننا الثلاثية إلى الجدار الرابع اللامنظور والذي ينتهي بعددٍ لا يحذ من الجدران ونسميه الحرية../علينا أن ندرك سجوننا.. ومن هنا
يأتي الأمل../(كوكتو) عمل كثيراً لتسليط الضوء على ما هو أساسي وهذا الأساسي برأيه لا يمكن أن يكون إلا غير معروف لعدم مشابهته للمعلوم /هناك علاقة مبهمة قديمة بين أنا الحركة وأنا آخر لي أعجز عن بلوغه يدغدغ الذاكرة قبل وصول الصورة حواسي فتصل، وكأنه شيء قديم ميت مرّبي سابقاً /وانطلاقاً من هذا المفهوم برأيي كوكتو، الزمن يلعب الدور المنسوب للمكان. فالأشياء التي نبتعد عنها مكانياً تصغر والأشياء التي نبتعد عنها زمانياً تكبر ـ التاريخ والأسطورة يبعدان عنا زمانياً وامتلاك الأشياء التي يبعدنا الزمن عنها أشد واقعية في ذهننا من الأشياء التي تخصنا.. ورأى أن الشعر نقيض لما يحسبه الناس شعرياً سلاحٌ خطرٌ، وأحياناً لا يصيب هدفه إلا على مسافات لا تقاس.. والشاعر الذي يكمل طريقه على قدميه حتى النهاية يطرده المجتمع، إنه شخص مزعج يظن كل من يراه أنه يعرف إلى أين يذهب.. إنه نظاميٌّ بشكل فوضى..
جان كوكتو سرق من النجوم عاداتها.. احتال على الموت وجعله وسيلته ليحمل الضوء إلى.. اللانهائي..
حصانان من دم جنيّة
ـ جان كوكتو
المخيلة الأولى التي استمدها الأسلاف من الطبيعة لينفصلوا عنها مقدار خطوة، لحظة الوعي البدائية هذه، تحفل باللاوعي بل إنها امتدادٌ له يأخذ شكل النفي من أحد وجوهه، وشكل التأكيد من باقي الوجوه. من هذه اللحظة بالذات ارتجل الحوار وولد الطّقس فكان الشعر وكان المسرح توأم هذا التحول الذي أنجز ابتعاده العبقري عن الأنماط الأولى والبحث عن تسمية للأشياء وبالتالي اكتشاف الذات.. طفل يحدق في مرايا الماء.. بدائيّ يحاور شجرةً أو غيمة... عبر هذا الطقس الممعن في الأولي اُرتجلت الآلهة والمخاوف والشّهوات واستعارت عبوراً من ليل الكهف إلى فضاءٍ له قدرة التجسّد عبر الطقس ـ الشعيرة ـ وبالتالي اهتدت للشعر لتبقى، أو اهتدى إليها الشعر لينقلها إلى فضاءٍ يجعلها حاضرة فكان المسرح..
بدايات:
(آبيجين السيسوني) في القرن السادس قبل الميلاد جسد دور الإله باخوس على منصة مع جوقة منشدين فاصلاً بين طقوس الإنشاد بعروض تحكي عن منجزات باخوس.. في هذا الطقس المؤسس والاستعادي لما كان يفعله كهنة مصر في الألف الثالثة قبل الميلاد والمختلف بانفصاله عن الكهنوت، وتحوله لحالة مدينية ثقافية مستقلة تمَّ اعتباره مسرحاً...
(هيرودوت) بين في تاريخه أن الإغريق استعاروا النحت والمسرح من الحضارتين السورية والمصرية"
فالمسرح إنجاز بشري لكن لحظة وعيه لنفسه وانفصاله عن الديني نمت في بلاد الإغريق
أول ممثل: (آبيجين السيسوني)
أول مسرح: (ديونيزوس) ـ أول مخرج (ثيسوس)
أول صانع حوار (آسخيلوس)...
المسرح والشعر حالتان ثقافيتان متحولتان، ونزوعهما الدائم للتمرّد يمثل التوق الإنساني بأحلامه، أوهامه، ضعفه وقوته. في البداية الإغريقية المؤسِّسة تلمح هذه التحولات عبر الأبطال، أبطال المآسي الإغريقية الذين يملكون أنفسهم (لحظة امتلاك الإنسان لذاته هي لحظة وعي وصراع).. فأبطال تلك المآسي لا يخضعون للظلم سواء كان مصدره إلهياً أو بشرياً..
هرقل: يحارب الأعداد بجسده في كل مكان
أنيتغون: يحارب داخل المدينة
أوديب: يحارب داخل نفسه
-وأرسطو استنبط القواعد المسرحية، وكذلك فن الشعر من حواره مع مسرحيات عصره، وشعره *ومن بعده فترة ركود استمرت حوالي أربعة عشر قرناً تمت عملية بناء أساسات لمسرح أوروبي اعتماداً على أصول الفن اليوناني ضمن شروط مختلفة لزمن مختلف..
هذا الانتقال الزمني في التعامل مع المسرح مارس أثره باتجاه الانتقال من المشكلة الإلهية إلى المشكلة الإنسانية بداية من إسبانيا مع (دي فيجا وكالديرون) ثم مع (بيلي وغرين وشكسبير) في انجلترا.. ثم في القرن السابع عشر مع (كورناي وموليير) في فرنسا.. أما أول من خرج عن القواعد الأرسطية من الميثولوجيا إلى الإنسان فكان (فيكتور هوجو) في هرفاني..
في القرن التاسع عشر وتبطوير دخول العنصر الجديد (المخرج) أصبح الفن مرتبطاً بمقومات وآليات وطرائق تعبير جديدة، فمارس الانفصال عن المؤلف. فبعد أن كان مرتبطاً بـ "شكسبير وراسين وموليير) صار مرتبطاً بـ(انطوان آرتو. بسكاتور. برخت وستانسلافكي).
كانت المسارح مراكز تجمع للحياة الجماعية والمفاهيم الكاملة لثقافة العصر خاصة في الكلاسيكية الأولى ممثلة بـ (سوفوكليس) والثانية ممثلة بـ (شكسبير) وصولاً إلى مسرح الباروك عند (راسين وكورني) حيث نجد تمجيد العقل وكونه قيمة وحيدة تطاع، ففي بولوكيت لـ (كورني) نجد إيمانين مختلفين يصلان لنتائج واحدة عقلياً وفي بيرينيس لـ (راسين) نجد تماسك الشكل والصدق بحيث يبتدى الصراع المسرحي عقلانياً وينتهي كذلك..
مع (فاغنر) ابتدأت الثورة ضد العقلانية والمجتمع المغلق ففي ـ تريستان وإيزولد ـ تجاوز بالموسيقا والإلهام الروحي القيم العادية واليومية، وأيقظ الحلم.. ولو قارناه مع (راسين وكورني) لوجدناهم يشتركون في إرجاعهم الذات إلى لحظة مؤسسة العقل عند (كورني وراسين) والنفس عند (فاغنر) وبهذا يختلفون مع (دانتي وسوفوكليس وشكسبير)
اشتباكاً مع مسرح الواقعية الجديدة الممثلة بـ (إبسن وتشيخوف) وانطلاقاً من مناخات (جويس) ولوحات (بيكاسو) وموسيقا (سترافينسكي) واجتهادات (دياغلييف) في الباليه انطلقت جهود إعادة الشاعرية إلى المسرح وأسهم فيها (إليوت ـ لوركا ـ يتيس و.. كوكتو)
اعتبر (إليوت) أن مسرح الواقعية الجديدة صحراء من التشابهات مضبوطة مع الواقع العادي فدعا إلى الموضوعي بدل الواقعي موقظاً الأسطورة والأقنعة الدرامية وقال أن للشعر ثلاثة أصوات إلى نفسه /إلى لا أحد/ إلى جمهور ـ وحقق ذلك في /جريمة قتل في الكاتدرائية/ لَم شمل العائلة/ /الكاتب المؤتمن/ ومن خلال كتبه/ أصوات الشعر الثلاثة/ الشعر والدراما/ حوار في الشعر الدرامي/ بحيث لم ينج أحد من كتاب المسرح من تأثيره..
(فإليوت) في "جريمة قتل في الكاتدرائية"، وعبر مونولوج داخلي صيغ مشخّصاً بمصطلحات كنسية مستمدة من الفترة /القروسطية/ وفي لَم شمل العائلة أعاد للمأساة والجوقة والقوى الميثيولوجية بعداً سيكولوجياً مقتبساً العقدة ومطوراً الحوار مضيفاً إلى المسرح الغنى، والتنوع. لكن هذه الإضافة لم تؤثر في المسرح كما أثرت نظرياته في الشعر والنقد ـ ونختلف مع (إليوت) في إشاراته السابقة أن المسرح الواقعي الممثل بـ (إبسن وتشيخوف) يخلو من الشاعرية.. فالشاعرية الجديدة في المسرح الواقعي هي شعرية المسرح، وليس شعرية الكلمات.
وفي المحصلة لا يمكن أن نرى الشعرية إلاّ تجسيداً أو تخييلاً، إنّها حركات تتجمع على شكل صور، وتتراكب في أنساقٍ كالموسيقا ثم تقطع لإفساح الفرصة للتأمل راجعة إلى آليّتها في كسر لآلية التوقع ضمن شروط جديدة نلمسها في مسرحية الأشباح لـ (إبسن) ونلمس هذا التقاطع نفسه عند (تشيخوف) في "بستان الكرز" كقصيدة مسرحية عن ألم التحولات. فكل الشخصيات تعاني من ضياع ملكية بستان الكرز، وكلٌ على طريقته يريد إنقاذه لأسباب عاطفية ـ اجتماعية.. اقتصادية وثقافية أي لكلٍ بستانه وجميع هذه الإرادات لإنقاذ البستان انتهت إلى الضياع.. فمسرحية بستان الكرز قصيدة تعرض منتهية بالحيرة مثلما بدأت بها.
(صموئيل بيكيت) تكلم عن ضياع الكاتب في غابة العمل وعن الحبل الحافل بالوهم والملتصق بالحياة مستمداً استعارات شعرية لا تكترث لتقاليد الشعر، تستمدّ أصالتها من تكونها، وتخلقها من ممكنا تهافي لحظة التكوّن التالية للولادة. (آرشيبالد ماكليش) في ج. ب و(ماكسويل آندرسون) في ونتريست حاولا إحاطة الحدث بالنسيج الشّعري.. ومن أهم التجارب المسرحية التي تعاملت مع الشعر كلحظة مؤسسة وأساسية في نسيج العمل المسرحي مسرح (آبي) الذي أسّسه (هـ.ب. يتيس) والليدي (إيزابيل أوغست غريغوري).. إذ كانت الكتابة عن التجربة مستمدّة من الواقع، وليس في اللغة بمعنى استعارة اللغة والتشابيه الشّعرية للاقتراب من الذات في تجسيد لواقعية الروّح وليس واقعية الشّكل والحادثة.
إن لحظة التقاء الشعر مع المسرح لحظة خاصة يتخلى فيها كل منهما عن بعض سماته ليتجاوزا حدودهما الموروثة في التعريف فيتخلى النص الدرامي عن كثافته، وانشغاله بالخارج متيحاً للأوهام والتخيلات مغادرة ظلامها إلى نهار النصّ الحافل بالرعب والحياة مستعيراً أوهاماً، لها قوّة التجسيد، وواقعاً جديداً مليئاً بالشراسة والمفاجآت المستعارة من الشعر..
من النادر أن نجد مبدعاً اشتبك مع فنون عصره وأبدع فيها دافعاً إياها من مواقعها الثابتة إلى الأمام لتخرج مغلّفة بالجدة والابتكار والتجريب وجعلها تنتمي إلى المستقبل كما اشتبك (جان كوكتو).
من هو (جان كوكتو) \\\Je Suis Jean Cocteau \\\
إنه الشاعر، الرسام، النحات، الموسيقي، مصمم الرقصات، الروائي، الناقد، السينمائي، المخرج والممثل.. قال عنه (أندريه بروتون) إن (جان كوكتو) كالحرباء.. بألف لون ولون.. \\\
-ولد جان كوكتو في 5/7/1889 في حي سوللي في تيرون لافيت ـ
-درس البيانو على يد والدته،والرسم على يد والده الذي توفي وهو في العاشرة فانتقل مع أمه، وأخيه، وأخته إلى باريس حيث درس في (ليسيه كوندورسيه) ثم ترك المدرسة، ومضى إلى الريف، عشق المسرح والشعر، ونظم قصائده الأولى ـ التي تنكر لها فيما بعد ـ
-1906 في السابعة عشرة قدّمه المسرحي (ادوارد دوماكس) زميل (سارة بيرنارد) من خلال أمسية شعرية على المسرح، وقال أنه (ادمون روستان) الجديد، وقارنه الشاعر (رولان تاياد) بـ (رامبو).
-1909 في العشرين من عمره، طبع ديوانه الأول ـ مصباح علاء الدين ـ
-1912 التقى (سيرغي دياغيلييف) قائد فرقة الباليه الروسي، ثم (ايفورسترافينسكي)، وتحت تأثيرهما تنكر للشعر الاصطلاحي..
-1913 كتب رواية /بوتوماك.
-914 خطبة النوم الكبير، وقصائد رأس الرجاء الصالح الذي أهداه إلى (رولان غاروس).
-1916تعرف إلى (بابلو بيكاسو) و(ماكس جاكوب) ووقع رسومه الأولى باسم كلبه جيم.
-1917 تمثيلية "عرض" التي أثارت المحافظين، وتلقى بعدها تهديدات كثيرة.
-1918 كتاب الديك وأرليكان الذي أثار خصومة بينه، وبين (سترافينسكي).
-1920 مسرحية "الثور فوق السّطح".
-1921 تنروجو "برج إيفل" وكتاب السر المهني ـ نقد ـ
-1922 رواية البعد الأكبر ـ توما المخادع ومجموعة تسبيح.
-1924 باليه "القطار الأزرق" ـ وأصيب فترة من الزمن بانهيار عصبي وأدمن الأفيون.\
إليزابيث Maurin (Perlouse) ونيكولا لو ريش (للشباب وسيم) في باس دي دوكس من Bronislava Nijinska في "القطار الأزرق" (1924). سيناريو: جان كوكتو، الموسيقى داريوس Milhaud، المرحلة الستار: بابلو بيكاسو، ازياء: غابرييل شانيل
\\\http://youtu.be/7wEFYT6Y39g\\\
-1925 علاج من المخدرات ـ قصائد أوبرا ـ الملاك هرتبيز ـ أوروفيوس تصالح مع (سترافيتسكي)، واختلف مع السورياليين.
-1926عرض أورفيوس ـ رواية الأطفال المخيفون /أخرجت فيلماً.
-1929 مسرحية الصوت الإنساني، وعرضت في الكوميدي فرانسيز/ كتاب أفيون كتابات ورسوم.\\وعرض الصوف الذهبي مرحلة سريالية وموسيقا\\\http://youtu.be/9qQ-nvLbcD4\\\
-1930 مسرحية الأولاد الرهيبون.
-1931 بدأ كتابة فيلم "دم الشاعر" وأصابه مرضٌ عضال.\\\http://youtu.be/WRshAkidAiw\\\
-1932 مسرحية الآلة الجهنمية /أخرجت للتلفزيون. مسودة فرسان الطاولة المستديرة رسوم وأناشيد وكتاب محاولة نقد لا مباشر.
-1934 كتاب صور وذكريات والعرض الأول للآلة الجهنمية.
-1936 جولة مسرحية إلى الشرق برفقة فرقة مسرحية.
-1937 كتب أوديب
-1938 الأهل الرهيبون التي اعتبرت إساءة للأخلاق العامة.
-1939 نهاية بوتوماك ـ المسوخ المقدسة.
-1940 الآلة الكاتبة.
-1941 منع مسرحية الآلة الكاتبة والأهل الرهيبون من العرض.
-1942 فيلم العودة الأبدية وأدى شهادة لمصلحة (جان جينيه) في المحكمة ـ مسرحية شعرية رينو آرميد.
-1943 حوار فيلم سيدات في غابة بولونيا.
-1944 ديوان ليونا.
-1945 فيلم الحسناء والوحش.\\\http://youtu.be/jvWm9r4i6mo\\\
-1946 كتاب صعوبة الكينونة ـ نشيد الصلب ـ النسر ذو الرأسين /مسرحية وفيلم.
-1947 فيلم أورفيوس. الوصية \\\ ويعد نواة لكل ماعمله من مسرح وسينما وشعر \\\Le Testament d'Orphée - O Testamento de Orfeu \\\
-1948 عرض جوديت وهولوفيرن.
-1949 صمم ديكور فيللا سانتو سوسبير.\\\http://youtu.be/PVDI7SBv9RI\\\
-1951 باخوس آخر ما كتب للمسرح عرضت على باخرة، وأدت إلى فضيحة وخلاف مع (فرانسوا مورياك).
-1952 قصيدة الرقم 7 ـ يوميات مجهول، وهو أغرب كتبه (باراسيكولوجي) استخدم فيه مواضيع المسرح الكلاسيكي بمساعدة علم البصريات والسيكولوجيات بلغة مختلفة.
-1954 ديوان بين الظلمة والنور ـ إثر أزمة قلبية ـ حلبة الثيران في أول أيار.
-1955 عضو المجمع الفرنسي العلمي رشحه (اندريه موروا).
-1958 عضو المجمع الملكي البلجيكي ـ
-1959 وصية أورفيوس ـ فيلم أورفيوس.\\\LE TESTAMENT D'ORPHEE - Jean Cocteau (1960) extrait\\\
-1960 أمير الشعراء ووسام جوقة الشرف
-1962 قُداس من أجل الموتى.
-1963 صرّح في برنامج تلفزيوني "أنا لا أخاف الموت إنه ولادة مقلوبة".
توفي في 1963/11/11 ودفن في ميلي لافوريه في حديقة كنيسة سان بليزدوسامبل ـ التي زخرفها بيديه..\\\http://youtu.be/cn-KUncMfb4\\\
مع هذا الكم الهائل من العمل الذي يتسم بالإبداع والفرادة لا بد من التوقف عند بعض أعماله المؤثرة في كافة المجالات، ونبدأ بالمسرح..
الآله الجهنمية:
بحث خلف الأضواء عن التفاصيل النائمة في الظل حيث الحياة المعاشة في الواجهة تخفي الأسطورة والاستخدام المقصود للشاعرية لا كوسيلة إدهاش بل للالتقاء على شروط خاصة مع المتلقي إنها أسطورة مركزية حضارية ـ أوديب معاصر ـ يعبر عن انقسام الحياة وقولبتها بسبب الفكر ويجسّد الموت وما بعده في قدرية تخصّ الإلهام، والإلهام الشعري تحديداً. في البداية كانت المسرحية مقتصرة على لقاء أوديب وأبو الهول لكنها أصبحت فضلاً من أربعة فصول تم تقسيم هذه الفصول إلى ما يلي:
-جوكاستا على حصون طيبة ليلاً ـ انتصار أوديب المزعوم على أبو الهول ـ عرس جوكاستا وأوديب ـ عقاب أوديب حيث نراه أعمى تقوده آنتيغون ونرى شبح جوكاستا المطهرة بالموت وقد استرّدت عاطفة الأمومة. ما يحدث في الآلة الجهنمية أن أبو الهول قد أتعبته طاعة الآلهة العمياء فأدّعى أن أوديب غلبه مما أوقع أوديب في شرك الآلهة.
*اخوس:
تعالج مسألة الحرية والرجل الحر وصولاً إلى مفهوم ذاتي للحرية ذاتها لا عن طريق العقل، لا بل الحدس، والشعر ثم الشعر/ عادة طقسيّة /شعيرة/ الكرَّام، يتسلم السلطة لمدّة معينة في تعارض بين شكلين من الدين / وثني ـ مسيحي/ ينتهي عبر التعارضات إلى الإنساني.
الآلة الكاتبة:
مأساة طبقة ريفية بورجوازية تموت بخيوط من صناعتها مسرحية لا تكاد تستقر على حال بوليسية أحياناً، وأخرى نماذج بشرية وتارة توائم ثم امرأة عجوز تعشق صديق ابنها /اضطراب في الحوادث ـ شاعرية في الحوار/ ملل تحيكه امرأة وكأنها تحيك مصيرها، رسائل تثير فضيحة.. حدث عابر يكشف انحلال وسط ما، وشبابٌ يضيق بالريف والتقاليد والبطالة..
* رينو وآرماد:
امرأة خالدة أغوتها الأرض وحكيم أرضي زائل حرره الحب.. عندما عانقته آرماد فقدت خلودها مستهلكةً قدرها في ثانية.. لم يعد يذكرها إلاّ كبخارٍ على سطح الماء، عابرةً ومبددة، إنها مأساة شعرية..
* أورفيوس:
ملاكٌ متشح بشكل زجَّاج شاب أسماه هارتبيز ـ جرّده من مظهره الجسدي، وصيره قوةٌ صافية، ناراً سماوية.. النجاح الذي حققه النص باحتقاره الموت، وتجاوزه للطبيعة جعله يرقى إلى مراقي نصوص كبار المتصوفة ـ والجدير بالذكر أن أول تجارب عبقري المسرح (بروتوفسكي) كان عرض أورفيوس.
الصوت الإنساني:
مونودراما بانتوميم ـ امرأة هجرها عشيقٌ مهذب إلى غيرها.. اتصل بها هاتفياً لآخر مرة ـ حوار مشوش في غرفة المرأة المهجورة، وكأنها تحاور الغيب ـ جسدتها الممثلة (بيرت بوفي)\\\http://youtu.be/UkRM-opS32\\\ وقد مثلت على يد اشهر ممثلات المسرح في العالم ولاتزال
النسر ذو الرأسين:
شاعر يشبه أخو زوج ملكة قتل زوجها.. يتحابان فيصبح الحب دليل موت ينتحر ليعيدها ملكة، وتستعين به لتلقّي الضربة القاضية وهو يحتضر.. إنه مسرح ضد المسرح وضد الكلام..
باليه القطار الأزرق:
ترك جان كوكتو مصباح علاء الدين للباحثين عن السهولة، وأشعل على ضوء موسيقا سترافينسكي مصباحاً من مصابيح عمال المناجم، ونزل إلى ذاته بحثاً عن الماس مع (دياغلييف) وفرقة المسرح الروسي.
ملامح مسرح جان كوكتو:
- الشعرية: الاتكاء على المخيلة.. الانطلاقات إلى فضاءات غير محددة وبكر انطلاقاً من النص المنجز لأسطورة أو تيمة ثم إعادة ربطها بالحياة الواقعية بحيث تبدو كخلفية.. وفي الواجهة تعمل الحياة عملها.. ابتكار مخلوقات تمثّل تجسيداً لفكرة أو بارقة مثل: هارتبيز وليونا..
- الانحياز للنية الحسنة ومحاربة الذكاء: بعد أن يتم استخدامه ضد نفسه كذلك استخدام اللغة في عودة إلى ما قبل اللغة، ثم استخدامها بطريقة أخرى بما يمكن تسميته ما بعد اللغة..
- الجرأة في مواجهة النفس والآخرين: لدرجة أن معظم أعماله تسببت في صدمات للذوق العام ومنعت من العرض..
- التوالد الذاتي: فأدويب وفرسان المائدة المستديرة هما مشتقان من الآلة الجهنمية.. وكذلك الملاك هارتابيز نراه موزعاً بين المسرح والمقالة والموسيقا والسينما يرتدي روحاً تمتلك شفافية البللور ودهشة الشعر..
-استخدام الشعر كجذر للمسرح والرسم والتشكيل إضافة للفوتوغراف والسينما كجذر ثانٍ مستعيراً من التأثيرية الضوء والتقطيع ومن الوحشية الديكور والحيز المكاني ومن التعبيرية الغوص الداخلي ومن المستقبلية الحركة ومن التكعيبية تفتيت المنظور ومن السوريالية الحلم والهذيان ومن التجريدية التحرر من الشكل..
-إخفاء الفواصل بين الأنواع الأدبية والتشكيك في المرجعيات والسرديات الكبرى
-التحرر من إكراهات الحضارة والتصالح مع الجسد واستعماله كدالٍ ومدلول فما هو خفي، وكامن في الجسد واللغة أكثر مما هو واضح فيهما.. يمكن القول أن سمات مسرح كوكتو هي سمات شعره. فغالباً ما كانت الفكرة تبدأ من قصيدة لتذهب إلى المسرح أو من مسرحية لتذهب إلى قصيدة..
شعر جان كوكتو:
كان يردد أنه شاعرٌ رجيمٌ من نوعٍ حديث.. ويرى أن التقليد نزعة ورثها الإنسان عن أسلافه وأن للعادة آلية عملاقة فابتعد عن النمذجة، وبحث عن اللامألوف في المألوف منتسباً إلى اللامكان وممارساً الشعر كأنه يمارس ديناً بلا أمل حالماً دونما نوم ومبحراً في ليل الجسد وهو يتلفع معطفاً من الأساطير واضعاً إحدى رجليه في الموت والأخرى في الحياة كلما استقر في موضع غادره هارباً من الوحشة..
رأس الرجاء الصالح:
استمده من تجربته في الطيران مع (رولان غاروس) حيث نلمح أثر التحليق ومعاينة الأشياء من الأعالي والتهويمات والانشداد العميق إلى الأرض التي ما إن تطأها قدماه حتى يحلم بالطيران من جديد، وقد طبع الديوان بترتيب أحرفي خاص يفرز قوة التنويم المغناطيسي في الكلمات:
= فوق أشباه جزر تنأى
اعتقلتني كلمة تخص الأرض
على ارتفاع أربعة آلاف قدم في عمق لانهائيّ
حررت طائرة الورق من خيطان طفولتي..
أنت المتربع بيدك التي تشبه يد الدب ياغاروس
تقول: صف لي ما تراه
وأنت منحنياً على الهاوية
باريس الأرضية تنكمش على شساعتها
تقفر من الكائنات
واهنة ومفردة على زمرّد السّين
كلما هبطنا إليها
كلما اقتربت من حبي الحزين
..........
........
تتهاوى الأكوان في التماعات الليل الأخضر
يتجرّع الغريق موتاً صافياً
ليستقرّ في قاع السّفينة
كقطعة سماءٍ باردة
تلتبس الجغرافيا بكحلٍ مخادع
مرّةً يصبح البيت كبيراً وبأسرع من ذلك.. يصغر
عشَّاب الفراغ
هل علينا أن نهبط من جديد.. ؟؟
الملاك هارتبيز:
في هذا الكتاب المتفرد الذي أضافه إلى مجموعة أوبرا نلاحظ قدرة الشاعر على الخلق عبر عوالم مؤطرة بالشعر الصافي في عملية سطو على ينابيع المطلق والارتقاء المستمر، ففي مرحلة أولى يتم التحضير ذهنياً للقاء الملاك هارتبيز عبر الاتصال المباشر مع الصاعقة وبعد أن يزيل عنه القشرة البراقة السريعة العطب التي تبهر الأنظار السطحية يتقدم الشاعر وحيداً وعارياً باتجاه السرّ.
= هارتبيز الملاك في شارع آنجو يوم الأحد
يقفز بقدمه العسراء على الأسطحة.. كالأطفال
يفرفر كدوريّ.. كسمان بخدين لوحتهما النار
هارتبيز يا جميلي الأكتع
جاؤوا عن يمينك فاخفِ جواهرَك
لا ينبغي لهم أن يقتلوك
إن قتلوك كل شهرٍ.. أموت أنا.. لا أنت
سواء كنت من نورٍ أو من نار.. فات الأوان
تناوشك جنود المطلق
موتك سرٌّ من أسرار التبادل
آسٌ ينقص ورق اللعب
جريمة ترتطم بسقف دالية.. جذع قمر
نشيدٌ يعضّ بمنقار بطة
هارتبيز غادر.. مخبأك ليس آمناً
كرمةُ على نفسٍ أمّارة
أعمدك باسم اللوفر /رغماً عن أميريكا
لا تبعد عني هارتبيز وأفعل ما تشاء
أيها الجمال.. ما أقبح سعادتك الهاربة
وما أجمل شقائي.. المقيم...
خطاب النوم الكبير:
في هذا الديوان كثافة الكوارتز حيث يتخذ الماء شكلاً جارحاً.. كثافة مستمدّة من صمت الأعماق.. صمت الخنادق في خطوط النار حيث كان الشاعر موفداً من الحياة وشاهداً لصالحها ضد صمت الموت المتحفّز.. كتب: إن القصائد مترجمة عن اللغة الميتة في البلد الميت حيث مات أصدقائي.. كان قد نظم في أثناء الحرب موكب سيارات مزينة للإسعاف حين وصل الجبهة هرب، واختفى عند البحارة، وعاش حياة الجنود معهم ولما كشف وضعه اللاشرعي وصلت سيارة رئاسية أخذت الشاعر وبعد الظهر تماماً قضي على كامل البحارة في إحدى الهجمات
= ريشاريو صديقي التعس ما الذي فعلوه بك
دمك يفرَّ منك والموت يتسلّل من ثقوبك الأربعة
حملتُ القطبان والسيارة تتهاوى
على الدروب التي حفرتها القذائف
أمسكت ذراعه.. حتى لو أنه ميت
فإن ساعته حيةٌ في يده
بيليز.. صادروا لك يدك اليمنى
فحملتها باليسرى كالحجر المصاب.. عدة أميال
يشذبونك لتزدهر القصائد الملونة.. من جديد...
تسبيح:
في هذه المجموعة ميلٌ إلى الغنائية واستحضار حالات هاربة وميلٌ إلى الظلال قال إن سيداً مخيفاً غامضاً أملاها عليّ، أخفاني بشخصه واستعارني كي أقولها عنه كخادم له أو تابع..
= كيف لي أن أنام ووجهك مسنودٌ على عنقي
أفكر بموتٍ سريع
سأموت.. ستحييني
ثمة خوفً آخر..
غياب نبض وتنفس العصفور.. هل سيهجر غفوته
حيث جسدنا المتمدد من رأسين وأربع أقدام
أكلّ هذا الفرح يصادره الصّباح؟
خفيفٌ أنا.. خفيف تحت هذا الرأس الصامت الأعمى.. الأصم
رغم هواجسي رغم صياح الديك
هذا الرأس المسافر في العوالم والنواميس الأخرى
ضارباً في جذور النوم
بعيداً عني.. وقريباً
ووجهك على عنقي.. أصغي لفمك النائم
من تكورات ثدييك.. أصغي.. لموتي..
ملامح شعر كوكتو:
سبق وقلنا أن ملامح شعر كوكتو هي تقريباً ملامح مسرحه.. ونضيف إلى ما سبق: التأرجح بين المكتوب والمرئي في كلمات مغمسة بالحبر لتخرج قصائده ملونة كريش الطيور.
- تجاوز دور الشاعر المتفق عليه ذاتياً من دون صراعات:
- صنع علامات وتفكيك ألغاز وحساسية شديدة تلتقط ما يماثلها من الواقع الآلي والمكرر يدخلها مخبره لتخرج مشعة بالفرادة في محاكاة، وإعادة خلق لا علاقة لها بموضوعاتها ولا بالطبيعة..
- تحرير المتلقي من حيزه الخاص، وإدخاله حيزاً يخصه ضمن مسار العمل الشعري أي توريطه..
- إعادة خلق هويات لا أصل لها تنتمي إلى واقع متعالٍ، وهي في تعاليها أشد واقعيةً من الواقع نفسه..
- خلخلة واحدية النص وجعلها مركبة، وتحميل دلالاتها بلغة خاصة تحولها إلى أداة إيصال قابلة للتبدل والإسقاط كالموشور..
- انتماؤه إلى الليل والسرّ لا بالمعنى السوريالي فليله ليس ليل اللاوعي ولا الحواس إنه ليل الأنا العصي على المعرفة والإمساك.. الليل الذي يختبئ في اللغز وكهوف الجسد ويحرس بواباته كائنٌ خرافي كأبي الهول الذي يتجلى في الكثير من أعماله على اختلافها وصولاً إلى ذاته..
اللامنظورية:
يرى كوكتو أن مفهوم الزمن بني على كيفيات حدسية لا براهين لها وأنّ ما نملكه من أدوات ومعارف لا يكفي للوصول إلى المناطق المحظورة بحكم العادة والحواس فالزمن والمسافة، البعد والقرب مبتكرات بشرية وأن الكيميائيين والرياضيين وعلماء الفلك والفلاسفة وضعونا ضمن سجن الاشتراعات والقوانين وعلمونا أن نخضع لها حتى أن مفهوم العدم والحياة ـ الفراغ والامتلاء مفاهيم ساذجة..
هناك بعدٌ غائب أسماه اللاشيء، بعيداً عن إدراكنا.. وكلما حاولنا الوصول إليه نصطدم بجدران مغطاة بجمل مكتوبة لا سبيل إلى تلمّس غيابه إلاّ ونحن حالمون.. والحلم يأخذ طابع اليقظة لعبور جدراننا الثلاثية إلى الجدار الرابع اللامنظور والذي ينتهي بعددٍ لا يحذ من الجدران ونسميه الحرية../علينا أن ندرك سجوننا.. ومن هنا
يأتي الأمل../(كوكتو) عمل كثيراً لتسليط الضوء على ما هو أساسي وهذا الأساسي برأيه لا يمكن أن يكون إلا غير معروف لعدم مشابهته للمعلوم /هناك علاقة مبهمة قديمة بين أنا الحركة وأنا آخر لي أعجز عن بلوغه يدغدغ الذاكرة قبل وصول الصورة حواسي فتصل، وكأنه شيء قديم ميت مرّبي سابقاً /وانطلاقاً من هذا المفهوم برأيي كوكتو، الزمن يلعب الدور المنسوب للمكان. فالأشياء التي نبتعد عنها مكانياً تصغر والأشياء التي نبتعد عنها زمانياً تكبر ـ التاريخ والأسطورة يبعدان عنا زمانياً وامتلاك الأشياء التي يبعدنا الزمن عنها أشد واقعية في ذهننا من الأشياء التي تخصنا.. ورأى أن الشعر نقيض لما يحسبه الناس شعرياً سلاحٌ خطرٌ، وأحياناً لا يصيب هدفه إلا على مسافات لا تقاس.. والشاعر الذي يكمل طريقه على قدميه حتى النهاية يطرده المجتمع، إنه شخص مزعج يظن كل من يراه أنه يعرف إلى أين يذهب.. إنه نظاميٌّ بشكل فوضى..
جان كوكتو سرق من النجوم عاداتها.. احتال على الموت وجعله وسيلته ليحمل الضوء إلى.. اللانهائي..