التحولات النفسية للشخصية الرئيسة في رواية مرآة الروح للروائية اللبنانية لونا قصير
#إبراهيم_رسول
إنَّ ما نقصد به في العنوانِ، هو التغيراتُ التي طرأت على الشخصيةِ الرئيسة في الروايةِ, وأثر هذه التغيرات في بناءِ الشخصية نفسياً واجتماعياً. كانت لغة السرد هادئة دون توترات تُذكر؛ لأنَّ الاسلوب الذي انتهجته الروائية هو الاسلوب التتابعي أو التسلسلي, الذي ينمو نموّاً تدريجياً نحو ذروة التوتر التي كانت في ثلاثةِ أمورٍ. تبدأ الرواية بحدثٍ دراميٍ تكرر كثيراً في قصص وأفلام عديدة كفكرة متقاربة, هذه الثيمة ألهمت العديد من الرواة أن ينسجوا قصصاً كثيرة مع البقاء على الفكرةِ الأصلية أو المركزية ! تسعى الساردة لونا أن تخلقَ الأحداث بصورةٍ دراميةٍ , وهذه الطريقة تحتاج إلى سبرِ غور الشخصية والاشتغال على المنولوج. الاستهلالُ الروائيُ يُعد عتبة مهمة من العتبات النصيّة, والمقدمة الاستهلالية هي النقطة الثانية بعد العنوان التي تُدخل القارئ إلى عالمِ الرواية, هذا العالمُ المليء بالتوتراتِ والارتدادات التي تجعلُ النص مشوقاً, روتَ لنا الكاتبة في مقدمتها حادثة مؤلمة وكانت بعد المقدمة الوصفية التي وضعتها في أوّل الرواية, فالمشهدُ الأوّل هو مشهدٌ قد عُولج بشكلٍ جيّد, وبُنيَّ على عاطفةٍ إنسانيةٍ ووجدانيّة, المشهدُ قُدمَ له بمقدمة تشويقية:
_ الأم كريستينا, تعالي تعالي بسرعة معي..
_ ما بك أخت تيريزا؟(صفحة 11) .
هذا الاقتباسُ هو أوّل الفصل أو المقدمة الأولى التي أعطت لنا صورة أولى لنسأل عن هذين الاسمين؟ الدخولُ المباشرُ للحدث يحتاجُ إلى جملٍ متوترة, مشوقة ودالة ومعبرة؛ فصورةُ المشهد واجتماع الراهبات لا بدَّ أنّه أمرٌ مهم, فتسارعتْ الراهبات الاخريات لتلبيةِ النِداء, ليتبينَ أنَ سببَ هذا الاجتماع الطارئ والمفاجئ, هو وجود صندوقٍ يحوي أشياء أطفال رُضع, فُتشَ الصندوق فَوجِدَ أن هناك طفلةً!
أخذت الحيرة مأخذها عندهم جميعاً, وأخذنَّ يُقدمنَّ مقترحات في مصيرِ هذه الطفلة, وهذا هو المشهد الأوّل الدراميّ الذي أدخلتنا فيه الكاتبة مقدمة النص ومتنه . وتتقلبُ هذه البنت في أطوار الرهبنة ولكنها لن تكون راهبة! هذه إشارة رمزية, فالحريةُ الشخصيةُ كاملة عند البنت التي أتمت دراستها, يمضي السرد سريعاً ويختصر لنا الكثير ويطوي الأكثر, إذ جعلت الروائية الأحداث المهمة والتي تطور من الرواية وتزيدها حِبكةً هي الأكثر أهميةً.
تذكرُ لنا الكاتبة الأحداث عبر لغة سلسة غير معقدة كأنَّها تستنطقُ الشخصيات بِلسانهم وثقافتهم, لا تلاعب في الألفاظِ ولا بلاغة معقدة, لكنها في الوقتِ ذاته تصف المشاعر الشخصية بتشبيهاتٍ ذاتَ صورة بلاغية رائعة, كما وصفت ياسمين البطلة بقولها ) كالسمكة تتخبط في شبكة صياد ماهر)( الرواية صفحة 51), هذا الوصفُ يليق بالموصوفِ في حالته تلك, لأنَّ التشبيه لا بدَّ أن يتلاءم مع المُشبه ويقترب المعنى صورياً في ذهنِ المُتلقي, ياسمين تمرُ بحالاتِ انكسارٍ كثيرة وتستمرُ معها كثيراً, فمنذ أن دارَ الحوار بين زميلتيها في المدرسةِ وحتى تعرفها على رمزي وزواجها منه ومنْ ثمَ تعرفها على هادي وعلاقتهما معاً, هذا التأرجحُ واللاثبات في الشخصيةِ, جعلَ المُتلقي, يشعرُ بهذا الاضطراب النفسي, فهي متزوجةٌ وتمارس علاقة حب مع شخصٍ آخر!
التحولاتُ التي وظفتها الروائية في الشخصية الرئيسة ( ياسمين) جعلتها في وتيرةٍ واحدةٍ مع الأشخاص الذين تفاعلت معهم, فهي ذات التحولات مع هادي أو رمزي أو حتى نفسها! وهنا ندخل إلى عالمها النفسي, لنسأل عن المؤثرات الكثيرة التي تأثرت بها لتجعلها تنحو هكذا نحو من تشتت وضياع ولا سلطة على القرار, هذه الأسئلة جعلت النص يبدو مفتوحاً, على الرغم من الخطاب الروائي الذي يكاد يتدخل في كل شيء إلا أن ياسمين وتحولات شخصيتها دراميا تحررت من الكاتبة حتى! هذا مما أبقى الروحية في النص, وتعدد القراءات للنص نفسه, نحن لا نملك تحولاً واحداً لنؤوّل النص تأويلات عديدة.
الشخصية الرئيسة عاشت تحولات حتى في داخلها, هي تعاني من تغيرات كثيرة, ولعل مرد هذا إلى طبيعة روحها التي تميلُ إلى اللاثبات في العلاقات ولا استقرار, وربما شكلّ مرض زوجها رمزي السبب أو المبرر لتتعيش قصة حب أخرى بظرف آخر!
جذبني العنوان لأول وهله ، فأخذت الرواية لأتفحصها وأرى مواطن الجمال الفنيّ والذوق الأدبيّ فيها ، العالم العربي يعيش اليوم أزمات متراكمة تعصف به ، وهذه الأزمات قيدت العقل العربي عن التطور والإبداع ، فكيف يولد الإبداع والظروف بغاية الصعوبة ؟، والناس تسعى لتؤمن القوت اليومي لتسد به رمقها ! في وسط تلك الأزمات وفي وسط حالة الفوضى العارمة تخرج علينا الروائية لونا قصير بنتاج أدبي خلاّق ، فهي تملك روح عالية وهمة أعلى بكسر القيود التي فرضت على المرأة العربية ، وتسعى جاهدة لتوظف أدبها بصورته الروائية لتحقق طفرة في العقل النسويّ ، وهي مزية تُشكر عليها ، فقرأت رواية مرآة الروح قراءة من يريد أن يدرسها لكي يأخذ منها دروساً وعبر ومحطات للترويح عما تعانيه النفس من ألم ومرارة ، فوجدتها ذات انسيابية سلسلة ، وذات طابع جذاب ، وكلمات حداثوية لم تفقد نصها الفصيح ، فهي تبدأها بعبارة فلسفية بحته ( هل نحن مسيرون أم مخيرون )؟ ، وهذه الافتتاحية جميلة ، عندما يُطعم الأدب بالفلسفة فيكون النتاج ثمراً كله أو جُلّه ، أعطت قيمة حوارية رائعة لأدوار شخصياتها وألبستهم روح واقعية يعيشها القارئ ويتأثر بها ، فالأم كريستينا هي المثال للمرأة الطيبة والصالحة والمربية الفاضلة ، وياسمين المثال للبنت الشابة التي لها ملامح طفولية وبراءة ، تجد نفسها وقد رماها القدر في المجهول ، فتأتي يد الأم لتلتقطها وتحتضنها وتسعى لتربيتها وتبذل غاية الجهود في تنشئتها ، وعندما تكون شابة يافعة يتعلق أو يرنو قلبها إلى أحدهم ، فتكتشف أن الألم ما يزال لا يفارقها وذلك عندما عرفت أنَّ هذا الذي أحبته مصاب بمرضٍ عضال خطير . وتبدأ بذلك القصة ، والقارئ لن يترك فصلاً حتى يتشوق إلى الذي يليه ، وهنا براعة الكاتبة وهذا إحدى مواطن الجمال ، إذ لم تجعل من قارئها يفقد الحيوية واللذة التي يشعر بها ، هذه اللغة المسبوكة والطيعة في يديها أعطتها مرونة ، فخرجت الرواية قالباً من الجمال أو آية من آيات الفن الروائي ، فهي رواية تعطي للقارئ نكهة وتجربة وحكمة وعبرة ، وسيلاحظ القارئ هذه المواطن الأربعة فور قراءته للفصول الثلاث الأولى ، فبالتالي تعتز المكتبة الأدبية العربية بهذا القلم وبهذا العقل وبهذا الأدب ، وهي بحق مفخرة لنا نحن العالم العربي ، فهي نموذجٌ للتحرر والتنوير في عقلية المرأة العربية .
ومن وجهةٍ نقديةٍ, نبصرُ أن الكلاسيكية في السرد هو الطريقة العامة, قد لا يُعاب على الرواية , أنها تتخذ الاسلوب الكلاسيكي, كون المبررات حاضرة , أي مبررات هذا الاسلوب, الجنبةُ الانسانيةُ هي المغزى الاكثر تعبيراً من غيره, فالمسألةُ هي مسألةٌ إنسانيةٌ بحتة, ولعل هذا التوظيف قد عبرَ عن نزوعٍ جوّانيّ. الشخصية الرئيسة كانت تُعبر عن قصصٍ كثيرة عاشها العالم في شتى بقاع الأرض.
إنَّ السردية التي قامَ البناء الفني عليها, ترتكز على بثِ شحنات وجدانية وإنسانية, لتعطي روحية عالية في القصة, وهذا ما جعل القصة تأخذ منحىً درامياً وعاطفياً عالِ المستوى. قصةُ ياسمين تصلح أن تكونَ القصة الكلاسيكية التي تصور لنا المجتمع في حقبٍ كانت الانسانية تكون فيها عبارة عن مفارقة كبيرة, فتجد هناك من يرمي طفلة في المجهول دونَ رحمة أو عطف أو شفقة, وتجد في المقابلِ , أنَّ هناك من يحتضن هذا الطفلة ويربيها ويعطف عليها ومن ثم يترك لها الحرية في الحياة , هذا ما مثلته الرواية في قصتين متوازيتين تسير الأولى بعكس الثانية, وعلى طرفي نقيض. إن لغة السرد كانت متناسبة وشحنة العاطفة في القصةِ الرومانسية, فجاءت اللغة متطابقة تماماً مع نمو السرد نمواً تتابعياً.