حازم كمال /المنفى والفنان.. الجزء الثاني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حازم كمال /المنفى والفنان.. الجزء الثاني

    حازم كمال /المنفى والفنان.. الجزء الثاني



    في المنفى.. اللا أب!




    في الجزء الماضي تعرضت لكيفية تدخل المنفى الحاسم في حياتي كفنان، وكيف جابهت نفسي بأسئلة جوهرية عن العملية المسرحية، وتأثير الحرب الحاسم على فهمي المسرحي حيث لا يمكنك أن تنشغل بما هو ثانوي في المسرح وأن عليك أن تختزل وتكثّف إلى الحدود القصوى وأن تركز على هاجسك الأبدي وسبب وجودك وهو عفوية وحميمية اللقاء مع الجمهور. ومن هناك إلى علاقتي مع الممثل والجسد دوافعه وأسبابه وتعمقت في رؤيتي للتمثيل. كذلك تطرقت لحيوية الممثل وعلاقته التفاعلية مع المشاهد وكيف أن هذا كله أبعدني عن جذوري المسرحية التي تعلمتها في الأكاديمية والفن الحديث وتوقفت عند علاقتي النقدية بالفن المسرحي الأوربي.



    جروتوفسكي

    بعد أن أنجز جروتوفسكي، بعبقرية نادرة، بحوث ستانيسلافسكي النفسية الجسدية وراقب أحداث بيوميكانيك مايرخولد تجاه المدرسة الواقعية أسرته الثقافات الأخرى كما أسرت من قبله أنتونين آرتو، واعتقد أنّ الخلاص، أو الطريق إلى الانتحار (التدمير الذاتي) يكمن خارج الثقافة الغربية.

    لهذا كان ذهاب جروتوفسكي إلى الشرق أحد تجليات البحث عن منقذ للحضارة الغربية التي مافتئ مفكروها يكررون منذ قرن أنّها في طور الموت. ولربما كان ذهابه إرضاءً لفضول ما غير المألوف، ومعايشة تجربة فريدة، ولسد نقص ذاتي نفسي أو معرفي. وبكلمة: بحثا عن التوازن الذاتي.
    تحدث آرتو كثيرا وبإعجاب شديد عن بالي وعن كاتاكالي وعن الحروف المصرية القديمة واعتقد أنّ خلاص المسرح الأوربي من موته يجب أن يجد ضالته هناك. كلمات آرتو الجريحة ثاقبة البصيرة وتعادي بشكل مطلق أشكال السلطة أو التسلط الثقافي. لقد تجرأ على الحديث عن الطاعون باعتباره ظاهرة مفيدة ولم يسبقه إلى ذلك أوربيا، كما هو معلوم، سوى بودلير (أزاهير الشر).

    جروتوفسكي واصل خطى آرتو بطريقة موسوعية ونقدية. واعتقد، أو استنتج، بأن آرتو لم يفهم الشرق وبقيت بحوثه كشف حدسي فريد في التاريخ يفتقد مناهج التنفيذ.

    فاقتطع جروتوفسكي من السياق الشرقي عناصر ضمّها قسرا، أو عضويا، إلى منظومة بحثه المسرحي. واعتقد لسنوات أنّه من خلال اليوغا سيغذي منظومة عمل للممثل. وعندما لم يحدث ذلك استنتج أنّ اليوغا نظام مغلق سكوني تأملي (تفكّري) meditation غير قابل للتطويع المسرحي.

    من البديهي بالنسبة له كفنان غربي أن يبدو نظام اليوغا مغلقا سكونيا غير قابل لأن يكون مسرحا. فهذا النظام مؤسس على أعمدة روحية حسية طاقية وليس على أسس معقلنة. ولكن بالنسبة لي من البديهي أكثر القول أنْ لا وجود لنظام معرفي سكوني. فصيرورة أيّ نظام قائمة على الحركة وإلا فالموت هو مصير اللا حركة. إنّ الحركة التي تبدو ساكنة في اليوغا مؤسسة على ميكانيزمات قد تتعارض مع بناء فن العرض الأوربي المؤسس على الحكاية، والحدث، والأسباب، والنتائج، والشخصية وغيرها. في اليوغا ثمة دوائر مغلقة من الطاقة تنفتح على الآخر ولا تلامسها حين تفكر وتحلل وتسبّب وتبني، كما ولا توجد حكاية بالمعنى الغربي لكلمة حكاية (حدث وقصة). بل توجد حكاية التواصل الكوني الروحي والسيطرة الذاتية وإدراك النفس وإدراك الله. هذا الإدراك قابل للتبادل، مع الإحساس الباطني بأنّ الطبيعة الحقيقية نفسها تنكشف خلال ممارسة اليوجا. وتتمثل بالإيمان بأن التحرر الروحي يحصل حين تتحرر النفس من ارتباطها بالمادة.

    نحن نتعلّم في الشرق عن طرق عديدة أهمها التعبّد وطقوسه وشعائره ومن هناك ينشأ لدينا حضور حيّ عنصره التواصل. هذا التعلّم يضعنا في لقاء حيّ تفاعلي مع الجمهور وهو تفاعل يتمّ بطرق مختلفة. ولقاؤنا التعبدي غالبا ما ينتمي إلى الصمت/السكون الظاهري أو الخارجي والتأمّل الداخلي الحيوي وسائطه التكرار والتقليد والممارسة. فنحن نقول إنّ التكرار يعلم الحمار. والمعلم لدينا هو تراكم لإرث من الآباء ولا يجوز له أن يتجاوز تعاليمهم إلا إذا بلغ سن الرشد. وسن الرشد هو المرحلة التي هبط فيها الملاك على الرسول محمد (ص) أيّ بعد الأربعين. نحن نراكم المعرفة بطريقة تصاعدية كما ينبني البيت. أساس، جدران، سقف.. إلخ.
    في البوتو الياباني مثلا أو في الرقص الصوفي ينمو الفنان ببطء وبطريقة تصاعدية. في البوتو لا يتجاوز الدرس الواحد، أو البروڤه أكثر من 5 أو 6 تمارين علما أنّ وقت الدرس أو البروڤه هو أربع ساعات، وفي طقوس الرقص الصوفي ندور ساعات لنشعر ونتثبّت من علاقة الأرض مع أصابع القدم قبل أن ننتقل للخطوة التي تليها.

    جروتوفسكي رأى في التأمل والتمارين البطيئة إلى درجة تقترب ظاهريا من اللا حركة (اليوغا) استعصاء لصناعة مسرح. ذلك أنّ لديه، حسب الخبرة التي تعلمتها منه، تراكم أفقي للمعرفة أوحى لي بأنّ النمو يتم عن طريق التعبئة المعلوماتية للجسد.

    مثلا في تمارين الحيوية كنا نأخذ في الحصة الواحدة أكثر من 30 تمرين: أنواع الانتقال الحركي في الفضاء، وحركات البلاستيكس، وفكرات الحيوانات. وكان علينا أن نولّف هذه التمارين مع بعض أو نؤلفها للوصول إلى ما يُصطلح عليه قطع وربط الصلة بين حياة الجسد وعقلنتها.

    كذلك كنتُ أرى فصلا كاملا بين التمرين وبين البروڤه والعرض. فلدى جروتوفسكي التمرين شيء والبروڤه المؤدية للعرض شيء آخر. وهذا أحد تأثيرات الثقافة الروسية عليه. إنّ تمرين البيوميكانيك شيء والتدريب على عرض مسرحي شيء مختلف. هكذا يخبرني زميلنا الذي تعلم على يد بوجدانوف توني دو ماير. أمّا الكسي بوبوف فيقول ما معناه إنّك إذا ما استسلمت للتمارين لن تصل العرض أبدا. والكسي بوبوف أحد التلاميذ المخلصين لستانيسلافسكي.

    بيد أنّني يجب أن أسارع بالاعتراف

    يوجينو باربا يعمل على إلغاء الفصل القسري بين الاثنين ويعمل على ربط التمرين بالبروڤه.

    في مسرحيتي دماغ في عجيزة 1996 غضب (معلّمي) مني وقال إنه لا يحق لي أن أقدم التمارين المسرحية للمشاهد باعتبارها عرضا. كان ذلك ردّا على بحثي في بناء طريق عضوي متصاعد يمتد من التمارين وصولا للعرض. في تلك التجربة حاولت أن أبني الشخصيات الجسدية للممثلين عن طريق مختلف مناهج التمرين الحركية وليس اعتمادا على الأبعاد النفسية والخارجية وغيرها؛ رقص من جنوب أفريقيا تقابله طقوس عربية وبعض تمارين الحيوية الجماعية. ولقد تكرّر النقد في مسرحية عين البلح حيث وضعت تمارين منهج إيكو نور هاريانتو المؤتمن على تعاليم الحركة في بالي باعتبارها شخصية مسرحية، تقابلها تمارين المايم الجسدي الذي يجيده أدوين دو لانو، وبالضد منهما تمارين تانيا پوپه للرقص المعاصر والحوار. كان ذلك بين عامي 1996 و 2000.

    الآن يدرس الفنان في الرقص الغربي المعاصر أكثر فأكثر التمرين باعتباره جزء منالآن يدرس الفنان في الرقص الغربي المعاصر أكثر فأكثر التمرين باعتباره جزء من العرض لا باعتباره وسيلة تحضيرات للبروڤه.

    سأستطرد قليلا وآخذ مثالين من البوتو والرقص الصوفي لأرصد كيفية نمو التمرين وتحوّله إلى مشهد مسرحي.

    مثال أوّل..

    كيس الشاي:

    أنت تقف بركبتين منحنيتين قليلا. عمودك الفقري مستقيم إلى الأعلى. رأسك معلّق في الفضاء تجاه السماء وكأنّ رافعة ترفعه من الأعلى أو حبلا.

    أنت في حالة استرخاء.

    من حيث لا تدري يتغلغل ماء ويتشرّب جسدك فيصعد إلى الركبة فالحوض والبطن ومن ثمّ الصدر.. إلخ. هذا التشبّع بالماء لا يفصلك عن الجاذبية كما يحدث في الحالات الواقعية حين تعوم، بل ينفخ جسدك وكأنّه كيس شاي مربوط إلى خيط وكأنّ الماء المتسرب للكيس (الجسد) يجعل جسدك ينتفخ وينتفخ ومن حيث لا تشعر ترى يداك تنفصلان عن جسدك وكأنّهما تطفوان، أو كأنّ قوّة خارجية ترفعهما، أو كأنّ الماء هو من يحملهما. عندما تشعر (بواسطة الخيال) أنّك انفصلت عن الجاذبية يصبح بإمكانك أن تتحرك أو تعوم في الهواء (الفضاء) ببطء بذات إيقاع الماء الذي تسرّب إلى جسدك وتشبّعه.
    أدخلنا تعديلا هنا وتعديلا هناك على التمرين وعلى وضعيات الممثلين وأضفنا تناقضا بين ممثلة وزميلها، وتناقضا ثان بين زميلتين تنتهيان بالصراخ والسقوط على الأرض. هكذا ينتهي التمرين الذي يستغرق حوالي ساعة متحولا إلى مشهد مسرحي.

    مثال ثان..

    الدوران:

    في رقص الدراويش نتعلم الدوران حول الذات أوّل ما نتعلم. والدوران الصوفي ليس دورانا اعتباطيا أو فطريا. فهو يعتمد القدم اليسرى دعامة، أو مرساة، يلتفّ حولها الجسم طوال الوقت بينما القدم اليمنى تعمل كالدافع المحرك. فائدة الارتكاز على القدم اليسرى هي منع الجسم من السقوط أثناء الرقص في حالة الإصابة بالدوار وذلك بالتركيز على شدّ عضلات القدم اليسرى عند الشعور باختلال التوازن. يكون الدوران عكس اتجاه عقارب الساعة نحو الجهة التي فيها القلب. وتكون سرعة الدوران بطيئة نسبيا لحوالي ربع ساعة يبدأ بعدها الراقص في زيادة سرعته والثبات على سرعة معينة لحوالي نصف ساعة يليها تخفيض تدريجي للسرعة، وتزداد مدة تخفيض السرعة بازدياد مدة الدوران.. فقط لمحاولة تكييف جهاز الاتزان المعقد على سرعة الجسم ومنع سقوطه أو حتى ظهور أعراض أخرى كالغثيان أو الدوار أو أيّ ظواهر بصرية أخرى غير مرغوبة. أحيانا يتم توليف الدوران بطقوس أخرى تتضمن تنويع الاتجاه في الفضاء، أو السقوط أرضا، أو النوم على البطن، أو ملامسة السرة العارية للأرض في وضعيه تذكّر بالجنين في بطن الأم واتصال الإنسان بالتراب.

    والآن، إذا تأمّلت احتفال (المولوية) هذا سترى كل المبادئ الأوّلية في التمارين حاضرة في الطقس أو الاحتفال.

    نحن نتوجه إذن إلى الداخل ومن خلال الصدق في ذلك التوجه يحدث تفاعل غير مباشر مع المشاهد في الخارج. ظاهر هذا التفاعل هو البطء بالحركة أو السكون، لكن داخله أمواج الطاقة المتماهية مع الذات والجمهور. إنّه شكل من اللقاء (الطاقوي).

    دعني أعترف وأقول إنّ الاختلاف بين الشرق والغرب هو اختلاف جوهري كمثل اختلاف جنس الرجل عن المرأة.. واحد يتجه إلى العلاقات الداخلية للإنسان وكينونتها وعلاقتها بما هو ما ورائي أو غامض أو ملغز أو طاقيّ أو سمّها ما شئت، والآخر يتّجه إلى الخارج فيعقلن ويبحث عن منطق وسياق وبنية.

    أما المزاوجة بين الاثنين فتقتضي منا أولا أن نعترف بأن ما لا يستطيع أن يدركه العقل الواعي في الغرب يحتاج إلى شيء آخر لإدراكه. وبأن ما لا يستطيع الشعور أن يتعرف عليه عن طريق العقل اللاّ واعي في الشرق يحتاج بدوره لأسلوب آخر لوعيه. إنّ البحث عن مدخل لمزاوجة هذين النمطين الحياتيين يقتضي توسيع فسحة الروح والعقل معا لا توسيع العقل عن طريق فهم الشرق ولا تشذيب الروح عن طريق الإحساس بالنمط الغربي.
    تقول (الغربية) ﭭيرله ميرينس إنّها عانت كثيرا ولم تشعر بالتمارين في الأسبوعين الأوّلين من ورشة عمل (البوتو) وتقول إنها كانت (تفهم) ما هو المطلوب لكنّها لم تتمكن من العثور على المطلوب. كانت ﭭيرله تحاول عقلنة المهمات المطلوبة، بيد أنّها حين وجدت الطريق إلى نفسها عبر طلاق العقلنة (إذا صحّ هذا التوصيف) حدث اللقاء العضوي بين العقل والجسد. هنا تقرير قصير من ڤيرله ميرينس طلبتُ منها أن تكتبه لأغراض البحث إبّان الورشة عنوانه: تجربتي مع البوتو

    في البدء لم أكن أفهم. لقد كنت أفهم ما تشرح ميناكو سيكي بخصوص قربة الماء، وكيس الشاي، والكرة الحديدية، والتعلّق والتدلّي من الحبل، والوقوف على الأرض،... ولكنني لم أشعر بهذه الأشياء داخل جسدي. ولقد كنت أيضا قلقة جدا.

    لقد أيقظتني ميناكو حين جابهتني بما لم أقم به، وبمحدوديتي، حين جابهتني بالطريقة التي كنتُ أبدو فيها أمام الجمهور: قلقة، فاقدة للثقة بالنفس، ومزعزعة.

    لحظتها شعرت بالذعر وبدأت أتدرّب على التمارين بعد الدروس، وصرت أحكي مع بقية الطلبة حول الموضوع. بيد أنّ الخوف والقلق لم يغادراني. بالعكس. لقد تفاقمت الأمور وبلغت أوجها بعد انتهاء العرض الذي قدمناه يوم 13 اكتوبر 2000.

    في البيت أحاط الحزن والغضب بمشاعر القلق وضعف الثقة بالنفس، وبعدم الإحساس بالتمارين، وبمحدوديتي.. لكن تنفّس الصعداء حدث للمرة الأولى بعد 3 أسابيع. عندها شعرت للمرة الأولى ما هو التمرين بالفعل؛ على سبيل المثال أدركت أنّ الشيخة أو عملية الاهتزاز تعني نفض غبار النوم صباحا، والانفتاح على اليوم القادم الجديد، وإيقاظ مركز الطاقة، والانفتاح،... باختصار، فجأة أدركتُ الكثير من المعاني التي كانت تشرحها ميناكو.

    ولم يقتصر إدراكي على تلك التمارين، بل وشمل العديد من التمارين الأخرى كمثل الخاتمة، وعملية ترك الفضاء يأتي إليك. لقد شعرتُ أنّ تلك كانت هي البداية التي انطلقتْ الآن فحسب. لقد أصبحت قادرة على وعي جسدي (طولي على سبيل المثال)، وعلى وعي حكمة الفضاء، ووعي الطاقة والديناميك. هنا يجب أن أضيف إلى أنّ ما حدث بالنسبة لي كان بداية وانزياحا لجزء من النقاب، بيد أنني مازالت غير متمكنة من كل شيء.

    كان العرض الذي قدمناه يوم 20 أكتوبر بالنسبة لي خاتمة جيدة (رغم أنّ الأمور لم تجر جميعها كما كنتُ أهوى ومنها مشهد الأخطبوط) بيد أنّ الشعور الداخلي كان حاضرا.

    إذا اختصرت هذا كله أستطيع القول إنّ البوتو فتح عيني، وإنني أصبحت مدركة للكثير من عناصر التقنية المسرحية والجسدية وبالأخص إدراكي لذاتي. لقد كانت بالنسبة لي مرحلة تعلّم خاصة جدا.

    استنتاج بسيط:

    وعي الذات عن طريق الشرق لا السعي لمعرفة الشرق هو مفتاح الدخول إلى الشرق. فإذا لم يعرف الغربي آليات ثقافات الشرق الداخلية سيقتطع من سياقاتها ما وسعه أو يعطي أحكاما لا تلمس نبض قلب الشرق إلا لماماً.

    في بحثنا لسنوات التسعينات وبدايات الألفية الثالثة ركزنا على التنفس باعتباره وسيلة لقاء مجازية لما هو حسي وما هو معقلن بين الشرق والغرب. مركز اللقاء هو الجسد. عن طريق التنفس الصحيح تستطيع أن تلامس الفجوات الداخلية والمراكز العضلية للصوت وإذا ما أسندته بالخيال تستطيع عن طريق الحجاب الحاجز تطويل القصبات الهوائية حتى أسفل البطن مركز الجسد.

    وإذا ما تجرأت بالشعور بالمراكز الجنسية أسفل بطنك وإذا فكرت بالعمود الفقري باعتباره قصبة هوائية أصبح سهلا عليك أن ترسل تنفسك إلى عضو واقعي مرة وعضو متخيل مرة أخرى: القنوات التنفسية وما يتفرّع عنها هي الأعضاء الواقعية أما الأعضاء المتخيلة فهي أسفل البطن أو أعلى الرأس أو الظهر أو الأطراف.. إلخ. وهكذا يصبح التنفس مركز لقاء بين ما هو حسيّ وما هو معقلن. التنفس هو مركز حيوي جدا وذو إمكانيتين: الأولى الشهيق والأخرى الزفير. والطفل حديث الولادة ينتج أصواتا عن طريق العمليتين. الصوت هو الصورة التموجّية لما يحدث داخل الجسد من عمليات عضوية عاطفية خيالية نفسية تجريدية أو تشخيصية. وإذا ما اعتمدنا بديهية أننا لا يمكن أن ننتج كلاما دون تنفس وبحثنا عن مراكز الرنين في الجسد سنتمكن من أن نبني علاقة ذات بعدين مع الكلمة المُنتَجة: البعد الأوّل نصي (وما يتبع النص من تأويلات كلامية ألسنية) والثاني تأويلي (وما يتبع ذلك من دراسة لعلاقة الصوت بالمعنى وعلاقة المعنى بمواقع الرنين الجسدية). وهكذا نعتقد أنّه سيصبح ممكنا أن يكون التنفس هو العمود الفقري للمزاوجة بين ما هو عقلي وما هو حسي في هذه المرحلة من عملنا.الأسباب السابقة دفعتني لاختيار البوتو كطريقة عرض أجدها تحقق هويتي الذاتية.





    البوتو

    الأنا التي أعادت إنتاجي وفقا للمواصفات التي يطلبها الآخر.

    أحد الأسباب التي دفعتني لاختيار البوتو هو أنّها طريقة عمل شرقية تكشف جوانبا خافية عني في الفن وفي أعماق ذاتي.

    تأسست حركة البوتو على يد تاتسومي هيجيكاتا كرد فعل ثوري على تقليد الثقافة اليابانية المستمر للغرب دون أن تعلن قطيعة مع ثقافة الغرب. ثمّة تأثيرات غربية من الرقص التعبير الألماني، ومن آرتو، وجان جينيه. لكنّ حركة البوتو سعت إلى فضح ثقافة الغرب دفاعا عن الثقافة اليابانية الشرقية.

    آن كوكو بوتو تعني رقص الجانب المعتم في النفس.

    يقول أحد مؤسسي الحركة إنّ بوتو هي نقطة التقاء الروح بالآلهة. الجسد محمول عن طريق شيء (لا يمكن أن تضعه في لغة أو كلمات). البعض يعتقد أنّ الجسد يُقاد عن طريق قوى داخلية غير مرئية. الـ ma اليابانية تعني interspace أيّ فضاء وسيط في الزمان أو المكان. هناك في تلك الفسحة الوسيطة، حيث تعيش الأرواح والآلهة، تتكون حركة البوتو. إنّ استقبال الأرواح والآلهة في جسدنا هو جوهر البوتو. وأمّا منشأ حركة البوتو فهو الموت، الكفّ عن أن نولد والبحث عن الولادة دون أن نولد. التدميرية. المسخ. باختصار جماليات الجانب المعتم في الروح.
    ويقول آخر إنّ الإنسان يتكون من قسمين الأوّل المضيء والثاني المعتم. حول الجانب المعتم في الإنسان نحن لا نعرف الكثير. أخلاقياتنا التي تربّينا عليها تمنعنا من التعامل مع هذا الجانب. كل شخص منا تتولد لديه فكرة شريرة ذات مرة. لكنّ العيب والخجل والإحساس بالذنب تمنع التعامل مع هذه الأحاسيس بطريقة إيجابية أو تطهيرية.. بوتو تريد أن تكتشف الأجزاء غير المكتشفة وغير المفهومة في جسدنا.

    باكو إيشي هو معلّم تاتسومي هيجيكاتا الذي أسّس الحركة. وباكو إيشي هذا كان راقصا متأثرا بالتعبيرية الألمانية التي كان يمثلّها في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي هارلد كريتسبرغ وماري ويكمان. غير أنّ هيجيكاتا تمرّد على معلمه وكسر القواعد الغربية للجمال وتمرّد على النموذج الغربي للرقص. فانطلق يبحث عن طرائق حركية يابانية قديمة ومقتصدة أو مكثّفة تعطي الجسد بعدا جديدا.

    عام 1968 قدم هيجيكاتا أهم أعماله الذي قال عنه الباحثون اليابانيون إنّه حرّر الجسد الياباني من استعباد الثقافة الغربية. في ذلك العمل الذي حمل عنوان (انتفاضة الجسد) كانت ثمّة قسوة لا محدودة وسخرية غير رحيمة بالأعراف الأوربية.

    تعتمد البوتو كما أسلفتُ على الجانب المعتم في الإنسان. ولكن ماذا عن الجانب المضيء؟

    إنّ الجانب المضيء، حسب معلّمي البوتو، حاضر في الجماليات التي خرّبتها الأعراف الثقافية في الشرق أو الغرب. أمّا الجانب المعتم فينا فلم تخرّبه أعرافنا الثقافية بعد! وفي هذا السياق يعتبر فن البوتو محاولة لإنقاذ الإنسان عن طريق إضاءة المعتم فيه.

    هذه الثورة ضد الغرب تتناقض مع سلوك الشخصية الشرقية المعاصرة. فالشرقي ينظر إلى الغرب انطلاقا من عقدة نقص: الغربي أرقى من الشرقي. الغربي أكثر تطوّرا من الشرقي. الغربي هو المركز. الغربي هو المسيطر. والشرقي يأتي غالبا إلى الغرب لكي يتعلم. إنّه يأتي حاملا ثقافته ليقدمها على طبق غربي، أو على طبق شرقي يداعب الصورة التي رسمها الغرب عن الشرق ذات يوم. والمثقف في الشرق مستعبد للثقافة الغربية وأسير تقاليدها (سواء كانت هذه التقاليد ماركسية أم أمبريالية أو غير ذلك) وتساهم في ذلك الاستعباد السلطات الشرقية أيضا. تصور أنّ سلطة شرقية مثل سلطة صدام حسين منعت طقوسا ثقافية شرقية أصيلة تعتبر واحدة من أهم المظاهر المسرحية الشرقية الإسلامية المختلفة وذات القرابة مع الثقافة الغربية. أقصد التعازي!

    إنّها طقس احتفالي يذكّر بالتشابيه المسيحية التي تعرض سنويا في مدينة بروج البلجيكية. بيد أنّ عروض التعازي (موضوعها مأساة الإمام الحسين) تستمر لـ 13 يوما بدايتها في الأول من شهر محرم، وذروتها في العاشر منه، ونهايتها هي اليوم الثالث عشر.

    إنّها أيام تتحول فيها المدينة إلى ساحة عرض مسرحي مستمر يساهم في بناء مشاهده الجمهور بطريقة فعّالة فيصبح تارة جزءا من مواكب تطوف حاملة مشاهد متنوعة عمادها الكلام والحركة تصحبها شخصيات مسرحية بأزياء وأكسسورات وديكورات متنقلة تتجول على صهوات خيول وما شابه وكأنّها تماثيل حيّة للشخصيات التي لعبت أدوارا مختلفة في أحداث تلك المأساة، ويصبح الجمهور تارة أخرى مشاركا من خارج المواكب عبر البكاء والغناء والحركة وفي كثير من الأحيان يتحوّل إلى شخصيات مسرحية بمواجهة الممثلين الحقيقيين. ولا يقتصر العرض على الأماكن العامة، بل يشمل الأماكن الخاصة مثل البيوت حيث تمارس النساء طقوسا من الحركة والكلمة معزّزة بالأكسسوار والأزياء والماكياج الغريب.

    الفنانون اليابانيون الذين حذوا حذو هيجيكاتا اعتمدوا مفرداته التأصيلية اللا غربية قاموسا وغاروا عميقا في الجزء المعتم من الإنسان وعلاقة الإنسان بالأرض وبالطبيعة والسماح للطبيعة بالتأثير على كل شيء حتى العرض المسرحي.

    لقد نشأت حركة البوتو بعد الحرب العالمية الثانية كحركة احتجاج تدافع عن حضارة الياباني الشرقية. ولكن التجربة أخذت مسارا آخر بعد موت هيجيكاتا. لقد بدأ المبدع الياباني بالقدوم إلى الغرب لكي يبيع بضاعته من جديد ولكي يثبت أنّه في هارموني مع ثقافة الغرب. أيّ أنّه في الحقيقة راح يكرر باكو إيشي المعلم الذي تمرّد عليه هيجيكاتا. وقد فعل الفنان الياباني ذلك بهدف كشف أسرار التقنيات للغرب لكي لا تبقى طريقة عمل البوتو مستغلقة. وكلمة مستغلق هي مصطلح إرهابي يُستخدم في الغرب كلما عجزت الكودة الغربية عن احتواء ظاهرة محددة. والكودة في الغرب هي ما يشبه الزيّ الموحّد على الجميع أن يرتديه، وهي تفقير لغنى الإنسان الذي ابتدع (الكودة) كوسيط تفاعلي قابل للنمو وللتغيّر وللموت أيضا. لكنّ الغرب يعتبر الكوده الآن صمام أمان يترجم له ما يحدث خارجه، والكوده هي التي تغيّر الآخر لكي يصبح قابلا للقراءة الغربية، وليس العكس.

    مثال محزن على هذا هو المبرمج الثقافي في مراكز الثقافات والفنون.

    إنّ هذا الحاصل على شهادة جامعية عليا بالعلوم المسرحية يقول لي ببساطة إنّه لا يفهم عملي، ولا يفكّر بمساءلة كودته الثابتة التي تعلمها في الجامعة. يقول إنّ هذا النوع من العمل الفني لا يصلح لجمهوري ولا يقول إنّ الجمهور قد تدرب على كوده محددة ويجب تطوير هذه الكوده عن طريق إضافة كوده أخرى، عن طريق الحذف، أو تكييف كوده قديمة أو جديدة. إنّه بالإضافة إلى ذلك يضع في رأسه مقدما أنّ الآخر (الذي هو أنا) هو من يتوجب عليه أن يُخضع عمله لمقياس كودته الأمر الذي يعني أنّ كودته هي المعيار الوحيد للحقيقة.

    مثال آخر على المثقف.

    حول مسرحيتي (ظلال في الرمال) التي عرضت في مهرجان المسرح العالمي في بروكسل 1995 تضاربت آراء المثقفين المسرحيين البلجيك تضاربا أترك لك الحكم عليه. فمديرة معهد البحوث المسرحية الڤلامانية آنذاك قالت إنّي تأوربت ومستشار وزير الثقافة في شؤون المسرح صرّح بأنّ عليَّ التخلص من تأثير الطقوس اليابانية! يحضرني في هذه اللحظة مثال طريف عن مجموعة من العميان اعترض طريقهم فيل، فتلمس أحدهم ساقه وقال إنه شجرة كبيرة، وتلمس آخر أذنه فقال: بل إنه غطاء سميك وصار كل من يلمسه يعطيه صفة ليست فيه، ولم يقل أيّ منهم إنّه فيل. لقد أخذت تلك المقاربات شيئا من كوده يعرفها الأعمى وهو على ثقة بأنّه يستطيع أن يقرأ ذلك الكائن بواسطتها بشكل صحيح دون أن يدرك أنّ الحقيقة تكمن في مأساة أنّ الجميع أخطأ قراءة الفيل.

    مثال ثالث على الناقد.

    قال لي أحد كبار النقاد البلجيك في العقدين الماضيين بعد مشاهدة مسرحيتي (سلالم الصمت) عام 1997 إنّه لا يستطيع أن يكتب عن العرض لأنّه يفتقد للمرجعيات الغربية للقراءة. كان الرجل كيّسا ولم يقل إنّ كودتي (مستغلقة). في ذات الوقت لم يتساءل الناقد عن سبب افتقاده للمرجعيات الكامن في عادة الغرب الذي يسعى لترجمة الآخر عن طريق الكوده التي وضعها هو، لا كما هو الآخر.

    لقد تعلّمتُ من الأمثلة الماضية أشياء أبعد من ضرورة عدم تطبيق كوداتي على الآخرين. تعلّمتُ أن أفكر إذا قال لي أحدهم إنّ كائنا ما يأكل بأن لا أقارن عملية أكله بطريقتي في تناول الطعام. ذلك أنّ ثمّة كائنات تبتلع وأخرى تمتص وغير ذلك. وكذا الأمر مع التنفّس الذي يتم مثلا عن طريق الخياشم وليس الرئتين بالضرورة. كما إنّ حركة الانتقال مع مكان إلى آخر تتمّ عن طريق الزحف أو هزّ الزعانف أو الأجنحة. على الصعيد غير المادي نحن غير قادرين على تعريف ما هو الحب. فثمة جماعة تقول إنّه الإحساس وأخرى تقول اللقاء الجنسي وثالثة تقول الانسجام.. إلخ. إنّ مرجعياتي الثقافية هي التي تعرّف الحب بطريقة لا تشبه الطريقة التي تعرّف بها أنت الحب، بيد أنّ كلمة حب هي كوده يظنّ الكثيرون أنّ لها ذات القراءة. الأمر نفسه في كيفية التعبير عن انفعال ما. كم مرة سمعتُ الغربيين في الشارع يقولون إنّ هؤلاء المغاربة في عراك بينما هم في الحقيقة يضحكون مع بعضهم البعض على نكتة قيلت للتو؟
    في محاولة تقديم اليابانيين المستغربين للبوتو ثمّة تسطيح للجانب المعتم في الإنسان. فامتلاء الجسد بالكائنات اللاّ أرضية الذي حكى عنه هيجيكاتا يتحول إلى كيس شاي يتسرّب إليه الماء، أو دود يدخل في البطن، أو تتحوّل ثورة القوى الساكنة داخل الجسد إلى بريك دانس breakdance.

    إنّ الحركة التي نشأت من منطلقات الموت، والكف عن أن نولد، والبحث عن الولادة دون أن نولد والمعتمدة على جماليات الجانب المعتم في الروح أصبحت في الغرب كوميديا تستخدم تقنيات من البوتو الأصل لتقدم تجربة أكاد أسميها اكزوتيكية لترضي المشاهد المدمن على الاكزوتيكية.

    استخدمت اليابانية ميناكو سيكي في ورشة العمل التي قادتها مع فرقتي المسرحية الموسيقى (التصويرية) لكي تساعد في إيصال ممثلي فرقتي الغربيين إلى التجلي. وراحت تتعامل مع خيال الغربي للوصول إلى حالة روحية، بدلا من إيصاله إلى الشعور الخفي بالمركز والشعور الغامض بالآلهة. إنّها تتحدث إلى الممثل الغربي عن كرة موجودة في البطن (تقريبا كما قارب يوجينو باربا أمر المركز الجسدي) وهي كرة ثقيلة تهبط إلى الأرض بينما الممثل يرفعها إلى الأعلى عن طريق قنوات التنفس. ولكي ينظر الممثل إلى الخارج عليه أن يمدّ رقبته بدلا من أن يسمح للصورة في التغلغل داخل عينيه. إنّ
    مثل هذا هو توليف لثقافة الغرب في التصدير إلى الخارج وليس لثقافة الاستقبال الشرقية. في البوتو، كما في رقص المولوية، نحن نستقبل شيئا في جسدنا وعن طريق ذلك الاستقبال والتوحد مع الشيء تنتقل العدوى إلى المشاهد ليستقبل ما يحدث فينا.

    تعتمد مفاتيح عمل ميناكو سيكي على الخيال والتخيّل ومن ثم إنتاج الإحساس والدوافع. كذلك يبنى القناع لديها انطلاقا من الحالة النفسية الداخلية (عدوانية أو صداقية.. الخ) لكنّها سرعان ما تترك الخيال والحالة النفسية وتبقي فقط على الشكل الخارجي للقناع في الفضاء. وبدلا من أن تكون الأقنعة انعكاسا لما يحدث في الداخل تعطي ميناكو سيكي بعدا تشخيصيا للقناع وذلك من خلال التعبير عن الخوف أو النظر.

    لقد تأسست حركة البوتو كرد فعل ثوري على الهيمنة الغربية بيد أنّ الكثير من حامليها في الغرب يسعون اليوم لأنّ تكون مقبولة من قبل العالم الغربي.

    لقد حوّل المستغربون اليابانيون البوتو إلى كوميديا. وبينما كان العمل لدى هيجيكاتا يعتمد على الاختزال والعزل isolation لاحظ المثال التالي لدى ميناكو سيكي.

    إنّها تقارب ثيمة الخوف من الفضاء كما يلي:

    أنت تدخل ثم ترى الفضاء ثم تخاف ثم تتراجع وكأنك تخاف أن تولد. أمّا الأداء فيعتمد على تكبير (الحركة اليومية) من خلال قواعد البوتو حتى لتظن نفسك أمام حركة بانتوميمية.

    في البوتو الغربي يبني المرء من الداخل عن طريق فتح الأقنية الداخلية، وهو بناء روحي تخيلي نفسي طاقي. ولكن عندما يتم تحويل كينونة الأقنية الداخلية إلى فعل تعبيري تحدث ترجمة تشخيصية. مثلا يتقدم الرأس إلى الأمام للتعبير عن النظر (قناة النظر) تماما كما يحدث مع مارسيل مارسو.

    عند بدايات تعرّفي على البوتو كنت سعيدا جدا بالحركة. ولكن منذ أن قرأت مفاتيحها
    على يد ميناكو سيكي بهتتْ سعادتي وسألت نفسي لماذا؟ ولم يكن لدي جواب سوى أنّ الياباني الذي قدم البوتو في الغرب قد حول هذا النمط الفني الروحاني إلى قواعد وتقنيات لا إلى معايشة متجددة كل يوم. عمل البوتو في الغرب يركز على يمكن التعرّف عليه وليس على السحر. البوتو يقدم في الغرب على طبق البريك دانس breakdans، والبانتوميم والمقاربة التشخيصية.

    ***

    إنّ هذا التشريح النقدي الذاتي والتشريح النقدي لما هو خارج ذاتي أوصلني إلى العودة إلى جذور كنت أظنّها يوما أصولية لا تستأهل التوقف عندها.

    شكرا لهيجيكاتا على ذلك الدرس الكبير.

    فعندما جئت إلى الغرب كان لدي هاجس أنّني موهوب فطريا ولا تنقصني سوى تقنيات تشذب موهبتي. غير أنّي جننتُ في الغرب للأسباب التي ذكرت ويا ما فكّرتُ بالعودة إلى وطن ينتظرني جلادوه بقائمة أحكام بالإعدام. ولو لم أكن متطهّرا من الأوهام فلربما كنت عدت وقدمتُ فروض الطاعة للجلاد وأصبحت مستغربا أنقل ما تعلمته في الغرب بينما ينظر أقراني بإعجاب إلى الولد المعجزة الذي عاد إلى بلده بـ (الكنز المعرفي الغربي).

    لقد جننت قبل أن أشفى وأعرف أنّ الثقافة الغربية تتطلب مني وسيلة أخرى للتواصل. طريقة أقارنها بالولادة الجديدة. ولادة لا تنفي الولادة الأولى، بل تؤكدها عن طريق إضاءة جانب آخر في نفسي. ولأنني حررت نفسي من أسر صورة الغربي كبديل، كخلاص، تعاملت مع الثقافة الغربية بطريقة متكافأة. ولو كنت هاجمت الغرب كالأصوليين لكنت شوفينيا قوميا ولو كنت استمرئت الغرب لكنت مستغربا آخر.
يعمل...
X