جبران هداية.. أكاديمي بمزاج حداثي
فنان تشكيلي سوري يسبح عكس التيار ويقف عند تخوم السوريالية.
علي قاسم
تحليل للإضاءة وتفكيك لأسرارها
متمسك بالتقاليد حتى في لباسه، وفي ارتباطه بمدينة حلب، وفي تردّده على نفس المقهى سنوات طوال. وصفت صحيفة ألمانية صورة وجهية لفتاة، رسمها في الثمانينات، بموناليزا سوريا، فهو يذكرنا بدافنشي ورامبرانت، وغيرهما من الفنانين العظام. إلّا أن جبران هداية، ابن مدينة حلب السورية، يثبت يوما بعد يوم، امتلاكه حسّا حداثيا عاليا، يعتمد على تفكيك الواقع وإعادة صياغته بطريقة رمزية، تقف عند تخوم السوريالية.
انطلقت السيرة الفنية للتشكيلي السوري جبران هداية في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو المولود في أواخر النصف الأول من القرن نفسه، كان عاشقا لعصر النهضة، وما تلاه من مدارس فنية؛ بالنسبة إليه تنتهي مسيرة الفن على أعتاب القرن العشرين.
النزعة الأرستقراطية والأناقة لم تفارقا أعمال الفنان السوري جبران هداية أبدا، ولكن الأناقة رمزية، تقف على تخوم السوريالية
لم تكن تجربته الفنية السبب في شدّ الانتباه إليه، عندما شاءت الأقدار أن يكون واحدا من بين 125 شابا تم اختيارهم عام 1974 لدراسة الفنون الجميلة في دمشق، كان معظمنا في سن 18 أو 19 عاما، بينما هو في الخامسة والعشرين من عمره.جاءنا بعد أن أتمّ خدمة العلم، هذا ما كان يطلق على الالتحاق بالخدمة الإلزامية في الجيش حينها. وبعد أن شارك في حرب 1973، تلك الحرب التي أعادت للعرب بعضا من الكرامة التي أهدرتها هزيمة 1967. وكان هذا يكفي للاحتفاء به.
ناسك متقشف
منذ اليوم الأول أعلن بوضوح عن هويته، لم يقل صراحة إن الفن الحديث لعب أطفال، بالنسبة إليه يحق للجميع أن يختار الأسلوب والمدرسة التي تلائمه، أما هو فكان يرى أن الفنان الحقيقي هو الفنان المتمرّس بالقواعد الأكاديمية، بدءا بالتشريح وإجادة المنظور الخطي والهوائي، وانتهاء بقائمة الألوان وتوزيع الأشكال ضمن اللوحة.
يصفه البعض بالرومانسي، ويقول عنه آخرون إنه واقعي، بينما يفضل البعض الآخر وصفه بالفنان الرمزي، وتذكر أعماله الورعين بفن الأيقونة، وحتى لا نضيع بزحمة التصنيفات نقول إن في جبران بعضا من كل هذا وأكثر.
لقد أثبت جبران أن الحداثة، لا تكون بكسر ما هو مألوف وسائد، بل بإعادة بناء ما هو قائم ومتعارف عليه، والأهم من ذلك، أن امتلاك القدرات الأكاديمية لا يعني مطلقا عرض المهارات الفردية، فالفنان ليس لاعبا في سيرك يؤدّي حركات مبهرة، بل راهب في دير ناسك ومتقشّف.
إنه طبع المعلم، الذي يقول هكذا يكون الفن أو لا يكون، بسيطا وأنيقا إلى حد الثمالة، فهو يرسم بنفس الطريقة التي كتب بها المتنبي قصائده؛ ببساطة وتواضع، ولكنه تواضع العارف القدير، الذي ينام ملء جفونه عن شوارد اللوحة، ليسهر باقي الخلق جرّاها.
هذا ما يفعله الفنان السوري جبران هداية في مرسمه بمدينة حلب السورية، غير عابئ بضوضاء النظريات التشكيلية، والجدل النقدي.
الإبداع ليس الرابط الوحيد بين جبران هداية والمتنبي، حلب رابط آخر، فيها كتب المتنبي أجمل قصائده برفقة سيف الدولة الحمداني، يشاركه طموحه وإحساسه، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء، منذ أن طلب منه الأمير أن يلقي شعره قاعدا، وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين.
حلب ليست مجرد مدينة للشعر والطرب، لقد عرفت هذه المدينة التي تُنازع دمشق على لقب أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، معلمين كبارا في الفن التشكيلي، أبرزهم لؤي كيالي وفاتح المدرس، وإن كان المدرس قد غادرها أولا إلى إيطاليا ثم إلى دمشق، واختار لنفسه نوعا من التعبيرية التجريدية، التي كانت سائدة في أوروبا حينها. جبران، الذي اختار البقاء في حلب، كان ثالثهما.
الإنسان هو الجوهر في أعمال جبران، مثلما كان عند كيالي، وكلاهما تميّز بالتأكيد على الكتلة، والوزن، والحضور المسرحي المدهش، وهي عناصر شكّلت حدود الالتقاء بينهما، بعده، يتخّذ كل منهما طريقا مغايرا.
أعمال كيالي تميّزت بأناقتها الشديدة، رغم أن موضوعاتها معاناة البشر، فنجده يرسم ماسح الأحذية، والصيادين وهم يعيدون حياكة شباكهم المقطعة، برومانسية تذكر بالأبنودي عندما كتب شعره العامي يتغنى بعيشة الفلاح. هموم طبقية على طريقة ماري أنطوانيت.
خطاب بصري
النزعة الأرستقراطية والأناقة لم تفارقا أعمال جبران هداية أيضا، ولكن الأناقة رمزية، تقف على تخوم السوريالية.
يقول جبران “لغتي هي مخاطبة الآخر بصريا، وموقفي بكل بساطة من الحياة والعالم هو التحدي، بالحب، والجمال، والسلام. وجل مواضيع لوحاتي، تتمحور حول الأنثى، بطموحها، وانكسارها، وبتشتّت الأمل، والحلم، وهجرة الأحباب، والوحدة، والشوق والتأمّل”.
الواقعية بالنسبة إلى جبران ليست قطيعة مع الحداثة، والتنوّع في المدارس الفنية والاختلاف في الرأي، بدءا بالمدارس التقليدية، وصولا إلى الحداثة، يشكّل وفق تعبيره “المناخ الصحي للعمل الفني”.
ولكن، يبقى الواقع مصدر العمل الفني، دونه “لا نملك خيالا، ولا حلما. التعرّف على الواقع ضروري، وتجاوزه أيضا ضروري، ومحافظتنا على هويتنا تنطلق من معرفتنا لواقعنا، وتاريخنا، وحضارتنا، وتراثنا، بعدها فقط يمكن لنا الانطلاق إلى حيث نشاء”.
طموح وانكسار
كانت حلب ساحة لأحداث أليمة على مدى سنوات، رغم ذلك تمسّك جبران بمدينته، وهو إن لم يعبّر عن ذلك بفجاجة، عبّر عنه بأعمال مشحونة بالألم والأحاسيس، التي تجلّت على وجوه نسائه.
“مشروعي الفني حاليا، ومشروع أي فنان سوري، هو ردة فعلنا على ما يحدث في سوريا”. ومن يعرف سوريا أكثر من جبران، ابن حلب، مدينة الطرب، والمتعة، وأشهى أطباق الطعام؟
التعبير عن كل هذا يتطلّب “تنوّعا في الرؤى بين فنان وآخر، وهو مناخ صحي للعمل الفني”. ويؤكّد جبران أنه يعمل اليوم على مشروع “بانتظار الصباح” مكرسا الإنسان قيمة أساسية لعمله.
“لقد علّمتني الطبيعة أن أتعلّم منها الخط، وأكتشف أسرار اللون وأن أرسم باستمرار دون توقّف. العمل المستمر يكشف الكثير من المعارف التي يحتاجها الفنان في تنفيذ عمله الفني”.
وعندما ينسى جبران، للحظات، المأساة السورية، يتحدّث بفخر عن تجربة حدثت له في ثمانينات القرن الماضي، كان حينها شابا، يمتلئ حيوية، ويذكر مانشيت صحيفة ألمانية كتبت تعليقا تحت لوحة له عرضت هناك، “الموناليزا السورية”، بكل ما تحمله من تعابير، تذكّر بأعمال دافنشي، ورامبرانت، وغوستاف كليمنت وفان غوخ، وذلك بتحليل الإضاءة وتفكيك أسرارها.
رحلة الفنان بدأت عام 1949، في مسقط رأسه ببلدة “رأس العين” شمال سوريا. واليوم بعد أن تجاوز السبعين، لا يزال يتردّد على “محطة استراحته” صباح كل يوم، مقهى عتيق، يجدّد فيه نشاطه، ويلتقي فيه محبيه، والأهم إنه مكان للهدوء والتأمّل.
فنان تشكيلي سوري يسبح عكس التيار ويقف عند تخوم السوريالية.
علي قاسم
تحليل للإضاءة وتفكيك لأسرارها
متمسك بالتقاليد حتى في لباسه، وفي ارتباطه بمدينة حلب، وفي تردّده على نفس المقهى سنوات طوال. وصفت صحيفة ألمانية صورة وجهية لفتاة، رسمها في الثمانينات، بموناليزا سوريا، فهو يذكرنا بدافنشي ورامبرانت، وغيرهما من الفنانين العظام. إلّا أن جبران هداية، ابن مدينة حلب السورية، يثبت يوما بعد يوم، امتلاكه حسّا حداثيا عاليا، يعتمد على تفكيك الواقع وإعادة صياغته بطريقة رمزية، تقف عند تخوم السوريالية.
انطلقت السيرة الفنية للتشكيلي السوري جبران هداية في الربع الأخير من القرن العشرين، وهو المولود في أواخر النصف الأول من القرن نفسه، كان عاشقا لعصر النهضة، وما تلاه من مدارس فنية؛ بالنسبة إليه تنتهي مسيرة الفن على أعتاب القرن العشرين.
النزعة الأرستقراطية والأناقة لم تفارقا أعمال الفنان السوري جبران هداية أبدا، ولكن الأناقة رمزية، تقف على تخوم السوريالية
لم تكن تجربته الفنية السبب في شدّ الانتباه إليه، عندما شاءت الأقدار أن يكون واحدا من بين 125 شابا تم اختيارهم عام 1974 لدراسة الفنون الجميلة في دمشق، كان معظمنا في سن 18 أو 19 عاما، بينما هو في الخامسة والعشرين من عمره.جاءنا بعد أن أتمّ خدمة العلم، هذا ما كان يطلق على الالتحاق بالخدمة الإلزامية في الجيش حينها. وبعد أن شارك في حرب 1973، تلك الحرب التي أعادت للعرب بعضا من الكرامة التي أهدرتها هزيمة 1967. وكان هذا يكفي للاحتفاء به.
ناسك متقشف
منذ اليوم الأول أعلن بوضوح عن هويته، لم يقل صراحة إن الفن الحديث لعب أطفال، بالنسبة إليه يحق للجميع أن يختار الأسلوب والمدرسة التي تلائمه، أما هو فكان يرى أن الفنان الحقيقي هو الفنان المتمرّس بالقواعد الأكاديمية، بدءا بالتشريح وإجادة المنظور الخطي والهوائي، وانتهاء بقائمة الألوان وتوزيع الأشكال ضمن اللوحة.
يصفه البعض بالرومانسي، ويقول عنه آخرون إنه واقعي، بينما يفضل البعض الآخر وصفه بالفنان الرمزي، وتذكر أعماله الورعين بفن الأيقونة، وحتى لا نضيع بزحمة التصنيفات نقول إن في جبران بعضا من كل هذا وأكثر.
لقد أثبت جبران أن الحداثة، لا تكون بكسر ما هو مألوف وسائد، بل بإعادة بناء ما هو قائم ومتعارف عليه، والأهم من ذلك، أن امتلاك القدرات الأكاديمية لا يعني مطلقا عرض المهارات الفردية، فالفنان ليس لاعبا في سيرك يؤدّي حركات مبهرة، بل راهب في دير ناسك ومتقشّف.
إنه طبع المعلم، الذي يقول هكذا يكون الفن أو لا يكون، بسيطا وأنيقا إلى حد الثمالة، فهو يرسم بنفس الطريقة التي كتب بها المتنبي قصائده؛ ببساطة وتواضع، ولكنه تواضع العارف القدير، الذي ينام ملء جفونه عن شوارد اللوحة، ليسهر باقي الخلق جرّاها.
هذا ما يفعله الفنان السوري جبران هداية في مرسمه بمدينة حلب السورية، غير عابئ بضوضاء النظريات التشكيلية، والجدل النقدي.
الإبداع ليس الرابط الوحيد بين جبران هداية والمتنبي، حلب رابط آخر، فيها كتب المتنبي أجمل قصائده برفقة سيف الدولة الحمداني، يشاركه طموحه وإحساسه، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء، منذ أن طلب منه الأمير أن يلقي شعره قاعدا، وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين.
حلب ليست مجرد مدينة للشعر والطرب، لقد عرفت هذه المدينة التي تُنازع دمشق على لقب أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، معلمين كبارا في الفن التشكيلي، أبرزهم لؤي كيالي وفاتح المدرس، وإن كان المدرس قد غادرها أولا إلى إيطاليا ثم إلى دمشق، واختار لنفسه نوعا من التعبيرية التجريدية، التي كانت سائدة في أوروبا حينها. جبران، الذي اختار البقاء في حلب، كان ثالثهما.
الإنسان هو الجوهر في أعمال جبران، مثلما كان عند كيالي، وكلاهما تميّز بالتأكيد على الكتلة، والوزن، والحضور المسرحي المدهش، وهي عناصر شكّلت حدود الالتقاء بينهما، بعده، يتخّذ كل منهما طريقا مغايرا.
أعمال كيالي تميّزت بأناقتها الشديدة، رغم أن موضوعاتها معاناة البشر، فنجده يرسم ماسح الأحذية، والصيادين وهم يعيدون حياكة شباكهم المقطعة، برومانسية تذكر بالأبنودي عندما كتب شعره العامي يتغنى بعيشة الفلاح. هموم طبقية على طريقة ماري أنطوانيت.
خطاب بصري
النزعة الأرستقراطية والأناقة لم تفارقا أعمال جبران هداية أيضا، ولكن الأناقة رمزية، تقف على تخوم السوريالية.
يقول جبران “لغتي هي مخاطبة الآخر بصريا، وموقفي بكل بساطة من الحياة والعالم هو التحدي، بالحب، والجمال، والسلام. وجل مواضيع لوحاتي، تتمحور حول الأنثى، بطموحها، وانكسارها، وبتشتّت الأمل، والحلم، وهجرة الأحباب، والوحدة، والشوق والتأمّل”.
الواقعية بالنسبة إلى جبران ليست قطيعة مع الحداثة، والتنوّع في المدارس الفنية والاختلاف في الرأي، بدءا بالمدارس التقليدية، وصولا إلى الحداثة، يشكّل وفق تعبيره “المناخ الصحي للعمل الفني”.
ولكن، يبقى الواقع مصدر العمل الفني، دونه “لا نملك خيالا، ولا حلما. التعرّف على الواقع ضروري، وتجاوزه أيضا ضروري، ومحافظتنا على هويتنا تنطلق من معرفتنا لواقعنا، وتاريخنا، وحضارتنا، وتراثنا، بعدها فقط يمكن لنا الانطلاق إلى حيث نشاء”.
طموح وانكسار
كانت حلب ساحة لأحداث أليمة على مدى سنوات، رغم ذلك تمسّك جبران بمدينته، وهو إن لم يعبّر عن ذلك بفجاجة، عبّر عنه بأعمال مشحونة بالألم والأحاسيس، التي تجلّت على وجوه نسائه.
“مشروعي الفني حاليا، ومشروع أي فنان سوري، هو ردة فعلنا على ما يحدث في سوريا”. ومن يعرف سوريا أكثر من جبران، ابن حلب، مدينة الطرب، والمتعة، وأشهى أطباق الطعام؟
التعبير عن كل هذا يتطلّب “تنوّعا في الرؤى بين فنان وآخر، وهو مناخ صحي للعمل الفني”. ويؤكّد جبران أنه يعمل اليوم على مشروع “بانتظار الصباح” مكرسا الإنسان قيمة أساسية لعمله.
“لقد علّمتني الطبيعة أن أتعلّم منها الخط، وأكتشف أسرار اللون وأن أرسم باستمرار دون توقّف. العمل المستمر يكشف الكثير من المعارف التي يحتاجها الفنان في تنفيذ عمله الفني”.
وعندما ينسى جبران، للحظات، المأساة السورية، يتحدّث بفخر عن تجربة حدثت له في ثمانينات القرن الماضي، كان حينها شابا، يمتلئ حيوية، ويذكر مانشيت صحيفة ألمانية كتبت تعليقا تحت لوحة له عرضت هناك، “الموناليزا السورية”، بكل ما تحمله من تعابير، تذكّر بأعمال دافنشي، ورامبرانت، وغوستاف كليمنت وفان غوخ، وذلك بتحليل الإضاءة وتفكيك أسرارها.
رحلة الفنان بدأت عام 1949، في مسقط رأسه ببلدة “رأس العين” شمال سوريا. واليوم بعد أن تجاوز السبعين، لا يزال يتردّد على “محطة استراحته” صباح كل يوم، مقهى عتيق، يجدّد فيه نشاطه، ويلتقي فيه محبيه، والأهم إنه مكان للهدوء والتأمّل.