?️?️ مراجعة رواية "صلاة القلق" للروائي المصري "محمد سمير ندا" بقلم: حسين قاطرجي. القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية، بوكر2025.
أعتبر مثل هذا النوع من الروايات هبةً حقيقيةً، لأنّها تُحدِثُ تحولاً في روح القارئ، وتُتيح له الفرصة ليعيش حياةً أخرى ولو لبضع ساعات.. والحقيقة إنّ أيّ مراجعةٍ عن الرواية ستسلب القارئ لذّة القراءة وستحرمه الانتقال والخوض في غمرة حياة أهالي نجع المناسي..
و"نجع المناسي" هذا نجعٌ مصريٌّ منسيٌّ كإسمه، لاوجود له على الخريطة، ولا يحظى بذكرٍ في أيّ سجل. ينزل نيزكٌ من السماء فيقلب حياة أهالي النجع رأساً على عقب، فيصيبهم الوباء الذي يحيل رؤوسهم رؤوس السلاحف، ولولا إحدى شخصيات الرواية لما طفت على العلن أخبار هذا النجع وأهله..
يعير الكاتب قلمه لشخصياتٍ ثمانٍ، لتعبّر لنا عن أوجهٍ مختلفة من الحياة الإنسانية في النجع؛ وهكذا نستكشف العالم الداخلي لكلّ شخصيّةٍ من خلال منظورٍ متفرّدٍ لتجربةٍ معيّنة في الحياة، كما نتعرّف على عمق معاناتهم وأفراحهم وتحدياتهم وانتصاراتهم بأسلوب مؤثر ومغناطيسي.
ثيمة الرواية الأساس لاتنحصر فقط في صناعة الديكتاتور الذي ينطبق عليه قول الله تعالى {{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ}}، بل مساهمة الناس في تعزيز سطوة هذا الدكتاتور من خلال صمتهم و تواطئهم. الخوف من الاضطهاد أو الفقدان الشخصي يجعل النّاس يقفون على الهامش، ويفضلون أن يلتزموا الصمت بدلاً من المخاطرة بمعارضة النظام. هذا الصمت، هذا الغياب للوقوف ضد الدكتاتورية، هو الذي يجعل من الممكن استمرارها وتقويتها.
الافتقار إلى التعليم والوعي يمكن أن يكون نقطة ضعف خطيرة يستغلها الدكتاتور لصالحه (واحدٌ فقط في النجع يقرأ ويكتب)، من خلال التلاعب بالمعلومات وفرض الدعاية، يقلب الحقائق ويعيد تشكيل وجهات النظر العامة، مما يجعل الناس يثقون به ويؤمنون بكلامه من خلال (بربوجاندا) يشيعها من خلال صحيفته الرخيصة.
الشيء الأكثر ترويعًا هو أنه بمجرد أن يتمكن الدكتاتور من السلطة، فإنه يعيد تشكيل المؤسسات والقوانين لتتوافق مع احتياجاته ويضمن بقاءه (تصرّفه مع زوجته وابنه). بهذا الشكل، يتحول من رمزٍ للأمل إلى رمز للخوف والذعر، والناس الذين ساعدوا في رفعه إلى هذا الموقع يجدون أنفسهم محبوسين في واقع مختلف تماماً عما تخيّلوه. ويصير الخلاص منه بالثورة عليه، أو نقب الأرض بخندقٍ يوصلهم إلى الحرية..
أحببت فكرة تمثال الطاغية مقطوع الرأس وهو يروّع الناس ليلاً.
أحببت فكرة أن يستنطق الكاتب "الشيخ جعفر" من قبره ويمحو الفكرة النمطيّة التي نعرفها عن أمثاله من رجال الدين.
أحببت الصلاة التي ابتدعها "الشيخ أيوب" ليدفع القلق الذي ينهش رؤوس أهل النجع المساكين.
أحببت فكرة أن يحيط النجع سور النار (الألغام المدفونة) التي تحجبهم عن حقيقة العالم الخارجي وأخبار الحرب.
أحببت تزيين الكاتب رؤوس الجلسات بمقاطع لآغانٍ لعبد الحليم حافظ، رأيتها أتت بتوظيفٍ يليق بمنطوق الشخصية التي يأتي دورها (بالاعتراف)، إضافةً إلى كون "عبد الحليم" ذاته هو ابن زمن الرواية وعاصر أحداث حروبها.
واستغربت تسمية الفصول بالجلسات حتى أجابنا الكاتب عن هذا السؤال بطريقةٍ ذكيةٍ آخر الرواية.
وليس آخراً، أحببتُ توقيع الدكتور "سعدون زكريا" في صفحة الرواية الاخيرة، هذا التوقيع لايعرف سرّه وجماله إلا من يقرأ الرواية ويسمع حكاية "زكريا" مع أبنائه الثلاثة..
لو وضعنا كل ما سبق جانباً، تأتي لغة الكاتب لترفعها إلى مصاف أروع الروايات العربية لغةً وأعلاها فصاحةً، وأبدعها تعبيراً وتصويراً.. استخدم الكاتب لغةً جذلى، عالية، رصينة، متينة البناء والنسج والحبك يطرب لها محبّ العربية ويعرف قدرها.
في عالم يبدو متسارعاً ومتجاهلاً لمشاعر الأفراد، تأتي الرواية لتذكّرنا بأهمية الاستماع لكل صوت، مهما كان خافتاً، وأن نحارب جلادينا بعد أن استبدّ بهم الطغيان إلى ما لاينفع معه التفاوض.
وهنا أدعوكم للصلاة للخلاص من كل طاغيةٍ متجبّر، أن نصليَ معاً "صلاة القلق" على أن يكون "محمد سمير ندا" إماماً لنا..
• صلاة القلق
• محمد سمير ندا
• دار مسكلياني 2024
• الطبعة الأولى، 353 صفحة.
أعتبر مثل هذا النوع من الروايات هبةً حقيقيةً، لأنّها تُحدِثُ تحولاً في روح القارئ، وتُتيح له الفرصة ليعيش حياةً أخرى ولو لبضع ساعات.. والحقيقة إنّ أيّ مراجعةٍ عن الرواية ستسلب القارئ لذّة القراءة وستحرمه الانتقال والخوض في غمرة حياة أهالي نجع المناسي..
و"نجع المناسي" هذا نجعٌ مصريٌّ منسيٌّ كإسمه، لاوجود له على الخريطة، ولا يحظى بذكرٍ في أيّ سجل. ينزل نيزكٌ من السماء فيقلب حياة أهالي النجع رأساً على عقب، فيصيبهم الوباء الذي يحيل رؤوسهم رؤوس السلاحف، ولولا إحدى شخصيات الرواية لما طفت على العلن أخبار هذا النجع وأهله..
يعير الكاتب قلمه لشخصياتٍ ثمانٍ، لتعبّر لنا عن أوجهٍ مختلفة من الحياة الإنسانية في النجع؛ وهكذا نستكشف العالم الداخلي لكلّ شخصيّةٍ من خلال منظورٍ متفرّدٍ لتجربةٍ معيّنة في الحياة، كما نتعرّف على عمق معاناتهم وأفراحهم وتحدياتهم وانتصاراتهم بأسلوب مؤثر ومغناطيسي.
ثيمة الرواية الأساس لاتنحصر فقط في صناعة الديكتاتور الذي ينطبق عليه قول الله تعالى {{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ}}، بل مساهمة الناس في تعزيز سطوة هذا الدكتاتور من خلال صمتهم و تواطئهم. الخوف من الاضطهاد أو الفقدان الشخصي يجعل النّاس يقفون على الهامش، ويفضلون أن يلتزموا الصمت بدلاً من المخاطرة بمعارضة النظام. هذا الصمت، هذا الغياب للوقوف ضد الدكتاتورية، هو الذي يجعل من الممكن استمرارها وتقويتها.
الافتقار إلى التعليم والوعي يمكن أن يكون نقطة ضعف خطيرة يستغلها الدكتاتور لصالحه (واحدٌ فقط في النجع يقرأ ويكتب)، من خلال التلاعب بالمعلومات وفرض الدعاية، يقلب الحقائق ويعيد تشكيل وجهات النظر العامة، مما يجعل الناس يثقون به ويؤمنون بكلامه من خلال (بربوجاندا) يشيعها من خلال صحيفته الرخيصة.
الشيء الأكثر ترويعًا هو أنه بمجرد أن يتمكن الدكتاتور من السلطة، فإنه يعيد تشكيل المؤسسات والقوانين لتتوافق مع احتياجاته ويضمن بقاءه (تصرّفه مع زوجته وابنه). بهذا الشكل، يتحول من رمزٍ للأمل إلى رمز للخوف والذعر، والناس الذين ساعدوا في رفعه إلى هذا الموقع يجدون أنفسهم محبوسين في واقع مختلف تماماً عما تخيّلوه. ويصير الخلاص منه بالثورة عليه، أو نقب الأرض بخندقٍ يوصلهم إلى الحرية..
أحببت فكرة تمثال الطاغية مقطوع الرأس وهو يروّع الناس ليلاً.
أحببت فكرة أن يستنطق الكاتب "الشيخ جعفر" من قبره ويمحو الفكرة النمطيّة التي نعرفها عن أمثاله من رجال الدين.
أحببت الصلاة التي ابتدعها "الشيخ أيوب" ليدفع القلق الذي ينهش رؤوس أهل النجع المساكين.
أحببت فكرة أن يحيط النجع سور النار (الألغام المدفونة) التي تحجبهم عن حقيقة العالم الخارجي وأخبار الحرب.
أحببت تزيين الكاتب رؤوس الجلسات بمقاطع لآغانٍ لعبد الحليم حافظ، رأيتها أتت بتوظيفٍ يليق بمنطوق الشخصية التي يأتي دورها (بالاعتراف)، إضافةً إلى كون "عبد الحليم" ذاته هو ابن زمن الرواية وعاصر أحداث حروبها.
واستغربت تسمية الفصول بالجلسات حتى أجابنا الكاتب عن هذا السؤال بطريقةٍ ذكيةٍ آخر الرواية.
وليس آخراً، أحببتُ توقيع الدكتور "سعدون زكريا" في صفحة الرواية الاخيرة، هذا التوقيع لايعرف سرّه وجماله إلا من يقرأ الرواية ويسمع حكاية "زكريا" مع أبنائه الثلاثة..
لو وضعنا كل ما سبق جانباً، تأتي لغة الكاتب لترفعها إلى مصاف أروع الروايات العربية لغةً وأعلاها فصاحةً، وأبدعها تعبيراً وتصويراً.. استخدم الكاتب لغةً جذلى، عالية، رصينة، متينة البناء والنسج والحبك يطرب لها محبّ العربية ويعرف قدرها.
في عالم يبدو متسارعاً ومتجاهلاً لمشاعر الأفراد، تأتي الرواية لتذكّرنا بأهمية الاستماع لكل صوت، مهما كان خافتاً، وأن نحارب جلادينا بعد أن استبدّ بهم الطغيان إلى ما لاينفع معه التفاوض.
وهنا أدعوكم للصلاة للخلاص من كل طاغيةٍ متجبّر، أن نصليَ معاً "صلاة القلق" على أن يكون "محمد سمير ندا" إماماً لنا..
• صلاة القلق
• محمد سمير ندا
• دار مسكلياني 2024
• الطبعة الأولى، 353 صفحة.