"جريمتان في إسطنبول" رواية امرأة ضد الهزيمة والتواطؤ
الرواية تحفر في مفهوم الذاكرة الفردية والجماعية، حيث تتحول ذكريات البطلة إلى عبء ثقيل، يدفعها نحو الهروب والمواجهة في آن.
السبت 2025/04/05
ShareWhatsAppTwitterFacebook

ذكريات البطلة عبء ثقيل (لوحة للفنانة نور بهجت)
لندن- “جريمتان في إسطنبول” للكاتبة السورية آلاء عامر رواية تسير على تخوم التراجيديا النفسية والواقعية الاجتماعية، مقدمة سردا متماسكا ومركبا لحياة لاجئة سورية في إسطنبول تدعى ياسمين، تقودها المصادفة إلى التورط في جريمة قتل رمزية ووجودية في آن معا.
تكشف آلاء عامر بأسلوب مشهدي شفاف وأنيق عن حكاية ياسمين التي وجدت نفسها بين أمرين: أن تظل لا مرئية ومهزومة كما أراد لها واقع اللجوء، أو أن تتورط في قتل رجل منكسر اسمه أصلان بيه، اختار الموت على يديها وعلى يد فاطمة هانم، صاحبة مشغل الخياطة.

تدور أحداث الرواية، الصادرة عن منشورات رامينا في لندن، في قلب إسطنبول، بين مشغل صغير وحي شعبي، مرورا بجسر البوسفور الذي يفصل القارتين، وصولا إلى مياه البحر التي تختزن الجثة والسر معا.
وتروى القصة بصوت نسوي متوتر وعميق، يحاول استيعاب المفارقات القاسية بين الوطن والمنفى، بين الحياة والموت، بين القوة والعجز، عبر شخصية ياسمين، المدرسة السابقة التي وجدت نفسها لاجئة عاملة في الخياطة، تشهد انهيار أحد الرجال الذين كانت تراهم أقوياء.
تبتعد الرواية عن التقاليد الكلاسيكية للجريمة البوليسية، وتقترب من “جريمة الوعي”. فأصلان بيه، الذي ينهار أمام أعين الشخصيات، ليس ضحية قاتل محترف، بل ضحية حزنه الشخصي، وحبه المفرط لابنته التي ماتت بعد صراع مع المرض. حينها تتحول الجريمة إلى طقس “فلسفي” يمس جدوى العيش ومفهوم الخلاص والذنب.
فاطمة، صاحبة المشغل، التي عانت فقد أخيها ووالدتها، تتقاطع مع أصلان في رغبة دفينة بإنهاء المعاناة، من دون عنف مباشر. بينما ياسمين، البطلة، تعيش الصراع الأخلاقي بين ألا تكون قاتلة وأن تتحرر من شعورها المزمن بالضعف، فـ”تقتل لتنجو”.
تشكل إسطنبول في الرواية أكثر من خلفية، فهي شخصية روائية قائمة بذاتها. مدينة مشطورة بين قارتين، بين حداثة مائعة وتراث مشحون. تحضر بصفتها الفاصلة في مسيرة اللاجئة السورية، وفي صراع فاطمة مع ماضيها، وفي ارتباك أصلان الذي لم يجد موطئ قدم له في أي من العالمين.
تكتب آلاء عامر المدينة كما يراها اللاجئ من حافة الحياة، لا كما يسوق لها في الكتب السياحية، فتبدو إسطنبول في الرواية مزيجا من البهاء والانكسار، من الرقي والوحشية، من الحضن المفتوح والباب المغلق.
ووفق بيان الناشر، فإن “ياسمين، اللاجئة السورية تحاول إعادة تعريف ذاتها بعد أن وجدت نفسها في مدينة لا تقل صخبا عن الاضطراب الذي يسكنها. من خلال بوحها المدوي، يتكشف للقارئ عالمان: الأول حافل بذكريات الوطن والحرب، والثاني مليء بصراعات الاغتراب والهوية. وهنا يجد أن الرواية ليست عن ‘جريمتين’ فقط، بل عن جريمة صامتة يومية مستمرة؛ جريمة تغييب الذات وتآكل الإنسان في صراعه مع الواقع”.

تتماهى “جريمتان في إسطنبول” لآلاء عامر مع مدينة إسطنبول، تلك المدينة التي تحمل تاريخا متناقضا ومكانة فريدة، إذ تشكل ملتقى قارتين وروحا تسكن بين شرق ماضوي وغرب حداثي. وتظهر بوصفها حاضنة للتناقضات: بحر البوسفور كجرح يفصل قارتين، والجسور كأطياف تصل بين أزمنة وأمكنة مختلفة. هذه المدينة، بمعمارها المعقد، تكشف عن هشاشة سكانها الذين يحاولون بناء قصصهم فوق أطلال ماضيهم.
تحفر الرواية في مفهوم الذاكرة الفردية والجماعية، حيث تتحول ذكريات البطلة إلى عبء ثقيل، يدفعها نحو الهروب والمواجهة في آن. هذه الذاكرة هي فعل مقاومة ضد محو الذات والآخر.
الجرائم في الرواية انعكاس للظلم الاجتماعي والاضطراب الإنساني. الجريمة الأولى، التي تتجلى في مقتل أصلان بيه، تحمل طابعا وجوديا، إذ تمثل انهيار الإنسان تحت وطأة فقدانه. أما الجريمة الثانية، فهي جريمة اللامبالاة التي يمارسها الجميع؛ المجتمع الذي يلتهم أفراده، والأنظمة التي تهمش اللاجئين، والأفراد الذين يصمتون.
“جريمتان في إسطنبول” ليست رواية عن الجرائم بحد ذاتها، بل عن التواطؤ المستتر مع واقع مكسور. تشعر كقارئ بأن الرواية تثير لديك أسئلة أكثر مما تقدم لك إجابات، وتتركك تتساءل: هل نحن مجرد شهود على الجرائم، أم أننا شركاء فيها بطريقة أو بأخرى؟
وجدير بالذكر أن آلاء عامر كاتبة وإعلامية وصانعة أفلام سورية مقيمة في إسطنبول، حاصلة على بكالوريوس في الصحافة والإعلام من جامعة دمشق عام 2010. متخصصة في تقديم وإعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية، وصناعة الأفلام. فازت بجائزة “أفضل سلسلة وثائقية” في مهرجان كان السينمائي عام 2023 عن فيلم “أماني خلف الخطوط”. كتبت وأخرجت أفلاما قصيرة وسيناريوهات عرضت في مناسبات دولية. تصف آلاء عامر نفسها بقولها “أتقن فن سرد القصص، وأروي حكايات النساء بكل ما أملك من أدوات، بدءا من القلم، مرورا بالكاميرا، وليس انتهاء بالميكروفون.”