مفهوم الكون (العالم) عند ديكارت
"يتحدد الهدف الأساسي من هذه الدراسة في البحث عن الإجابات الفلسفية والمفهومية التي قدمها الفيلسوف الفرنسي ديكارت حول ما طرحته الثـ. ور . ة التي أحدثها كوبرنيك في مجال الكوسمولوجيا من أفكار وتصورات همت الإنسان والكون.
وضع رونيه ديكارتRené Descartes (1596-1652) نظرية علمية رصينة في كتابه العالم أو في النور وفق أسس خيالية صرفه، ويتعلق الأمر بنظرية العالم المتوهم حيث يقول: "اسمحوا إذن لفكركم أن يخرج لبعض الوقت من هذا العالم لرؤية عالم آخر جديد كليا سأوجده في الأمكنة الخيالية." فهذا العالم الجديد سيصبح هو المقياس والنقطة المرجعية لفهم العالم الواقعي والسيطرة عليه من خلال فهم القوانين التي تحكمه؛ إنه عالم معقول شبيه في روحه لعالم المثل الأفلاطوني. ويبدو لي أن الخيال والقدرة على خلق أمور جديدة كانت من بين الأمور التي ساهمت في تطور الحضارة الغربية وفتحها على اللاممكن واللامحدود بدل الممكن والمحدود، ولعل ديكارت كان من أهم الفلاسفة الذين انتبهوا لهذا الأمر؛ إذ نجده يشير إلى ذلك في مجموعة من الأعمال سواء المتقدمة منها أو المتأخرة، وعليه "فليس غاليلي ولا حتى برونو من صاغا بوضوح وتميز مبادئ العلم الحديث، ومبادئ الكوسمولوجيا الرياضية الجديدة، وإنما ديكارت محققا بذلك حلم رد العلم إلى الرياضيات." فما هي المقومات الفلسفية لكون ديكارت اللامحدد؟
جاءت فكرة إيجاد عالم جديد نتيجة محدودية العالم الواقعي الذي لا يفي بالغرض في الكثير من الأحيان، وأيضا نتيجة اعتبار "الفيزياء القديمة ميتة وتحتاج إلى إيجاد صورة جديدة حول العالم عن طريق تقديم مفهوم جديد لكل من المادة والحركة." وعليه فالكون الديكارتي لا يوجد فيه أي مكان خال؛ لأن مادته الأولى مخلوقة بحرية تامة قادرة على تذويب أي صورة أو مادة داخلها، وفي هذا الصدد يقول ديكارت: "لأجل هذا لنفترض بصراحة أن ليس لها لا صورة التراب، ولا النار ولا الهواء، ولا أية صورة أخرى أكثر خصوصية كصورة الخشب، أو الحجر أو المعدن، ولا صفات الحرارة والبرودة، ولا الجفاف أو الرطوبة ولا الخفة أو الثقل ولا الطعم أو الرائحة أو الصوت أو اللون أو الضوء أو أية صفة أخرى مشابهة، نستطيع القول إن في طبيعتها شيئا ما غير معروف بديهيا لكل الناس."
استنادا إلى القول السابق نرى أن أصالة ديكارت تكمن في قدرته على خلق مادة بصفات معينة ومختلفة تمام الاختلاف عن المادة الأولى التي أشار إليها الفلاسفة السابقون، حيث إنها تتميز بالتمام والقدرة على تغطية جميع أجزاء هذا العالم الجديد واللامحدد. وإذا ما حاولنا تقديم مقارنة بين صفات المادة المتخيلة ومادة العالم الذي نحن فيه لأمكننا القول إن الأولى لا يتخللها أي خلاء، أو مادة، ولا صورة، ولا جسم آخر؛ ذلك أن حجمها واحد لا يتغير أبدا، وهي مجردة من كل الصفات الحسية ولا يمكن إدراكها إلا بواسطة العقل وحده.
إضافة إلى كل ما سبق، فهاته المادة فيها من القدرة ما يمكنها من أن تكون "قابلة للقسمة إلى عدة أجزاء أو أشكال منها الأعظم حجما من غيره ومنها الأضأل" دون المساس بوحدتها وكليتها بفضل القوانين الصارمة التي تحكمها وتعمل على إعطاء صورة عالم كامل لها. ويبدو أن ديكارت قد فتح الفكر على مصر اعيه وأعطاه إمكانية إضافة أي شيء لهذا العالم الجديد، حتى وإن بدت غير ممكنة أو غير معقولة؛ ذلك أن القضايا والتفاصيل التي تظهر على أنها مستحيلة التحقق بالنسبة إلى الإنسان، ممكنة بالنسبة إلى الإله الذي يستطيع القيام بكل شيء نظرا لقدرته اللامتناهية.
يقر ألكسندر كويري في كتابه من العالم المغلق إلى الكون اللامنتهي على أن إله الفيلسوف - ديكارت - وعالمه متضايفان Correlated غير أن إله ديكارت يختلف عن الآلهة السابقين، فهو لا ترمز إليه الأشياء التي خلقها؛ أي لا يعبر عن نفسه فيها. لا يوجد أي تشابه بين الإله والعالم؛ لأن صورته وأثره فيه لا يكون بطريقة مباشرة كما هو الحال بالنسبة إلى إله سبينوزا.
تخضع المادة التي صنع منها العالم الديكارتي الرياضي والهندسي "لقوة الإله وسيطرته لكي تستمر في الوجود والتحقق بالطريقة نفسها التي بها خلقها (هذا الأمر يسمى بنظرية الخلق المستمر la céation continnuée التي يتحدد جوهرها في كون الإله - الطبيعة - يخلق في كل مرة وبطريقة مستمرة حتى لا يتوقف العالم)، ولبيان فحوى هذا الأمر وضع ديكارت ثلاث قواعد رئيسة نعرض أفكارها على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: يستمر كل جزء من أجزاء المادة على نفس الحالة، لا يتغير حجمه ولا شكله ولا الموضع الذي وجد فيه.
القاعدة الثانية: حينما يدفع جسما ما جسم آخر فإنه يفقد في الوقت نفسه ما يعادلها من حركته الذاتية (قانون حفظ الحركة)، أو يكتسبها وفقا للحالة التي هو عليها، وهو الأمر الذي يعرف أيضا بقانون العطالة.
بالاستناد إلى هاتين القاعديتين نستنتج أن إله ديكارت يستمر في حفظ نفس كمية الحركة ومعه الوجود في جميع أجزاء المادة التي صنع منها العالم.
القاعدة الثالثة: جميع الأجزاء لها نزوع للقيام بحركة مستقيمة؛ فحتى الحجر الموجود في المقلاع لا يقوم بحركته الدائرية إلا قسرا، حيث يعود إلى حركته الأصلية حينما ينفلت من المقلاع، والتي تتحدد في الحركة المستقيمة.
يدافع الفرنسي ديكارت عن موقف أرسطو من وجود الخلاء من عدمه، ويذهب إلى اعتبار الخلاء لا يمكن له أن يوجد، ودفاعه هذا أكثر جذرية من أرسطو نفسه. فالخلاء محال فيزيائيا وبشكل جوهري أيضا؛ ذلك أن القول بوجوده يفترض عند ديكارت القول بوجود العدم (أن العدم موجودا وهذا محال منطقيا). "لا يمكن أن تكون للعدم خاصيات، ومن ثم لا يمكن أن تكون له أبعاد. فالقول بوجود مكان خال طوله عشرة أقدام يفصل بين جسمين قول لا معنى له؛ إذ لو كان الخلاء موجودا لما وجد فصل بين الجسمين؛ لأن الجسمين اللذين يفصل بينهما العدم سيكونان متماسين. وإن وجد فصل ووجدت مسافة، فليست هذه المسافة طولا وعرضا وعمقا لعدم وإنما لشيء ما."
إن ما يميز الأجسام ليس اللون والثقل والصلابة، وإنما في كونها أشياء ممتدة من ثلاثة جوانب هي الطول والعرض والعمق، وهي خصائص تشترك فيها الأجسام والأمكنة كذلك؛ سواء التي تملؤها الأجسام، أو تلك التي تسمى أمكنة خالية. وسيرا في نفس ما ثم عرضه سابقا يرفض ديكارت فكرة وجود مكان لا وجود فيه لأي جوهر، فحسب رأيه يستحيل وجود مكان يتميز بهاته الخصائص في هذا الكون.
وترتب عن المماهاة الدكارتية الشهيرة بين الامتداد والمادة Extenion and matter نتيجتين: تذهب الأولى إل القول بنفي وجود الخلاء لاعتبارات ذكرناها سلفا. أما الثانية، فيؤكد ديكارت من خلالها على نفي القول القائل بتناهي العالم الواقعي المادي ومحدوديته، إذ يرى أنه من العبث رسم حدود للعالم دون أن يتم تجاوزها، وعليه؛ يصبح "العالم ومكوناته لا محددة أما الإله فوحده اللامتناهي لأنه لا حدود في كمالاته."
وهكذا، فصل ديكارت بين اللامتناهي واللامحدد مفهوميا، وأعطى للإله وحده صفة اللامتناهي أما العالم فإنه لا محدد، وهو فصل يبدو في نظرنا منسجما وفلسفة الرجل التي تقوم في شق كبير منها على فكرة الإله باعتبارها أشد الأفكار وضوحا وتميزا. والعالم مهما رسمنا له من حدود فإننا نستطيع تجاوزها إلى حدود أخرى وهكذا الحال.
وإن وضعنا ديكارت في بداية هذا الفصل فذلك راجع إلى أن الرجل وصلت إليه مجموعة من المسائل الشائكة والعويصة، وهي واضحة ومتميزة قبلا على يد كبلر وغاليليو غاليلي، فعلى سبيل الذكر لم تعد مشكلة "النجوم الثابتة صغيرة أم كبيرة، بعيدة أم قريبة مشكلة ميتافيزيقية كما كان قبل رسالة غاليليو غاليلي الفلكية، وإنما أمست مسألة فلكية مرتبطة بتقنيات الرصد والحساب."، وهو ذات الأمر حينما نتكلم عن مادة السماء ومادة الأرض التي لم يعد بعضها مختلفا عن البعض الآخر، بل أصبحت السماء أرضية والأرض سماوية إن صح التعبير والقول.
لتقوية المواقف السابقة نضع النص التالي: "من السهل أن نخلص إلى أن مادة السماء لا تختلف عن مادة الأرض؛ وعموما فحتى وإن وجدت عوالم لا متناهية يبقى من المستحيل ألا تكون متكونة من مادة واحدة، وعليه لا يمكن أن توجد عوالم كثيرة، وإنما عالم واحد، لأننا نفهم بوضوح تام أن هاته المادة التي تكمن كل طبيعتها في كونها جوهرا ممتدا لابد أن تكون قد شغلت كل الأمكنة الخيالية التي يمكن أن توجد فيها هذه العوالم، ولا يمكننا أن نجد في أنفسنا فكرة عن أي مادة أخرى."
على الرغم من أن ديكارت لا يطبق فكرة اللانهائي إلا على الإله، كما هو الحال بالنسبة إلى نيكولا الكوسيNicolas of Cusa إلا أنها تحوز مكانة محورية في فلسفته؛ ذلك أن الإله لا يمكن تصوره وتمثله وحتى الاستدلال عليه إلا باعتباره كائنا لامتناه بإطلاق، بل الأكثر من ذلك هو أن حد طبيعة الإنسان المتناهية رهين بامتلاك فكرة اللامتناهي."
محمد عتيق
Mominoun
"يتحدد الهدف الأساسي من هذه الدراسة في البحث عن الإجابات الفلسفية والمفهومية التي قدمها الفيلسوف الفرنسي ديكارت حول ما طرحته الثـ. ور . ة التي أحدثها كوبرنيك في مجال الكوسمولوجيا من أفكار وتصورات همت الإنسان والكون.
وضع رونيه ديكارتRené Descartes (1596-1652) نظرية علمية رصينة في كتابه العالم أو في النور وفق أسس خيالية صرفه، ويتعلق الأمر بنظرية العالم المتوهم حيث يقول: "اسمحوا إذن لفكركم أن يخرج لبعض الوقت من هذا العالم لرؤية عالم آخر جديد كليا سأوجده في الأمكنة الخيالية." فهذا العالم الجديد سيصبح هو المقياس والنقطة المرجعية لفهم العالم الواقعي والسيطرة عليه من خلال فهم القوانين التي تحكمه؛ إنه عالم معقول شبيه في روحه لعالم المثل الأفلاطوني. ويبدو لي أن الخيال والقدرة على خلق أمور جديدة كانت من بين الأمور التي ساهمت في تطور الحضارة الغربية وفتحها على اللاممكن واللامحدود بدل الممكن والمحدود، ولعل ديكارت كان من أهم الفلاسفة الذين انتبهوا لهذا الأمر؛ إذ نجده يشير إلى ذلك في مجموعة من الأعمال سواء المتقدمة منها أو المتأخرة، وعليه "فليس غاليلي ولا حتى برونو من صاغا بوضوح وتميز مبادئ العلم الحديث، ومبادئ الكوسمولوجيا الرياضية الجديدة، وإنما ديكارت محققا بذلك حلم رد العلم إلى الرياضيات." فما هي المقومات الفلسفية لكون ديكارت اللامحدد؟
جاءت فكرة إيجاد عالم جديد نتيجة محدودية العالم الواقعي الذي لا يفي بالغرض في الكثير من الأحيان، وأيضا نتيجة اعتبار "الفيزياء القديمة ميتة وتحتاج إلى إيجاد صورة جديدة حول العالم عن طريق تقديم مفهوم جديد لكل من المادة والحركة." وعليه فالكون الديكارتي لا يوجد فيه أي مكان خال؛ لأن مادته الأولى مخلوقة بحرية تامة قادرة على تذويب أي صورة أو مادة داخلها، وفي هذا الصدد يقول ديكارت: "لأجل هذا لنفترض بصراحة أن ليس لها لا صورة التراب، ولا النار ولا الهواء، ولا أية صورة أخرى أكثر خصوصية كصورة الخشب، أو الحجر أو المعدن، ولا صفات الحرارة والبرودة، ولا الجفاف أو الرطوبة ولا الخفة أو الثقل ولا الطعم أو الرائحة أو الصوت أو اللون أو الضوء أو أية صفة أخرى مشابهة، نستطيع القول إن في طبيعتها شيئا ما غير معروف بديهيا لكل الناس."
استنادا إلى القول السابق نرى أن أصالة ديكارت تكمن في قدرته على خلق مادة بصفات معينة ومختلفة تمام الاختلاف عن المادة الأولى التي أشار إليها الفلاسفة السابقون، حيث إنها تتميز بالتمام والقدرة على تغطية جميع أجزاء هذا العالم الجديد واللامحدد. وإذا ما حاولنا تقديم مقارنة بين صفات المادة المتخيلة ومادة العالم الذي نحن فيه لأمكننا القول إن الأولى لا يتخللها أي خلاء، أو مادة، ولا صورة، ولا جسم آخر؛ ذلك أن حجمها واحد لا يتغير أبدا، وهي مجردة من كل الصفات الحسية ولا يمكن إدراكها إلا بواسطة العقل وحده.
إضافة إلى كل ما سبق، فهاته المادة فيها من القدرة ما يمكنها من أن تكون "قابلة للقسمة إلى عدة أجزاء أو أشكال منها الأعظم حجما من غيره ومنها الأضأل" دون المساس بوحدتها وكليتها بفضل القوانين الصارمة التي تحكمها وتعمل على إعطاء صورة عالم كامل لها. ويبدو أن ديكارت قد فتح الفكر على مصر اعيه وأعطاه إمكانية إضافة أي شيء لهذا العالم الجديد، حتى وإن بدت غير ممكنة أو غير معقولة؛ ذلك أن القضايا والتفاصيل التي تظهر على أنها مستحيلة التحقق بالنسبة إلى الإنسان، ممكنة بالنسبة إلى الإله الذي يستطيع القيام بكل شيء نظرا لقدرته اللامتناهية.
يقر ألكسندر كويري في كتابه من العالم المغلق إلى الكون اللامنتهي على أن إله الفيلسوف - ديكارت - وعالمه متضايفان Correlated غير أن إله ديكارت يختلف عن الآلهة السابقين، فهو لا ترمز إليه الأشياء التي خلقها؛ أي لا يعبر عن نفسه فيها. لا يوجد أي تشابه بين الإله والعالم؛ لأن صورته وأثره فيه لا يكون بطريقة مباشرة كما هو الحال بالنسبة إلى إله سبينوزا.
تخضع المادة التي صنع منها العالم الديكارتي الرياضي والهندسي "لقوة الإله وسيطرته لكي تستمر في الوجود والتحقق بالطريقة نفسها التي بها خلقها (هذا الأمر يسمى بنظرية الخلق المستمر la céation continnuée التي يتحدد جوهرها في كون الإله - الطبيعة - يخلق في كل مرة وبطريقة مستمرة حتى لا يتوقف العالم)، ولبيان فحوى هذا الأمر وضع ديكارت ثلاث قواعد رئيسة نعرض أفكارها على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: يستمر كل جزء من أجزاء المادة على نفس الحالة، لا يتغير حجمه ولا شكله ولا الموضع الذي وجد فيه.
القاعدة الثانية: حينما يدفع جسما ما جسم آخر فإنه يفقد في الوقت نفسه ما يعادلها من حركته الذاتية (قانون حفظ الحركة)، أو يكتسبها وفقا للحالة التي هو عليها، وهو الأمر الذي يعرف أيضا بقانون العطالة.
بالاستناد إلى هاتين القاعديتين نستنتج أن إله ديكارت يستمر في حفظ نفس كمية الحركة ومعه الوجود في جميع أجزاء المادة التي صنع منها العالم.
القاعدة الثالثة: جميع الأجزاء لها نزوع للقيام بحركة مستقيمة؛ فحتى الحجر الموجود في المقلاع لا يقوم بحركته الدائرية إلا قسرا، حيث يعود إلى حركته الأصلية حينما ينفلت من المقلاع، والتي تتحدد في الحركة المستقيمة.
يدافع الفرنسي ديكارت عن موقف أرسطو من وجود الخلاء من عدمه، ويذهب إلى اعتبار الخلاء لا يمكن له أن يوجد، ودفاعه هذا أكثر جذرية من أرسطو نفسه. فالخلاء محال فيزيائيا وبشكل جوهري أيضا؛ ذلك أن القول بوجوده يفترض عند ديكارت القول بوجود العدم (أن العدم موجودا وهذا محال منطقيا). "لا يمكن أن تكون للعدم خاصيات، ومن ثم لا يمكن أن تكون له أبعاد. فالقول بوجود مكان خال طوله عشرة أقدام يفصل بين جسمين قول لا معنى له؛ إذ لو كان الخلاء موجودا لما وجد فصل بين الجسمين؛ لأن الجسمين اللذين يفصل بينهما العدم سيكونان متماسين. وإن وجد فصل ووجدت مسافة، فليست هذه المسافة طولا وعرضا وعمقا لعدم وإنما لشيء ما."
إن ما يميز الأجسام ليس اللون والثقل والصلابة، وإنما في كونها أشياء ممتدة من ثلاثة جوانب هي الطول والعرض والعمق، وهي خصائص تشترك فيها الأجسام والأمكنة كذلك؛ سواء التي تملؤها الأجسام، أو تلك التي تسمى أمكنة خالية. وسيرا في نفس ما ثم عرضه سابقا يرفض ديكارت فكرة وجود مكان لا وجود فيه لأي جوهر، فحسب رأيه يستحيل وجود مكان يتميز بهاته الخصائص في هذا الكون.
وترتب عن المماهاة الدكارتية الشهيرة بين الامتداد والمادة Extenion and matter نتيجتين: تذهب الأولى إل القول بنفي وجود الخلاء لاعتبارات ذكرناها سلفا. أما الثانية، فيؤكد ديكارت من خلالها على نفي القول القائل بتناهي العالم الواقعي المادي ومحدوديته، إذ يرى أنه من العبث رسم حدود للعالم دون أن يتم تجاوزها، وعليه؛ يصبح "العالم ومكوناته لا محددة أما الإله فوحده اللامتناهي لأنه لا حدود في كمالاته."
وهكذا، فصل ديكارت بين اللامتناهي واللامحدد مفهوميا، وأعطى للإله وحده صفة اللامتناهي أما العالم فإنه لا محدد، وهو فصل يبدو في نظرنا منسجما وفلسفة الرجل التي تقوم في شق كبير منها على فكرة الإله باعتبارها أشد الأفكار وضوحا وتميزا. والعالم مهما رسمنا له من حدود فإننا نستطيع تجاوزها إلى حدود أخرى وهكذا الحال.
وإن وضعنا ديكارت في بداية هذا الفصل فذلك راجع إلى أن الرجل وصلت إليه مجموعة من المسائل الشائكة والعويصة، وهي واضحة ومتميزة قبلا على يد كبلر وغاليليو غاليلي، فعلى سبيل الذكر لم تعد مشكلة "النجوم الثابتة صغيرة أم كبيرة، بعيدة أم قريبة مشكلة ميتافيزيقية كما كان قبل رسالة غاليليو غاليلي الفلكية، وإنما أمست مسألة فلكية مرتبطة بتقنيات الرصد والحساب."، وهو ذات الأمر حينما نتكلم عن مادة السماء ومادة الأرض التي لم يعد بعضها مختلفا عن البعض الآخر، بل أصبحت السماء أرضية والأرض سماوية إن صح التعبير والقول.
لتقوية المواقف السابقة نضع النص التالي: "من السهل أن نخلص إلى أن مادة السماء لا تختلف عن مادة الأرض؛ وعموما فحتى وإن وجدت عوالم لا متناهية يبقى من المستحيل ألا تكون متكونة من مادة واحدة، وعليه لا يمكن أن توجد عوالم كثيرة، وإنما عالم واحد، لأننا نفهم بوضوح تام أن هاته المادة التي تكمن كل طبيعتها في كونها جوهرا ممتدا لابد أن تكون قد شغلت كل الأمكنة الخيالية التي يمكن أن توجد فيها هذه العوالم، ولا يمكننا أن نجد في أنفسنا فكرة عن أي مادة أخرى."
على الرغم من أن ديكارت لا يطبق فكرة اللانهائي إلا على الإله، كما هو الحال بالنسبة إلى نيكولا الكوسيNicolas of Cusa إلا أنها تحوز مكانة محورية في فلسفته؛ ذلك أن الإله لا يمكن تصوره وتمثله وحتى الاستدلال عليه إلا باعتباره كائنا لامتناه بإطلاق، بل الأكثر من ذلك هو أن حد طبيعة الإنسان المتناهية رهين بامتلاك فكرة اللامتناهي."
محمد عتيق
Mominoun