رعد عبد الباقي: الرسام السادر في المنافي
عمار داود
"بدون الرسم أنا لا شيء"
رعد عبد الباقي
منذ صباه، عاش شعوراً مستداماً بالغربة الروحية، غربة لازمها الميل الى تجنب الآخرين، بعد أن وجد ذاته محكومة بلعنة النفي خارج المحيط الاجتماعي والعائلي.
منذ تلك الأيام وحتى شيخوخته الحالية، حيث استقر به الحال في أستراليا، مابرح يستطيب عزلته، مقيماً في كوخ صغير، مع كلبه وعنزته البيضاء في مزرعة.
"منذ طفولتي، تم وصفي بـ"الخروف الاسود في قطيع الخراف البيض"، كنت مكروهاً ومهملاً من قبل افراد عائلتي، ولم اع السبب وراء ذلك"، هكذا وصف رعد طفولته، ولما شبَّ، صارت ارائه وأهوائه اكثر اختلافاً عن آراء وأهواء أفراد عائلته.
لم يكن لديه في ذلك الوقت أصدقاء مقربين، ومال الى الافكار العدمية منذ أن نضج وعيه بنفسه والعالم الخارجي، ولم يجد انيساً لذاته وهي في تلك العزلة، سوى فعل التأمل، حيث كان يجد تسليته في قضاء شيء من وقته في البراري، منقباً في أسرار مستنقعات المياه الآسنة، والأراضي السبخة المالحة، والصلبة، التي تشبه قطع الجليد، يشده اليها، ذلك اللون البرتقالي الذي ينبجس من تحتها آن يحدث فيها فجوة، فيثير ذلك فيه لذة رؤية قوة سطوع اللون، ولذة نسيان نفسه وهو يتأمله.
وبسبب تفاقم شعوره بالعزلة، وحاجته إلى تعويض، لم يجد غير ان يجمع كارتات ورقية ذات صور لأنواع مختلفة من الحيوانات، وطوابع بريدية ينتزعها من المظاريف الورقية، حتى صارت بالنسبة له بمثابة نوافذه المشرعة المطلة على حيوات أخرى، وجد الصبي رعد فيها سلاماً وجمالاً وطمأنة.
وراح بدافع من نزق طفولي مضمخ بالتمرد والمناكفة، يجمع تراباً يضعه في مظاريف يرميها باتجاه الحائط، كي تنفجر حال ارتطامها به، ليتصاعد منها الغبار الذي يشبه دخان الانفجار.
كانت روحه الطفولية تواقة الى زيارة ومعاينة الخرائب والأطلال، أنها إذاً، رغبته في الانفصال والابتعاد، خلال الذهاب الى حيث تندرس الأشياء وتطمس معالمها حتى تفنى.
قُبِل رعد بدرجة التفوق في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وتأثر في تلك المرحلة بالفكر الوجودي الذي كانت له حظوة كبيرة بين أقرانه، وانعكس هذا التأثير على عمله الفني وشخصيته الانسانية التي شابتها سمات العدمية والشعور بالعبث، وقد عزز هذا الشعور لديه بلد غطته العتمة، وخنق انفاسه نظام حكم الحزب الواحد.
في تلك الأيام، كان رعد يرسم بشغف واجتهاد كبيرين، تأثر بمواضيع الرسام الفرنسي دومييه، وبالاخص شخصيات محاميه المتعجرفة، وأعمال التخطيط والرسم عند تولوز لوتريك.
مرَّن رعد يده على تحقيق خاصية ليونة وخفة وانسيابية في خطوطه، ونفذ شخصياته على الورق بسحنات هي اقرب شبهاً بالاشباح منها الى الاجسام الحية. كانت شخوصه ترزح تحت وطأة ظلالها الثقيلة التي كان رعد يشطّ في تأكيدها وكأنها اغلال.
كان أغلب أصدقاء رعد من قسم المسرح، الأمر الذي منح اعماله الاولى طابعها المسرحي الذي لا تخطئه العين. حتى أضفت تلك الخصائص على أعماله ما مَيزه عن أقرانه في تلك المرحلة من دراسته الأولى.
كان رعد يتواجد في أروقة وباحات معهد الفنون الجميلة متأبطاً ملف رسوماته وأوراقه، متصفاً بشخصية هادئة وكتومة، تكتفي بالقليل من الكلام، وتتميز بالكثير من مزاج العدمية والعبث، ما دفع من عرفوه الى أن يصفوه بـ"المعقد". كان يومها مولعاً بالرسم اليومي على الورق لتقوية امكانيته على التخيل، واستعادة التفاصيل وضبطها.
يصف رعد تلك الفترة بأنها كانت غنية بتمارين الرسم، يتأبط فيها ملفاً من الكارتون حفظ فيه أوراقه وتخطيطاته، كان يصطحبه معه في المقاهي ونادي معهد الفنون والبارات، ليسجل فيه بالخطوط ما يرصده من مشاهد الحياة في النهارات والليالي البغدادية.
دخل رعد، بعد أن رحل إلى منفاه الطويل في مؤثرات جديدة، صنع من خلالها اسلوباً لا يكاد يمت بصلة الى ماضيه الأسلوبي أيام دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وفي محيطه الجديد، سيكتسب مهارات أدائية وتقنيات تمنح لأعماله مظاهر أسلوبية أخرى تراوحت ما بين: تقاليد الرسم الألماني التعبيري لجماعة الفارس الأزرق، وتيار التعبيرية الجديدة الالمانية والايطالية، مضيفاً إليها بعض من ملامح التجريدية التعبيرية الأمريكية.، لكنه سيبقي على عراقيته المتجذرة في وجدانه من خلال تجليها البائن في مفردات و مواضيع لوحاته.
غامر رعد بمستلزمات حياته، فلم يحظ من تلك الحياة إلا على قليل من راحة، وعاش امد طويل من غير أمل برخاء، ولا عجب في ذلك، فقد صار التشرد ربيبه العتيد منذ عيشه في بغداد ثم إقامته في إيطاليا، ومن بعدها اليونان والهند، متحملاً وزر خياراته ووجوده.
لم يكن لرعد احلاماً بواقع افضل لحياته، فقد بدا لي مرارا بلا آمال، ولا حتى مشاعر خذلان، كانت مشاعره واستجاباته تقف دائما في اللاتعيُّن، وكأن لسان حاله يقول لك: هذا ما هو كائن، ولا غير ذلك. فهل كان رعد يا ترى يستمرئ البؤس والوحدة؟ وحدة، عززها عدم زاوجه واستقراره العائلي، وتنقله المستمر بين المنافي، قاضياً جُلَّ ايامه مترحلاً ومقيماً في اماكن عديدة.
لم ينل رعد فرصة حقيقية للظهور على الساحة التشكيلية العراقية، إذ لم يَقِم بعد تخرجه من معهد الفنون اي معرض في العراق، ولم يُكتَبُ عنه شيء، لم يعرف أحد أعماله، سوى القليل من المقربين منه.
تميز رعد بعصاميته، وحساسيته التعبيرية العالية كفنان، وامتلاكه لناصية أدواته، مفرداته بليغة الأثر في النفس، ومشخصاته الإنسانية تخضع إلى تحولات شكلانية مستمرة، في حين تتراكم مشاهد ومفردات اعماله على بعضها، وتتقاطع لتنتظم في حشود، وغالباً ما تبدو أعماله بالنسبة للعين غير المتمرسة، والذوق التقليدي العتيق، خشنة وبدائية، وهو أمر معتاد، بسبب توقف الذائقة عند عدد كبير من جمهورنا عند نهايات النصف الاول من القرن العشرين المنصرم.
ولد رعد في الديوانية عام ١٩٥٥ وبسبب وظيفة أبيه (مدير الأحوال المدنية) عاش رعد أيام نشأته الأولى في بضع مدن عراقية، كان والده، ينتقل بسبب وظيفته، للسكن في مكان جديد كل سنتين.
دخل رعد معهد الفنون الجميلة في سنة ١٩٧٠، في الوقت الذي لم يكن هذا المعهد قد أغلق بوجه المتقدمين من غير الحزبيين.
قُبِل رعد في المعهد بدرجة امتياز، وكان الفنان سعد الطائي أول مدرسيه، ولم يكن الطائي راضياً عن معالجات رعد اللونية لرسم الطبيعة الصامتة. يقول رعد في ذلك: "كنت لا ارسم الألوان التي أراها، بل أضع ألوان بديلة اقترحها بنفسي من خلال ترجمتي لموضوعي البصري، الأحمر مثلاً، ممكن أن يتحول عندي الى ازرق، الأمر الذي كان يثير حفيظة الأستاذ سعد، خصوصاً حينما لم اكن اجيبه عن السبب".
الفنان محمد علي شاكر، كان معلمه الثاني الذي انتبه إلى اجتهاده واهتمامه المستمر بالعمل، كان يراقبه وهو يجلس ليرسم في حديقة المعهد، وكان محمد علي شاكر يحبه بسبب تلك المواظبة والاهتمام بالرسم، اما شاكر حسن آل سعيد فقد درسه تاريخ الفن، ويذكر رعد انه كان يبدو مختلفاً، ويقول فيه: "لم يكن في المعهد من كان يتكلم معنا بطريقته غير المعهودة".
كان رعد يرتاد ليلاً باراً معروفاً في بغداد، اسمه (كاردينيا الشتوي)، وكان يضم من الزبائن: الفنان صادق كريم، وشقيقه الشاعر المعروف فوزي كريم، وأصدقاء آخرون من فنانين وأدباء، ويصف رعد تلك الأيام بمودة: "كنا تقريباً نلتقي فيه يومياً، كان هناك كتّاب قصة وشعراء شباب".
وكان رعد من مرتادي مقهى البرلمان، الذي احبه بسبب توفره على نوافذ كبيرة تطل على الشارع، كأنها شاشات عرض سينمائي مستمر للحياة الصاخبة فيه.
لم تكن لدي رعد مشاكل سياسية، لقد تم اعتباره وجودياً عبثياً من قبل الشيوعيين والبعثيين، الأمر الذي جعله يعيش حياة من غير منغصات سياسية مؤذية.
وعن سر ارتدائه في ايام المعهد نظارات سوداء، يشرح رعد: "لبست النظارات الطبية منذ كان عمري تسع سنوات، ولكن لونها الأسود اخترته بسبب رغبتي في تقليد الكاتب الإنجليزي كولن ولسون، وكانت اغلب ملابسي سوداء، كنت اشتري الكثير منها من سوق (اللنكة)، كنت أذهب إليه مع الأصدقاء يوسف حبيب وفاضل محيسن، وكنا نبحث عن ملابس مستعملة تتماشى مع اذواقنا، وكانت شعورنا طويلة، وأذكر مرة أن أحد منتسبي شرطة الآداب أوقفني في الشارع وقص شعر رأسي الطويل في ساحة التحرير، تحت نصب الحرية.".
درَّسه الفنان محمد مهر الدين، وكان رعد طالباً عنده في النهار، ونديمه في الليل، وهو الامر الذي كان يحدث مع العديد ممن كان مقرباً من مهر الدين.
عام ١٩٧٥حصل رعد على دعوة من مدينة ليوبليانا، وكانت سبباً في قبول منحه جوازاً، حيث لم يكن يومها السفر ممكناً إلى الخارج، بعدها سافر إلى اليونان للعمل في بواخرها، وكانت تلك السفرة مفتتحاً لترحاله في المنافي، ثم سافر إلى السعودية ومصر، ثم سوريا وتركيا، واسبانيا، وبعدها عاد إلى اليونان من جديد.
وطَّن رعد نفسه على العيش في الظروف الصعبة، فبعد خروجه من اليونان سافر الى ايطاليا، واقام فيها بصورة غير شرعية لمدة من الزمن، حاول أن يدرس في مدينة بيروجيا، لكنه لم يكن يملك مصدراً مالياً يعتاش منه، فقرر الانتقال الى فلورنسا، حيث استطاع هناك العيش بتدبير عمل لنفسه، ولكن لم يكن يسيراً أن يجمع مابين المعيشة والدراسة في نفس الوقت.
تم قبوله في الصف الثاني بأكاديمية فلورنسا، حيث أكمل السنة الثانية والثالثة، لكنه لم يستطع الاستمرار، كان ظرفه الاقتصادي مهلهلاً، وبقي رعد في إيطاليا يتردد بشكل شبه يومي على إحدى ساحاتها مرتزقاً من رسم السياح، وبذلك تمكن من دفع إيجار سكنه، وثمن طعامه.
مرت على رعد اوقات عوز مادي شديدة، اضطرته مراراً لأن ينام في الشارع، وفي الشتاءات، كان يحتمي من البرد وينام في كابينة تليفون معزولة وبعيدة عن مركز المدينة، كان يجلس فيها القرفصاء، وينام بتلك الحالة، متلفعاً بمعطفه حتى الصباح.
ولم يكن يجرؤ على النوم في المحطات، بسبب توجسه من أن تعثر عليه الشرطة وتطرده من البلد، لكونه لم يتحصل على أوراق إقامة.
مكث رعد في إيطاليا حوالي خمسة سنوات، ويتذكر بمرارة ذلك اليوم الذي أصيب فيه بإلتهاب المَّ بأذنيه، بسبب نومه في الشوارع اثناء البرد، كانت كارثة قد أوشكت ان تقع له، لولا ان شاباً عراقياً يدرس الطب في فلورنسا، تطوع لعلاجه بمضاد للالتهاب.
يقول رعد: "من الصعب أن تصمد وتعيش في بلد من غير اوراق اقامة لسنوات، انت لست لصاً ولا مجرماً، لكنك تريد فقط ان تتعلم، وان تعيش حراً بلا منغصات".
انتهت معاناة رعد مع الاقامة غير الشرعية حينما قرر أخيه المقيم في استراليا ان يسحبه إليها، درس رعد في استراليا لمدة سنتين بأكاديمية الفنون، وحصل على الجنسية الاسترالية بعد سنتين ونصف من إقامته فيها، وملك بذلك شيئاً من الحرية التي وفرت له أن يسافر إلى الهند والمغرب ومصر.
أقام رعد في الهند لمدة سنة، ويعلل بقائه طوال تلك المدة بكونه لا يستطيب العيش في مكان متمدن، فقد أحب الحياة في ما اسماه "مدن اللبلبي و الحيوانات الطليقة في الشوارع"، فالهند برأيه تشبه العراق، بالوانها، وحركة أهلها الدؤوبة، ناهيك عن ثراء رصيدها الروحي.
اختفت للاسف، اغلب اعمال رعد الفنية التي أنجزها في الماضي، فقد كانت لديه لوحتان في متحف كولبنكيان ببغداد لا يعرف مصيرهما، ولم يبق له إلا بضع أعمال من فترات سابقة، سواء في العراق او في إيطاليا، أو إسبانيا.
خضع رعد إلى تأثيرات بالتعبيرية الجديدة التي ظهرت في الثمانينات، ومال فيها إلى التعبيريين الألمان والايطاليين، وتنفيذه لاشكاله وشخوصه فيه الكثير من المبالغة، وكسر قوانين الرسم التقليدي، هناك ـ كما أسلفت - خشونة وبدائية متعمدة في وضع اللون والخط، وهناك بساطة كبيرة في تشكيل موضوعاته. تندفع خطوطه في حركات نزقة، بعضها لا يشكل سوى لهو خطي، والآخر يشير إلى محو او اضافة او مكمل على مساحة لونية، وبعضها هي ليست أكثر من حدود لهيئات تتشكل لتوحي بأجساد بشرية، أو أجزاء من مكائن غريبة، او اوراق اشجار، وكرات، واسطوانات، ونخيل، وطيور، وقوارب، واكف، وبيوت، وسلالم…
الطبيعة بنزلائها من بشر، وحيوانات ونباتات وجمادات، كانت ومازالت أكثر ذرائع إقباله على الرسم، ذلك الرسم الذي لم يشذبه كما كان يفعل في الماضي، بل تركه تحت سطوة يد لاهية، عابثة، تفعل ما يحلو لها من غير رقابة تامة، فأضحت الصورة عنده مرتعا لكياناتها المفككة. تنبجس الأشياء والكلمات المكتوبة منها محلقة أو متموضعة في أحياز تبدو غير متعينة، وكأن اللوحة عنده صحيفة يكتب كلماتها التي هي أقرب الى هلاوس أو طروس منثورة.
لم يعد للإنسان في رسوماته تلك السطوة والأهمية في الطبيعة، فلا الحيوانات والطير والشجر والحجر باقل سطوة وأهمية منه.
يستعرض رعد الأشياء في أعماله أكثر من الإنسان، وإذا رسم هذا الأخير فيحوله الى كيان شفاف تظهر من خلاله الأشياء أو تعلق به، فتغدو الأشجار والنباتات كاستعارات: سيقانها وأغصانها هي أعصاب وشرايين، أو أرجل وأيدي، كما لو أنها تمثلات للجسد الإنساني المحكوم بفنائه في الطبيعة، فما عاد الكيان الإنساني متميزا بجسده ومنفصلا عن الطبيعة، فهو فرعها المولود منها بلا امتيازات.
ثمة وجه رسمه وبدا كأنه ينفجر ناثرا مفرداته التي جعلها تتداخل مع أشكال هي بالكاد تومئ إلى أجناسها، اهي يا ترى وحدة وجود الكينونة الإنسانية بما يحيطها، ام هي اسقاط لجرحه الداخلي المتمثل بشعوره بتشظي كينونته؟
وثمة وجه آخر من وجوهه المرسومة، يبدو كما لو كان ينبوع تصدعات لم يصنعها الفنان بنفسه، بل هي خارجة من صلب مادة الرسم المتصدعة ذاتها، وجه تغطيه الحركة الإيقاعية لبقع اللون، التي تبدو كطحالب نامية. هل هي يا ترى كينونة رعد ذاتها التي تفتقد جذورها، كما تفتقد الطحالب السيقان والأوراق والجذور؟
عمار داود
"بدون الرسم أنا لا شيء"
رعد عبد الباقي
منذ صباه، عاش شعوراً مستداماً بالغربة الروحية، غربة لازمها الميل الى تجنب الآخرين، بعد أن وجد ذاته محكومة بلعنة النفي خارج المحيط الاجتماعي والعائلي.
منذ تلك الأيام وحتى شيخوخته الحالية، حيث استقر به الحال في أستراليا، مابرح يستطيب عزلته، مقيماً في كوخ صغير، مع كلبه وعنزته البيضاء في مزرعة.
"منذ طفولتي، تم وصفي بـ"الخروف الاسود في قطيع الخراف البيض"، كنت مكروهاً ومهملاً من قبل افراد عائلتي، ولم اع السبب وراء ذلك"، هكذا وصف رعد طفولته، ولما شبَّ، صارت ارائه وأهوائه اكثر اختلافاً عن آراء وأهواء أفراد عائلته.
لم يكن لديه في ذلك الوقت أصدقاء مقربين، ومال الى الافكار العدمية منذ أن نضج وعيه بنفسه والعالم الخارجي، ولم يجد انيساً لذاته وهي في تلك العزلة، سوى فعل التأمل، حيث كان يجد تسليته في قضاء شيء من وقته في البراري، منقباً في أسرار مستنقعات المياه الآسنة، والأراضي السبخة المالحة، والصلبة، التي تشبه قطع الجليد، يشده اليها، ذلك اللون البرتقالي الذي ينبجس من تحتها آن يحدث فيها فجوة، فيثير ذلك فيه لذة رؤية قوة سطوع اللون، ولذة نسيان نفسه وهو يتأمله.
وبسبب تفاقم شعوره بالعزلة، وحاجته إلى تعويض، لم يجد غير ان يجمع كارتات ورقية ذات صور لأنواع مختلفة من الحيوانات، وطوابع بريدية ينتزعها من المظاريف الورقية، حتى صارت بالنسبة له بمثابة نوافذه المشرعة المطلة على حيوات أخرى، وجد الصبي رعد فيها سلاماً وجمالاً وطمأنة.
وراح بدافع من نزق طفولي مضمخ بالتمرد والمناكفة، يجمع تراباً يضعه في مظاريف يرميها باتجاه الحائط، كي تنفجر حال ارتطامها به، ليتصاعد منها الغبار الذي يشبه دخان الانفجار.
كانت روحه الطفولية تواقة الى زيارة ومعاينة الخرائب والأطلال، أنها إذاً، رغبته في الانفصال والابتعاد، خلال الذهاب الى حيث تندرس الأشياء وتطمس معالمها حتى تفنى.
قُبِل رعد بدرجة التفوق في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وتأثر في تلك المرحلة بالفكر الوجودي الذي كانت له حظوة كبيرة بين أقرانه، وانعكس هذا التأثير على عمله الفني وشخصيته الانسانية التي شابتها سمات العدمية والشعور بالعبث، وقد عزز هذا الشعور لديه بلد غطته العتمة، وخنق انفاسه نظام حكم الحزب الواحد.
في تلك الأيام، كان رعد يرسم بشغف واجتهاد كبيرين، تأثر بمواضيع الرسام الفرنسي دومييه، وبالاخص شخصيات محاميه المتعجرفة، وأعمال التخطيط والرسم عند تولوز لوتريك.
مرَّن رعد يده على تحقيق خاصية ليونة وخفة وانسيابية في خطوطه، ونفذ شخصياته على الورق بسحنات هي اقرب شبهاً بالاشباح منها الى الاجسام الحية. كانت شخوصه ترزح تحت وطأة ظلالها الثقيلة التي كان رعد يشطّ في تأكيدها وكأنها اغلال.
كان أغلب أصدقاء رعد من قسم المسرح، الأمر الذي منح اعماله الاولى طابعها المسرحي الذي لا تخطئه العين. حتى أضفت تلك الخصائص على أعماله ما مَيزه عن أقرانه في تلك المرحلة من دراسته الأولى.
كان رعد يتواجد في أروقة وباحات معهد الفنون الجميلة متأبطاً ملف رسوماته وأوراقه، متصفاً بشخصية هادئة وكتومة، تكتفي بالقليل من الكلام، وتتميز بالكثير من مزاج العدمية والعبث، ما دفع من عرفوه الى أن يصفوه بـ"المعقد". كان يومها مولعاً بالرسم اليومي على الورق لتقوية امكانيته على التخيل، واستعادة التفاصيل وضبطها.
يصف رعد تلك الفترة بأنها كانت غنية بتمارين الرسم، يتأبط فيها ملفاً من الكارتون حفظ فيه أوراقه وتخطيطاته، كان يصطحبه معه في المقاهي ونادي معهد الفنون والبارات، ليسجل فيه بالخطوط ما يرصده من مشاهد الحياة في النهارات والليالي البغدادية.
دخل رعد، بعد أن رحل إلى منفاه الطويل في مؤثرات جديدة، صنع من خلالها اسلوباً لا يكاد يمت بصلة الى ماضيه الأسلوبي أيام دراسته في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وفي محيطه الجديد، سيكتسب مهارات أدائية وتقنيات تمنح لأعماله مظاهر أسلوبية أخرى تراوحت ما بين: تقاليد الرسم الألماني التعبيري لجماعة الفارس الأزرق، وتيار التعبيرية الجديدة الالمانية والايطالية، مضيفاً إليها بعض من ملامح التجريدية التعبيرية الأمريكية.، لكنه سيبقي على عراقيته المتجذرة في وجدانه من خلال تجليها البائن في مفردات و مواضيع لوحاته.
غامر رعد بمستلزمات حياته، فلم يحظ من تلك الحياة إلا على قليل من راحة، وعاش امد طويل من غير أمل برخاء، ولا عجب في ذلك، فقد صار التشرد ربيبه العتيد منذ عيشه في بغداد ثم إقامته في إيطاليا، ومن بعدها اليونان والهند، متحملاً وزر خياراته ووجوده.
لم يكن لرعد احلاماً بواقع افضل لحياته، فقد بدا لي مرارا بلا آمال، ولا حتى مشاعر خذلان، كانت مشاعره واستجاباته تقف دائما في اللاتعيُّن، وكأن لسان حاله يقول لك: هذا ما هو كائن، ولا غير ذلك. فهل كان رعد يا ترى يستمرئ البؤس والوحدة؟ وحدة، عززها عدم زاوجه واستقراره العائلي، وتنقله المستمر بين المنافي، قاضياً جُلَّ ايامه مترحلاً ومقيماً في اماكن عديدة.
لم ينل رعد فرصة حقيقية للظهور على الساحة التشكيلية العراقية، إذ لم يَقِم بعد تخرجه من معهد الفنون اي معرض في العراق، ولم يُكتَبُ عنه شيء، لم يعرف أحد أعماله، سوى القليل من المقربين منه.
تميز رعد بعصاميته، وحساسيته التعبيرية العالية كفنان، وامتلاكه لناصية أدواته، مفرداته بليغة الأثر في النفس، ومشخصاته الإنسانية تخضع إلى تحولات شكلانية مستمرة، في حين تتراكم مشاهد ومفردات اعماله على بعضها، وتتقاطع لتنتظم في حشود، وغالباً ما تبدو أعماله بالنسبة للعين غير المتمرسة، والذوق التقليدي العتيق، خشنة وبدائية، وهو أمر معتاد، بسبب توقف الذائقة عند عدد كبير من جمهورنا عند نهايات النصف الاول من القرن العشرين المنصرم.
ولد رعد في الديوانية عام ١٩٥٥ وبسبب وظيفة أبيه (مدير الأحوال المدنية) عاش رعد أيام نشأته الأولى في بضع مدن عراقية، كان والده، ينتقل بسبب وظيفته، للسكن في مكان جديد كل سنتين.
دخل رعد معهد الفنون الجميلة في سنة ١٩٧٠، في الوقت الذي لم يكن هذا المعهد قد أغلق بوجه المتقدمين من غير الحزبيين.
قُبِل رعد في المعهد بدرجة امتياز، وكان الفنان سعد الطائي أول مدرسيه، ولم يكن الطائي راضياً عن معالجات رعد اللونية لرسم الطبيعة الصامتة. يقول رعد في ذلك: "كنت لا ارسم الألوان التي أراها، بل أضع ألوان بديلة اقترحها بنفسي من خلال ترجمتي لموضوعي البصري، الأحمر مثلاً، ممكن أن يتحول عندي الى ازرق، الأمر الذي كان يثير حفيظة الأستاذ سعد، خصوصاً حينما لم اكن اجيبه عن السبب".
الفنان محمد علي شاكر، كان معلمه الثاني الذي انتبه إلى اجتهاده واهتمامه المستمر بالعمل، كان يراقبه وهو يجلس ليرسم في حديقة المعهد، وكان محمد علي شاكر يحبه بسبب تلك المواظبة والاهتمام بالرسم، اما شاكر حسن آل سعيد فقد درسه تاريخ الفن، ويذكر رعد انه كان يبدو مختلفاً، ويقول فيه: "لم يكن في المعهد من كان يتكلم معنا بطريقته غير المعهودة".
كان رعد يرتاد ليلاً باراً معروفاً في بغداد، اسمه (كاردينيا الشتوي)، وكان يضم من الزبائن: الفنان صادق كريم، وشقيقه الشاعر المعروف فوزي كريم، وأصدقاء آخرون من فنانين وأدباء، ويصف رعد تلك الأيام بمودة: "كنا تقريباً نلتقي فيه يومياً، كان هناك كتّاب قصة وشعراء شباب".
وكان رعد من مرتادي مقهى البرلمان، الذي احبه بسبب توفره على نوافذ كبيرة تطل على الشارع، كأنها شاشات عرض سينمائي مستمر للحياة الصاخبة فيه.
لم تكن لدي رعد مشاكل سياسية، لقد تم اعتباره وجودياً عبثياً من قبل الشيوعيين والبعثيين، الأمر الذي جعله يعيش حياة من غير منغصات سياسية مؤذية.
وعن سر ارتدائه في ايام المعهد نظارات سوداء، يشرح رعد: "لبست النظارات الطبية منذ كان عمري تسع سنوات، ولكن لونها الأسود اخترته بسبب رغبتي في تقليد الكاتب الإنجليزي كولن ولسون، وكانت اغلب ملابسي سوداء، كنت اشتري الكثير منها من سوق (اللنكة)، كنت أذهب إليه مع الأصدقاء يوسف حبيب وفاضل محيسن، وكنا نبحث عن ملابس مستعملة تتماشى مع اذواقنا، وكانت شعورنا طويلة، وأذكر مرة أن أحد منتسبي شرطة الآداب أوقفني في الشارع وقص شعر رأسي الطويل في ساحة التحرير، تحت نصب الحرية.".
درَّسه الفنان محمد مهر الدين، وكان رعد طالباً عنده في النهار، ونديمه في الليل، وهو الامر الذي كان يحدث مع العديد ممن كان مقرباً من مهر الدين.
عام ١٩٧٥حصل رعد على دعوة من مدينة ليوبليانا، وكانت سبباً في قبول منحه جوازاً، حيث لم يكن يومها السفر ممكناً إلى الخارج، بعدها سافر إلى اليونان للعمل في بواخرها، وكانت تلك السفرة مفتتحاً لترحاله في المنافي، ثم سافر إلى السعودية ومصر، ثم سوريا وتركيا، واسبانيا، وبعدها عاد إلى اليونان من جديد.
وطَّن رعد نفسه على العيش في الظروف الصعبة، فبعد خروجه من اليونان سافر الى ايطاليا، واقام فيها بصورة غير شرعية لمدة من الزمن، حاول أن يدرس في مدينة بيروجيا، لكنه لم يكن يملك مصدراً مالياً يعتاش منه، فقرر الانتقال الى فلورنسا، حيث استطاع هناك العيش بتدبير عمل لنفسه، ولكن لم يكن يسيراً أن يجمع مابين المعيشة والدراسة في نفس الوقت.
تم قبوله في الصف الثاني بأكاديمية فلورنسا، حيث أكمل السنة الثانية والثالثة، لكنه لم يستطع الاستمرار، كان ظرفه الاقتصادي مهلهلاً، وبقي رعد في إيطاليا يتردد بشكل شبه يومي على إحدى ساحاتها مرتزقاً من رسم السياح، وبذلك تمكن من دفع إيجار سكنه، وثمن طعامه.
مرت على رعد اوقات عوز مادي شديدة، اضطرته مراراً لأن ينام في الشارع، وفي الشتاءات، كان يحتمي من البرد وينام في كابينة تليفون معزولة وبعيدة عن مركز المدينة، كان يجلس فيها القرفصاء، وينام بتلك الحالة، متلفعاً بمعطفه حتى الصباح.
ولم يكن يجرؤ على النوم في المحطات، بسبب توجسه من أن تعثر عليه الشرطة وتطرده من البلد، لكونه لم يتحصل على أوراق إقامة.
مكث رعد في إيطاليا حوالي خمسة سنوات، ويتذكر بمرارة ذلك اليوم الذي أصيب فيه بإلتهاب المَّ بأذنيه، بسبب نومه في الشوارع اثناء البرد، كانت كارثة قد أوشكت ان تقع له، لولا ان شاباً عراقياً يدرس الطب في فلورنسا، تطوع لعلاجه بمضاد للالتهاب.
يقول رعد: "من الصعب أن تصمد وتعيش في بلد من غير اوراق اقامة لسنوات، انت لست لصاً ولا مجرماً، لكنك تريد فقط ان تتعلم، وان تعيش حراً بلا منغصات".
انتهت معاناة رعد مع الاقامة غير الشرعية حينما قرر أخيه المقيم في استراليا ان يسحبه إليها، درس رعد في استراليا لمدة سنتين بأكاديمية الفنون، وحصل على الجنسية الاسترالية بعد سنتين ونصف من إقامته فيها، وملك بذلك شيئاً من الحرية التي وفرت له أن يسافر إلى الهند والمغرب ومصر.
أقام رعد في الهند لمدة سنة، ويعلل بقائه طوال تلك المدة بكونه لا يستطيب العيش في مكان متمدن، فقد أحب الحياة في ما اسماه "مدن اللبلبي و الحيوانات الطليقة في الشوارع"، فالهند برأيه تشبه العراق، بالوانها، وحركة أهلها الدؤوبة، ناهيك عن ثراء رصيدها الروحي.
اختفت للاسف، اغلب اعمال رعد الفنية التي أنجزها في الماضي، فقد كانت لديه لوحتان في متحف كولبنكيان ببغداد لا يعرف مصيرهما، ولم يبق له إلا بضع أعمال من فترات سابقة، سواء في العراق او في إيطاليا، أو إسبانيا.
خضع رعد إلى تأثيرات بالتعبيرية الجديدة التي ظهرت في الثمانينات، ومال فيها إلى التعبيريين الألمان والايطاليين، وتنفيذه لاشكاله وشخوصه فيه الكثير من المبالغة، وكسر قوانين الرسم التقليدي، هناك ـ كما أسلفت - خشونة وبدائية متعمدة في وضع اللون والخط، وهناك بساطة كبيرة في تشكيل موضوعاته. تندفع خطوطه في حركات نزقة، بعضها لا يشكل سوى لهو خطي، والآخر يشير إلى محو او اضافة او مكمل على مساحة لونية، وبعضها هي ليست أكثر من حدود لهيئات تتشكل لتوحي بأجساد بشرية، أو أجزاء من مكائن غريبة، او اوراق اشجار، وكرات، واسطوانات، ونخيل، وطيور، وقوارب، واكف، وبيوت، وسلالم…
الطبيعة بنزلائها من بشر، وحيوانات ونباتات وجمادات، كانت ومازالت أكثر ذرائع إقباله على الرسم، ذلك الرسم الذي لم يشذبه كما كان يفعل في الماضي، بل تركه تحت سطوة يد لاهية، عابثة، تفعل ما يحلو لها من غير رقابة تامة، فأضحت الصورة عنده مرتعا لكياناتها المفككة. تنبجس الأشياء والكلمات المكتوبة منها محلقة أو متموضعة في أحياز تبدو غير متعينة، وكأن اللوحة عنده صحيفة يكتب كلماتها التي هي أقرب الى هلاوس أو طروس منثورة.
لم يعد للإنسان في رسوماته تلك السطوة والأهمية في الطبيعة، فلا الحيوانات والطير والشجر والحجر باقل سطوة وأهمية منه.
يستعرض رعد الأشياء في أعماله أكثر من الإنسان، وإذا رسم هذا الأخير فيحوله الى كيان شفاف تظهر من خلاله الأشياء أو تعلق به، فتغدو الأشجار والنباتات كاستعارات: سيقانها وأغصانها هي أعصاب وشرايين، أو أرجل وأيدي، كما لو أنها تمثلات للجسد الإنساني المحكوم بفنائه في الطبيعة، فما عاد الكيان الإنساني متميزا بجسده ومنفصلا عن الطبيعة، فهو فرعها المولود منها بلا امتيازات.
ثمة وجه رسمه وبدا كأنه ينفجر ناثرا مفرداته التي جعلها تتداخل مع أشكال هي بالكاد تومئ إلى أجناسها، اهي يا ترى وحدة وجود الكينونة الإنسانية بما يحيطها، ام هي اسقاط لجرحه الداخلي المتمثل بشعوره بتشظي كينونته؟
وثمة وجه آخر من وجوهه المرسومة، يبدو كما لو كان ينبوع تصدعات لم يصنعها الفنان بنفسه، بل هي خارجة من صلب مادة الرسم المتصدعة ذاتها، وجه تغطيه الحركة الإيقاعية لبقع اللون، التي تبدو كطحالب نامية. هل هي يا ترى كينونة رعد ذاتها التي تفتقد جذورها، كما تفتقد الطحالب السيقان والأوراق والجذور؟