
الاكتمال النصي في النقد الروائي
23 - مارس - 2025م
تلتقي مجمل التعريفات التي تُقدَّم عن النص في النقد الحديث؛ في جملة من الملامح؛ من أهمها الاكتمال، والاكتفاء الذاتي، فليس من الضروري أن يكون للنص حجم كبير أو صغير، المهم أن نشعر حياله بأننا إزاء إبداع مكتمل، وينجم عن هذا الاكتمال أن تكون له بنية، أي نظام يحكم علاقات أجزائه، ويجعلها متراتبة، يتوقف كل جزء منها على ما قبله، ويؤدي لما بعده. هذه البنية ذات صيغة دلالية، أي أنها ترتبط بمعنى النص، بوصفها عالما أو كونا صغيرا، له حدوده ونظامه وجمالياته وقوانينه المنبثة من داخله.
إن مفهوم «الاكتمال النصي» لا ينطبق إلا على النصوص البديعة، التي تتحقق فيها فرادة الرؤية، وروعة البناء، بما يجعل القارئ يدخل في « الاكتفاء الذاتي» الذي يستشعره عندما يفرغ من قراءة النص، ويفاجأ بأن مختلف الأسئلة التي أثيرت في ذهنه خلال القراءة؛ قد وجد إجابات عنها، أو على الأقل وجد أطرافا من الإجابات، ودون التباس، يؤدي إلى حيرة المتلقي وتيهه في فضاء النص، ولا بأس قد يكون هناك غموض يدفع صاحبه إلى مزيد من التأمل، مستعينا بنقاط إضاءة نصية، أو إشارات يضعها المؤلف تنبيها للقارئ وإرشادا له.
والبنية المتراتبة مطلوبة؛ فالأحداث المروية في الرواية أجزاء من المضمون، على حين أن الطريقة التي رُتّبت بها هذه الأحداث في عقدة هي جزء من الشكل، ولو فرَقنا هذه الأحداث عن الطريقة المرتبة بها لما كان لها أي مفعول فني على الإطلاق. فالبنية مفهوم يشكل كلا من المضمون والشكل، والعمل الفني إذن نظام كلي من الإشارات أو بنية من الإشارات، تخدم غرضا جماليا نوعيا. ولكن لا يشترط في رأينا أن تكون الأجزاء خاضعة للتراتبية السببية، بأن يكون كل جزء مفضيا للذي يليه، فهناك روايات قد تكون متعددة في الأزمنة والأصوات السردية، ومتنوعة في الأمكنة، وفي ضمائر الحكي على ألسنة الراوي، ما يجعلنا نعيد النظر في عنصر اكتمال البنية حسب المفهوم المتقدم، ونتبنى رؤية جديدة مفادها أن الترابط يكون معنويا وفكريا؛ بأن تكون الأجزاء وإن تعددت مترابطة، والأصوات السردية وإن اختلفت فهي تكمل رواية الأحداث، وتساهم في تطورها، وإيضاح البدايات والمآلات. وبذلك يتحقق الفهم والاكتفاء الذاتي لدى القارئ، ويعي أبعاد الزمن وإن تشتت، والمكان وإن تبعثر، فتكون المحصلة أن النص يكتمل في مضمونه، عندما تكتمل البنية في ذهن القارئ، فإذا تفككت البنية، تفكك المضمون.
وتشير الدراسات الحديثة، في ما يسمى علم نفس المعرفة، إلى أن خاصية «تكوين الأبنية» جوهرية للفهم، فما لا بنية له؛ لا يمكن إدراكه بوضوح وقوة، أي أنه لا يحقق وظيفته الاتصالية، وهنا تدخل فكرة التشفير، أي تحميل بعض العناصر الصوتية أو اللغوية عموما رسائل دلالية تشي بها، طبقا لقواعد يتمكن بها المتلقي من فك الشيفرة، وإدراك المقصود من الرسالة؛ فالشخصية والموقف وتقنية الزمن والجملة الحوارية بإيقاعاتها المختلفة مثلا هي شيفرات النص السردي، التي يوظّفها القصاص أو الروائي كي يكون بها بنية نستطيع تلقيها في النص.
فما أشير إليه في علم نفس المعرفة يحيلنا ثانية إلى قضية المعرفة في النص الروائي، ولكن بمنظور جديد، وهو أن المعرفة تأتي دائما ضمن شكل، أو بنية، فإذا انعدمت البنية فيها، تكون معرفة مهترئة، أشبه بالسائل المسكوب على الأرض، لا وعاء يحتويه، وإذا افترضنا أن الرواية تقدم معرفة متنوعة فكرية وحياتية؛ فإن الوعي بالشكل، لا بد أن يكون حاضرا في ذهن المؤلف صائغ الرواية، وفي ذهن القارئ المستقبل لها، مما ينقل دراسة الرواية إلى ميدان مختلف، وهو علم الاتصال والدراسات الثقافية، والذي تطور بفعل طروحات السيميائية، في تركيزها على الشيفرات اللغوية والثقافية الكامنة وراء جميع أفعال الاتصال، فلا توجد رسالة دون شيفرة. فلا مجال لأي صياغة غامضة، أو تراكيب ملتبسة، أو مفردات عسيرة الفهم، فكل هذا يقف حائلا أمام توصيل الرسالة إلى القارئ.
وإذا ترسخ مفهوم الاتصال في ذهن المؤلف فإنه سيضع في حسبانه أبعاد الرسالة المبتغاة، وحضور القارئ. فأي نص أدبي أو فني يحوي رسائل مضمرة وظاهرة، منها القيمة الأخلاقية التي نراها في كثير من القصص والحكايات، مثل حكايات إيسوب، وهذا على مستوى الحكايات البسيطة، حيث نجد الموعظة مباشرة، أما الأعمال الأدبية الكبرى، فإنها تطرح قضايا وإشكاليات من خلال الأحداث، بعيدا عن الإكليشيهات الأخلاقية المعتادة، وأي عمل أدبي جيد، يثير جملة من القضايا أو الموضوعات، التي تتطلب طرح أسئلة على النص، والبحث عن إجابات فيه، مع الأخذ في الحسبان أن هناك نصوصا سهلة، يمكن الوصول إلى موضوعها ببساطة، وأن هناك نصوصا معقدة على درجات، تحتاج تفكيرا ودراسة، وغوصا في أحداثها، وتحليلا لمراميها. علما بأن هناك مؤلفين يتعمدون إيراد بعض التعقيدات والتناقضات الخاصة بوجود الإنسان، وتقلل من شأن هذه السمات وتجعلها رسائل في النص، حتى في الموضوعات الرئيسية التي يسعى المؤلف إلى تحقيقها في مؤلفه.
كما أن هناك كتابة تشبه اللغة المهنية الموجهة لإثبات الحضور، فتكثر في هذه الكتابة التلاوين، التي لا تسعى إلى التغيير، وإنما تعمل على إثبات وجود الكاتب، وأنه حاضر بإبداعه في الحياة الثقافية، دون تقديم كتابة متميزة حقا.
والمسار الصحيح في الاكتمال النصي يعني سعي الناقد إلى دراسة ما يبوح به النص وخطابه، وليس في ما هو خارج النص، أو بعيدا عنه. أما الهدف النهائي فهو النظر إلى النص بوصفه المصدر الأساسي الواجب الانطلاق منه. وهذا لا يعني إهمال ما هو خارج النص مثلما فعل بعض البنيويين، عندما أهملوا السياقات الخارجية: الاجتماعية والفكرية والثقافية، وإهمال التاريخ ذاته، وتركيزها على محورية النص، وتغافلها عن الخصوصية النصية في سعيها للبرهنة على البنية المطلقة، فالتطرف الشديد في العناية بالمتن النصي، أدى إلى عدم النظر في تميز النص جماليا عن غيره، فصار الأمر مجرد آليات تطبق على أي نص، متميز أو وضيع، دون أي معايير تقييمية، تربط بينه وبين ما هو خارجه، أو ترجّحه عن غيره.
فلا يمكن فهم أي مادة لغوية ثقافية وتحديدها انطلاقا من خصائصها الباطنية (الداخلية/ النصية) وحدها، فمن الممكن إيضاحها من خلال ما تثيره في مجتمع معين من ممارسات وكلام، وهذه قاعدة عامة، تنطبق بالضرورة على النص الأدبي، لأنه مادة أساسها اللغة والفكر، تصاغ في أشكال متعددة: شعرا، ورواية، وقصا، ومسرحا، وعند الدراسة النقدية لا بد من تحليل المادة النصية في ضوء الإشارات المبثوثة فيها، التي تحمل جماليات، وأفكار، ورؤى. أما الرواية فهي ميدان لعوالم: فردية أو جمعية، ذاتية أو مجتمعية، جديرة بالاطلاع والدرس.
كاتب مصري