عرض_وجه_آخر أقنعة وحكايا وبشر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عرض_وجه_آخر أقنعة وحكايا وبشر

    #معرض_وجه_آخر
    أقنعة وحكايا وبشر

    منذ حضارات الشرق القديمة، مرورًا بحضارتي اليونان والرومان، كان الوجه مركزًا للجسد؛ بل ومركزًا للمشاعر والأحاسيس الذي نجدهُ بمثابة علامة رامزة للمعاني الساكنة ما وراء المظاهر، على نحو لا يمكن لنا الكشف عن كلِّ معانيه؛ بوصفه يعكس للآخر الوجدان الذي يُعدُّ لغةً مكملةً إلى لغة الكلام، فيتمظهر لنا خطاب شمولي بمشهد بانورامي ..؛ بمعنى أنَّ الوجه الإنساني يمكن أن نراه قناعًا متعرِّي للجسد، وبداية كلِّ خطابٍ بين الأنا والآخر متعدِّد المعاني ذو فضاءات بلا حافات !! ..

    فعلى الرغم من أنَّ الوجه المنفتح أو لنقل المتعرِّي بكلِّ تفاصيله أمام الآخر الذي نراه قناعًا، يخفي بعض المسكوت عنه، فكيف يكون الوجه عندما يكون محجوبًا بقناع كلِّيٍّ أو جزئي؟ اذا ما قلنا إنَّ الوجه مرآة صادقة للفرد وللآخر، وقائم بنفسه على الرغم من اخفائه للكثير من المعاني، بينما القناع يرتبط وجوده بحضور الوجه الأصل .

    فقد كان للقناع حضور ديني ذو أبعاد طقوسيَّة في العصور القديمة، يؤمن مرتديه بوجود روحٍ تسكن القناع مرورًا بالعصور الوسطى التي منحته أبعادًا وظيفيَّة في الفنِّ والأدب والمسرح والسياسة، وصولًا إلى الوقت الحاضر الذي وجدنا له حضورًا وظيفيًّا ذو طابع براغماتي تمثيلي خادع، اتَّخذ أبعادًا جماليَّة معاصرة في فنون الحداثة وما بعد الحداثة، ذات طابع فلسفي وصفه علماء النفس وعلى وجه الخصوص كارل يونغ عندما قال: بأنَّه قناع اللاوعي الجمعي، وقد أسماه بـ (البيرسونا) يرتديه الفرد ليخدع نفسه كما يخدع به الآخرون على الرغم من ادِّعائه للفردانيَّة؛ بمعنى أنَّ القناع هنا قد مثّل صوتًا للاشعور الجمعي؛ بل وذاكرة لثقافات الشعوب وأساطيرها وطقوسها وحكايا الماضي .

    وثمَّة تجارب في التشكيل المعاصر وعلى وجه الخصوص في العراق اشتغلت على مفهومي القناع والوجه؛ بوصفهما بوَّابة إلى ما تحمله النفس، فيصبح الوجه بحسب قول الفيلسوف المثالي (كانت) بمثابة معرفة وإدراك، والقناع إخفاء وتشفير خداع ..
    ومن أهمِّ تجارب الفنِّ تجارب الفنانة وجدان الماجد بشكلٍ عامٍّ، وفي معرضها الشخصي (وجه آخر 2025 على قاعة the gallery ) بشكلٍ خاصٍّ حاولت فيه اختزال الجسد في الوجه والقناع؛ بوصفه منظومة قيمية للفرد حاله حال اليد التي تحوّل الأفكار إلى أداءٍ وحياة وحضارة.

    إنَّ أقنعة الرسامة وجدان تصنع الأسئلة فتتكاثر الأفكار، وتتعدَّد الوجوه في الفرد الواحد، فتختفي الهُويَّة أمام هذا التراكم أو التنكر خلف شخوص افتراضيَّة بديلة عن الأصل .. فالفنانة تحاول في تجربتها الفريدة أن تسقط تلك الأقنعة في اللاوعي الجمعي والشخصي؛ المتعدِّدة الأشكال والألوان والتقنيات والتكوينات (ايقونات، حروفيات، كف يد، تكوينات هندسية، قوالب، وجوه تعبيرية، عيون..) فتكشف عن المخفي والمغيَّب والمسكوت عنه في شخوص لوحاتها ذات الطابع الواقعي الأكاديمي المتوشِّح بالرمزيَّة والسحريَّة، التي تفصح عن تفاصيل الأجساد بحالاتها السايكولوجية وهويتها الوضعيَّة وأزيائها الرسميَّة (فتيات صغيرات، فتاة حالمة، موديل، رجل أعمال، رجل سياسة، طالب أو طالبة مع حقيبة الظهر، طفلة، فنان رسام، عازفة بيانو، عائلة...) .

    تجربة الفنانة وجدان الماجد تركَّزت حول أقنعة اللاشعور الجمعي التي جاءت بمثابة صور ذات معانٍ عابرة للثقافات عبر النماذج الأربعة للإنسان في علم النفس بحسب آراء العالم (يونغ)، والممثَّلة بالأنموذج الأوَّل الخاص بالشخصيَّة الذي يعدُّهُ قناع يرتديه الفرد ليخفي هويَّته أمام الآخر، بينما الثاني قد تمثَّل بالروح، والثالث بالظلِّ المقابل للهو عند (فرويد)، وهو الجانب الشهواني، وصولًا إلى الأنموذج الرابع المتمثِّل بالنفس التي تجمع الوعي واللاوعي في بوصلةٍ واحدة .. فالإنسان في زمننا المعاصر بفعل عالمنا الافتراضي، المحتفي بالذكاء الاصطناعي، له الرغبة في تجميل حقيقته واستبدال الوجوه من خلال ارتداء القناع والتنكُّر بشخصيَّة مختلفة وغريبة.

    فالوجه شاشة يُظهر مجموعة ملامح الفرد، يُترجم في شكلٍ حيٍّ كما عشناه في العصر الكوروني الذي توشَّحت الوجوه فيه بالكمَّامات فحجبت الهُويَّة، وتحوّلنا إلى كائنات غريبة لحظة ارتدائنا للكمامة التي أصبحت إحدى أدوات بثِّ القلق والعُزلة والتوتر الاجتماعي.. فأصبحت الأقنعة الورقيَّة والزجاجيَّة في المعرض الشخصيِّ للفنانة الماجد بمثابة رسائل احتجاجيَّة، حول تكاثر التخفي والتنكر والتحوّل والتجمل والتبختر والتعالي والتلوّن والتعدد والتهكم والترقب لمرحلة سقوط الأقنعة وانكشاف حقائقها، يقابله الوجه المتعرِّي الذي يدعو إلى التواصل والتآلف والتعايش في رحلة البحث عن الآخر.


    بقلم:
    د.شوقي الموسوي فنان وناقد تشكيلي

    #the_gallery
يعمل...