
- رحلة فلسفية في متاهة الوجود /جوستين غاردر
- مقدمة:
روايةٌ تبحث عن السؤال الأكبر
في رواية عالم صوفي (1991)، يقدّم الكاتب النرويجي جوستين غاردر عملاً أدبيًّا فريدًا يجمع بين السرد الروائي والتأمل الفلسفي، ليس فقط كقصة تشويقية تدور حول مراهقة تتلقى رسائل غامضة عن تاريخ الفلسفة، بل كاستعارةٍ وجودية تطرح أسئلةً جوهرية: من نحن؟ وما مصدر هذا العالم؟ وكيف نعرف أننا "أحياء" حقًّا؟ تُعد الرواية، التي تُرجمت إلى 60 لغة وبيع منها ملايين النسخ، ظاهرةً ثقافية جمعت بين التثقيف الفلسفي للقارئ العادي والتعقيد الميتافيزيقي الذي يلامس أعماق الوجود. لكنّ قيمتها لا تكمن في شعبيتها فحسب، بل في كيفية توظيف غاردر للرواية كـ"وعاء" يحمل في طياته تاريخ الفكر الغربي، من طاليس إلى سارتر، مع إعادة تعريف دور القارئ من متلقٍ سلبي إلى مشاركٍ في الحوار الفلسفي
- تلخيص الرواية :
حكاية الوجود التي تتجاوز الحبر والورق.
في بلدة نرويجية صغيرة تدعى "بيوركفيك"، تبدأ حياة صوفي أموندسن، الفتاة ذات الأربعة عشر ربيعًا، بالانزياح من عالمها المدرسي البسيط إلى متاهةٍ وجودية لا تُدرك حدودها. في أحد أيام شهر مايو المشمسة، يعثر صندوق بريدها على سؤالٍ غامض: "مَن أنتِ؟"، يليه ظرفٌ آخر يحمل سؤالًا أكثر إرباكًا: "من أين جاء العالم؟". هكذا تُفتح أبواب رحلةٍ فلسفيةٍ غير مسبوقة، تقودها فيها رسائل مجهولة المصدر، يوقّع عليها فيلسوسٌ غامض يُدعى "ألبرتو كنوكس".
الرسائل الأولى، التي تصل كأوراقٍ مكتوبة بخطٍّ أنيق، ليست مجرد دروسٍ في تاريخ الفلسفة، بل أشبه بخرائطَ لرحلةٍ داخل عقل البشرية. تبدأ الرحلة مع الفلاسفة اليونانيين: طاليس الذي رأى أصل الكون في الماء، وأناكسيماندريس الذي تحدث عن اللامحدود، ثم بارمنيدس وهيراقليطس المتعارضَين حول ثبات الكون أو تغيّره. لكن غاردر (المؤلف) لا يكتفي بسرد الأفكار؛ بل يحوّلها إلى حواراتٍ حية. فصوفي، التي تجلس في كوخها الخشبي مع كل رسالة، تتحول إلى تلميذةٍ لسقراط، تطرح الأسئلة وتشكك في الإجابات، تمامًا كما فعل الفيلسوف اليوناني في أسواق أثينا.
مع تقدم الرسائل، تكتشف صوفي أن ألبرتو ليس مجرد مُعلِّم، بل دليلٌ في رحلةٍ تخترق الزمن. ينقلها من العصور الوسطى، حيث أوغسطينوس وتوما الأكويني يحاولان التوفيق بين الإيمان والعقل، إلى عصر النهضة مع ديكارت الذي يشكّ في كل شيء إلا في وجوده نفسه: "أنا أشك، إذن أنا أفكّر، إذن أنا موجود". لكن الفلسفة هنا ليست سردًا تاريخيًّا جافًّا؛ فكل فيلسوف يُقدَّم كصانعِ أسئلة، لا كحاملِ إجابات. حين تتحدث الرسائل عن كانط، مثلاً، تتحول صوفي إلى "قاضية" تحاكم مفاهيم الزمان والمكان، وحين تصل إلى نيتشه، تسمع صرخته: "لقد مات الإله!"، وكأنها صفعةٌ وجودية تهزّ يقينها.
لكنّ الغموض لا يقتصر على الرسائل. فجأةً، تبدأ عناصر الواقع المحيط بصوفي بالتصدع. تظهر عليها ظواهر لا منطقية: مرآةٌ تُظهر وجهًا آخر غير وجهها، كلبٌ يتكلم اسمه هيرميس، ورسائل غريبة موجهة إلى "هيلد مولر كناغ"، ابنةٍ لم تعرفها صوفي من قبل، لكنها تكتشف أن هذه الرسائل كُتبت قبل سنوات! هنا، تتحول الرواية من قصة تعليمية إلى لغزٍ ميتافيزيقي. من تكون هيلد؟ ولماذا تصل رسائلها إلى صوفي؟
ألبرتو يكشف لها الحقيقة تدريجيًّا: صوفي ليست سوى شخصيةٍ في قصةٍ كتبها الرائد ألبرت كناغ، كهديةٍ لابنته هيلد بمناسبة عيد ميلادها الخامس عشر. كل ما تعيشه صوفي – منزلُها، أمها، دروس الفلسفة – هو حبرٌ على ورق، وخيالٌ وُلِد في عقل الكاتب. لكنّ ألبرتو، الذي يبدو في البداية مجرد معلم، يتحول إلى شريكٍ في التمرد. فهو أيضًا شخصيةٌ ورقية، لكنه يرفض أن يكون دميةً في يد الخالق. معًا، يخططان للهروب من السرد الذي سُجنا فيه، مستخدمين الفلسفة كسلاح. فكما علّمها ديكارت أن الشكَّ طريقٌ للحقيقة، تُدرك صوفي أن وعيها بكونها شخصيةً خياليةً هو بداية حريتها.
في المشاهد الأخيرة، حيث يُقام "وليمة فلسفية" تجمع كل الفلاسفة من سقراط إلى سارتر، يصل التمرد ذروته. صوفي وألبرتو، اللذان توصلا إلى أن الوجود الحقيقي لا يحتاج إلى جسدٍ مادي، بل إلى وعيٍ قادرٍ على التساؤل، ينجحان في اختراق حدود النص. يختفيان من عالم ألبرت كناغ، تاركَين هيلد – القارئة الحقيقية – تتساءل: هل هما الآن أكثر واقعيةً منها؟ وهل نحن أيضًا، كقرّاء، قد نكون شخصياتٍ في قصةٍ لم نعرف كاتبها بعد؟
الرواية تنتهي، لكن الأسئلة تبقى. غاردر لا يقدم حلولًا، بل يحرّض القارئ على أن يكون صوفيَ نفسه: أن يتلقى رسائل الوجود الغامضة، ويشقَّ طريقه في متاهة الفلسفة، حيث كل جوابٍ هو بابٌ إلى سؤالٍ أعظم
الكاتب خالد حسين